الثلاثاء، أغسطس 04، 2020

كما اللون الأبيض انعدام للون فإن الشر هو انعدام لفعل الخير

من سلسلة مقالات (اجوبة صادمة)
 كما اللون الأبيض انعدام للون فإن الشر هو انعدام لفعل الخير
 فكرة الله، احترام للذات البشرية: 
 بين من يعتقد بوجود إله خلق الكون وسيبقى الكون خالداً بإرادة هذا الإله، ومن يعتقدون أن الكون خلق من عدم، ومصيره العدم. يبقى الاعتقادان نظرية غيبية مجرَّدة قائمة على الافتراض والاستقراء والاستنتاج. وهنا يتساوى الاعتقادان بإمكانية الإصابة والإخفاق. ولذلك لا يستطيع أي منهما أن يدحض بيقين أسباب الآخر باعتقاده طالما استند الإثنان إلى القواعد الغيبية في تفسير ما توصلوا إليه. ولهذا ليس هناك كافر ومؤمن. فكل منهما كافر من وجهة نظر الآخر. والأمر كذلك، فليؤمن من يشاء، وليكفر من يشاء. أما نحن فنرى التمييز بين الاعتقادين، بأننا ننحاز إلى جانب المقولة المنطقية التي تقول: (لا معلول من دون علة). منطلقاً من هذا الاعتقاد، ومستنداً إليه، وإن كان مبنياً على نرجسية بشرية، أقول: بأنه لن يتساوى مصير الحجر والشجر والحيوان مع مصير الإنسان. وإذا كان العدم مصير كل من هذه الموجودات فهذا ليس مصير الإنسان لأنه يُعتبر سيدها على الكرة الأرضية، والدلائل والبراهين العيانية على ما نقول به، أكثر من أن تحصى. ويكفي الإنسان أنه يستطيع أن يُسخِّرها جميعها لخدمته. وأما لماذا الإنسان يتميَّز بما ذكرنا، فلأنه يمتلك مقدرة عاقلة، تدل تجارب التاريخ وتطور الحضارة البشرية على تلك المقدرة. فمسار الحضارة والتطور البشري يتصاعد بشكل يثير الدهشة والإعجاب. وهي تصل إلى مستوى التطور التصاعدي الهائل. إن المقدرة العاقلة عند الإنسان جزء من ذات الله الذي خلقها على غاية من التعقيد مما يعجز أحياناً عقل الإنسان على إدراكها. ووهبها المقدرة على التطور التصاعدي. وهذا ما يفسِّر النقلات النوعية فيها على شتى الصعد. وإذا كانت الحضارة المادية قد تصاعدت بهذا الشكل الهائل، والتي فيها تسود النزعة المادية على ما عداها من النزعات النفسية والروحية، فهذا يفسِّر لنا مدى خطورة الافتراق بين التطورين، ومدى خطورة غياب التوازن بينهما، الذي إذا ما اختلَّ فسوف تعاني البشرية من آثارها البشعة على مستقبلها الأقرب فالأبعد. لقد حاولت الأديان أن تردم الهوة بين التطورين، ولكنها فشلت وضلَّت الطريق لأنها استخدمت مقاييس البشر المادية في تهذيب النفس والروح، وحصرت وسائلها بالعبادات دون غيرها من العناية بتربية النفس والروح تساوقاً مع سموها وتعقيدها. ولعلَّ أخطر تلك الوسائل عند الأديان، هي الزلفى إلى الله لأنها تعتبره الأقوى؛ وتعتقد بذلك، كما لو كان الله إنساناً نرجسياً ترضيه الأدعية والصلوت والعبادات، والله أبعد ما يكون عن ذلك. ولعلَّ أهم تلك المعضلات، كانت مسألة خلق الأفعال، إذ أخطأ الذين ينسبونها إلى الله، والاعتراف بقدر الله ومشيئته، ونكران مقدرته على أن يهب الإنسان حرية اختيار أفعاله. فإذا حصل خير من الأفعال فهي بفضل من الله، وإذا حصل شر فبقدر مكتوب منه. وعلى الرغم من ذلك تقوم بتحميل الإنسان وزر ما يحصل، على فرضية أن الله سيحاسب البشر على نتائج تلك الأفعال؛ فالعقاب لمن يخطئ، والثواب لمن يصيب. إشكالية العلاقة بين الخير والشر: ليس الشر كما هو معروف عنه أنه متلازم لثنائية (الخير والشر)، وهو ليس نزعة قائمة بذاتها، بل هو انعدام لوجود شيء آخر، وهو انعدام الخير. الله الذي نؤمن به، كما نعتقد، لم يخلق في الإنسان نزعتين، نزعة الخير ونزعة الشر، بل هو خلق نزعة الخير فقط، ومن لم يمارس تلك النزعة فكأنه يعمل شراً. فعمل الخير، إذن، هو الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها. أي حضَّ الله البشر على القيام بأفعال الخير من أجل سعادتهم، فمن فعل خيراً فلنفسه ومن أجل سعادته، ومن خالف هذه النزعة فكأنه يمتنع عن فعل ما يصب في توفير تلك السعادة، وهذا ما تمَّ الاصطلاع عليه بـ(فعل الشر). تلك فرضية اقتضى قولنا بها أسباب ووقائع ونتائج استنباطية زوَّدتنا ببراهين للدفاع عنها. وهذا ما سوف ندرسه في هذه المقالة. أولاً، وقبل أي شيء آخر، نرى أن ما نبحث عنه، هو من المقولات الغيبية الماورائية. ففكرة الله استنتاجية واستنباطية تعود أصولها إلى البحث عن وجود قوة تفوق قوة البشر، لا بل تقهرها. والبحث عن فرضية وجود خالق للكون. وتراوحت الفرضيات بين وجود الله أم عدم وجوده. ولأن فكرة الله ما ورائية، فهي لا تتساوى مع مستوى الواقع العياني الملموس أو المنظور أو المحسوس، بل ترقى إلى مستوى المنطق النظري البرهاني المجرد. ولهذا نعتبر أن المسألة المطروحة مسألة قديمة تعود أصولها إلى أول محاولة للعقل البشري انكبت على البحث في فكرة الله، وتعود جذورها إلى متلازمة (العلة والمعلول)، أي أنه لا بد لأي موجود مصنوع من وجود صانع له. فالكون الواسع بكل تفريعاته وتعقيداته لا يمكن أن يُخلق من عدم، ولا بُدَّ من وجود صانع له. فكانت فكرة وجود (العلة الأولى) التي اصطلح على تسميتها باسم (الله). واستتبع وجود هذا البرهان العقلي، البحث في وجود الإنسان ومصيره قبل الموت كواقع عياني، ومصيره بعد الموت كافتراض ما ورائي غير منظور أو ملموس. ولهذا ابتكر الإنسان وجود (فكرة الله)، واعتبر أنه مخلوق من مخلوقاته. ولأن الإنسان يمثل الوجود العاقل على هذه الأرض، فهو يشكل محور هذا الكون المنظور (الكرة الأرضية). ولأن ظاهرة الموت استدعت وجود أسئلة عن مصير الإنسان بعد الموت، اكتنز تاريخ العقل البشري الكثير من الأسئلة المعقَّدة التي وجد أن البحث عن أجوبة لها مهمة عسيرة وأكثر تعقيداً ولكنه لم يستسلم بل ظل مستمراً في البحث عنها على الرغم من أنه لم يجد حتى الآن براهين عيانية تقنع الأكثر تفكيراً عقلانياً، وكذلك الأكثر سطحية. فالبراهين العيانية جامع مشترك بين المستويين. ومن بين أهم تلك الإشكاليات، أمام من يبحث عن مصيره بعد الموت، كانت إشكالية الحساب بعد الموت. وقد ساد حتى الآن عند من يعتقدون بوجود إله، ووجود حساب بعد الموت، أن من فعل خيراً سوى يلقى حساباً يؤدي إلى خلاص نفسه ودخولها إلى الجنة. وإن من فعل شراً سوف يلقى حساباً يؤدي إلى دخول نفسه إلى النار. تلك الإشكالية قادت إلى إشكالية أخرى تتلازم معها، هي السؤال عمن خلق تلك الأفعال التي يتم محاسبة الأنفس عنها. هل هي من خلق الله، أم هي من خلق الإنسان. وتلك، بلا شك، كانت من أهم المعضلات التي واجهت الفكر الديني في شتى مراحل ظواهره. وما زالت تشكل حتى الآن المعضلة الأهم، والأكثر جذباً لحركة العقل البشري. والتي منها انبثقت ما تُسمى بـ(ثنائية الخير والشر). ترابط خلق الأفعال بفكرة الخضوع والسيطرة: تعود أصول خلق الأفعال إلى بداية العلاقة بين القوي والضعيف. القوي الذي يمتلك المواد الأولية التي لا يمكن للحياة أن تستمر بدونها. فالطفل الوليد بحاجة إلى قوة الأب الذي يوفر الغذاء، وقوة الأم التي تحضن الأطفال. والأب بحاجة إلى مساعدة توفرها قوى أكثر مقدرة منه. وهكذا تتكامل الحياة البشرية بوجود من يملك، ووجود من لا يملك. فالذي يملك هو الأقوى، والذي لا يملك هو الأضعف. وبدلاً من وجود حالة التكامل والتبادل بالخدمات فقد سادت فكرة الخضوع والسيطرة. وهذه الفكرة عزَّزت نزعة الخاضع إلى كسب رضى الأقوى، ونزعة الأقوى للسيطرة على من هم بحاجة إليه. وكانت النزعتان مرتبطتين بمسألة خلق الأفعال. فكانت البدايات المعرفية تقوم على أن الأقوى هو من يخلق الأفعال، وهو الذي يحاسب الآخرين ليستحوذ على إرادتهم ويضمن خضوعهم له، وطلب رضاه. فطاعته خير، والتمرد عليه شر. واستناداً إلى هذه البدايات المعرفية، نسبت بعض الدعوات، وخاصة الدينية منها، خلق الأفعال إلى الله، وكأنها تعيد المقولة المعرفية بأن الله هو الذي خلق الأفعال بالبشر ويحاسبهم عليها تماماً كما كانت خاضعة لمقولة العلاقة بين الإنسان المسيطر والإنسان الخاضع؛ فالمسيطر له الحق في كل ما يفعله لأنه لم تكن سيطرته خاضعة إلى أي قيد من القيود، يتصرف تجاه الضعيف كمالك له مثله كمثل أية مادة أخرى يستطيع امتلاكها. ولا ضير أن يحاسبهم على أفعال لم يصنعوها، وذلك ترابطاً مع نزعة السيطرة التي يتميز بها الأقوى بين البشر. فهو من يملك قوة فعل كل شيء، وفي ما يفعله الخير كله، وفي ما يرفضه الشر كله. استناداً إلى التجربة الإنسانية العيانية المعاشة، ابتدأ تكوين المعرفة الدينية، فاعتبرت أن الله القادر الوحيد والأقوى، شبيهاً بالإنسان القوي القادر، وأضفت عليه صفات إنسانية يمارسها القادر من بين البشر، ولنسمه (الحاكم، أو المالك). وتلك مواقع بشرية يستخدم فيها سلطته للهيمنة والسيطرة على غيره من البشر ممن هم بحاجة إليه. يهب الطعام لمن يشكر، ويحجبه عمن يتمرد على الأوامر. ويمارس الضعفاء دور المسكين المحتاج لأعطيات الأقوى، ولا ضير من أن يقدموا إليه فروض الطاعة والخضوع لنيل الرضى والمغفرة. بينما الله خالق الكون، كما نعتقد به، خلق الإنسان ليس ليكون عبداً، بل خلقه ليكون حراً مسؤولاً عن أفعاله. هذا هو الله، الذي لا يحتاج إلى عبودية ولا شكر، بل هو يمثل دور قيم الأبوة والأمومة. وبحيث كانت تلك القيم من قيم الله، فكما أن الأب والأم لا يحتاجا إلى شكر من أولادهما، ويمتنعان عن عقابهم مهما كانت الأسباب، فكذلك هو الله الذي خلق تلك القيم. وأما عن السؤال عما إذا كان المخطئ والمصيب يتساويان في الحساب، فلنترك هذا الأمر لأننا لن نصل منه إلى أية نتيجة طالما ظلَّت تخضع لأسباب غيبية. وبدلاً من ذلك، لنتفرَّغ إلى استكناه ما نعتبره أهم غاية خلق فيها الله الإنسان، وهو هدف أن يكون الإنسان سعيداً يتمتع بحياة سعيدة وذلك بسلوك الطرق السليمة للوصول إليها، وهو ما نرمز إليه بوسائل تطبيق أفعال الخير التي تعني الإنسان ضمن مجتمع، سواءٌ أكان المجتمع صغيراً أم كان كبيراً، تبدأ من علاقة الأبوين بطفلهما، وتنتهي عند حدود المجتمع العالمي الأوسع. الله خلق فطرة الخير وعلى الإنسان أن يستفيد منها لصنع أفعاله: ولأننا عالجنا تلك الإشكالية في مقالة سابقة، عرضنا فيها قناعتنا بما جاء في كتابات الأولين عنها، خاصة ما أتت به فرقتا القدرية والجبرية، على الرغم من تعارض هذه الاستنتاجات والبراهين مع الفقه الديني، واعتبرنا فيه أن أعمال الإنسان هي من فعل الإنسان، وليست من خلق الله وقدره، فإننا سنتابع في هذه المقالة، موضوع ما يتم تسميته بثنائية (الخير والشر)، ولعلنا نستطيع أن نعبِّر فيه عن وجهة نظرنا، وعلى أن تكون بشكل أكثر وضوحاً لدى القارئ. نعتقد أولاً أن الله خلق في الإنسان فطرة الخير فقط، ولم يخلق فيه نزعة الشر، وهذا ما يقوِّض الأسس التي قالت بها الأديان السماوية والتي أدَّت إلى ثنائية (الله والشيطان)، ومنها افترضت أن هناك نزاعاً دائماً بين الله والشيطان، أي بين الخير والشر. وفي هذا النزاع كأنني بالأديان السماوية قد افترضت وجود إلهين، واحد يأمر بالخير، والآخر يأمر بالشر. وفي هذا الافتراض ما فيه من تناقض مع نظرية التوحيد الإلهية. بينما تعريفنا هو أن هناك إلهاً واحداً يدعو للخير فقط، ولا يصدر عنه ما يدعو إلى الشر أو السماح بوجود من يدعو إليه ويأمر به. وفي هذا تقويض لثنائية (الله – الشيطان)، وكذلك ثنائية (الملاك – الشيطان). وبهذا نريد القول بأن الله غرس فطرة الخير فقط في نفس الإنسان العاقل، ورسم له وسائل تطبيقها. فإذا طبَّقها حصل على سعادته، وإذا فشل فقد تلك السعادة. وهنا نجد أنه لا بُدَّ من البدء بتوضيح رؤيتنا في تعريف هذه الفطرة. الخير هو الفطرة التي خلقها الله في الإنسان: إن الله خلق الإنسان ليكون سعيداً في حياته، وخلق فيه كل ما يساعده للعمل على توفير تلك السعادة. وترك له حرية خلق أفعاله، لأنه لو خلقها فيه ويخضعه للحساب لكان ما يصدر عن الله منافياً لقواعد العدالة، وتلك من الصفات التي لايجوز أن نفترضها عند إله عادل. وعندما خلق الله إرادة الخير فقط، ورسم فيها حرية الاختيار، فقد خلق في الإنسان العوامل التي تساعده على توفير سعادته. فإن أحسن تدبيرها فسيبقى سعيداً، لذا يكون استمرار السعادة مرتبطاً بإرادة الإنسان طالما ظلَّ محافظاً على القيام بالأفعال التي تحافظ على سلامة أعضائه الجسدية والنفسية، وكذلك القيام بدوره المنوط به بمساعدة الآخرين. وإن أساء التدبير فسوف ينحدر إلى مستوى التعاسة الذاتية، والامتناع عن القيام بدوره الاجتماعي سوف يساهم بخلق التعاسة عند الآخرين، وهذا ما نعني به ارتكاب الشر عندما يمتنع عن صيانة عوامل الخير بالنسبة للذات وبالنسبة للآخر. تعريف عمل الخير: لأن السعادة، كهدف مقصود للبشر، نعتبر كل ما يصب في توفيرها هو فعل للخير، وكل إهمال لها هو شر. وفعل الخير ينقسم إلى أفعال مادية، وأفعال نفسية. فالله، حسب فرضية العلة والمعلول، خلق الإنسان من روح وجسد. ولكل منهما عوامل تساعد على تنميته لتبقى عناصر تكوينها سليمة، وسلامتها دليل على الحصول على السعادة الجسدية، وكذلك السعادة النفسية. وهذه التنمية هي فعل من أفعال الخير. وإذا أهمل الإنسان هذه التنمية، فسوف تصاب العناصر التي توفر السعادة بالتلف، وهذا ما يؤدي إلى عكس السعادة، وهذا ما نسميه بفعل الشر. وفعل الشر مترابط ومتلازم مع فعل الخير، لو لم يوجد هذا لانتفى وجود ذاك. فموضوعة الشر ليست قائمة بذاتها كما هو حاصل لفعل الخير، وهذا شبيه بتعريفنا للون الأبيض الذي لا وجود له، وهو ما نسميه بـ(انعدام اللون)، وكذلك فإن فعل الشر هو انعدام فعل الخير. أي ليس هناك عمل من أعمال الشر، بل هو تقصير في عمل الخير. فعمل الشر المتعارف عليه في التقليد المعرفي، ليس عملاً له شروطه ولا موجباته ولا آلياته، بل هو انعدام عمل الخير. في مواجهة الحساب يتحمل الظالم والمظلوم مسؤولية نسبية: لأن الإنسان خالق أفعاله يتحمل مسؤولية الإصابة في خلقها أو الإخفاق فيها. ولأن القوى الأخرى، المساعدة للفرد في خلق الأفعال لها دور محوري في خلق أفعال السعادة، ولا يستطيع الفرد أن ينجح في عملية الخلق من دون العوامل المساعدة، يتحمل العامل المساعد، حسب تعريفنا له، مسؤولية مماثلة. وهذا ما يمكننا تعريفه بمبادئ الحقوق والواجبات. فمن يقصر في واجباته مسؤول عن التقصير، ومن يقصر بالحصول على حقوقه فهو مسؤول أيضاً. ولذلك، يتحمل الفرد المسؤولية على مستويين: الأول، إخفاقه في خلق الأفعال. والثاني، امتناعه عن مطالبة العوامل المساعدة بحقوقه عليهم. وظيفة رجل الدين الحثَّ على الالتزام بالحقوق والواجبات: آخذاً التكوين المعرفي في علاقة الأضعف بالأقوى بين أبناء البشر، بحيث يؤدي الأضعف فروض الطاعة للأقوى، اختصر رجل الدين، ومن بعده المؤسسات الدينية، وظيفته بالدعوة إلى عبادة الله، وأتقن فنون القيام بها. ونحسب أن تلك الوظيفة ترتبط تاريخياً ومعرفياً بالدعوة إلى طاعة الأقوى التي تعود جذورها إلى تقديم فروض الطاعة للأسياد التي سادت في العصور الأولى لنشأة الإنسان، والتي قام الفقهاء والكهنة، في شتى العصور اللاحقة، اتصالاً بالمراحل الحاضرة، لترويجها والحضِّ عليها. ولما كانت عبادة الأقوى هي التقليد الذي لم تشذُّ عنه الأديان السماوية، فقد كانت تلك عادة انعكست على تعريف علاقة المخلوقات بالخالق بعد أن سادت رؤية التوحيد الإلهي. وصوَّرت الأديان السماوية الله بشكل بشري يغضب وينتقم ويعتبر البشر عبيداً له عليهم أن يؤدوا فروض الطاعة والعبادة له. ولأن الله الذي نعتقد به لا حاجة لعبادة البشر، ولأنه خلقهم بأفعالهم ليصلوا إلى مستوى متقدم من السعادة الذاتية، وحثَّهم على الفعل الذي يحافظ على سلامتهم الجسدية والنفسية، وهو ما رمزنا له بفعل الخير لخدمة الذات وخدمة الآخرين، نعتبر بناء على ما تقدم أن من ينتدب نفسه للإرشاد الديني أن يحث على قيام الإنسان بواجباته تجاه نفسه، وأداء حقوق غيره، على قاعدة أنه ليس هناك أقوى وأضعف، بل هناك تكامل جماعي يؤدي فيه كل فرد واجباته. وفي هذه القاعدة ما فيها من الأصول القيمية التي تساعد على الوصول إلى السعادة التي أرادها الله، وليس إلى تعليم فنون العبادات التي لا يحتاجها الله على الإطلاق. فمن دعا إنساناً للمحافظة على واجباته تجاه ذاته، وتجاه غيره من البشر. وكل من حثَّ إنساناً على المطالبة بحقوقه ممن عليهم أن يؤدوا تلك الحقوق، خاصة أن الله خلق البشر لأجلها، لكان أجدى وأنفع للبشر من كل العبادات التي لا يحتاجها الله. ونحن نعتقد بذلك لأن الله، بكماله، خلق البشر ليس لذاته، بل خلقهم ليكونوا سعداء. ولم يخلقهم ليعبدون.