الثلاثاء، يناير 19، 2021

كيف يستفيد العرب من المتغيرات الدولية ما بعد عهد ترامب؟

 

كيف يستفيد العرب من المتغيرات الدولية ما بعد عهد ترامب؟

لا عداوات دائمة في السياسة، وفق العلاقات الدولية، كما أنه لا صداقات دائمة، بل تبادل المصالح هي القاعدة الثابتة. وإنه من المنطقي أن يتَّبع العرب تلك القاعدة، ولكن على أساس تبادل المصالح المشتركة.

إن القاعدة الشاذة في تيادل المصالح السائدة، منذ الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، تقوم على ضمان المصالح الأميركية ومصالح حلفائها على حساب مصالح الدول الأخرى، وقد وقع النظام العربي الرسمي أسيراً للخضوع لتلك القاعدة الشاذة، فأصبح تابعاً لأميركا تحت ذريعة حماية أمن تلك الأنظمة.

بعد فشل الاحتلال الأميركي باحتلال العراق، وتسليمه للنظام الإيراني لقمة سائغة. وبعد فشل مخطط مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي رعته أميركا بتحالف وثيق مع العدو الصهيوني وأنظمة الحركات السياسية الدينية، إيران وتركيا، يقف العالم اليوم على مشارف مرحلة جديدة، وعنوانها، إنكفاءً حاداً لكل المشاريع التي بدأ تنفيذها بعد احتلال العراق. ولأن العالم اليوم يشهد مرحلة جديدة يتصارع فيها الأقوياء، نتساءل: ما هي الاستراتيجية العربية التي بها يمكن للعرب أن يستعيدوا دورهم على طاولات المفاوضات القادمة التي نُصبت أو ستُنصب لوضع حلول سياسية لكل أزمات العالم، والتي تحتل فيها الأزمات العربية القلب منها.

كيف ينتقل العرب من دور التابع إلى دور الفاعل؟

من أجل ذلك، ولاستكمال التحليل، نقسم المقال إلى ثلاثة أقسام رئيسة، وهي:

-المتغيرات على الصعيد الدولي، وخاصة الأميركي والأوروبي:

-المتغيرات على الصعيد الإقليمي:

-كيف يوظِّف العرب أوراق القوة التي يمتلكونها؟

أولاً: المتغيرات على الصعيد الدولي، وخاصة الأميركي والأوروبي:

1-المتغيرات على الصعيد الأميركي:

لقد ابتدأت المتغيرات على الصعيد الأميركي منذ بداية عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي أعلن استراتيجية تصحيح العلاقات مع النظام الإيراني. وتلك الاستراتيجية كانت ذات شقين، وهي:

-الأول: استعادة نهب العراق لمصلحة الرأسمالية الأميركية، وإعادة الدور الإيراني إلى وضعه كما كان في البدايات الأولى للاحتلال.

ولأن النظام الإيراني، بعد أن استلم ملف احتلال العراق من قبل إدارة أوباما، حقَّق ما لم يكن يحلم به منذ تأسيس نظام ولاية الفقيه في العام 1979، ولأن موارد العراق رفدته بكل الإمكانيات المادية وخسارته تعني خسارة لحلم كبير، فقد رفض أوامر دونالد ترامب، ولذلك انفتحت أبواب التهديدات بينهما عالية الصوت والحدة، التي لم تتم ترجمتها إلى أعمال حربية ذات شأن. وإنه في ظل واقعة الاشتباك بينهما كان نظام ولاية الفقيه يعمل على تأجيله انتظاراً لتغيير إدارة ترامب، إذ كانت المراهنة تقوم على أساس أن وصول بايدن الديموقراطي سيعيد للدور الإيراني حيويته لاستئناف مشروعه الكبير.

ولأننا قمت بمعالجة هذا الجانب في مقالات سابقة، نكتفي بالتذكير بنتائجها التي نختصرها بما يلي: استراتيجية الرأسمالية الأميركية واحدة تخضع لحكومة خفية واحدة، ويقوم بتنفيذها الحزبان الجمهوري والديموقراطي، والفارق بينهما هو طريقة التنفيذ وليس تغيير الأهداف. وكان على النظام الإيراني أن يعي، إذا كان قد بقي لديه ذرة من الوعي، أن تسليمه العراق كان مرحلياً مبنياً على نتائج تنفيذ المشروع الاستعماري الأشمل، المعروف بمشروع الشرق الأوسط الجديد. ولأنه لا يمكن تنفيذ مشروع قائم على تقسيم الوطن العربي على أسس دويلات طائفية، كان الدور الإيراني باتجاهاته الطائفية ضرورة وحاجة أميركية - صهيونية، وكذلك كان الدور التركي باتجاهاته الطائفية المتناقضة مع اتجاهات نظام ولاية الفقيه ضرورة وحاجة للمشروع الأم أيضاً. ولأن المشروع تعثَّر بل فشل، فلا حاجة إذن بقيت للدورين معاً، فكان لا بُدَّ من أمام أوباما، الرئيس الأميركي الأسبق الذي سلم العراق للنظام الإيراني، من أن يفعل ما فعله دونالد ترامب لو تم التجديد له لولاية ثالثة. ولهذا لن يستطيع جو بايدن سوى أن يتابع خطى ترامب لاستعادة العراق، جغرافياً واقتصادياً، لتقوية النفوذ الأميركي في المنطقة العربية، لا بل في منطقة الشرق الأوسط، وإنه كان سيفعل ذلك ولو بوسائل أخرى.

-والثاني تهدئة المخاوف العربية من خطورة الدور الإيراني، وخاصة مخاوف دول الخليج العربي.

ما كان لأوباما أن يساوم على صداقته لدول الخليج العربي، ويستبدلها بصداقة وثيقة للنظام الإيراني، لو لم يكن يراهن على أن نجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد سيؤدي إلى تقسيم إيران نفسها، وتقسيم السعودية ودول الخليج الأخرى، أي بما يعني أن أميركا لن تكون بحاجة إلى صداقة أي منهما، لأن خرائط التقسيم الجديدة، ستفرز أنظمة طائفية صغيرة ومفككة، شبيهة بالدويلات الطائفية التي قوَّضت الدولة العباسية، وشبيهة بدويلات أمراء الطوائف التي قوَّضت الدولة العربية في الأندلس. وتلك الخرائط الجديدة للدويلات الطائفية الجديدة ستكون ضعيفة إلى الحد الذي ستطلب فيها الحماية الخارجية، والتي لن تضمنها سوى دولة أميركية قوية مرهوبة الجانب.

ولأن المشروع الأخطر في التاريخ، والذي كان سيفكك الدول القطرية القائمة، قد فشل في أكثر جوانبه، كان لا بُدَّ أمام الحكومة الخفية، التي تحكم أميركا، من أن تعود إلى نقطة البداية في تحالفاتها، سواءٌ أكان ترامب الجمهوري، أم كان بايدن الديموقراطي. ولهذه الأسباب لن يستطيع بايدن أن يقفز فوق حقائق الأمر الواقع، إذ عليه أن يعيد صداقات أميركا الخليجية كما كانت سابقاً.

إن استعادة صداقة  أميركا لدول الخليج العربي، لن يكون أقل من إعادة النظام الإيراني إلى حجمه القديم. أي أن يعود إلى نمر ن دون أظافر. وإن هذا سيؤدي إلى فقدان ثقة أصدقائه الذين طالما حابوه وجاملوه وهو قوي، ولكنهم سيتفرقون من حوله بعد أن تحول إلى نمر ضعيف، لن يستطيع حتى إقناع الشعب الإيراني بصلاحيته للحكم.

2-المتغيرات على الصعيد الأوروبي الغربي:

في بداية عهد دونالد ترامب، وقفت الدول الأوروبية بالضد من إعلانه إلغاء الاتفاق النووي الإيراني من جانب واحد. كان ذلك الإلغاء، في ظرفه ومكانه، يعني وقوع الضرر الفادح بالمصالح الأوروبية في إيران وفي العواصم التي أعلن النظام الإيراني سيطرته عليها. ولكن قبل أشهر قليلة من الانتخابات الأميركية، في شهر تشرين الثاني من العام 2019، أخذت الاتجاهات الأوروبية طريقها نحو التغيير، مما يعني أنها لم تعد تراهن على بقاء النظام الإيراني قوياً.

آخذة مواقف أكثر الأنظمة العربية الرسمية سلبية باتجاه النظام الإيراني، وجدت الدول الأوروبية أنها ستكون خاسرة في المدى الاستراتيجي المنظور إذا انهار النظام الإيراني. فهي لها مصالح أكبر في الدول العربية الأخرى، لذلك أقلعت عن المراهنة على حصان إيراني خاسر، وشهدت مواقفها متغيرات كبرى تقوم على أن إعادة المفاوضات بشأن ملف المفاعل النووي الإيراني يجب أن لا تكون منفصلة عن مسألتين أساسيتين، وهما: فتح ملف الصواريخ الإيرانية الذكية، وملف منعها من تهديد أمن جيرانها.

 

-ثانياً: المتغيرات على الصعيد الإقليمي:

مما لا شكَّ فيه، أن دول الإقليم، تركيا وإيران، ارتكبت خطأين استراتيجيين، في علاقاتهما مع العرب.

-الأول: لقد أنس كل منهما قوة وهمية حلم فيها أنه أصبح بمثابة الدول العظمى، ولعلَّ المنهج الأيديولوجي الديني هو الذي غرس تلك الأوهام الاستراتيجية عندما تخيَّلا بأنهما ينفِّذان مشروعاً إلهياً، يقضي ببناء أنظمة سياسية ذات اتجاهات أممية تقوم على مبدأ (التشريع الإلهي) الذي يرفض المساواة بينه وبين الأنظمة الوضعية، لا بل يضع نفسه في حرب ضروس معها، وهذا ما يلخصه الحكم الشرعي القائل: (لا حكم إلاَّ لله).

-الثاني: إن الأحلام الغيبية التي راودتهما فتوهَّما بأن كلاً منهما منصور بقوة إلهية، ألهتهما عن بناء علاقات حسن جوار مع العرب. وأزدادت أحلامهما عمقاً عندما استعان بهما المشروع الرأسمالي الصهيوني لتنفيذ حلمه بالسيطرة على الوطن العربي، وكذلك جواره الجغرافي، بتقسيمه إلى دويلات دينية. وإذ ذاك راح كل منهما يقتطع لنفسه من قرص الجبنة العربي حصته. والقصة معروفة منذ بداية ما يُسمى بـ(مشروع الشرق الأوسط الجديد).

إن الأمرَّ من كل ذلك، هو أنه وعلى الرغم من أن المشروع أصيب بهزيمة كبرى، وكذلك أصحاب ذلك المشروع أعلنوا موته ودفنه، هو أن كلاً من النظامين حسب أنه يمكنه أن يتابع تنفيذه من دون مساعدة أحد.  وبذلك أخذت استراتيجيتهما تتخبط بشكل عشوائي، ولم يستفيقا، ولو بعد طول مكابرة، سوى على القذائف السياسية والمخابراتية التي أخذت تنطلق باتجاههما من كل حدب وصوب.

وإذا كان ما يمكن أن نشير إليه، هو أن ندعو النظامين المذكورين، ولو كانت الدعوة قد تكررت مئات المرات، إلى صحوة ضمير ديني وأخلاقي في أن يعودا إلى رشدهما، وأن يتجها باتجاه مصالحة سليمة مع جيرانهم العرب، بتصحيح أساليبهما طوعاً، قبل أن تفرض عليهما دول العالم، وأميركا والدول الأوروبية في المقدمة منها، العودة إلى رشدهما.

وخلاصة وضع كل منهما، في هذه المرحلة، هو أنهما يمران بمخاض عسير يجعلهما على حافة الإنهاك، فالضعف، فالتلاشي.

ثالثاً:كيف يوظِّف العرب أوراق القوة التي يمتلكونها؟

صحيح أن لدى العرب عوامل قوة كثيرة لم يوظفوها في مسارها الصحيح، ولو فعلوها لكانوا في مصاف الدول الكبرى. ولكي ننطلق من وقائع الأمور، التي لا يجوز أن نأخذ بها إلاَّ لأن الإنهاك الشديد، واستسلام الأنظمة الرسمية، والتحاقها بركب الدول الكبرى، هو الذي وضع العرب في أدنى سلم الضعف. ولذلك، كيف يستفيد العرب من متغيرات المرحلة، والتي عليهم أن لا تنطلي الخدعة التي انطلت على النظام الإيراني، عندما اعتبر أن الخلاص أصبح معلَّقاً برقبة حصان جو بايدن، الرئيس الأميركي الجديد. وإذا كان ذلك النظام ينتظر الخلاص في عهد جو بايدن، على الأنظمة العربية الرسمية أن لا تخشى من عهده، بل عليها أن تعتبر أنها هي وحدها تستطيع أن تفرض شروطها عليه، وأن لا تنتظر أن يفرض شروطه عليها، لأن أوراق القوة بيدها هي وليست بيده. فهو بحاجة لمميزاتها الجغرافية الاستراتيجية وثرواتها الهائلة، وأسواقها الاستهلاكية الواسعة. لذا يترتب عليها أن تبدأ الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، على أن تضع نصب أعينها أنه إذا كانت المصالح سيدة المواقف، وهي مشروعة، لكن على أن يكون تبادلها على قدم المساواة.

ومن قبيل قراءة تاريخ العلاقات بين الأنظمة العربية الرسمية من جهة، والقوى الدولية العظمى وفي المقدمة منها أميركا من جهة أخرى، تشير إلى أن تلك الأنظمة تقف موقف الخاصع للقوة الأميركية بسبب خوفها على إسقاطها بالطرق المخابراتية الملتوية التي تسلكها أجهزة المخابرات الأميركية، بالتآمر واستبدال الحاكم غير المطواع  بطريقة الاغتيال أو الإبعاد وتغييره بمن يكون مطواعاً أكثر. وإنه في مواجهة الخطر الذي يخشاه رؤوساء وملوك تلك الأنظمة فهو بأيديهم، ونراه كما يلي:

عادة ما تصنع الأنظمة السياسية التقليدية أعداءها بأيديها. وتلك الصناعة تجري كما يلي:

-وضع الأكثرية العظمى من الجماهير في مواجهة مع الأنظمة: إذا كانت الاشتراكية بعبعاً تاريخياً تخشى الطبقات الحاكمة سلوك وسائله، فإن الأنظمة الرأسمالية الحديثة قد طبَّقت ما يعادلها وفق مناهج العدالة الاجتماعية. وهذا ما سلكت معظم الدول الأوروبية دروبه، وحتى الأنظمة الملكية منها، سلكت تلك الدروب. وإذا كان مقال لا يستوعب التوسع في هذا الجانب، فمختصر القول: إنه بالقليل من العدالة الاجتماعية تضعف شدة النقمة الشعبية ضد الأنظمة. وهنا نلفت النظر إلى ما جرى في الحراكات الشعبية في أكثر من دولة عربية، في مرحلة تنفيذ ما يُسمى بـ(الربيع العربي)، تلك المرحلة التي تفجرت فيها شوارع مدنها وساحاتها وامتلأت بصراخ الجائعين والمرضى والعمال والفلاحين، وأصحاب الدخل المحدود. ولولا استغلالها، لكانت تُعدُّ من أهم الثورات التي كان يمكنها أن تغير وجه الواقع في الوطن العربي.

وإذا كان من حل تخرج به تلك الأنظمة من أزمتها المستمرة مع الجماهير الشعبية، فعليها أن تلجأ إلى تطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية ولو كان التطبيق يجري بالشكل الشبيه الذي تطبقه الأنظمة الرأسمالية.

-صنع معارضة داخلية وتعميقها نتيجة القمع والاضطهاد، والامتناع عن سلوك الوسائل الديموقراطية في إيصال الأنظمة إلى كراسي الحكم. وإذا كنا ندين أي استقواء للمعارضة الداخلية بقوى أجنبية مهما كانت ذرائعها، فإننا لا يمكننا أن نعفي الأنظمة الرسمية من مسؤوليتها في تغييب الحقوق الديموقراطية واستخدام أجهزة المخابرات في ملاحقة المعارضين لأنظمة الحكم. وبناء على متغيرات المرحلة التي لا يجوز التغافل عنها منذ الآن، هو أن تتجه جهود الأنظمة الرسمية إلى تعميق المبادئ الديموقراطية وتطبيقها من دون خوف أو خشية منها، لأن أية خسارة ستدفعها الأنظمة الحاكمة نتيجة تطبيق الديموقراطية، ستكون أقل بكثير مما ستدفعه في حالات انتشار الفوضى والحروب الأهلية التي يمكن لأية معارضة أن تلجأ إليها.

-صناعة بيئة حاضنة لشعارات الحركات الدينية السياسية: تقوم شعارات الحركات الدينية السياسية على إعلاء أهداف الفقراء والمساكين للتحريض ضد الأنظمة الوضعية الحاكمة، أو حتى تلك الأنظمة الدينية المعارضة لمذهب مثيلاتها. وإذا كانت تلك الحركات تريد من تحريض الجياع والفقراء وذوي السبيل كسب المؤيدين لها، والعمل على إسقاط الأنظمة الوضعية، أو التي لا تدين بمذهبها الديني، فإنها في الوقت نفسه لا تملك الحل، لأنه لو استطاعت تطبيق مناهجها في الحكم، فإنها سوف تكون أكثر ديكتاتورية وابتعاداً عن العدالة الاجتماعية من تلك التي تعمل على إسقاطها.

وإذا كنا في السابق نراهن نظرياً على فشل مشاريع تلك الحركات، فقد جاءت تجارب الحكم، بعد مرحلة ما تسمى بـ(الربيع العربي) لتؤكد خطورتها، وذلك كما حصل في تونس وليبيا ومصر، وما ارتكبته تلك الحركات في اليمن وسورية وفي العراق، وبالأخص منها نظامها الأكثر تخلفاً الذي حكم العراق، ولا يزال، بعد الاحتلال الأميركي والإيراني.

واستناداً إليه، وإذا كانت مشاريع حركات الإسلام السياسي قد سقطت سقوطاً ذريعاً في التجربة، فهذا لا يعني أنها فقدت تأثيرها في المفاصل العربية الشعبية الرخوة، طالما ظلَّت الأنظمة الرسمية بعيدة عن توفير العمل لتلك الأوساط الشعبية، وكذلك سبل الحياة الكريمة. وإذا ظلت مناهج الأنظمة الرسمية بمنأى عن تلك الإصلاحات فإنها تترك الأوساط الجماهيرية الواسعة تحت رحمة تحريض تلك الجماعات.

وإذا كانت تلك العناوين الواسعة بحاجة إلى تفصيلات أكثر، فهذا يقع على عاتق الحركة الثقافية للمنظمات الحزبية، والتجمعات الثقافية الوطنية الأهلية.

ونختم المقال بأن للحراكات والانتفاضات والثورات الشعبية في كل من العراق ولبنان وتونس والجزائر والسودان، مجال آخر للاستفادة من المتغيرات الدولية والإقليمية، ولها مجال أوسع في الكتابة عنها، ويكفيها سلميتها وشعبيتها وشموليتها الوطنية، والحرص على منع اختراقها، واستمراريتها. ويكفيها، وعلى الرغم من عدم التنسيق بينها إلاَّ أنها تمثل ثورة قومية بأهدافها ووسائلها.

 

الاثنين، ديسمبر 28، 2020

أزمة لبنان والدخول في دائرة جهنم المغلقة

 

كيف يستقبل لبنان العام الجديد؟

أزمة لبنان والدخول في دائرة جهنم المغلقة



في لحظة من لحظات التعبير عن غضب رئيس الجمهورية اللبنانية عبَّر عما سيؤول إليه الوضع في لبنان إذا لم تتشكل حكومة. حينذاك أجاب: (إلى جهنم).

وكأن رئيس الجمهورية ليس مسؤولاً عن إدارة الأزمة، وكأنه لا يعرف أنه إذا احترق بلد يجب أن يتولى أركان السلطة مهمة إطفاء الحريق وعليه بحكم مسؤولياته الدستورية أن يكون على رأس فريق الإطفاء. ولكن المأساة في لبنان هي أن يكون أركان السلطة أنفسهم سبباً للحريق. وقد أحرقوا لبنان عن سابق تصور وتصميم حيث أعمتهم دخان مصالحهم الفئوية، ومصالح ميليشياتهم، عن رؤية الحريق الذي شبَّ في كل مفصل من مفاصل لبنان، وكل زاوية فيه، ولم يترك فيه يباساً لم يشتعل، والأمر من ذلك أن النيران أكلت الأخضر أيضاً.

لو قالها مواطن غاضب، أو ممن لا يشارك في السلطة، لكان من المقبول ما قال، لأنه لا يملك سنتيماً من السلطة لكي نحمله المسؤولية، ونطلب منه أن يُطفئ نيران جهنم. ولكن الذي يقولها هو رأس السلطة بالذات، ولكنه عاجز عن فعل شيء، مردداً مع التيار الذي يرعاه: (ما خلونا نشتغل). ويأتي رأس حزب، أو راعي حزب، من المشاركين في السلطة ليردد المعزوفة ذاتها. حتى لم يبق حزب واحد منها لم يتلوها. لتكون النتيجة أنهم جميعاً أبرياء من دم لبنان النازف. وقد أجمعوا على اتهام الفقراء الذين نزلوا إلى الشارع غاضبين على تقصير السلطة بأنهم الفاسدون، وأصبح كأن ثمن منقوشة الفقير هي وضعت لبنان في بؤرة الإفلاس.

دخل لبنان بوابة جهنم بفعل تمسك أمراء الطوائف بنظام المحاصصة الطائفية، زعماً منهم أنهم سيحمون الطوائف، فهدموا لبنان وخسرت الطوائف. ولم يعمل أي حزب من أحزاب الطائفية السياسية على إنقاذه بل يعملون جميعاً على تزويده بحطب الفساد والسرقة والنهب ليزداد اشتعالاً.

في ظل إصرار أحزاب السلطة على امتيازاتهم وحماية أنفسهم من المساءلة، يشهد لبنان هبوطاً مستمراً في مناعته لمواجهة المستقبل، وكلما ازدادت أحزاب السلطة تمسكاَ بمواقعها وطرائق أدائها في إدارة الشأن العام، سيقابله المزيد من الانهيارات في شتى مفاصل الحياة الاقتصادية. وكلما ازداد أعداد الجائعين والعاطلين عن العمل، تزداد معها مظاهر الاحتجاج، ومظاهر العوز، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الجرائم والإخلال بالأمن.

إن أم الآفات أن تكون سلطة سياسية غير قادرة على توفير لقمة العيش للمواطنين، لأنها ستقود إلى آفات أخرى أشد وطأة ولعلَّ أخطرها انفلات حابل الأمن على غاربه، كما أن تقاذف التهم بين أمراء الطوائف، خاصة في ظل انتشار الميلشيات المسلحة، التي وإن تباينت أحجامها، فإنها قادرة على العبث بالأمن والإخلال به. ولهذا فلا أمل بعودة لبنان إلى شبكة الخلاص سوى بتغيير هذا النظام الفاسد، الذي يستقوي فيه بعض أحزاب السلطة بالحزب الآخر، لأنهم جميعاً مستفيدون من النهب والسرقة من جهة، وكل واحد منهم يستقوي بقوة خارجية تحميه من جهة أخرى.

إن لبنان دخل الدائرة الجهنمية المفرغة، لأن من له صلاحية تشكيل الحكومة هم أحزاب الطائفية السياسية من جهة، وهم لن يشكلوا حكومة تفتح ملفات فسادهم من جهة أخرى، وإذا لم تتشكل حكومة تراقب وتحاسب، نتساءل: من أي بوابة سيدخل التغيير؟

إذن لا أمل يبدو في الأفق المنظور، فالساحة اللبنانية مفتوحة على المزيد من التأزيم في شتى الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.

ولأنه لن يكتوي بنار الدخول إلى هذا النفق الجهنمي سوى الفقير الذي يعجز عن توفير لقمة عيشه اليومية، والفاقد لعمله، والمريض الذي لا يمكنه دفع تكاليف الاستشفاء، والذي لا يستطيع دفع تكاليف تعليم أولاده بواسطة (الأونلاين)، والطالب الذي لا يستطيع دفع قسط جامعته، والأب الذي يعجز عن إرسال مبلغ من مال خصصه لابنه الذي يدرس في الخارج، والذي... والذي... ويطول النفق الجهنمي... 

ولأن أحزاب السلطة توفر لميليشياتها أسباب عيشهم، وحتى البعض منها يغدق عليهم لكسب ولائهم.. ولأن المسؤولين فيها غارقون في التخمة، سواءٌ أكانت من الأموال التي نهبوها، أو المال السياسي الذي يأتيهم رشوة من الخارج، فهم لا يعانون من أي أزمة تعانيها الشرائح الاجتماعية المحدودة الدخل، أو تلك التي تقع تحت خط الفقر.

لكل ذلك، فإن الأمل في اختراق الدائرة الجهنمية التي دخل فيها لبنان، يأتي من تلك الأصوات الرافضة لمنهج الطائفية السياسية. تلك الأصوات التي أقسمت أنها لن تعود إلى بيوتها قبل أن تحمل بشائر النور باختراق حصون الطائفيين السياسيين، وتعريتهم تماماً، وكشف المغاور التي يسرقون فيها قوت الشعب.

 

 

 

الاثنين، ديسمبر 14، 2020

بين ترف الوقت عند أحزاب السلطة وإرادة الصبر عند الشباب

 

بين ترف الوقت عند أحزاب السلطة

وإرادة الصبر عند الشباب



أولياء السلطة في لبنان، في مواجهاتهم مع ثورة الشباب، حالهم حال من يراهنون على الوقت الذي ينتظرون فيه نفاد الصبر عند الشباب الثوار، لكي يعيدونهم إلى مربعات التدجين كما فعلوا مع الأجيال التي سبقتهم.

وفي المقابل حال شباب الثورة حال من أتقنوا فن الصبر والاستمرار حتى الوصول إلى نهاية سعيدة في صراعهم مع أحزاب السلطة. فلا تدجين يمكن أن يمر، سواءٌ أكان الترهيب بالعصا، أم كان الترغيب بالجزرة.

كانت الأجيال السابقة، باستثناء القلة من بينهم، يعتبرون أنه ما من قطرة غيث تسقط على أرضهم من غير سحابة تمطرها عليهم سماء أمراء الطوائف. ولا حبة قمح يمكن أن تنبت خارج حقولهم، ولا حفنة من طحين يمكن أن تخرج من غير مطاحنهم.

وأما في استبار عميق لعقول الشباب الجديد، فنقرأ إصراراً لا مثيل له على التغيير، لا ينفع معه تهديد بعصا بلطجي أعمى، ولا إغراء بجزرة لا تُشبع الأرانب.

لقد صفع ظهور الشباب أمراء الطوائف على وجوههم،  ولكنهم لم يشعروا بثقلها، بل شعروا بالمهانة، لأنهم تعودوا على آيات التبخير والتعظيم التي كانت الأجيال السابقة يغدقونها في مقاماتهم العالية، وكانت تلك الآيات تصل إلى حدود تقديسهم، لا بل كانوا يرفضون ويقتتلون مع من يحاول المسٍّ بها لأن المسًّ بقدسية أمراء الطوائف خط أحمر، تُقطع اليد التي تتجاوز حدوده، أو يُقطع اللسان الذي ينقدهم بكلمة سوء.

لا يزال أمراء الطوائف، يراهنون على ترف الوقت مستندين إلى ولاء من والاهم، وبلطجة من حماهم. فهم يماطلون بتأليف حكومة بدون محاصصة طائفية، لا بل يصرون على تلك المحاصصة، لكي تحميهم من فتح ملفات فسادهم جميعهم. ويقومون بتسويف الدخول إلى أي ملف إصلاحي، لأن فتح ملف واحد سوف يثير زوبعة من ملفات أخرى. ففي مقابل كل ملف لطرف هناك ملفات لكل الأطراف. الكل خائف، ولذلك يسهمون جميعهم بالتسويف واستخدام ترف الوقت، لكي يصلوا إلى اتفاق يضمنون فيه إقفال الملفات جميعها على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

إن من يقرأ في ما يجري في كواليس تشكيل حكومة قد توقف انهيار لبنان من الإفلاس الذي لن يشعروا به، هم وأولادهم وأقاربهم والمقربين منهم، ومن أدواتهم في ممارسة النهب والسرقة.

هذه القراءة تفسِّر أنهم أصبحوا من أهل الكهف الذين ناموا واستراحوا على عملة فقدت قيمتها بعد نوم طويل. وإن استخدام ترف الوقت، لن يحميهم على الإطلاق، لأن سيف الصبر عند أولئك الشباب الثائرين، أشد مضاء من سيفهم الذي أصيب بفلول الفساد والنهب والسرقة، التي لن يرتقها ترفهم مهما بلغ من الاحتيال والتذاكي.

الاثنين، ديسمبر 07، 2020

من تشرين العراق إلى تشرين لبنان

 

من تشرين العراق إلى تشرين لبنان

مقاربات مرحلية وآفاق استراتيجية قومية


شبكة ذي قار/

مكتب الثقافة والإعلام القومي

حسن خليل غريب

في 6/ 11/ 2020

مدخل: التكاملية بين القضايا القومية سرُّ قوَّتها:

إذا أنَّ في قطر عربي صوت يجد في ذرى قطر عربي آخر صداه. فالصوت العربي الرافض واحد لا يتجزَّأ، يتمرَّد على خطوط مقاييس سايكس بيكو الجغرافية، وعلى الخطوط الطائفية، وعلى خطوط التفتيت الوهمية التي يزرعها الاستعمار والصهيونية ودول الإقليم ذات المشاريع الدينية السياسية. وإنه على الرغم من أن كل تلك القوى تستغل أمراضنا في الطائفية والتجزئة القطرية، يبقى صوت الأكثرية من الشباب العربي، لا تحده خطوط الجغرافيا السياسية، ولا تحيط به خطوط الجغرافيا الطائفية.

وإذا كانت الأنظمة الرسمية مأسورة في خطوط محدَّدة لها، جغرافية كانت أم طائفية أم عشائرية أم طبقات مستغلة لثروات الشعوب، فلأن مقاساتها تكون مفصَّلة بناء على معايير مصالح الطبقات الحاكمة فيها بالتنسيق والتحالف مع الدول الخارجية التي ساعدت على إنشائها، والتي تزعم أنها تحميها. لقد أسلست تلك الأنظمة انقيادها ورهنت أنفسها لمصالح الخارج واهمة أنها تحميها من السقوط. وتجاهلت أنه يمكن تبديل جلودها عندما تنتهي أدوارها بإسقاط السلف ليُؤتى بخلف أكثر طمعاً باستغلال أبناء جلدته من الطبقات الفقيرة والمعوزة، ويحصل ذلك عندما تجد الدول الخارجية ضرورة لتبديل تلك الجلود بأنظمة تختلف بجلودها ألواناً وأشكالاً، ولكنها تعيد إنتاج مناهجها للتوافق مع المصالح الخارجية. وهكذا تعيش تلك الأنظمة على وقع استغلال شعوبها لتوفير البيئة الآمنة لمصالح تلك الدول.

وأما بالنسبة للشعوب، على الرغم من استسلامها لإرادة أنظمتها الرسمية، فإنها تشعر دائماً بالغبن والقهر ولكنها لا تعرف في معظم الأحيان طريقاً للخلاص، لأنه يتم تدجينها بثقافة تلك الأنظمة، وسجنها في مناهج ثقافية تسليمية وتقليدية خاصة إذا كانت أنظمة طائفية سياسية.

ولكن على الرغم من سجونها تلك، فإن الأكثرية الساحقة من الجماهير تختزن النقمة والغضب من جراء ما يصيبها من فقر وحرمان ومصادرة للحريات. وعندما تحين ظروف انفجار تلك الخزانات، فإنها تنتظر أول فرصة تحين لها. وليس هناك من فرص حقيقية أكثر تأثيراً من تأثير نخبة مثقَّفة تحفر في اللاوعي الشعبي إشعاعات الوعي وتحفِّزها على التغيير. وتتوسع دوائر الإشعاعات إلى أن تبلغ درجة من الغليان فتحدث انفجاراً لم تكن تلك الأنظمة تتوقعه، وتبلغ شدته درجة يصعب عليها احتواؤه.

ولأن الأنظمة العربية الرسمية تقود مجتمعاتها بمنهج الاستغلال ذاته، ولأهداف خدمة حلفائها من الدول الخارجية، تختزن تلك المجتمعات الغضب ذاته، وتصل إلى درجة من الغليان ذاتها، ما إن ينفجر البركان في قطر عربي حتى ينفجر في قطر عربي آخر. وإذا استعدنا مفاعيل ما حصل، في العام 2011، في أكثر من قطر عربي في توقيتات واحدة، على الرغم من مآسيه ومصادرته وتحويل وجهته في كل من تونس ومصر وليبيا وسورية، يؤكد ما توصلنا إليه من نتائج في الفقرة السابقة.

حينذاك انتشرت الانتفاضات الشعبية في وقت واحد، تحت شعارات واحدة، وهي الدليل الأكثر إفصاحاً عن وحدة المعاناة من الفقر والحرمان، ومن قمع الأنظمة واضطهادها. كما أنها الأكثر إفصاحاً عن حجم الغضب الشعبي الذي كان يتراكم عبر عشرات السنين التي كان يظهر الشعب فيها وكأن الصمت والاستسلام لفَّه إلى الأبد. ولكن وحدة الشعور بالاضطهاد، ووحدة الأهداف، شيء ونتائجها شيء آخر. ولأن لما حصل سابقاً نتائج سلبية، فقد كان سببه سرقة نضالات الحراكات الشعبية التي قامت بها الدول المخططة لإسقاط تلك الأنظمة من أجل تغيير جلودها بأسوأ منها.

ومن دون الخوض في تحليل تلك المرحلة لأنها كانت مدار أبحاث كثيرة سابقة، فإننا سنعتني في هذا المقال، بدراسة تجربة ثورة تشرين في العراق، وتجربة انتفاضة تشرين في لبنان، اللتان حصلتا في العام 2019. ولأن المقاربة بينهما سهلة المنال، يصبح الهدف من حصر موضوع المقال بهما، جاء لكي نرصد من خلالهما كيف يمكن أن تكون عليه وحدة صوت الشعب العربي ووحدة الآلام والمصالح الشعبية، التي عملت الأنظمة الرسمية على تمزيقه وتفتيته. كما أننا سنعمل على المقاربة بينهما من حيث المنهج السياسي والاقتصادي والثقافي.

وهنا، سنطرق بوابة المقاربة من حيث إخضاع العراق إلى الارتهان للخارج، والتشكيل الطائفي السياسي:

-منهج التقسيم الطائفي بعد احتلال العراق هو الأنموذج الذي يتم تقليده في تقسيم الوطن العربي:

من الثابت أن تخطيط إدارة اليمين المسيحي المتصهين، بقيادة جورج بوش الإبن، لاحتلال العراق، كان مقدمة لإعادة رسم خرائط الوطن العربي على أسس طائفية، مستفيدة من الأمراض الطائفية التي نخرت عظام القواعد الجماهيرية نتيجة الدور اللاواعي، المملوء بالتعصب الأعمى للدين والمذهب. ذلك التعصب الذي زرعته المؤسسات الدينية السياسية، ويأتي في طليعتها كل من فكر الإخوان المسلمين من جهة، وفكر نظرية ولاية الفقيه من جهة أخرى.

لم تعد قضية التحالف بين إدارة اليمين المسيحي المتصهين وإدارة كل من حركتيْ الإخوان وولاية الفقيه، خافية على أحد. فقد برزت بشكل واضح وجلي في اللقاء الحميم المشبوه في مشاركة التيارين في تشكيل (العملية السياسية) في العراق منذ بداية الاحتلال والتي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، ولن يسقط هذا التحالف سوى في اللحظة التي تسقط فيها العملية السياسية.

-(لبننة) العراق للاستفادة من عورات نظام المحاصصة الطائفية في لبنان:

لم يكن استغلال العامل الطائفي نظرية خُطِّط لها في دهاليز المخابرات الأميركية الصهيونية، وتحتاج للاختبار. فالتجربة اللبنانية في بناء النظام الطائفي السياسي ماثلة في مخططات التآمر على الوحدة المجتمعية العربية. خاصة أنها خضعت لاختبارات دامت أكثر من مائة عام، وأثبتت أنها المنهج التفتيتي الصالح لتعميمه على أقطار الوطن العربي.

ولم يكن من قبيل الصدف أن يُعلن الاحتلال الأميركي، منذ اللحظة الأولى للاحتلال، بتشكيل (مجلس الحكم الانتقالي) في العراق على قاعدة تمثيل كل الطوائف فيه، خاصة من السنة والشيعة، إلى جانب تمثيل العرق الكردي فيه. ولهذا تم تقسيم العراق في دستور الاحتلال إلى ثلاثة أقاليم: السني والشيعي والكردي.

بمثل تلك الخطوات أخذ منهج (لبننة العراق) طريقه للتطبيق. فتم تشكيل الأحزاب الطائفية لكل مكون من تلك المكونات. ولأنه تمت عملية (اللبننة)، فقد استلم رجال الدين دفة إدارة العراق، حيث أسبغوا شرعية طائفية على مكونات السلطات الحاكمة من أجل حمايتها. وخطورة تلك الشرعية تكمن في أن أخاديع الكثيرين من رجال الدين تنطلي على العامة من الشرائح الشعبية ذات الثقافة التسليمية والتقليدية التي تظر إلى رجل الدين بعين القداسة. وإذا بالعديد منهم، من الذين تعتبرهم العامة من المرجعيات الدينية يُتخمون بتجميع الثروات الطائلة، هذا في الوقت الذي تتكاثر أعداد العامة من الفقراء والمسحوقين والجياع والمرضى، وقد وصلت تلك الأعداد إلى عشرات الملايين الجائعة.

كان من المرسوم له أن تأتمر منظومة  اللصوص والخونة مدعومين من رجال الدين، أو من رجال دين انخرطوا بشكل مباشر في المؤسسات السياسية، بأوامر الحاكم المدني الأميركي، لتتحول وظيفة تلك المنظومة إلى وسيط بين الاحتلال والشعب العراقي، يديرون عمليات النهب لمصلحته، ويقتاتون بفتات حصيلتها.

ولكن لم تنته الأمور إلى ما خطط له الاحتلال، أي أن يكون هو الآمر الناهي والجميع يأتمرون بأمره من دون مناقشة أو اعتراض. لقد انقطع حبل ما خطط له الاحتلال الأميركي، بعد إلحاق الهزيمة به بواسطة المقاومة العراقية المسلحة. الأمر الذي دفع به إلى تسليم العملية السياسية ووضعها بإمرة نظام ولاية الفقيه، فكانت الفرصة الذهبية لذلك النظام التي طالما حلم بها، وقد وصلته على طبق من ألماس.

وابتداء من تلك اللحظة حضي نظام ولاية الفقيه بكل الثروة التي كان الاحتلال الأميركي يستأثر بها، ولأن أحزاب الطوائف أسلست قيادها للاحتلال البديل، وهذا ما أثار حفيظة الإدارة الأميركية ودفع بها إلى العمل، على نار حامية، لاستعادة ما حسبت أن ثروات العراق هي حق شرعي لها تتصرف به كيفما تشاء وأنى تشاء ومتى تشاء كما أوضح دونالد ترامب: (إن أميركا دفعت المال والأرواح ولم تحصل علي شيء، وإن إيران لم تدفع شيئاً، ولكنها حصلت على كل شيء). ولأن لهذا تفصيل آخر، تكفي الإشارة إلى أن النزاع الأميركي الإيراني، في عهد ترامب، وكذلك في عهد بادين، سوف يستمر حتى إعادة التسوية إلى مساراتها التي سبقت هزيمة الجيش الاحتلال في العام 2011.

لن يغير من قواعد لعبة النزاع شيء سواءٌ أكانت الإدارة ديموقراطية أم كانت جمهورية، وهو استعادة حقوق النهب لمصلحة أميركا، على أن تبقى قواعد لعبة تقسيم العراق إلى إثنيات طائفية وعرقية الناظم الأساس لأي احتلال. ولهذا أصبح من الواضح أن خلاص العراق يجب أن يمر عبر تحطيم قواعد اللعبة الطائفية، فيكون تهديم (العملية السياسية) من أهم الوسائل التي يمكنها أن تعيد استقرار العراق إلى ما كان عليه قبل الاحتلال في العام 2003.

-المحافظة على قواعد (لبننة العراق)، و(عرقنة لبنان)، من أجل حماية مؤامرة التقسيم:

 ما كان لتدخل خارجي أن ينجح، لولا وجود الضعف العربي. وإذا كانت أطماع القوى الخارجية واضحة تماماً، فإن الكشف عن عوامل الضعف في الجسد العربي تبقى المسألة الأهم. ومن أهم عوامل الضعف، هي الفجوة السحيقة في الثقة بين الأنظمة العربية الحاكمة والجماهير الشعبية.

-الحل في انقلاب الجماهير الشعبية على قواعد (العرقنة) و(اللبننة):

ولأن منهج الأنظمة في الحكم قائم على تبادل المنافع مع تحالفاتها الخارجية، تبقى تلك المنافع حكراً على طبقة حاكمة تفكر في مصلحتها أولاً، ولا ضير من أن تدعم مواقعها مع القوى الخارجية ليتبادلا عوامل الاستمرار ثانياً، تبقى إرادة تغيير تلك المعادلة موكولة على الصفوة الوطنية الصادقة بربط أهدافها بمصلحة الجماهير المسحوقة.

كما أن واقع (لبننة العراق) يشكل عامل صراع دائم بين المذاهب الدينية بصورة ميليشيات مسلَّحة تهيمن على شتى مفاصل الدولة، فإن مبدأ (عرقنة لبنان) يحمل عوامل تشريع وجود الميليشيات المسلحة التي تحمي مصالح الأحزاب الطائفية الحاكمة، والتي تشكل بدورها خدمة للمشاريع الخارجية التي لن تستطيع أن تمر من دون وجود أحزاب تحكم باسم الطوائف.

وكما احتفل حراكيو لبنان باندلاع ثورة تشرين الأول في العراق، فقد اعتبر ثوار العراق أن اندلاع انتفاضة لبنان التشرينية أيضاً تشكل أهم داعم معنوي لهم في ثورتهم. ولهذا انطلق شعار (ثورة العراق، وانتفاضة لبنان، وجهان لعملة ثورية عربية واحدة).

ولذلك يجمع تشرين العراق ولبنان وحدة الهموم، ووحدة الشعور بالظلم، ووحدة الموقف بالانقلاب على الثقافة الطائفية التي تفرِّق ولا توحد؛ ونشر الثقافة الوطنية التي توحد ولا تفرق، وكلاهما يهتفان: (نريد وطناً)، وبـ(اسم الدين سرقنا اللصوص).

وأخيراً، يبقى أن نقوم بـ(تعريب) الثورات في كل ساحات الوطن العربي، لأنه بها تتآزر وتتعاون في مواجهة خصم واحد، يُعرف باسم تحالف مشاريع (الحركات الدينية السياسية)، أو مشاريع (أحزاب الطائفية السياسية) مع قوى الاستغلال الأجنبية في سائر دول العالم، وبالأخص منها الدول المجاورة للوطن العربي.

الاثنين، نوفمبر 30، 2020

الحياة نعمة من الله ومدة عمر الإنسان صنع يديه

 


الحياة نعمة من الله

ومدة عمر الإنسان صنع يديه

مقدمة نقدية في الموروث الديني:

من الثابت أن الفقه الديني يلزم الإنسان بأن يؤمن بـ(قضاء الله وقدره). وعن هذا جاء في بعض التعريفات ما يلي: «الإيمان بالقضاء والقدر هو التصديق الجازم بقضاء الله وقدره، وإنّ كل ما يقع في الأنفس والآفاق من خير أو شر إنما يتم بقضاء الله وقدره، وعلمه المسبق، فقد كتب الله الأقدار قبل خلق الخليقة فلا يخرج شيء عن إرادته ومشيئته في الأرض أو في السماء». وقد استند الفقه إلى نصوص من القرآن، ومنها ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

ما جاء في النص القرآني، وما جاء في الفقه أيضاً، من أن الأفعال التي تصدر عن الإنسان إنما هي بتقدير من الله، قمنا بتحليله في مقالات سابقة وتوصلنا فيه إلى نتيجة تفيد أن الله إذا قام بحساب الإنسان على فعل أمره به أن يفعله، يتنافى مع قيم العدالة التي خلقها فيه، لأنه لا يجوز حساب الإنسان على فعل لم يقم به بمحض إرادته. ومن المؤكد أن المحاكم المدنية والدينية أيضاً، والتي بدورها استندت إلى تلك القيم، تحكم على الإنسان في الحياة الدنيا بالعقاب على العمل الذي قام به بعد أن تتأكد بالدليل الدامغ أنه قام به بمحض إرادته، فهل من المنطقي أن يكون الإنسان أكثر عدالة من الله؟

ومن ضمن هذه القاعدة، وبناء عليها، هل قدَّر الله كم هو عمر الإنسان وحدد نهاية لحياته؟ أم أن طول هذا العمر أو قصره فعل من أفعال البشر؟

يقول الفقه الديني بناء على مسلمات النص القرآني إنما الأعمار بيد الله، ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. ولمناقشة هذا سنورد بعض نماذج الموت ونتساءل: هل هي بتقدير من الله؟

-الجنين الذي يُتوفى في رحم أمه قبل ولادته.

-الإنسان الذي يُقدم على الانتحار.

-الذي يموت غرقاً في سفينة أو تحطم طائرة.

-من يموت من جراء الحروب.

-من يموت في حادثة سطو أو سرقة.

-من يموت جوعاً لأنه لم يجد ما يأكله، أو من يموت مريضاً على أبواب مستشفى رفض استقباله...

-ومن.... ومن ... وإلخ...

وما هو رأي الفكر الديني في هذة القلة القليلة من الأمثلة؟

وعن ذلك، ولأن القضايا الغيبية مجرد تكهنات لا ترقى لمستوى اليقين، ولأن لكل إنسان ذي بصيرة حقاً في التفسير والاستنتاج في مسائل غيبية، سنحاول أن نسهم بدورنا لعلَّنا نصيب، أو قد نخطئ؛ ولكننا على الأقل سنعطي للعقل الذي وهبناه الله حصة ودوراً لأن الله عندما خلق العقل في الإنسان فإنه لم يميِّز أحداً عن أحد في مستوى العقل، إلاَّ ما استطاع المجتمع، بشتى مؤسساته، أن يطوِره فيه من مدارك عقلية؛ أو ما استطاع فيه الإنسان منفرداً من تطوير تلك القدرات. فالله فطر في الإنسان خلايا دماغية لتلك القدرات، وترك للإنسان نفسه ولمجتمعه أن ينميها. فضعفها أو قوتها هي فعل من عمل الإنسان، لأن الله لم يخلق إنساناً عاقلاً، وآخر جاهلاً. فتنمية العقل وإبقاء خلايا الدماغ جامدة ليست من قدر الله أو مشيئته.

ولأنه ليس للقضايا الغيبية حدوداً واضحة من اليقين، لا يستطيع إنسان ما أن يتهم استنتاجات الآخرين بالقصور باستخدام براهين قاطعة بالدليل. ولذلك يُعتبر الجدل فيها، إذا ما استمر، سفسطة لأنك تقول فيها ويقولون.

وأما عن ظاهرة الموت، ولأنها لا تزال غامضة، تبقى لغزاً عصياً على الحل، وعن ذلك انتشر القول الشائع (تعددت الأسباب والموت واحد).

وبناء على فهمنا للمصطلحات أعلاه، وأمام من يعتبرون أن أسبابه تعود إلى حكمة إلهية لا يعرفها إلاَّ الله، نتساءل: ما هي الحكمة الإلهية من وراء ظواهر الموت التالية:

-موت جنين في رحم أمه: وهذا الموت قد يكون بسبب الإجهاض، أو استخدام العنف ضد المرأة الحامل، أو بسبب أمراض موروثة لم تتم معالجة أسبابها عند الأجداد أو الآباء والأمهات. أو بسبب خطأ يقوم به طبيب، أو تقصير من مستشفى، أو، أو ... فهل نعفى من المسؤولية كل من كان السبب؟ وهل على الفقه أن يدافع عن كل هؤلاء ويتجاهل أخطاءهم ويُعتِّم عليها؟ فيصبح هؤلاء أبرياء ويبقى المتهم الوحيد هو الله؟ هل هو أمر بالإجهاض، أو أمر باستفحال المرض، وأمر الأطباء بالخطأ، وطلب من المستشفيات أن يمنعوا مريضاً من العلاج لأنه لا يملك تكاليفه؟

-من يموت انتحاراً: على قاعدة النص القرآني، القائل: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. يستتبع التساؤل: هل أمر الله إنساناً بالانتحار ليموت في الساعة المحددة له؟ وإذا لم يأمر بذلك، لماذا لم يمت بالوسيلة التي حدَّدها له الله؟

-من يموت من جراء الحروب: وهذا يجوز في مناقشته ما يجوز على الموت انتحاراً. ويقتضي إعادة التساؤل: هل قضى الله بأن يموت الملايين من البشر في الحروب؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، فمن يتحمل مسؤولية اندلاع الحروب، الله أم الذين افتعلوها من البشر؟

-من يموت في حادثة سطو أو سرقة، ومن يموت جوعاً لأنه لم يجد ما يأكله، أو من يموت مريضاً على أبواب مستشفى رفض استقباله... ومن.... ومن ... وإلخ... وهل تلك الوسائل مما حددها الله في (اللوح المحفوظ)؟

هل من أجل موت إنسان في فترة زمنية محددة، قدَّر الله أن يتعرَّض لحادث سرقة، أو قدَّر أيضاً أن يحجب الطعام عنه ليموت جوعاً. أو أوحى لموظف الاستقبال في المستشفى أن يقفل بابه في وجه الإنسان المريض لكي يموت مرضاً في الوقت الذي حدَّده الله لوفاته؟

أسئلة ممنوعة في عرف رجال الدين، ولكن العقل الذي خلقه الله في الإنسان اكتسب فطرة القفز فوق الأسئلة الممنوعة، ويلِّحُ على الإتيان بأجوبة واضحة حتى ولو صدمت المؤسسات الدينية.

 

خلق الله الإنسان وخلق له العوامل التي تحافظ على الحياة في جسده:

ما سقناه من أمثلة أعلاه، كلها تساؤلات تصب في موضوع الموت وأسبابه وتوقيتاته ووسائله، وهذا ما سنبدي فيه رأياً مبنياً على قواعد الإيمان التي نعتقد بها. وأما تلك القواعد، فهي قواعد مادية، وقواعد روحية – نفسية:

-القواعد المادية: إن حياة جسد الإنسان محدودة بالوقت الذي يفقد العوامل التي تحافظ على صحة الخلايا التي يتكون منها. وفعل تغذية هذه العوامل لكي تبقى أقرب ما يمكن للسلامة، عائد للإنسان نفسه، خاصة أن الله الذي خلق الجسد من مليارات الخلايا، خلق معها عوامل تغذيتها مما تنتجه الطبيعة من مأكل ومشرب. كما خلق المواد الأولية التي يحتاجها الجسد، وما على الإنسان مهمة أكثر من إنتاجها مما يحيط به من المواد التي تختزنها الأرض من زراعات، وما خلقه من حيوانات على البر وفي البحر. فإذا أحسن الإنسان استثمار تلك المواد وزوَّد حاجات جسده المادية بها، فإنه يؤخر بذلك من سرعة تلف الخلايا، وهو سيسهم في إطالة أيام حياته الجسدية. وإذا أساء استخدام ما هو مكلَّف به، يسهم في تقصير عمر خلايا جسده، وهذا يعني التعجيل بموتها. وتلك حقيقة أثبتتها الأبحاث الطبية بشكل مؤكد، بحيث إنه كلما تطورت ثقافة الإنسان الصحية، وكلما تطورت وسائل الطب، كلما ارتفع معدل مدة الحياة بين البشر.

-القواعد الروحية والنفسية، وما بينهما من قواعد اجتماعية: ولأن الجانب الروحي، وما له علاقة بالنفس غير المنظورة، وما ينتجه تفاعلهما من قواعد اجتماعية تنظم علاقات البشر؛ وإن كان الله قد خصَّ الدماغ في جسد الإنسان، كموجود منظور، للقيام بوظائف العوامل الروحية والنفسية، فإن الله أيضاً اعتبر أن الأوامر، التي تصدر من الدماغ لتنظيم وظائف الجسد، تقوم أيضاً باختزان المعارف، وتعمل على تنظيمها لتقوم بوظائف فكرية روحية ونفسية واجتماعية. وتلك الوظائف هي التي ترشد الإنسان الفرد إلى القيام بالمهام التي أوكلها الله إليه للعناية بنفسه، وعياً فكرياً وعلمياً، ليؤخر تلف الخلايا الجسدية بما يعني المحافظة على الحياة أطول فترة ممكنة. وكما أنه يعمل على تنظيم علاقته بالمجتمع الإنساني المحيط به لأن الفرد بنفسه لا يمكنه أن ينجز كل الوظائف الضرورية لاستمرار الحياة؛ بل لا بُدَّ من أنه يحتاج إلى جهد من الآخرين لمساعدته، وكما أن الآخرين بحاجة إلى دوره. وهكذا كل من يقصِّر بأداء دوره، فهو كأنه يسيء إلى نفسه كما يسيء إلى الآخرين أيضاً.

وإذا كان الله قد خلق في الإنسان المقدرة على صنع أفعاله، ويأتي من ضمن هذه الأفعال مقدرته على المحافظة على حياته، يكون الله بذلك قد وضع بيد الإنسان، فرداً ومجتمعاً، قدرة على التحكم باستمرار الحياة إلى الأمد المحدد لتلف تلك الخلايا. وإذا أساء استخدام هذه القدرة، فلا شك بأنه سيضع حداً لها بالموت.

إن سلامة الخلايا عائد إلى توفير العوامل المحددة لنموها من المواد الغذائية، وهي عملية معقدة جداً لا يمكن لإنسان مهما بلغ من الوعي الصحي والمقدرة الجسدية والعقلية أن يستطيع الإحاطة بها. ولكن توفير الحد الأدنى منها يسهم في منع تلف الخلايا، وهذا يعني إطالة محدودة بعمر الإنسان. وكلما ارتفعت نسبة التوفير التي تفوق الحد الأدنى، ترتفع نسبة إضافة مدد زمنية على حياة الإنسان. فالله خلق تلك الشروط والعوامل، ورتَّب على الإنسان مسؤولية توفيرها.

واستناداً إلى هذه الرؤية، أيضاً، نعتبر أن كل من يموت بسبب غير سبب تآكل الخلايا التي حدد الله مدة زمنية لهذا التآكل، فيكون ذلك من صنع يد الإنسان. أو قد يكون من صنع يد إنسان آخر، كالإجهاض، والمرض، وحوادث السير، والحروب، والسرقة، و.. و..

 

من غير المنطقي استخدم معايير إنتقائية بالنسبة لخلق الأفعال:

يقول الفكر الديني إن كل الأفعال هي من خلق الله، ولكن حينما تواجهه إشكالية بعض أشكال الموت، التي ذكرنا بعضاً منها، يحمِّل أوزارها للإنسان نفسه. وهذا دليل على أن الفكر الديني يناقض نفسه بنفسه. وهذا يقود إلى أن الإنسان إذا كان مسؤولاً عن بعض الأعمال يعني أن الله حباه المقدرة على فعلها، وهذا لا ينتقص من قدرة الله، وهذا الاعتراف يعني أن الله، على قاعدة أنه لكل ﴿نفس مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. يمكنه أن يخلق في الإنسان المقدرة على صنع كل الأفعال (الخير منها أو الشر).

فالمعايير يجب أن تكون واحدة في خلق الأفعال. وهذا ما توصلنا إليه في رؤى سابقة.

والقاعدة التي ننطلق منها للقياس، هي أن الله خلق الإنسان وخلق في نفسه القيم العليا، التي تدعو للخير، وهذا يعني أن الله خلق الخير فقط، والشر بهذا المعنى هو أن الإنسان لا يعمل الخير، أي كل من يوفِّر له السعادة الذاتية، والسعادة للمجتمع. وبهذا يكون الله قد ترك للإنسان حرية القيام بهذا العمل الذي إذا أتقنه يكتسب السعادة لنفسه، ولمجتمعه، وإذا أخفق فيه، انعكس شراً على نفسه وعلى مجتمعه.

 

ومن غير المنطقي أن نختلق أسباباً وهمية لظاهرة الموت:

وبناء على ذلك، كيف نفهم الحياة، وكيف نفهم الموت؟

خلق الله الإنسان من جسد وروح، وخلق في الطبيعة العوامل الأولى لاستمرار الحياة، من جنس وطعام. وفطر فيه غريزة المحافظة على استمرار الحياة بممارسة الجنس، وغريزة الطعام للمحافظة على الجسد بالتفتيش عما يغذيه ويساعده على الاستمرار. ولهذا  عندما يفقد الإنسان غريزة الجنس، أو لا يمارسها، فسوف تنقرض البشرية. وإذا تكاسل ولم يفتش عما يأكله، أو عما يشربه، فسوف يؤدي به الكسل إلى اهتراء خلايا الجسم نتيجة عدم إمدادها بعوامل النمو، التي هي الحياة بذاتها.

وأما الموت فهو نهاية لحياة البشر الجسدية، فالإنسان ليس خالداً من حيث تكوينه المادي، بل إنه لاستمرار الحياة في خلاياه، مستلزمات وشروط، تقصر مدة الحياة أو تطول تبعاً لتوفيرها. والخلود الإنساني هو عبارة عن انتقال الحياة الروحية وتطورها وتصاعد هذا التطور. وبهذا المعنى عندما خلق الله الإنسان على هذا الكوكب فلآماد محدودة مرتبطة بتوفير العوامل البيويولوجية التي تحافظ على سلامة خلايا الجسد من الاهتراء.

باستثناء طبيعة الفناء المخلوقة في الجسد، والمتعلقة بإمداد خلاياه بنسغ العوامل المادية، فإن الإنسان مسؤول بشكل مباشر عن استمرار الحياة في الجسد أو موته. وينتهي دور الله، كما نعتقد، عند خلق ظروف الحياة البشرية. وإن الله يملك المقدرة والإرادة على خلق الكون بمثل هذه الطريقة، أو بغيرها، إذا أراد ذلك.

إن كل اعتقاد عن الحياة أو الموت غير ذلك، يعني هروب من ينتدب نفسه لهذه المهمة من تحميل المسؤولية للإنسان الفرد، والإنسان المجتمع، ليلقيها على الله.

 

الأربعاء، نوفمبر 25، 2020

تهافت المشاريع الدينية الغيبية بداية انبعاث الأمل في التغيير

 

تهافت المشاريع الدينية الغيبية بداية انبعاث الأمل في التغيير

في 25/ 11/ 2020  حسن خليل غريب

بعد أن أُسقطت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في العام 1917، كانت الحرب العالمية الثانية التي جرت أحداثها في الأربعينيات من القرن العشرين نهاية للإمبراطوريات التقليدية في التاريخ، وهي الإمبراطوريتان الإنكليزية والفرنسية، اللتان وإن كانتا السبب في دحر مشروع الإمبراطورية النازية ودفنه قبل أن يُبصر النور، فقد دُفنت آمالهما في استعادة مكانتهما في التاريخ.

كانت أهداف الحرب العالمية الأولى إسقاط الإمبراطورية العثمانية ليصفو الجو أمام الإمبراطوريات الرأسمالية الأوروبية الغربية، والتي بسبب إنهاكها بحربين عالميتين جاء من يرث المنهج الإمبراطوري بديلاً عنها، فقد شهدت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ولادة مشروعين دوليين كبيرين، مشروع الاتحاد السوفياتي، ومشروع الإمبراطورية الأميركية.

ماتت الإمبراطوريات التقليدية، العثمانية والإنكليزية والفرنسية، وتمَّ وأد المشروع الإمبراطوري النازي، وخلفتها ولادة إمبراطوريات العصر الحديث، روسيا وأميركا. وبهذا وبسرعة فائقة تقل عن نصف قرن من الزمن، لم يعرفها تاريخ الإمبراطوريات القديمة، ماتت ثلاث إمبراطوريات، وتم وأد الرابعة قبل أن تكمل مشوارها من جهة، وولادة إمبراطوريتين كبريين جديدتين من جهة أخرى.

في غضون نصف قرن من التاريخ تقريباً ماتت إمبراطوريات وعاشت إمبراطوريات أخرى. ولشدة شبق بعض قادة الشعوب لحكم العالم، لم تتوقف أحلام من ورثوا مناهج الإمبراطوريات التقليدية، فقد دخلت إمبراطوريتا العصر الحديث، أميركا وروسيا، في سباق من التنافس والصراع، فسقطت إمبراطورية الاتحاد السوفياتي في العام 1991، لتنفتح الشهية الأميركية بحلم حكم العالم من دون شريك، خاصة بعد أن أصبحت الأبواب مشرَّعة أمام مالولايات المتحدة بغياب المنافس الروسي.

ولذلك انطلق المشروع الأميركي تحت مسمى (نحو قرن أميركي جديد) والذي وضع منهجاً له تأسيس إمبراطورية أميركية على مقاييس الأيديولوجيا الصهيونية، التي تقضي بالتمهيد لمعركة الخير والشر في معركة هرمجدون في فلسطين تمهيداً لظهور (المسيح المخلص) كما يعتقد بها التيار المسيحي المتصهين الذي إما أنه يتقارب بالأهداف مع الصهيونية العالمية، وإما أنه من صنع تلك الصهيونية. وليس من الغريب أن يصرِّح أحد الرؤوساء الأميركيين، قائلاً: (إن الرب كلَّف الشعب الأميركي بأن يخلِّص العالم).

تحت شعار تصدير المشروع المذكور، بدأ تنفيذه في العام 2003 باحتلال العراق تحت حجة إسقاط محور الشر، الذي هو مصطلح تلمودي قديم. فماذا جرى، منذ احتلال العراق؟

من أجل تنفيذ مشروع ذلك الإسقاط، كان لا بدَّ من إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية تتقاتل فيما بينها ليصفو الجو لتنفيذ المشروع من دون عوائق تُذكر، ولذلك غذَّى أصحاب المشروع نزعة أطماع الدولتين الإقليميتن إيران وتركيا بوعدهما بحصص دسمة في المشروع. وكان من غير المألوف أن تتشارك في تنفيذ مشروح واحد ضد الوطن العربي، مشاريع سياسية متناقضة يكفر فيها أحدهما الآخر، ويستبيح أرضه وعرضه.

  توافق في المصالح وتناقض في الأهداف:

ليس من الغريب فقط أن يتم التوافق بين ثلاثة مشاريع متناقضة، بل من المريب أن يضمهم تنفيذ مشروع واحد أيضاً.

وأما تناقضاتها فهي من الحدة التي لا يمكن أن تلتقي، لأن لكل منها، كما تزعم، مشروع إلهي تعلنه جهراً وليس سراً. ولذلك يستطيع حتى الغبي أن يتعرَّف على نوايا الآخر، وعلى قراءة مخططه بوضوح. وهذا ما يطرح التساؤل التالي: إذا كان كل منهما يعرف حقيقة خطورة مشروع الآخرين ضد مشروعه، فعلى ماذا يتفقون إذن؟

 -فالمشروع الأميركي، بغض النظر عن أنه مشروع رأسمالي، وقد تلتقي في معظم الأحيان مصالحه مع أكثر من قوة اقتصادية يتقاسمون فيها المصالح، وقد تتناقض تلك المصالح فيعيدان تصويب قواعد المحاصصة. وأما لأنه يستند بشكل أساسي إلى مشروع أيديولوجي ديني، وكأن تنفيذه جاء بأمر من الرب فهنا يكمن مصدر الخطورة فيه. ولأنه يستند إلى أيديولوجية (شعب الله المختار) بصفته ينفذ أيديولوجيا (اليمين المسيحي المتصهين)، فهو لا يمكن أن يقبل ربَّاً آخر.

-وأما المشروع الإيراني فهو قائم على أسس ظهور المهدي المنتظر، الذي غيَّبه رب الإسلام الشيعي كما يزعمون أنه سوف يظهر مع جديد لإنقاذ العالم ونشر العدل فيه، وهو مشروع يتناقض مع أي مشروع آخر إلى الحد الذي يتم تكفير من يرفضه من المشاريع الإسلامية السياسية الأخرى، فكيف به إذا كان المشروع خليطاً من عقيدة مسيحية يهودية، كالمشروع الأميركي؟

-وأما المشروع التركي، فيرفض هذا وذاك من المشروعين المذكورين أعلاه، لأنه يستند إلى وجوب بناء مشروع إلهي يتناقض معهما إلى حدود تكفيرهما معاً. ولا يجوز شرعاً، كما يعتقد أصحاب المشروع، أن يتم تأسيس أي نظام لا يحكم بـ(شرع الله)، كما ينص عليه القرآن والسنة النبوية.

ولأن أهداف تلك المشاريع واضحة وجلية عند أطراف التحالف، لا نبالغ إذا قلنا أن هذا التحالف هو تحالف مريب.

لماذا التوافق حول تنفيذ المشروع المريب؟

على الرغم من أن أطراف التحالف الشاذ يدركون التناقض الشديد بين المشاريع الثلاثة، إلاَّ أنهم انخرطوا في تنفيذ المشروع الأميركي، ولكن كل منهم يضمر الانقلاب على صاحبه عندما يستأنس عوامل القوة الكافية لتنفيذ مشروعه الخاص.

فبالإضافة إلى أن تحالفهم شاذ استراتيجياً لكنهم ارتضوا التحالف المرحلي، من أجل التعاون على تذليل العوائق التي تحول دون تنفيذ المشاريع الخاصة لأن إمكانيات مشروع واحد من المشاريع الثلاثة يعجز عن التنفيذ بمفرده.

وإذا كان الأمر يتعلَّق بما بدأوا بتنفيذه منذ العام 2011، ففيه وزَّع المشروع الأميركي الأم، كما جاء في وثائق الرئيس أوباما، الأدوار بينهم. بحيث يستقطب النظام الإيراني المكون الشيعي، والذي كان مرسوماً له أن يحصل على هلاله في المشرق العربي. وأن يستقطب النظام التركي المكون السني ليحصل على هلاله في المغرب العربي. وتشكل حصيلة الهلالين إضعاف للعرب جميعاً، مما يقضي على أي حلم عربي بالوحدة. ولأن الولايات المتحدة الأميركية تعتقد بأن الأولوية في مشروعها هو تفتيت الوطن العربي على أسس طائفية، وهذا لا يتم بغير مساعدة النظامين الطائفيين الإيراني والتركي. ولأنها تمتلك من قوة السلاح والمال ما يفوق بمئات الأضعاف مما يمتلكه النظامان الإيراني والتركي، كانت تخطط، بعد نجاح المشروع، لاحتوائهما معاً تحت مظلة أوامرها ونواهيها. على أن تكون (العصا لمن عصا).     

المشاريع الغيبية من أخطر مشاريع الإمبراطوريات في التاريخ:

كل الإمبراطوريات في التاريخ السحيق وصولاً إلى مشاريعها في عصرنا الراهن، تُعدُّ خطيرة على حاضر الشعوب ومستقبلها. ولعلَّها أشد خطورة هي تلك التي تستند إلى عقائد دينية غيبية.

إن الإمبراطوريات ذات الأهداف التوسعية لأهداف اقتصادية يمكن مقاومتها بشكل جماعي من قبل مواطني الدول التي تمَّ احتلالها، وهي تلقى إجماعاً باستثناء قلة من المنتفعين الذين غلبت عليهم أهواؤهم بضمان مصالحهم على حساب مصالح أبناء أوطانهم. وبالإجمال لن تستطيع الإمبراطوريات التوسعية لأسباب اقتصادية أن تضمن وجود حواضن شعبية لها، وهنا يكمن سر ضعفها، وهذا ما حسب له المشروع الأميركي حساباته.

أما الإمبراطوريات ذات المشاريع الغيبية الدينية فتجد حواضن شعبية ممن يؤمنون بنصرة الدين على حساب نصرة الوطن، أو نصرة المذهب على حساب نصرة الدين. وتظهر خطورتها في أنها تجد من يحمي احتلالها في الأقطار العربية من المتعصبين مذهبياً، ويعمل على استمالة الآخرين من أبناء مذهبهم من الذين يرفضون الاحتلال، تحت وابل من التهديد والوعيد، بنار الدنيا ونار جهنم الآخرة.

وأما خطورة هذا النوع من الإمبراطوريات على الصعيد الوطني المتعدد الانتماءات الدينية أو المذهبية، أو على الصعيد العالمي، فإنها تؤسس لحروب دائمة لن تتوقف حتى ينتصر إله واحد من آلهة المتصارعين. ولهذا بيَّت كل منهم الشر للانقلاب على حليفه في الوقت المناسب.

ولأنها تمتلك عوامل الإيمان بأنها تمتلك مشروعاً إلهياً، ولأن المنجرفين في تيار المتعصبين لها يعتقدون بالنصر الإلهي لها، تتعقد الأمور أكثر إلى الدرجة التي يسهل فيها الموت (في سبيل نصرة الله) كما يزعمون. وكذلك يُشرِّعون القتل في سبيل (نصرة إلههم المزعوم).

 

وضع التحالف في هذه المرحلة يبشِّر بالقطيعة مع المشروع المريب:

بعد انكشافه وتهافته في أقل من عشر سنين، وإذا كان تهافت المشروع جلَّي وواضح، بعد فشل تطبيقه، إلاَّ أنه لم يمت، بل يعمل أطرافه المشاركة فيه ليس على إلغائه بل إلى تأجيل تنفيذه انتظاراً لمتغيرات جديدة وانتظاراً لإعادة تنفيذه في الظروف المناسبة. ولهذا السبب على جميع القوى، على مستوى الأقطار العربية، كما على المستوى الدولي، وبالأخص منهم الذين يدركون مدى خطورة المشاريع الغيبية المتناقضة الثلاثة، أن يعملوا متآزرين ومتضامنين من أجل نشر ثقافة بناء أنظمة وطنية مدنية، التي تضمن تغييراً في علاقات تلك الأنظمة لكي تسير عملية التغيير بسهولة وسلاسة. ومن أهم الشروط التي عليهم أن يستندوا إليها، أنظمة وشعوباً، هي في نشر مبادئ العدالة والمساواة بين جميع مواطني الدولة من دون تمييز بالنسبة للدين أو المذهب أو العرق، والتي هي بها، وبها وحدها، يتم تجريد المشاريع الغيبية من الذرائع التي تتلطى بها في التحريض ضد الأنظمة القائمة، وتعتبر أن قوانينها الوضعية هي السبب في التواطؤ على مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير الشعبية وحرمانها من حقوقها. ولذلك تستثمر الفقر والحاجة  عند البشر لإدخالهم في آمال غيبية.

علم النفس الاجتماعي خير مرشد لتطوير مناهج أنظمة الاستغلال:

يفهم علم النفس الاجتماعي أن البشر يلجأون إلى الاستنجاد بالقوى الغيبية في أوقات الأزمات والمحن، خاصة إذا لم تتوفر وجود أجوبة وضعية مقنعة على تساؤلاتهم، ولا تمتلك حلولاً لمشاكل تلك الشرائح المعيشية. ولأن غياب مبادئ العدالة الاجتماعية من مناهج الأنظمة الحاكمة تؤدي إلى الإفقار والعوز وعدم معالجة الأزمات الحادة التي تعاني منها الشرائح الشعبية الواسعة، وتداويها بالقمع على من يرفض مناهجها تُعتبر من أهم الذرائع التي تسيطر بها على عقول العامة من البشر.

ولأن الحركات الدينية السياسية، والتي يقع في القلب منها أطراف التحالف الشاذ المشار إليه أعلاه، تستغل قصور الأنظمة الرسمية لتعبئة أوسع الشرائح الاجتماعية حاجة بثقافة الهروب والاستنجاد بالقوى السياسية الدينية الغيبية.

لكل ذلك، تقع على عاتق الأنظمة العربية الرسمية مسؤولية معالجة أسباب انقياد أوسع الشرائح الاجتماعية المحتاجة للوسائل الغيبية بحيث تقع فريسة بين براثن أصحاب الدعوات الإمبراطورية الغيبية، وذلك بسحب ذرائع الحاجة والعوز بتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية بين موطني الدولة.

كما تقع على عاتق الحركات الثورية عبء نشر الثقافة المدنية الجديدة، ورفض ثقافة التواكل والتسليم التي تقوم حركات الإسلام السياسي بترويجها أولاً، وبالعمل الدؤوب من أجل وضع الأنظمة الرسمية أمام مسؤولياتها ثانياً.