الاثنين، سبتمبر 28، 2020

سايكس بيكو في مرحلتها الثالثة وخطوط تقسيم الجغرافيا النفطية

 سايكس بيكو في مرحلتها الثالثة وخطوط تقسيم الجغرافيا النفطية

في أعقاب احتلال العراق في العام 2003، كتمهيد لاحتواء المنطقة العربية، ولأنها مُنيت بالفشل الذريع بفعل انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية وإلحاق الهزيمة بقوات الاحتلال الأميركي، إندلعت حروب تقسيم المنطقة على قواعد الجغرافيا الطائفية، في العام 2011، حسب خرائط برنارد لويس، واستناداً إلى نتائجها الفاشلة أصيبت بالكثير من الندوب والكسور، ومن أهمها:

1-إسقاط الأنظمة التي قامت حركات الإسلام السياسي بتأسيسها على جماجم الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر، ومنع وصولها إلى الحكم في سورية وليبيا.

2-بروز أطماع دول الإقليم في بناء أحلام إمبراطوروية قديمة كانت قد سقطت، ولكنه تبيَّن أن أحلامها لم تسقط، بل عادت إلى الظهور المستقل بفعل مشاركتها في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

ولما كان حلم بناء إمبرطورية أميركية يحتاج إلى دعم وإسناد ومشاركة من دول الإقليم من أجل اكتمالها، لم تضع الولايات المتحدة الأميركية في حسبانها أنها أفلتت عفاريت الأطماع الإقليمية من قمقمها، إذ راحت كل منها، إيران وتركيا، تعمل من أجل بناء مشروعها الطائفي الخاص بها. ولذلك راحت الأحلام الإمبرطورية الإقليمية تسلك مسارات الاستقلالية في تنفيذ أحلامها خارج الخطوط التي رسمتها الولايات المتحدة الأميركية، مستفيدة من خلخلة الأنظمة العربية الرسمية وتفتيت نسيجها الاجتماعي والسياسي والجغرافي وأصبحت أكثر عجزاً من أي وقت مضى. وهذا واقع يتناسب مع أطماع الدول الإقليمية، وهو الوقت الذي يسمح لها، كما حسبت، بتنفيذ مشاريعها من دون عقبات تُذكر، لأنها تمتلك في المجتمع العربي، حواضن شعبية تستند إليها.

ولما لمست القوى الدولية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأميركية، مخاطر المشاريع الإقليمية على مصالحها. ومنذ تلك اللحظة، وكما تدل الوقائع على الأرض، أخذت مسارات مشروع الشرق الأوسط الجديد ووسائل تنفيذه تتغيَّر وتخرج عن الأهداف التي رسمتها الإدارة الأميركية، فما هي تلك المتغيرات التي حصلت؟

مفاهيم سايكس بيكو بطبعاتها الثلاث

ترافقت اتفاقية سايكس بيكو مع أهداف تقسيم الوطن العربي، وهذا ما أعطاها طابع المفهوم المستقل المرتبط ارتباطاً وثيقاً مع التفتيت والتقسيم، ولذلك سوف نستخدم مصطلح (سايكس بيكو) لكل مشروع استعماري يهدف إلى تحقيقهما. وبمراجعة تاريخية لمشاريع التقسيم استطعنا أن نميِّز ثلاثة منها، وهي:

1-سايكس بيكو العام 1917بخطوطها الجغرافية السياسية. وهي التي تم تنفيذها ابتداء من نهاية الحرب العالمية الأولى.

2-سايكس بيكو بخطوطها الجغرافية الطائفية. وهي التي وضعها برنارد لويس في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وأقرَّها الكونغرس الأميركي في أوائل الثمانينيات من القرن ذاته. وابتدأ تنفيذه النظري باحتلال العراق، وتنفيذه العملي في العام 2011.

3-سايكس بيكو بخطوطها الجغرافية النفطية، وهي التي يتم اعتمادها بعد تعثُّر مخطط التقسيم الطائفي. وهو موضوع مقالنا هذا.

كان من المرسوم له دولياً، وبالتحديد أميركياً، أن تستفيد كل الأطراف المشاركة، دولياً وإقليمياً، من المشروع المرسوم للتقسيم حسب الخطوط الجغرافية الطائفية (مشروع الشرق الأوسط الجديد) الذي وضعه برنارد لويس، ولكن على أن تكون أميركا هي من يحدد حجم الحصص ومقاديرها. ولكن انفلات الأحلام الإقليمية من قيودها الأميركية، أخذت المسارات الأميركية في التنفيذ تتبدَّل من أجل إعادة الأحلام الإقليمية إلى أحجامها الطبيعية.

لقد وجدت الولايات المتحدة الأميركية أن سايكس بيكو الجديدة، القائمة على قواعد التقسيم والتفتيت الطائفي، قد خلقت لها من المشاكل والتعقيدات أكثر مما كانت تتصور، ووجدت أنها لن تؤدي الأغراض التي من أجلها رسم برناد لويس خطوطها. ومن أجل تصحيح تلك المسارات، فقد وُلِدت سايكس بيكو ثالثة، ولكنها بطبعتها الجديدة هو تحويل الخطوط من طائفية إلى خطوط جغرافية نفطية.

سايكس بيكو الثالثة تجمع بين الخطوط الطائفية والخطوط النفطية:

علماً أن المشروع الجديد، كما يعبِّر عنه مصطلح (اتفاقية سايكس بيكو) بخطوطها الجغرافية النفطية، هي خليط يجمع، أينما تيسَّر لها الجمع، بين الخطوط الجغرافية الطائفية، والخطوط الجغرافية النفطية لأنها تكون أكثر طواعية للهيمنة عليها لأن الكيانات الطائفية تكون عادة بحاجة إلى حماية خارجية في مواجهة أي عامل داخلي. ولأن المشروع بحلة سايكس بيكو يتضمَّن الهدف الاستراتيجي حماية (أمن النفط) كهدف استراتيجي دائم بغض النظر عن شكله ولونه، فقد وضعته الإدارة ، بحلته الجديدة (سايكس بيكو الثالثة)، من أجل الهيمنة على الجزء الأكبر من النفط، بعد أن عجزت عن الاستيلاء عليه كاملاً عبر مشروع الشرق الأوسط الجديد، المتمثل بطبعة سايكس بيكو الثانية. وهذا ما يستوجب رفع السؤال التالي: لماذا تراجعت الولايات المتحدة الأميركية عن مشروعها الأول واستبدلته بمشروعها الثاني؟

المتغيرات الإقليمية والدولية فرضت نزول أميركا تحت سقف مشروع الشرق الأوسط الجديد:

بعد فشلها، باحتلال العراق في العام 2003، وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد في العام 2011، حصلت متغيرات جديدة على المستوى الدولي والإقليمي ومن أهمها متغيران اثنان:

-المتغير الأول: بروز القوة الروسية، وانخراطها بقوة في منع سقوط الأرض السورية بأيدي المخططين للشرق الأوسط الجديد، لأنها تشكل لها آخر بقعة جغرافية في المنطقة العربية، التي بخسارتها تخسر روسيا آخر موطئ قدم لها في المياه الدافئة.

-المتغير الثاني: بعد الفشل شبه الكامل لمشروع تقسيم المنطقة العربية حسب الخطوط الطائفية، برزت أطماع الدول الإقليمية، إيران وتركيا، بالاستقلال عن المشروع الأميركي الأم لحصد أكبر حصة لهما في الخريطة العربية.

نتيجة بروز هذين المتغيرين، وعلى قاعدة أن مرونة المنهج الرأسمالي الأميركي، لا يعمل وفق مبدأ (إما الكل أو لا شيء)، بل وفق مبدأ (ما لم تحصل عليه كله، فليكن جُلُّه)، كان على الولايات المتحدة الأميركية أن تُكيِّف استراتيجيتها وفق تلك المتغيرات. ولما انسحبت أميركا من العراق، كانت قد تركت (وتد جحا) فيه وفق الاتفاق الدفاعي الذي وقَّعت عليه مع (حكومة العملية السياسية)، ذلك الوتد كان عبارة عن قواعد عسكرية وظيفتها حماية آبار النفط العراقية. كما أعلنت انسحابها من سورية، وتركت (وتد جحا) فيها لحماية آبار النفط في شمالها. وما بقاء تلك القواعد الرمزية سوى للمساومة بقوة وجودها العسكري الرمزي لتوظيفه في الحصول على أكبر حصة ممكنة من نفط القطرين العربيين، وذلك عندما تحين فرصة الاتفاق النهائي مع القوى المهيمنة على كل منهما.

ففي العراق، ولأنها دفعت الثمن بالأرواح وبالمال، تعمل الولايات المتحدة الأميركية، بعد وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات الأميركية المتحدة، استخدمت الحصار الاقتصادي ضد النظام الإيراني، لاستعادة ما تحسب أن النظام المذكور سلبه منها من جهة، والاستيلاء على القرار السياسي بواسطة حكومة مصطفى الكاظمي من جهة أخرى. وعلى ضوء تلك الضغوط، نحسب أنها سوف تكسب معركتها مع النظام الإيراني، سواءٌ أكانت الإدارة الأميركية ذات صفة جمهورية أم كانت ذات صفة ديموقراطية.

وأما في سورية، وبفشل مشروع إسقاط النظام السوري، بسبب التدخل الروسي، وتفرُّد النظام التركي بتنفيذ مشروعه بمعزل عن أميركا ثانياً، فقد أرغم العاملان معاً على تغيير آليات الاستيلاء على النفط السوري بكامله، إلى الرضى بالحصول على جزء منه في الشمال، عبر حمايتها للأكراد.

القوى الأوروبية دخلت طرفاً فاعلاً في صياغة بنود اتفاقية سايكس بيكو النفطية:

جنباً إلى جنب الضغط الأميركي، أخذت الدول الأوروبية تدخل كطرف مباشر في الصراع الدائر ضد أطماع الدول الإقليمية، بحيث تتقاطع مع الولايات المتحدة الأميركية في جوانب، وتتلاقى معها في جوانب أخرى، ولكن هدف الاستيلاء على النفط واحتكاره والسيطرة على منابعه وتسويقه كان يجمعهما، ولكن هذه المرة بتقسيم الحصص بينهما. وإنه من سياقات الأحداث أخذت المواقف الأوروبية تتقارب مع المواقف الأميركية بالنسبة للضغط على النظام الإيراني من أجل إضعاف إمساكه، بعد أن تضخَّم دوره وإمكانياته، بما حصل عليه من مكتسبات جغرافية وسياسية واقتصادية في أربع عواصم عربية، وإعادته إلى حجمه الطبيعي كملحق بالمشروع الرأسمالي الدولي. وهذا ما راح يؤكده الموقف الفرنسي، بمبادرته تجاه الوضع في لبنان. وإن تقاسم الهيمنة على القرار النفطي في بعض الدول العربية يبدو واضحاً في تناغم واضح بين كل من الإدارة الأميركية والدول الأوروبية. ومن أهم مظاهر التناغم والتنسيق كان الإسناد الأميركي للقوى الأوروبية في حوض البحر الأبيض المتوسط للإمساك بالقرار النفطي في كل من ليبيا ولبنان، يقابله إسناد أوروبي للإدارة الأميركية في حوض القطاع الشرقي للوطن العربي للإمساك بالقرار النفطي في كل من العراق وسورية.

وأصبح من الواضح أيضاً أن الجهود الغربية تنصبُّ في العمل على إضعاف العامل الإقليمي في التأثير على الساحة العربية. والذي يعني إضعاف إمساك النظامين الإيراني والتركي بالقرار النفطي في مشرق الوطن العربي ومغربه.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدول الأوروبية، بعد أن كانت من القوى الملحقة بالقرار الأميركي قبل احتلال العراق وبعد احتلاله، فقد ارتفع سقف دورها إلى الموقع المقرر في مستقبل الثروة النفطية في حوض البحر الأبيض المتوسط. وهذا ما جعلها تعمل بحيوية لا نظير لها في المرحلة الراهنة.

المشروعان التركي والإيراني يترنحان تحت وطأة الضغطين الأميركي والأوروبي:

آخذين بالاعتبار الصراع التاريخي، الفارسي العثماني، نرى بداية من المفيد أن نوضح رؤيتنا بالنسبة للدورين الإيراني والتركي، في مرحلة ما بعد العام 2011، بالإشارة إلى أنهما كانا ينسقان مواقفهما في دائرة تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، بطبعة سايكس بيكو الثانية المرسومة حسب الخطوط الجغرافية الطائفية تحت الإمرة الأميركية، ولكن هذا التنسيق أخذ يضعف وحل بديلاً عنه التسابق على حيازة حصة أكبر في مرحلة المشروع بطبعته الثالثة أي المرحلة الحالية، الأمر الذي دفع النظام التركي للتدخل في الشأن الليبي واللبناني من جهة، والذي دفع بالنظام الإيراني إلى الدفاع عن مكتسباته بالحصول على أربع عواصم عربية.

وإذا كانت الأطماع التاريخية قد جمعت النظامين اللدودين، وبعد أن أُصيب الضغط التركي بالوهن بعد مغامرته الفاشلة في ليبيا، فإن الأطماع الفارسية أخذت تشكل الخطر الحقيقي لأن النظام الإيراني قد استولى استيلاء شبه كامل على أربع عواصم عربية، وأمسك بها إمساكاً خطيراً، وخطورته تكمن في أنه استند إلى قطاعات شعبية واسعة تدين له بالولاء الأيديولوجي الطائفي.

بين هذا الموقع الإقليمي وذاك، تتميز المرحلة الحالية بتضافر الجهود الغربية، أميركياً وأوروبياً، لمواجهة الاستيلاء الإقليمي على الوطن العربي. وهذا ما جعله في أدنى حدود الضعف. وآثاره واضحة الظهور في الوهن الذي أصاب النظام التركي في محاولة الاستيلاء على ليبيا. وكذلك الوهن الذي أصاب النظام الإيراني في العراق من خلال حصار ميليشياته وملاحقتها لتجريدها من السلاح، وقطع دابر استيلائها على ثروات العراق. وأما ما يُقال عن مراهنة النظام الإيراني على نتائج الانتخابات الأميركية فهو نوع من الأوهام.

صحيح أن أية إدارة أميركية حريصة على إبقاء النظام الإيراني حياً يُرزق للاستفادة من تأثيره في تفتيت نسيج المجتمع العربي طائفياً، ولكن مصلحة الاقتصاد الأميركي، بحماية منابع النفط، هي الهدف الاستراتيجي لأية إدارة أميركية. ولهذا فقد غاب عن أذهان الحالمين بدولة ولاية الفقيه أن الرأسمالية الأميركية لا ترى أية أولوية تسبق هدف بناء اقتصاد أميركي قوي يسمح لأميركا بالمحافظة على سيطرتها على الاقتصاد العالمي. ولكن على النظام الإيراني أن لا يحلم بأكثر من أن يكون خادماً في بلاط الإمبراطور الأميركي.

النظام الإيراني سيخرج مرغماً من معادلة توازن القوى في صراعه مع الإدارة الأميركية:

اتفقت الإدارة الأميركية مع النظام الإيراني قبل احتلال العراق، وازداد الاتفاق تعميقاً بعد احتلال العراق، فدفع العراق الثمن باهظاً، وباهظاً جداً. والآن يتصارعان، وسيكون الثمن من دماء العراقيين وأرواحهم وأرزاقهم أيضاً. وإذا كان من مصلحة للعراقيين فستكون عبر انتظار نتائج صراع الحليفين في أن يلغي أحدهما الآخر، وأما النتائج فلن تكون في مصلحة النظام الإيراني، لأن الهدف الغربي المشترك، أوروبياً وأميركياً، هو تجفيف مصادر القوة المالية للنظام، وهو ما يعني إضعافاً لتأثيره وتأثير حلفائه أينما كان في الوطن العربي، وخاصة في العراق وسورية ولبنان واليمن.

في استشراف المستقبل للتحرر من هيمنة الاستعمار:

لا بد في نهاية المقال من الإشارة إلى أنه إذا كان الداء في هذه المرحلة متمثلاً بلجم قوة الأطماع الإقليمية في الوطن العربي والعمل على اقتلاعها، فإن الدواء لن يكون عبر الهيمنة الخارجية، وبالأخص منها الهيمنة الغربية على هذا الوطن. ومن أجل مواجهة مفاعيله الخطيرة على العرب كلهم، كما على الدول الإقليمية. ولأن هناك ترابطاً وثيقاً بين مصالح الشعب العربي وأنظمته الرسمية من جهة، ومصالح دول الجوار العربي من جهة أخرى، يمكن لتضافر جهود الجميع، علىهم أن يدركوا أن العلاقات الصادقة القائمة على حسن الجوار من جهة، وقيام الأنظمة الرسمية بتطبيق قواعد العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، تشكل طريق الخلاص للجميع. ولأن هذا الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل نترك الكلام عنه لمقال آخر.

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاثنين، سبتمبر 21، 2020

في مواجهة التطبيع الرسمي مع العدو الصهيوني

 في مواجهة التطبيع الرسمي مع العدو الصهيوني


يبقى الرفض الشعبي هو السلاح الأقوى

تمهيد:

لم نتوهَّم يوماً أن النظام العربي الرسمي يضع من بين أهدافه وحدة العرب السياسية، وذلك على الرغم من أنهم يدركون أن (قوة العرب في وحدتهم). كما لم نتوهَّم يوماً أن مواجهة العدو الصهيوني يمكن أن تكون عبر التوازن في القوى العسكرية النظامية لأن الدول التي تملك السلاح لن تسمح للعرب بأن يصلوا إلى مرحلة التوازن تلك.

طالما أن هدف الأنظمة الرسمية العربية المحافظة على السلطة لتنمية أرباح حكامها وتكديس الثروات في خزائنهم دون النظر إلى مصلحة المجتمعات التي تحكمها. وهو منهج رأسمالي أكثر توحشاَ من المنهج الرأسمالي السائد لأن الرأسمالية التقليدية تضمن حرية الأفراد الاقتصادية ولكنها في الوقت ذاته تعمل على ضمان مطالب شعوبها.

وطالما هدف الرأسمالية العالمية السطو على ثروات الشعوب الأخرى، وطالما تدير الصهيونية حكومات خفية في العالم بقوة رأسمالها، فإنها سوف تحافظ على التفوق العسكري للعدو الصهيوني من جهة، وأن تضمن بقاء الدول العربية ضعيفة تحتاج إلى حمايتها.

هذا الواقع هو ما خططت له الرأسمالية في مؤتمر كامبل بانرمان في العام 1905، ومن أهم أهدافه الاستراتيجة أن تمنع العرب من إقامة وحدة سياسية بعد تقويض الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، فقد وافقت بناء لطلب من الصهيونية العالمية إعطاء ما أطلقوا عليه (وطن قومي لليهود) في فلسطين، خاصة أنه يتميز بعاملين اثنين: صداقته للغرب، وعداؤه للعرب.

في المعادلة التاريخية بين رأسمالية الأنظمة العربية الرسمية المتخلفة، ورأسمالية الصهيونية المتوحِّشة وحلفائها من الدول الغربية، نستطيع أن نفسِّر الأسباب التي أدَّت إلى إعلان التطبيع الرسمي بين الإمارات العربية المتحدة ودولة البحرين من جهة، مع العدو الصهيوني من جهة أخرى.

ولأن بقاء هذه الأنظمة حاكمة، سواءٌ منها تلك التي أعلنت التطبيع أو التي لم تعلنه حتى الآن، يصب في مصلحة الصهيونية العالمية والرأسمالية الدولية. ولأن هذه المعادلة تضمن مصلحة الطرفين، يبقى الشعب العربي هو المتضرر من اتفاقيات التطبيع لأن الثروات التي يجب أن تُصرف في سبيله، يتقاسمه فريقان: فريق نظامي رسمي، وفريق أجنبي رأسمالي صهيوني. وهذا ما يدفعنا إلى رؤية خطورة المشهد الراهن من زاوية شعبية، وليس من زاوية الرؤية القاصرة التي تعالج فيها تلك الأنظمة خطورة ما يجري وما يُحاك من مخططات التطبيع.

-أولاً: فلسطين قضية قومية عربية:

كانت قضية فلسطين في مخطط مؤتمر كامبل بانرمان، محطة مفصلية في بداية التاريخ العربي الحديث والمعاصر، ليس لكونها قضية توراتية يهودية فحسب، بل أيضاً لأنها قضية استعمارية يُراد منها فصل الجزء الآسيوي للوطن العربي عن الجزء الأفريقي من أجل تسهيل السيطرة على الوطن العربي بكامله. وهذا بحد ذاته هدف استراتيجي ينال من حقوق الشعب العربي في ثرواته بكل أقطار الأمة العربية. ولهذا اعتبرت الحركة الثورية القومية العربية قضية فلسطين قضية مركزية. واعتبارها قضية قومية مركزية فلأن المقصود منها ليس احتلال أرض فلسطين واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم فحسب، بل المقصود أن يكون احتلال فلسطين الخطوة الأولى في المشروع الصهيوني الذي اتَّخذ من فلسطين ذريعة توراتية، تحت شعار (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل)، لتنفيذ مشروع رأسمالي يحكم العالم بقطبية صهيونية واحدة.

فالقضية الفلسطينية ليست قضية حقوق الإنسان الفلسطيني بقدر ما هي قضية الحق العربي في الدفاع عن نفسه لإحباط أكبر مشروع استيطاني يهدف إلى احتلال الهلال الخصيب من الوطن العربي، الذي يشمل فلسطين ولبنان وسورية والأردن والعراق، وصولاً إلى أرض النيل. ففلسطين هي البداية حيث لن تتوقف أطماع المشروع الرأسمالي عند حدودها، بل على طريق الخطوة خطوة ستمتد لتضم كل المساحة الجغرافية المحددة في أهداف الصهيونية العالمية.

من هذه الحقيقة تبدو خطورة المشروع واضحة لكي تنبِّه الغارقين في أحلام الحركات الإسلامية السياسية في بناء دولة دينية، والغارقين في أحلام بناء دول قطرية تعمل على النأي بنفسها عن الصراع العربي الصهيوني بحجة حماية أنفسها. وكذلك الغارقين بأوهام اعتبار القضية الفلسطينية مجرد قضية من قضايا حقوق الإنسان.

إن قضية فلسطين ليست قضية صراع (فلسطيني إسرائيلي)، بل هي قضية وجودية تنال بخطورتها كل المكونات الدينية والطائفية والقطرية في الوطن العربي. تأتي خطورة المشروع من أنه مشروع استراتيجي مفتوح أمام أهداف التوسع إلى أي جزء من أجزاء الأمة العربية. ولهذا يصبح قضية أمة عربية بأكملها، إذ أنه عندما يكتمل بناء المشروع سوف يصبح قضية الأردن ولبنان وسورية والعراق ومصر. ومنه لن تتوقف عجلته بل تمتد لتشمل الوطن العربي بأكمله وسوف يتحول إلى أرض وشعب مسلوبان السيادة على ثرواتها، وعلى قرارتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. وتشمل خطورته كل هذه القضايا، خاصة أن الاستراتيجية الصهيونية ليست توراتية فحسب لبناء دولة دينية يهودية، بل هي مسألة تعمل من أجل الاستيلاء على ثروات العالم، وفي المقدمة منها ثروات الوطن العربي.

-ثانياً: مقاومة التطبيع مهمة نضالية شعبية عربية:

ولأن الأنظمة الرسمية بقصور منابتها الفكرية وضعف شعورها بالوطنية وانتماءاتها القومية، حصرت اهتماماتها بحماية نفسها وثروات المشاركين فيها. ولأن خطورة المشروع تتخطى الشعب الفلسطيني لتصل إلى الشعب العربي، وتتخطى الأرض الفلسطينية لتصل إلى الأرض العربية. ولأن الشعب العربي هو المتضرر من مناهج الأنظمة العربية الرسمية خاصة بتحالفها مع القوى الاستعمارية، وأخيراً تطبيعها مع المشروع الصهيوني. لكل ذلك نعتبر أن مقاومة التطبيع مهمة شعبية عربية بامتياز.

مقاومة التطبيع: وظائفها  وآلياتها:

ليست مقاومة التطبيع شعبياً مهمة نظرية فحسب، بل لها قواعدها وأسبابها الواقعية والملموسة التي يجب أن تلامس مدارك كل المستويات الثقافية للمجتمع العربي، وبالأخص منها المستويات الشعبية. ولكي نترجمها إلى حالة ثقافية ، تقع على عاتق أحزاب وقوى وتيارات حركة التحرر العربي مسؤولية صياغة أسس لثقافة شعبية تختص بإبراز مخاطر التطبيع على المصالح الشعبية استناداً إلى مخاطر المشروع الرأسمالي الغربي الصهيوني. وفي هذا الإطار سنبرز بعض الجوانب، ومن أهمها ما يلي:

1-خطورة بناء دولة دينية يهودية:

إن بناء دولة دينية يهودية، وهذا ما وافق عليه (الكنيست الإسرائلي) منذ سنوات قليلة باعتبار (الدولة الإسرائيلية) تقوم على أيديولوجية قومية يهودية، يعني الاعتراف ببناء دولة دينية تعمل على تطبيق المبدأ التوراتي الذي ينص على أن اليهود هم (شعب الله المختار). هذا المبدأ الذي يمتلك، كما يزعم، حقاً إلهياً، بقيادة شعوب الأرض الأخرى.

ومصدر الخطورة في هذا المبدأ أنه يمتلك الحق بنسخ كل ديانة سماوية أخرى، وبالأخص منها الديانة المسيحية، التي تعتبر تعاليمها متناقضة مع المصلحة اليهودية. والبرهان على ذلك كان منذ أن وافق اليهود، في العصر الروماني، على التضحية بالمسيح من أجل حماية مصالح اليهود من غضب الرومان. ولولا موافقتهم لما كان الإمبراطور الروماني قد وافق على الحكم بموته صلباً.

وإنه باستثناء جماعة اليمين المسيحي المتطرف، المنتشرة في أميركا بشكل رئيسي، أي الجماعة التي تؤمن بالتمهيد لمعركة هرمجدون على أرض فلسطين، أي المعركة الأخيرة بين الخير والشر، فإن إعادة صلب المسيحيين كلهم أمر وارد مرة أخرى في التاريخ، وسوف يحصل ذلك عندما تكتمل فصول إعادة بناء هيكل داوود تمهيداً لاستعادة النواة الأولى للأرض المقدسة التي رُمز لها بشعار توَّج بوابة (الكنيست الإسرائلي): (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل).

ماذا تعني الانتهاء من تلك المرحلة؟

منذ اللحظة التي يحقق فيها العدو الصهيوني تلك المرحلة ستبدأ مرحلة اجتثاث المسيحية، وسوف يليها مرحلة اجتثاث الإسلام. وهذا كله يعني بداية حروب مقدَّسة ملوثَّة بالدماء لن تنتهي إلاَّ بتحقيق الحلم التوراتي والذي ينص على سيادة (شعب الله المختار) على العالم كله.

إن تطبيق التطبيع الرسمي للعدو الصهيوني مع بعض الأنظمة الرسمية العربية، تحت حجة نشر السلام، ليس هو بأقل من أكذوبة يستخدمها الصهاينة من أجل تذليل العقبات أمام تنفيذ مشروعهم الخطير. وهو وإن استطاع أن يخدع بعض تلك الأنظمة، وهو قادر على خداع القسم الآخر منها، فلأن تلك الأنظمة لا ترى القضايا سوى بعين المحافظة على أموالها، هذا في الوقت الذي عليها أن تدرك فيه أن أموالها ستتحول إلى إهراءات الهيكل اليهودي عاجلاً أكان أم آجلا.

2-الأيديولوجيا الصهيونية عنصرية دينية متزمتة:

ليست الصهيونية سوى طبعة حديثة لليهودية، ولأن اليهودية تأمر بقتل حتى الأب أو الأخ أو غيرهما... إذا دعا إلى دين آخر غير الديانة اليهودية، كما تنص التوراة، فهي لن تكون على حياد بين الاعتقاد اليهودي وغيره من الاعتقادات بأديان أخرى. وهي لن تؤمن، كما آمن السيد المسيح، (أن من ضربك على خدك الأيمن فدر له الأيسر). وكما دعا القرآن الكريم المسلمين بـ(أنكم كنتم خير أمة أُخرجت للناس)، بل ستقابل الدولة التوراتية كل تلك الدعوات بـ(أن تقتلهم قتلاً)، وإذا دخلت أرضهم، فعليها أن تقتل الأطفال وتبقر بطون الحبالى وتحرق الزرع وتهدم الحجر.

لن ينج أحد من شرور العنصرية الصهيونية، التي تحصِّن نفسها بنصوص توراتية تعتبرها نصوصاَ مقدسة. وإن من يعمل على التطبيع مع الكيان الصهيوني العنصري، هو كمن يساعد على تقريب أهدافه ويجعلها سهلة المنال. وهو بدلاً من أنه يتخيَّل بأن التطبيع سيحميه، فإنه يوقِّع على قرار إعدامه بمحض اختياره.

إن هذه الحقيقة لن تكون بتأسيس دول دينية مسيحية أو إسلامية لمقاومة الدعوة الصهيونية، كما تحث على ذلك الحركات الدينية السياسية، إسلامية أو مسيحية؛ بل إن الحلول لا بُدَّ من أن تكون بتأسيس دول مدنية تحترم حرية الاعتقاد وتحميها. وإنها بغير ذلك فإنها تعمل على بناء دول تحمل فيروسات القتال المقدس، الذي ستصب نتائجه لمصلحة من يملك المال والسلاح، ومن يملكهما هي الصهيونبة العالمية من دون منافس. وهيهات أن تحصل الحركات الدينية الأخرى على مثل تلك النتائج.

3-الأيديولوجيا الصهيونية رأسمالية متوحِّشة:

لقد طبَّقت اليهودية مبدأ (الاقتصاد محرك للتاريخ) منذ البداية. وكدَّس اليهود، قبل ظهور الحركة الصهيونية العالمية، الأموال بشتى الوسائل. وكان جشعهم قد انفلت من أية قيود أخلاقية، وذلك باستخدام الربى الفاحش. وكان لتأثير استخدام اليهود الوسائل اللاأخلاقية في تجميع الأموال في المجتمع الأوروبي ردتان من الفعل:

-الأولى: كراهية اليهود كرهاً وصل إلى حدود العنصرية. وكان من أهم تأثيراتها العمل على الخلاص منهم بمساعدتهم على تأسيس نظام سياسي في المنطقة العربية، وعلى أرض فلسطين.

-الثانية: الرضوخ إلى الإرادة الصهيونية تحت تأثير قوة رساميلهم. ولهذا مثَّل الصهيونية في مؤتمر كامبل بانرمان أحد أعضائها، فكان له مقعد جنباً إلى جنب ممثلي الدول الأوروبية.

وأما بالنسبة للأولى، فقد عبَّر عنها شكسبير، الشاعر الإنكليزي، بمسرحيته الشهيرة (تاجر البندقية)، عندما صوَّر (تشيلوك) المرابي اليهودي في مدينة البندقية في إيطاليا، بأبشع صور الوحشية، وذلك بعرضه لمشهد تقديمه بدعوى ضد مواطنه (أنطونيو) الذي عجز عن سداد دين له كان قد استلفه من تشيلوك نفسه. ولما عجز عن السداد طلب تشيلوك من القاضي اقتطاع كيلو غرام من لحم أنطونيو بدلاً من المبلغ المدين.

وأما بالنسبة للثانية، فقد خضع العالم الأوروبي، قبل الحرب العالمية الأولى، لطلب مندوب الصهيونية الذي حضر مؤتمر كامبل بانرمان (1905 1907)، بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين لتكون حاجزاً يمنع التقاء الجزئين الآسيوي والأفريقي من الوطن العربي، حيث جاء في المقررات أن إعطاء هذا الوعد يضمن لتلك الدول وجود شعب يهودي في فلسطين يكون صديقاً للغرب، وعدواً للعرب.

فإلى من طبَّع من الأنظمة الرسمية، ومن هو آت على التطبيع في المستقبل، عليهم أن يدركوا بأن التطبيع مع (عدو للعرب) تصرف غير مسؤول، وإنه ليس تطبيعاً من (أجل السلام)، بل هو توقيع على المزيد من الحروب التي لن ينجو منها أحد منهم. وسيكون أولها قطف رؤوس أولئك المسؤولين عن تلك الأنظمة، وتوقيع على أنهم يقبلون بقيود الاستعباد الصهيوني.

إذا كانت مشهدية المسؤولين المطبعين على صورتين: صورة العبيد الذين يخدمون في بلاط الإمبراطورية الصهيونية على هذا المثال، فكيف ستكون عليه مشهدية الشعب العربي؟ إنها بلا شك سيكونون بمثابة عبيد يخدمون عبيداً.

4-الإيديولوجيا الصهيونية نقيض للأيديولوجيات الدينية الأخرى، ونقيض للأيديولوجيات الوضعية التي تنشد العدالة الاجتماعية:

كما تبرهن الحقائق أعلاه، وإذا قُيِّض للأيديولوجيا الصهيونية أن تحقق حلمها، ستضع نفسها أمام تناقضات لامتناهية مع الأيديولوجيات البشرية كلها. سواءٌ أكانت منها الدينية أم كانت الوضعية.

-على صعيد الأيديولوجيات الدينية: إن مبدأ (شعب الله المختار)، كما تنص عليه التوراة، لا يمكنه العيش في ظل تعددية دينية. وما على الدول الدينية الأخرى سوى حل من اثنين لا ثالث لهما، الرضوخ للشعب اليهودي بقوة (الأمر بالقتل) الذي تؤمن به الديانة اليهودية، أو الغرق بحروب مقدِّسة لن تنتهي. وغالباً ما ستكون النتائج لمصلحة (شعب الله المختار) لأنه يمتلك سلاحيْ المال والآلة العسكرية.

ولذلك يُعتبر النداء موجهاً للحركات الدينية المسيحية والإسلامية بالإقلاع عن أوهامها التي تزعم أنها (إلهية) أيضاً، لسحب الذرائع التي تتلطى بها اليهودية الصهيونية لإعادة بناء هيكل سليمان لإعادة ما تزعم أنها حقوق تاريخية لليهود في فرض السيادة على العالم. ولأنها بغير ذلك، ستوفِّر الذرائع لتدعيم أهداف الأيديولوجيا الصهيوينة. ولن ينتزع تلك الشرعية المزعومة سوى الدعوة لقيام أنظمة مدنية تضمن حرية الاعتقاد الديني وتحميها.

-على صعيد الأيديولوجيات الوضعية: إن المخطط اليهودي التاريخي كان يعمل على مراكمة الرأسمال اليهودي بشتى الوسائل والطرق، من دون رادع أخلاقي أو إنساني، إلى الدرجة التي نعتقد بها أن المنهج اليهودي في تكديس الرساميل كان مبنياً على أن من يملك المال يملك العالم، أي إن الاقتصاد (محرك للتاريخ) ومن يملكه يسيطر على العالم. وليس من المستغرب أن يكون المنهج الرأسمالي ابتكار يهودي بامتياز. وبسبب سيادة هذا المنهج سيكون خصماً شرساً في مواجهة المناهج الاقتصادية الأخرى، وخاصة المناهج الاشتراكية، وما يستتبعها من فصائل تنادي بالعدالة الاجتماعية والمساواة السياسية.

إن وظيفة امتلاك الرأسمال، حسب المنهج اليهودي، لن تكون لمصلحة غير اليهود، فالله (الذي اختار شعباً) فلكي يكون سيداً وليس عبداً أما من كان غير يهودي فعليه أن يكون عبداً للشعب المختار. فوظيفة الرأسمال بالمفهوم اليهودي، أكثر قسوة من المفهوم الرأسمالي التقليدي الذي يعمل على مساواة كل المواطنين بالحقوق الاقتصادية والاحتماعية والسياسية. ولذلك تتمثل الخطورة في أن المفهوم الرأسمالي اليهودي أشد وحشية من المفهوم الرأسمالي التقليدي.

 من كل هذه المقدمات نعتبر أن مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني هو مهمة إنسانية شمولية، لأن المشروع الصهيوني يستهدف العالم بأسره، بأديانه وأعراقه، بمناهجه الدينية والوضعية. ولكن لأن مهمتنا قومية عربية سنخصص العرب والمسلمين بنتائج هذه الدراسة.

 

-ثالثاً: وسائل المواجهة الشعبية لمشاريع التطبيع:

إذا كان الوجه النظري واضحاً أمام الشعب العربي، فإن تحديد وسائله والعمل على تنفيذها هو الوجه الآخر، المكمِّل، ولهذا نرى ما يلي:

1-المقاومة الإعلامية:

بداية، ومن أجل تعميم ثقافة رفض التطبيع على المستوى الشعبي، هناك العديد من الوسائل، تبدأ بوسائل التواصل الاجتماعي، كأبسط وسائل الإعلام المتاحة، وتمر بالبوسترات، والمقالات، ونقل أخبار جرائم العدو الصهيوني، والكشف عن أكاذيب الدول الاستعمارية، وغيرها، الكثير من الوسائل والقواعد. وربما استحداث صفحات خاصة لمخاطر التطبيع، وكل ما يتفتق عنها من وسائل أخرى، خاصة من قبل من هو مختص بإعلام وسائل التواصل الاجتماعي....

2-المقاومة الشعبية السلمية:

باعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية قومية، مركزيتها الساحة الفلسطينية، يمكن تحديد المهمات وتوزيعها على مستويين: فلسطيني وقومي عربي.

أ-على المستوى الفلسطيني: في الأرض المحتلة، وفي الشتات:

كل ما سوف نقوم بتحديده أو الإضاءة عليه، يتعلَّق بعامل أساسي واحد، وهو وحدة القوى السياسية على الأرض المحتلة، أو ما تُسمى بمنطقة الحكم الذاتي. ولكن ما تجب الإشارة إليه هو أن الشقاق الواقع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ضاعت فيها القضية الفلسطينية الأم، وراح الإعلام يُروِّج، بحسن نية أو بسوئها، باستخدام مصطلحات تفتيتية تارة (قطاع غزة)، وتارة أخرى (الضفة الغربية)، بدلاً من استخدام (القضية الفلسطينية) كمصطلح جامع وذي دلالة وطنية. وعن ذلك ندعو القيادات الفلسطينية المعنية إلى الاتفاق لرفع اللًبس عن استخدام تلك المصطلحات.

-على مستوى الأرض المحتلة: وخاصة في الضفة الغربية وغزة.

بالإضافة إلى حركة الانتفاضات الشعبية، ولأن ما أنجزته الانتفاضات المتواصلة منذ الثمانينيات من القرن الماضي وصولاً إلى هذه اللحظة، نعتبر أن الشعب الفلسطيني خلاَّق في ابتكار الوسائل والأساليب. ولأننا نعتبر أن تلك الساحة أساسية لأنها تجذب اهتمام وسائل الإعلام الدولي، كما تجذب اهتمام الحركات المدنية والإنسانية، نعتبر كذلك أن تجربة الفلسطينيين غنية، وعليهم أن لا يغفلوا أهمية دورهم ومركزيته، واعتبار أي دعم شعبي عربي أو دولي له علاقة كبيرة يخدمها عوامل الإدامة والاستمرار والتجديد في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

-على مستوى الوجود الفلسطيني في الشتات:

حيثما تسمح الظروف، على شتى الفصائل الفلسطينية، أن تعتمد الإعلام الموحد المباشر في نشر ما يساعد على الكشف عن مخاطر التطبيع، هذا إضافة إلى استخدام شتى وسائل التحركات من تظاهرات واعتصامات، وندوات، ومحاضرات من أجل منع التعتيم على الحقائق مما قمنا بتحديده في بداية هذه الدراسة.

 

بـ-على المستوى القومي العربي:

عود على إعادة التذكير باعتبار القضية الفلسطينية قضية قومية عربية مركزية، لا يسعنا سوى إلقاء عبء مسؤولية ترجمة هذا المبدأ الاستراتيجي إلى حركة نضالية شعبية عربية في مواجهة مشاريع التطبيع الرسمي. ومن أجل توسيع بوابات ثقافة الرفض الشعبية. ومن دون الخوض في تفاصيلها لأن أطراف حركة التحرر العربية لها تجاربها وأفكارها الخلاَّقة. ولكن ما نتمناه هو إعادة تفعيل تلك الوسائل وهو أضعف الإيمان.

 

-رابعاً: من نتائج الدراسة:

نختم دراستنا بالقول: إذهبوا بتواقيعكم الرسمية ظناً منكم أنكم ستحمون ثرواتكم من المرابين الصهاينة الأكثر وحشية في التاريخ. ولكنكم لن تنالوا بتوقيعكم سوى الرفض الشعبي، لأن الشعب العربي، إضافة إلى الرفض الشعبي العالمي، يحمون كرامتهم من العبودية للرأسمال الصهيوني، ويعملون على خلاص دولهم من العبودية للصهيونية. وحتى لا تُتَّهم دراستنا بالتحريضة الخالية من المضمون الموضوعي، نضع أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي، بشكل خاص، الأسئلة التالية:

-ألم تتساءل الأنظمة الرسمية العربية: ماذا ستجني من الاتفاقيات الجديدة؟ وإذا لم يدركوا مآلات من سبقهم بالتوقيع عليهم أن يضعوا نصب أعينهم الإجابة على التساؤلات التالية:

-هل توجهوا إلى النظام المصري بالسؤال: ماذا جنى الشعب المصري من اتفاقية كامب ديفيد؟ وهل يجهلون أن السادات عندما قام بتوقيعها كان يريد توفير نفقات الحرب عن كاهل الشعب المصري؟ وإذا كانوا يجهلون تلك النتائج فليسألوا (القطط السمان المصرية)، في عهد حسني مبارك، كم جنى الشعب المصري من فوائد؟

-هل توجهوا إلى النظام الأردني بسؤال: ماذا جنى الشعب العربي في الأردن من فوائد اتفاق وادي عربة؟ وإذا كانوا يجهلون تلك النتائج فليسألوا: هل الاقتصاد الأردني نجا من كوارث اهتزازه في أية لحظة؟

-هل توجهوا بالسؤال إلى السلطة الفلسطينية: ماذا جنى الشعب العربي الفلسطيني من فوائد اتفاق أوسلو؟ وإذا كانوا يجهلون ذلك، فليسألوا السلطة: كم بقي من بنود من تلك الاتفاقية لم تسط عليه أكاذيب العدو الصهيوني الذي وعده الفلسطينيين بالسلام؟

وأخيراً،

وإذا كان تشيلوك اليهودي قد طالب باقتطاع كيلو غرام من لحم أنطونيو الإيطالي لأنه عجز عن سداد دينه، فكم ستقتطع الصهيونية العالمية من ملايين الأطنان من لحم الشعب العربي لسداد الديون التي تسلِّفها صناديق النقد الدولية لأنظمتهم الرسمية؟

وأما الحل في مواجهة التطبيع الرسمي فسوف يكون بالرفض الشعبي الذي هو السلاح الأقوى في مواجهة التطبيع من جهة، ومواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري الخبيث من جهة أخرى.

 

 

الثلاثاء، سبتمبر 15، 2020

أمراؤكم أصنام فحطموها

 أمراؤكم أصنام فحطموها



إنهم أسياد عليكم وفي رقابهم قيود العبيد

ما لا تكشفه الأيام السابقة أمام أعين اللبنانيين من مساوئ أمراء طوائفهم وجرائمهم ستكشفه الأيام اللاحقة. وسيأتي اليوم الذي تنكشف فيه عنترياتهم أمام أنصارهم الذين يهتفون لهم: (بالدم والروح نفديكم).

في المراحل القادمة ستكشف متغيرات الأحداث اللثام عن أن أولئك الأمراء ليسوا أكثر من خدَّام أمام أباطرة الدول الخارجية، يأتمرون بأوامرهم، ويؤدون أمامهم فروض الطاعة والإذعان. حينذاك، ستبدو قيود العبيد التي تلف أعناقهم جلية واضحة، فيظهر أسيادنا عبيداً من دون شك يخضعون لتهديد أولياء أمورهم ووعيدهم، فينفذون ما يُطلب عندما تُرفع العصا فوق رؤوسهم. وبمثل ذلك المشهد يتأكد قول الشاعر المتنبي: (لا تشتري العبد إلاَّ والعصا معه، إن أسيادنا عبيد مناكيد). وبدورنا نكمل ردحه بكافور مصر، ونقول له: إذا كان كافور واحد قد حكم مصر، فإن لبنان يحكمه الآن عشرات منه، بل مئات.

انفجار مرفأ بيروت كانت القشة التي قصمت ظهورهم:

قد تكون مأساة انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من آب اللهاب، هي تلك المناسبة التي سرَّعت بتعرية أمراء الطوائف في لبنان من آخر ورقة من التوت التي تغطي ما اعتبر أنصارهم أنها ثياب القداسة والزعامة والسيادة والأبوة ووضعتهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم بعد أن أذابت حرارة انفجار المرفأ ما كان يعتبره أنصار أحزاب السلطة ثلجاً، بل كان وهماً يغطي عوراتهم السوداء.

لقد بدأت الحكاية عندما انفجر غضب بركان مانوييل ماكرون، الرئيس الفرنسي، الذي جاء إلى لبنان، بعد انفجار المرفأ مباشرة، مؤنباً أمراء السلطة الحاكمة مهدداً متوعداً ومحذراً. فانصاع الجميع ومثلوا بين يديه في قصر الصنوبر مطواعين مستمعين من دون أية خطابات رنانة من الوزن الذي يظهرون فيه أمام أنصارهم، وكان سكوتهم أمام مواعظ ماكرون وإرشاداته التي تحمل التهديد والوعيد بكشف عوراتهم أكثر فأكثر، أشبه بإعلان الطاعة والمبايعة له، وكأنهم من أنصاره الأوفياء. واستمعوا إلى الدروس والإملاءات، ووعدهم ماكرون أنه سيعود ليمتحنهم إذا ما كانوا قد حفظوا الدرس أم لم يحفظوه.

وقبل موعد الامتحان، بأربع وعشرين ساعة، أي في الأول من أيلول من العام 2020، وبعد أن هدَّد الرئيس الفرنسي بضرب بعض الأمراء على جيوبهم، وهو المكان الذين يوجعهم فيه، لأن جيوبهم هي الهم الوحيد الذي يفكرون بالمحافظة على ما سرقوه وخبَّأوه فيها. فكلفوا رئيساً للحكومة بأربع وعشرين ساعة، وهو ما كانوا يحتاجون فيه لأشهر من أجل إنجازه. وما وطئت قدما الرئيس الفرنسي أرض المطار، حتى كان الإعلان عن الرئيس المكلف يسابقه.

وإذا كنا لن نخاطب أمراء السلطة، فلأننا لن نطلب الحل منهم لأنهم المجرمون، ولا يجوز أن يكون المجرم قاضٍ في جريمة ارتكبها. بل نخاطب الأنصار والمؤيدين والمصفقين والهاتفين (بالدم والروح) لنطلب منهم أن يتفكَّروا كم كان المشهد مذلاً في أن يقف من اعتبروهم أمراء لهم في حضرة أحد أمراء الرأسمالية طائعين خاضعين خانعين، يتمنى كل واحد منهم أن يحظى ببسمة منه أو بكلمة رضى.

سقط اللثام عن الأسياد المزعومين، فهل من يسمع ويرى؟

أمراؤكم، يا أهلنا، ليسوا أمراء سوى في مخيلاتكم. بل هم عبيد لأسيادهم الذين يملكون مفاتيح خزائن الذهب والفضة. أمراؤكم يا أهلنا أمراء على الضعفاء ممن ارتهن لإرادتهم، ولكنهم بالحقيقة عبيد يُقادون بقيود العبيد.

إن أشدَّ مظاهر العبودية عند أمراء السلطة، أصحاب الحكمة والأبوة والسيادة والعطوفة والفخامة والمعالي والسعادة والباكوات والأفندية والباشاوات، هو في أن يعيدوا تكرار ما أملاه عليهم سيدهم. وما أملاه عليهم، هو أن يستجيبوا إلى صوت الشعب، صوت الشباب والشابات الذين ملأوا الساحات منذ سنوات. قال لهم بالفم الملآن أنه لا مساعدات خارجية من دون الاستجابة لمطالب الإصلاح الشبابية، بإقفال مزاريب الهدر والسرقة أولاً، والعمل ثانياً من أجل بناء دولة مدنية يتولى إدارتها الذين يتميزون بالخبرة والكفاءة والنزاهة. وبذلك وضع الإصبع على الجرح الأساس، وهو أنه لا علاج في لبنان سوى بإعادة بناء دولة مدنية حديثة.

فيما أعلنه الرئيس الفرنسي من شروط تلبي لوحدها المواصفات المطلوبة للإفراج عن القروض الدولية. وفي هذا الإعلان رسالتان بالغتا الدلالة، ويمكننا إيجازها بما يلي:

-الرسالة الأولى: والتي على الرغم من تسييسها، تُعتبر شهادة دولية بمشروعية الانتفاضة الشعبية التي بلغت ست سنوات من العمر، واكتمل بعض من عقدها في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019.

-الرسالة الثانية، موجَّهة لأحزاب السلطة التي واجهت الانتفاضة بالاتهامات، ليس أقلها أنها انتفاضة السفارات. وتلك الشهادة تشكل صفعة قاسية لأولئك الذين اتهموا الشباب، وعملوا على شيطنتهم بشتى الأكاذيب والتهم، فإذا بالأسياد الموهومين يظهرون عراة في أحد أقبية تلك السفارات. ظهروا جميعاً: (كلن يعني كلن).

إذا كان الداء في أمراء الطوائف لكن الدواء ليس عند الدول الرأسمالية

لن نتوقف أمام شهادة الدول الرأسمالية التي اعترفت بمشروعية انتفاضة الشباب، لأنها في الكثير من الأحيان تريد استغلالها لمصالح رأسمالية، بل نتوقف عندها لأنها لجمت ألسنة أمراء السلطة عن توجيه أصابع الاتهام إليها، لا بل أنها أُرغمت على الاعتراف بتلك المطالب. وراحوا جميعهم يتبارون بالتودد لتلك الانتفاضة لعلَّهم يمتصون الغضب الشعبي بوعود عرقوبية، ولكن الانتفاضة تعي أسباب أكاذيبهم ولن تقع في أحابيلها.

إن تاريخ العلاقات بين الدول الرأسمالية وأمراء الطوائف حافل بالتواطآت والجرائم في حق الشعوب، وخاصة في لبنان، لأن تلك الدول تتعهَّد أمراء الطوائف بالعناية الفائقة لتدجينهم بأسوار من التبعية لشركاتهم الصناعية، وجعلوا منهم طبقة وسيطة بين تلك الشركات والمستهلكين من مواطنيهم. وإذا كان الرأسمال متوحشاً فلأن هذا منهجه في الحكم، وأما إذا كانت الطبقات الحاكمة تمتص دماء المحكومين فهذا مما لا تتقبَّله حتى الدول الرأسمالية، وهي على الرغم من توحشِّها عندما تمتص دماء الشعوب الأخرى إلاَّ إنها تضع مصلحة بلادها في المقدمة. وأما في نظامنا الرسمي، فتضع الأحزاب الحاكمة مصلحتها في المقدمة، وهي تسرق مرتين. في المرة الأولى عندما تتحالف مع الرأسمالية بنهب ثرواتنا. وفي المرة الثانية عندما تسرق مواطنيها لمصلحة طبقاتها الحاكمة. وفي تواطئها مع الرأسمالية يصح قول الشاعر سليمان العيسى عندما سخر من رعاة الشعب قائلاً:

لا يُلام الذئب في عدوانه إذا كان الراعي عدو الغنم

ولهذا نرى أنه إذا كان الداء في أمراء الطوائف لكن الدواء ليس عند الدول الرأسمالية. ولكي نبدأ بالتصحيح لا بُدَّ من مساءلة الرعاة في حقولنا الوطنية أولاً. وإذا كنا نريد الاستفادة من الضغط الذي تمارسه فرنسا على رعاة الوطن، فإنما لأننا نعتقد بأن الضاغط يعرف أسرار أولئك الرعاة وهو الذي يستطيع الكشف عن الكثير من أسرارهم. وبهذا يمكن الحراك الشعبي أن يستفيد من التناقضات التي تحصل بين قوى تتشارك باستغلالنا واستعبادنا ونهب ثرواتنا ومصادرة قرارنا.

الكشف عن هوية عملاء السفارت الحقيقيين:

ووقوفنا أمام مغازي الرسالة الثانية لنؤكد أن الانتفاضة لم ولن تقف على أبواب السفارات لتكتسب مطالبها مشروعية، بل لأن قوة تلك الانتفاضة هي من قوة الحق في تلك المطالب. وإن كنا على ثقة تامة بأن مشروعية المطالب التي رفعها المنتفضون لن تمر عبر بوابة هذه السفارة أو تلك، ولكن اعتراف معظم تلك السفارات بها تعطيها قوة الانتشار وقوة المشروعية الدولية والإنسانية. وما وقوفنا أمام الرسالة الثانية سوى للتأكيد على أن أمراء الأحزاب هم الذين يقفون أمام السفارات الخارجية بصفوف منتظمة، لا بل يركعون أمامها. ولذلك لبَّى جميع الأمراء أمر ماكرون للاجتماع تحت سقف السفارة الفرنسية ليس لكي يناقشوا سبل الخروج بلبنان من عنق زجاجة الأزمة، بل ليتلقوا الأوامر بتنفيذ ما تراه الدول التي فوَّضته ممراً رئيسياً للحد من تعميق الأزمة قبل انحدارها إلى مستويات أكثر إيلاماً.

الضرب على جيوب أمراء الأحزاب الحاكمة ضغط حقيقي لقبول الآوامر:

بين هذه الرسالة أو تلك، يأتي التهديد بتجميد أموال بعض الأمراء في الخارج، هو الأمر الأكثر إيلاماً وحرجاً وكشفاً للعورات. وإعلان بعض الأسماء في المرحلة الأولى هو مقدمة لقرارات أخرى قد تليها، إذ أنه كلما طالت عرقلة تشكيل الحكومة والبدء في ورشة إصلاح فورية، كلما تصاعدت قرارات تجميد رساميل أمراء آخرين.

لم تهتزَّ كراسي أمراء السلطة أمام هول المجاعة التي ضربت الأكثرية العظمى من الشعب اللبناني. كما لم تهتز أمام هول فاجعة مرفأ بيروت. لأن لا هذا الهول أو ذاك، هدَّد جيوبهم، ولذلك لم يكترثوا وكأن شيئاً لم يحصل. ولكن عندما وصل الموسى إلى ذقون جيوبهم فقد اهتزَّت عروشهم، وكراسيهم. وإذا افترضنا أنهم سيكابرون، سيبقى شبح تجويع الجميع بمن فيهم الأمراء يحوم في مخيلاتهم، خاصة عندما يرون مدخرات ما سرقوه ونهبوه أصبحت في خبر كان، والأكثر إيلاماً لهم أنهم سيبقون عراة من القداسة والاحترام أمام أنصارهم .

لم تعد المرحلة مرحلة قواعد الاشتباك التقليدية، معركة العض على الأصابع: (يخسر من يصرخ أولاً)، لأن ما هو مرسوم للبنان، صورة على غاية من المأساوية، وتلك الصورة ليست أقل من تجويع الجميع، بمن فيهم أنصار أمراء السلطة وسوف يحصل ذلك عندما سيصلون إلى مرحلة لن تساوي فيها الليرة اللبنانية شيئاً يشترون بها ولو رغيفاً من الخبز.

أحزاب السلطة يشترون سكوت أنصارهم بلقمة تكاد لا تسد جوعهم

إنها معادلة مثيرة ومؤلمة، يعمل أمراء السلطة على ربط أنصارهم بتوفير رغيف من الخبز ليعضوا على الجرح المعيشي الضاغط، ولكنهم سيصلون إلى مرحلة يعجزون فيها عن ضخ المساعدات الهزيلة لهم. وفي المقابل يقوم الضغط الدولي على تجويع كل لبنان، شعباً وحكاماً، لتنفيذ مشروع ربما يغرس الضوء في آخر النفق المظلم.

ولكي لا يدفع جميع اللبنانيين ثمن دفاع أمرائهم الحاكمين عن مصالح الدول الخارجية والوقوع ضحية صراعاتهم، ويضيع مستقبل الأجيال القادمة سدى. وإذا كان هذا ما يساعدنا على رؤية المشهد اللبناني الآن، نتوقف  فقط لنقول لأنصار أمراء السلطة أنهم سيصلون إلى الحائط المسدود، وهو مشهد تجويع لبنان بالكامل، وما عليهم سوى إدارك المصير المفجع حيث لا تنفع فيه طائفة ولا أمير لطائفة، ولا تنفع فيه مساعدة هزيلة من هنا، أو صندوقاً من المعونات من هناك. وليقف الجميع صفاً واحداً، جنباً إلى جنب، مع الانتفاضة الشبابية الشعبية، من أجل تحطيم أصنام الطائفية الذين وصلوا بهم وبلبنان إلى أنفاق مظلمة. وليعلموا أن أمراءهم عبيد لدول خارجية، وما كان لعبد أن ينظر لمصلحة شعب يتوهم أنه سيده. وليتعظوا بما قاله المتنبي لكافور الإخشيدي، الذي نشر الفساد في مصر، قائلاً:

لا تشتري العبد إلاَّ والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد

نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد

في أهداف الانتفاضة البلسم الشافي:

كما وعى شباب وشابات الانتفاضة مصالح كل أبناء الشعب اللبناني، بكل تشكيلاته وشرائحه الاجتماعية، ومن شماله إلى جنوبه؛ آن للشعب المقهور أن يعرف بأن من يأتمر بأمر عبد يحسب أنه سيد، لن يجني سوى المزيد من العبودية، وما يستتبعها من الركوع والجوع. هذا وفي حال العكس فإن ثعالب السلطة ستحصد المزيد من عناقيد الشعب، ولن تشبع. بل ستأكل الأخضر واليابس، ولن ينال الجماهير المقهورة والمقموعة والمستسلمة سوى الفتات الذي يجود به أمراء السلطة وأزلامهم.

 

 

 

 

 

 

 

الأربعاء، سبتمبر 09، 2020

 التكاملية في حياة البشرية


مدخل في تعريف بعض المفاهيم:

1-مفهوم التراكم الإيجابي في تاريخ الفكر البشري:

يأخذ البعض علينا، وهو محق، أن ما نكتب فيه وعنه تكرار لما أتى به الكثيرون من المفكرين والمنظرين الأسبقين. ونحن نعترف بذلك، ولكننا نقوم بتكرار ما نراه واجباً لتكراره من كلام الأقدمين والسابقين والمعاصرين، لأننا نعتبر أن فيما قالوا فيه وكتبوا عنه وبشَّروا به، هو من التراث الذي لا غنى عن تكراره لأننا مقتنعين بصلاحيته لعصرنا كما كان صالحاً لعصرهم، وهو صالح لبيئتنا كما كان صالحاً لبيئتهم. ولأننا نعتقد أن تكوين الإنسان لم يتغيَّر منذ طهوره الأول على سطح الكرة الأرضية، وأسئلته وحاجاته هي ذاتها أيضاً، نعتبر ما أتى به السابقون ممن نكرر ما قالوا به، ينطلق من حاجتين اثنتين، وهما:

-الأولى: الحاجة لنشر ما نجده صالحاً حتى ولو عفى عليه الزمن آلاف السنين، وهو واجب علينا، كما هو حق لمن أبدع ووضع اللبنات الأولى لتلك الأفكار. وهذا ما نقصد به من حاجة البشرية للاحتفاظ بالتراكم الإيجابي لقضايا المعرفة من أجل الاستفادة منه في كل زمان ومكان. وهو على العكس من العملية المناقضة له، أي عملية التراكم المعرفي السلبي، الذي أظهرت التجارب الإنسانية عدم صلاحيته سوى للمرحلة التي نشأ فيها، بزمانها ومكانها.

-الثانية: لأنها لا تزال صالحة، بمعنى أنها أفكار خالدة. وخلودها يعود إلى صلاحيتها الإنسانية العامة، فهي مبادئ يحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان. وللتبسيط أكثر، نعطي أنموذج استمرار الحياة البشرية بعامليْ الغذاء من طعام وشراب. وحاجة الإنسان لتطبيق أسس العدالة والمساواة وما يعادلها من مبادئ أخرى.

وباختصار، نعتقد أن حالة التراكم الإيجابي في فكر الشعوب على شتى تعريفاتها، وفي فكر المجتمعات المختلفة التي يمر بها مجتمع من المجتمعات، مسألة على كل من ندب نفسه للخوض في بحار الفكر أن يساهم فيها، إما بإعطاء الجديد الذي ينبني عليها، أو بنشر ما تراكم من إيجابيات أفرزته الأفكار السابقة. وإذا كان التراكم المعرفي الإيجابي ضرورة وحاجة للبشرية من أجل اختصار الزمن، فإن التراكم السلبي أيضاً يجب أن يخضع لمناخل نقدية فكرية والتحذير من مخاطره، لأنه من دون ذلك، ستتجمد الحركة الفكرية والعلمية في المجتمعات.

ولأن الحركة الفكرية يجب أن ترتبط بمصلحة المجتمع البشري، فإنه لا فائدة لتلك الحركة إذا لم تنتج نفعاً لهذا المجتمع، ولكل فرد فيه. وهذا ما يُلزمنا بتحديد مفهومنا لمبدأ المنفعة.

2-مفهومنا لمبدأ المنفعة:

المنفعة ليست هنة في سلوك البشر، بل هي من أهم مبادئها لأنه ليس هناك إنسان يعمل من دون الحلم بأن عمله سيدر عليه فائدة تساعده على الاقتراب من شروط سعادة الإنسان. ولذلك نعتقد بأن المنفعة هي من أهم الحوافز التي تلزم الإنسان بالقيام بعمل يُنتج ويدر ربحاً يساعد على تحسين حياته. ولذلك نعتقد بأن مفهومنا للمنفعة يتلخص بما يلي: لأن الإنسان عضو في جماعة بشرية تتكامل نتائج عمله مع نتائج أعمال الآخرين، يُلزم الإنسان أن يوازن بين المنفعة التي يحصل عليها ومنفعة الآخرين، لأنه من دون إحداث هذا التوازن سيفقد البشر عامل التعاون والتكاملية مع الآخرين، وإذا حصل الافتراق بين المنافع سيحصل الصراع حتماً، ويضيِّع الإنسان فرصاً أفضل لتحسين عوامل إنتاج المزيد من المنافع.

ويهمنا هنا أن نميز بين المصطلحين التاليين: (التكاملية النفعية في حياة الإنسان)، و(التكاملية النفعية في الحياة البشرية). وإذا كانت المنفعة تكاملية على الصعيد الفردي، فهي تشمل كل الوسائل التي تؤدي إلى منفعة ثنائية تركيب الإنسان الجسد والروح. ولأن الفرد جزء من المجتمع فلن تكون هرميته سليمة إذا لم تكن قاعدته السوية الجسدية والروحية متوفرة عند الفرد.

وإذا كانت التكاملية الفردية تستند إلى مجموع الشروط الواجب توفيرها لمنفعة الحياة الفردية، فهي ستكون حتماً مستندة إلى العمل الذي يؤديه الإنسان الفرد من أجل بلوغ أرقى درجات المنفعة. ولأن الفرد هو جزء من مجتمع أوسع، ويزداد اتساعاً كلما ارتقى ليصبح فرداً من الإنسانية كلها، عليه أن يمتلك وعياً كاملاً بأنه لا يستطيع بمفرده أن يلبي شروط توفير سعادته، بل لا بُدَّ له من أن يتكامل عمله مع أعمال الآخرين، ولهذا السبب فلن تتوفر سعادة الفرد الكاملة سوى بتوفير شروط سعادة الآخرين، يعطي ما تؤهله له إمكانياته للآخرين، ويأخذ من الآخرين ما تؤهلهم لهم إمكانياتهم.

وباعتبار أن التكاملية في الحالتين ترتبط بثنائية المادة والنفس، نعتقد بأنه لا سعادة متكاملة من دون توفير شروط تنمية مادية تلبي استمرارية سريان الحياة كشرط أساسي في استمرار المجتمع البشري، فإن التنمية الروحية والنفسية، ومنها تنمية الطاقة الفكرية، شرط ضروري لتطوير وسائل الحياة السعيدة. فإذا اعتنى الإنسان بتوفير وسائل حياته المادية من دون العناية بالوجه الآخر، فسوف يتساوى مع الحيوان، لأنه ينتظر ما تقدمه له الطبيعة من مواردها، مع عجزه عن ابتكار وسائل أخرى تتجاوز مستوى الغريرة التي خُلق عليها. بينما الإنسان يمتلك عوامل ما فوق الغريزة، وهو تميزه بالقوة العاقلة التي تؤدي للإنسان خدمات أكثر تطوراً لإنتاج ما يجعل حياته أكثر سهولة وأكثر سعادة. وبهذا تؤكد الوقائع النظرية أنه لا منفعة فردية يمكن أن تتحقق من دون ارتباطها بالمنفعة الجماعية.

3-ارتباط توفير المنفعة العامة بمؤسسات متخصصة:

ظهر أنه لا منفعة فردية يمكن أن تحصل من دون ارتباطها بمنفعة الغير. وكلما كان الارتباط أكثر وعياً كانت المنفعة أكثر جزاء للأنا وللآخر. ولهذا وُجدت المؤسسات الجمعية، سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وفكرية وعلمية، لتؤدي وظيفة أساسية في تحسين ظروف الأفراد والجماعات. وتنقسم تلك المؤسسات إلى شريحتين اثنتين، وهما ما تمَّ التعارف عليهما، بالتاليتين:

-المؤسسات السياسية التي تدير كل المرافق العامة التي لها علاقة مادية بتطوير حياة الإنسان المادية. ولعلَّ أهمها ما له علاقة بالإنتاج المادي ذي العلاقة بإدامة حياة الإنسان. وما له علاقة بالإنتاج التربوي الإنساني التي تحدد وظائف الأولى من جهة، وتحدد وظائف التثقيف التربوي ذات العلاقة بتنوير مدارك الفرد والمجتمع بحقوقه على تلك المؤسسات من جهة أخرى. وفي كلي التقسيمين يجب أن لا تُغفَل المخططات العلمية التي ترسم مسارات تطبيقهما على الوجه الأكمل الذي يساعدهما على تنفيذ الواجبات الملقاة على عواتق المكلفين بالتنفيذ. وباختصار تُعتبر أهدافها المعلنة أو المفترضة نظرياً أنها تعمل لمنفعة الفرد والمجتمع.

-المؤسسات التي تُعرف بالمؤسسات الروحية، وهي عبارة عن مؤسسات نشأت عن حاجة الإنسان إلى معرفة أكثر المصادر ثقة بتحليل مصائر البشرية في الشؤون الغيبية. هذه المؤسسات بلغت شأواً كبيراً من التطور والتنظيم خاصة في المراحل الراهنة. ولا تتمايز مؤسسة دينية منها عن الأخرى سوى بشكليات وظائفها. ومن الأهداف المعروفة، حسب تعريفات مؤسسيها، أنها تختص بالدفاع عن حقوق البشر في حيازة موقع سعيد بعد الموت. وكذلك، وكما تعلن أيضاً، أنها تدافع عن حقوق الذين سُلبت حقوقهم بشكل خاص. وباختصار تُعتبر أهدافها الظاهرة أنها تعمل لمنفعة الفرد والمجتمع.

4-المؤسسات السياسية والروحية بين النظرية والواقع:

لا جدال حول أهمية الأهداف النظرية المعلنة وموثوقية المختصين الذين صاغوها عبر التاريخ البشري، خاصة أن أهدافها النظرية تدعو لتطبيق شروط المنفعة الفردية للإنسان والعامة للمجتمع. ولكن، وبدراسة تاريخية لتحديد مدى مصداقية التطبيق أو كذبه، أظهرت أن بين النظرية والتطبيق بون شاسع.

تعاونت في الغالب الأعم المؤسستان السياسية والروحية، تحت ستار أهمية دور كل منها في حياة الشعوب، بحيث تدير الأولى شؤون البشر الدنيوية وتدير الأخرى شؤونهم الروحية الغيبية. وإذا كانت نشأة الدولة الحديثة فصلت بين دور كل من المؤسستين، فإن الشعوب التي لا تزال متخلفة عن الالتحاق بموكب مفاهيم الدولة الحديثة، خاصة منها الأنظمة ذات المنهج الطائفي السياسي. ففي تلك الأنظمة عموماً تبقى العلافة مستورة وغير معلنة، تتلقى فيه الأنظمة السياسية الدعم من المؤسسات الروحية بالامتناع عن لعب دور الكاشف لأخطائها حتى على حساب منفعة الطبقة الفقيرة التي تزعم تلك المؤسسات أنها من أهم مهماتها. وأما في أنظمة الطائفية السياسية فإن التحالف واضح ومعلن من دون خوف أو خشية. وبمثل تلك الوقائع تكون المؤسستان قد خرجتا عن أهدافهما التي رُسمت نظرياً. وتكون كل منهما راحت تعمل لمنفعة المؤسسات وليس لمنفعة الفرد أو لمنفعة المجتمع.

إن هذه المقدمات تدل على أن تكاملية المنفعة بين الفرد والمجتمع تحولت إلى تكاملية للمنفعة المتبادلة بين المؤسسات التي تزعم أنها ما وُجدت إلاَّ لمنفعة الفرد والمجتمع. فيكون المطلوب أن تقوم تلك المؤسسات بتصويب الخلل بين دورها النظري، وبين دورها الذي تمارسه.

وإذا كان من المترتب علينا أن نقوم بتحميل المسؤوليات والمحاسبة، فلا مفر من أن نعتبر أن الوعي الفردي للحقوق والواجبات تقع على عاتق الفرد أولاً، وعلى من يجب أن يساعده على الوصول إلى هذا المستوى من الوعي.