الاثنين، أغسطس 31، 2020

المفهوم الرابع من المفاهيم الشاذة في معاجم الأنظمة الطائفية السياسية

في الكوارث الوطنية الكبرى تحل صناديق الإغاثة الطائفية بديلاً للصندوق الوطني الجامع:



المفهوم الرابع من المفاهيم الشاذة في معاجم الأنظمة الطائفية السياسية

في المفهوم الوطني العام لصناديق الإغاثة في الكوارث:

لأن كل دولة مسؤولة عن مواطنيها جميعاً من دون تمييز طائفي أو عرقي، ولأن الدول معرَّضة لكوارث طبيعية أو اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية، عادة ما تواجه الدول تلك الكوارث بإنشاء صناديق إغاثة عاجلة لتلبية حاجات المنكوبين ممن وقعوا ضحايا لتلك الكوارث. ولهذا تُنتخب لإدارة تلك الصناديق هيئة وطنية يتم اختيار أعضائها من ذوي الكفاءة والنزاهة لكي تقوم بإيصال المساعدات إلى مستحقيها.

في مفهوم الأمر الواقع لصناديق الإغاثة في أنظمة الطائفية السياسية:

جرياً على عادة تقاسم الحصص في أنظمة الطائفية السياسية، كما هو حاصل في لبنان، يخضع تشكيل لجان الإغاثة حسب التمثيل الذي يزعمون أنه عادل بين الطوائف، بحيث يتقاسم رؤوساء الكتل السياسية الطائفية، والمؤسسات الدينية الملتحقة بها، تسمية أعضاء تلك اللجان بعيداً عن قواعد الكفاءة والنزاهة.

ولأن المؤسسات الطائفية، وحسب قواعد حماية الطائفة المزعومة، تعمل جهدها لكي تنال كل منها أكبر حصة من حصص الإغاثة لرعاياها من الطائفة. وبهذا الشكل، وللمساواة في توزيع الحصص بين الطوائف يعمل ممثلوها، بشتى الوسائل، للحصول على الجزء الأكبر من مساعدات الإغاثة، وهذا ما يؤدي إلى وصول بعض الكثير منها إلى من لا يستحقونها. والبعض منها يذهب إلى جيوب أمراء الطوائف وتابعيهم وصناديق أحزابهم.

كيف واجهت المؤسسات الطائفية في لبنان الكوارث التي حصلت؟

لقد واجه لبنان الكثير من المحن، خاصة بعد الحرب الأهلية في العام 1975. ولعلَّ أكثرها حدَّة عمليات التهجير الطائفي في الحرب الأهلية. وتلك التي كانت نتيجة للعدوان الصهيوني على لبنان، منذ ما بعد العام 1969. لا شك بأنها كانت تشكل كوارث أمنية واجتماعية. ولهذه الأسباب أنشيء عدد من الصناديق والمجالس الخاصة، ومن أشهرها:

1-مجلس الجنوب الذي وُضع تحت رعاية أحزاب الشيعة الطائفية. وكانت الأهداف من إنشائه معالجة تأثيرات العدوان الصهيوني على الجنوب، قبل الحرب الأهلية وبعدها. واعتداءات آذار 1978. وعدوان حزيران 1982. وعدوان عناقيد الغضب في العام 1996.

2-صندوق المهجرين الذي وُضع تحت رعاية مارونية ودرزية بشكل عام، واستفادت من السرقات فيها أحزاب طائفية أخرى.

3-المساعدات العربية بعد عدوان تموز 2006. ورعتها تنظيمات الأمر الواقع الشيعية. وأغدقت فيها تزويراً على أتباعها ومناصريها، أو كل من حظي فيها بوساطة مسؤول فيها أو وجد حظوة لديها.

4-في مواجهة كارثة الانهيار المالي في العام 2020، ولأن الدولة فقدت إمكانية معالجتها لأن حكومة أحزاب الطائفية السياسية كانت السبب في نهب كل مواردها. ولأن الدول العربية والعالمية حجبت المساعدات عن لبنان لأسباب سياسية، حالت دون تشكيل صناديق جامعة للطوائف، أنشأت كل منها صناديقها الخاصة التي حصرت نشاط توزيع ما تيسَّر لها من أموال بمساعدة ليس أبناء طائفتها كلهم، بل بمساعدة أزلامها وميليشياتها فقط.

وكانت تلك التجربة من أبشع ما يمكن أن يجري في دولة واحدة، يزعم فيها أمراء طوائفها أن مجلس نوابها يمثِّل كل لبنان، في الوقت الذي بالكاد يمثل جزءاً من طائفته. وهو الجزء الذي أعلن انتماءه لميليشيات تلك الطوائف طمعاً بالحصول على مساعدة قد لا تملآ معدة، أو تروي غليل.

وإذا ما أضفنا تجربة ما بعد الانفجار الكارثي الذي حصل في مرفأ بيروت في الرابع من آب من العام 2020، إلى لائحة الصناديق المشبوهة باللوثة الطائفية؛ لوجدنا أن المفاهيم الشاذة تنخر في تشويه تلك الكارثة، وتعززها، وتشارك فيها الدول الأجنبية الراعية للطوائف. وإذا استثنينا المساعدات العربية التي نعتبرها فرض عين على أنظمتها الرسمية بحكم الانتماء القومي، والتي استُغلَّت لمصالح أمراء الطوائف أيضاً، يمكننا أن نرى صورة المساعدات الأخرى التي وصلت من الدول الأجنبية. وأما الصورة فكانت جلية واضحة أن ما جاء من الدول الإقليمية فقد تم توزيعه حسب الانتماء الطائفي لتلك الدول. وما جاء من دول غربية فقد اتجه بمسالك ومسارب طائفية أيضاّ. وظلَّت النُتف القليلة مما سلم من سطو أمراء الطوائف بأيدي المنظمات المدنية التي على الرغم من هزالها فقد استخدمتها تلك المنظمات ووزعتها على قواعد وطنية وإنسانية. وهي على الرغم من ذلك شكَّلت الأنموذج الوطني الإنساني.

واختصاراً فقد عمَّ الشذوذ في لبنان، حسب مفاهيم أحزاب السلطة الحاكمة، وأخضع فيه كل ما هو إنساني أو وطني إلى مكاييل طائفية ينخرها السرقة والفساد والتزوير والضحك على ذقون هذا الشعب المسكين والمقهور والمقموع. ووُضعت المعونات والمساعدات في خدمة تعزيز مواقع أمراء الطوائف، والتي يُضرب المثل فيها بابتكار شتى طرق الاحتيال لنهب ما يتبقى منها لمصلحة صناديق تمويل الأنصار من الميليشيات المقنَّعة هنا أو هناك في دهاليز أحزاب السلطة الطائفية.

 


الثلاثاء، أغسطس 25، 2020

المفهوم الثالث: مصادرة حق الدولة في عقد الاتفاقيات مع دول خارجية والمحافظة على وحدة المؤسسات الأمنية

 مصادرة حق الدولة في عقد الاتفاقيات مع دول خارجية

والمحافظة على وحدة المؤسسات الأمنية

المفهوم الثالث من مفاهيم شاذة في معاجم الأنظمة الطائفية السياسية

من الواضح أن الاتفاقيات المعترف بها دولياً ووطنياً يجب أن تحصل بين دولة ودولة، ولكن في نظام الطائفية السياسية راحت تعقد بين طائفة ودولة. أو أحياناً كثيرة بين ميليشيا ودولة. وعن ذلك تنص الدساتير والقوانين على أنه من حق الدولة، ممثلة بمؤسساتها الدستورية، عقد الاتفاقيات والمواثيق مع الدول الأخرى. ومن حقها أيضاً أن تعقد المعاهدات الدفاعية مع أية دولة تريد. ومن حقها أيضاً أن تعلن حالة الحرب أو حالة السلم.

وباختصار على الدولة الوطنية أن تحدد السياسة الخارجية من جهة، وسياسة السلم والحرب من جهة أخرى، والقيام بواجب المحافظة على الأمن الداخلي بقواها الأمنية الموحدة من جهة ثالثة.

أولاً: الاتفاقيات الدولية:

وعن الاتفاقيات الدولية، سنعرض النصوص والتشريعات ذات العلاقة في لبنان من زاويتين: من زاية نظرية، ومن زاوية الأمر الواقع.

1-من الزاوية النظرية، في لبنان حصرت المادة 52 من الدستور اللبناني، عقد المعاهدات الدولية برئيس الجمهورية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، بعد موافقة مجلس الوزراء. أما المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن ابرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب. وقد حصرت أيضاً الفقرة 5 من المادة 65، بمجلس الوزراء، شؤون الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولية.

2-ومن زاوية الأمر الواقع: كما ثبتتها أعراف المتصرفية الأولى، منذ أكثر من قرن ونصف القرن، واستناداً إلى الاعتراف لكل دول أجنبية بفرض وصايتها على طائفة من طوائف لبنان، وهذا يجيز ضمناً لكل طائفة بالاستقواء بدولة خارجية. فقد تحوَّلت الأعراف إلى تشريعات ليس لها قوة القانون بل لها قوة الأمر الواقع. وغنيٌّ عن البيان أن قوة الأمر الواقع سمح للموارنة أن يستقووا بفرنسا أيام الانتداب الفرنسي. وأن يستقووا بأميركا لاحقاً. وأن يستقوي السنة بمصر والسعودية. وهذا أدَّى لاحقاً إلى أن يستقوي بعض الشيعة بإيران بعد انتصار (الثورة الإسلامية) فيه في العام 1979.

وإن كان الدستور الذي وُضع في عهد الانتداب الفرنسي،  في العام 1926، قد أشار إلى مسألة التوزيع الطائفي للمواقع السياسية باعتبارها مؤقتة، فقد تحوَّل المؤقت إلى ما يشبه قانوناً للأمر الواقع. واستمر رفض الطوائف اللبنانية إلغاء ذلك (المؤقت)، حتى عندما نص تعديل الدستور في مؤتمر الطائف، في العام 1989، إلى ضرورة الإلغاء.

لقد كان من تأثيرات هذا الواقع الذي فرضته أحزاب السلطة الطائفية، والذي لا تزال تفرضه لحماية مكاسبها، أن البعض منها عمَّق العلاقات مع الخارج إلى الدرجة التي أرتقت إلى عقد اتفاقيات معها على شتى الصعد، وكان ما أخذ يمارسه حزب الله من أبرزها وأكثرها صدماً للبنية الوطنية في لبنان. فقد أعلن أنه امتداد أيديولوجي لنظام ولاية الفقيه، ولم يخف أهدافه في أن يصبح جزءًا منها. وتطورت العلاقات ابتداء من أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، لتبدأ بالإعداد العقيدي، وتدريب المجموعات عسكرياً ودعوياً. وقد بلغت أقصى درجاتها في السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين. بحيث أصبح الحديث عن هذا المستوى قد بلغ حداً عالياً ليس من الصراحة فحسب، بل من المباهاة والفخر أيضاً. وفي تلك المرحلة، وخاصة بعد العام 2006، أصبح الحديث عن دولة حزب الله داخل الدولة اللبنانية، أمراً معترفاً به، إلى أن بلغ حدوده القصوى في أن يستطيع الحزب مع عدد قليل من حلفائه أن يشكل حكومة اكتسبت مواصفات الحكومة التي يسيطر عليها الحزب.

إذن، من تأثيرات استفادة حزب الله من مظلة النظام الطائفي السياسي في لبنان، أنها بلغت الذروة، عندما عقد اتفاقيات من جانب واحد مع كل من النظام السوري والنظام الإيراني، كان من خلالها يحصل على الأسلحة والأموال الكافية التي تجعله أقوى أحزاب السلطة في لبنان على الإطلاق. وامتلك من فائض القوة الداخلية ما جعله يمتلك قرار الحرب والسلم مع العدو الصهيوني، يؤقتهما بما يتناسب مع ظروف الصراع بين النظام الإيراني وكل من أميركا والأنظمة العربية المتضررة من تغوُّل نظام الملالي ومشروعه في السيطرة على الوطن العربي. وفائض القوة أيضاً جعله مؤهلاً للتدخل في الشؤون السورية والعراقية واليمنية واللبنانية والفلسطينية. وقد مارس سياسة خارجية تصب بكاملها في مصلحة النظامين المذكورين، وقد كان البوق العالي في بث روح العداوة ضد أخصامهما العرب والدوليين. ولعلَّ الأزمة الاقتصادية التي بلغت ذروتها في النصف الأول من العام 2020، آخذين بالاعتبار فساد نظام الطائفية السياسية، كانت بفعل إثارة العداوات التي أيقظها حزب الله على المستوى العربي والدولي، من أهم أسباب رفع يد المساعدة العربية والدولية عن لبنان. وهي ما أدَّت إلى انهيار الاقتصاد اللبناني بالكامل.

 

ثانياً: انتقال حق الدولة اللبنانية وواجبها في المحافظة على الأمن الداخلي إلى حق للميليشيات.

حصرت المادة 65، الفقرة 2، من الدستور بمجلس الوزراء،  السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على أعمال كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية بلا استثناء.

ودائماً، وكما هي العادة في لبنان في وجود ثغرة كبيرة بين الجانب النظري في القوانين وبين أسباب الامتناع أو الاحتيال في تطبيقها. نصوص للقوانين تصلح لبناء دولة تقوم بواجباتها كما هي الدولة الحديثة، فاستعانتنا بنص الدستور اللبناني لتعريف واجبات الدولة بالنسبة للأمن الداخلي، ليس أكثر من نعي لتلك النصوص التي تغتالها نصوص الميليشيات الطائفية ودورها في تهديد السلم الأهلي كلما اهتزت قواعد المحاصصة التي أرسى قواعدها أمراء الطوائف، أو إذا أراد احدها أن يعيد تأسيسها من جديد كلما امتلك عوامل قوة جديدة يريد الاستفادة منها في تحسين شروط هيمنته على الطوائف الأخرى. ولأن حزب الله امتلك من أسباب القوة في عهد الدخول السوري في لبنان ما لم تمتلكه الطوائف الأخرى، أخذ يميل باتجاه تصحيح قواعد المحاصصة لتصب في مصلحته، والأكثر خطورة من كل ذلك، أنه وضع كل ما أكتسبه من عوامل القوة في خدمة مشروع ولاية الفقيه التوسعية على حساب الوطن العربي، وهذا الأمر فرض عداوات دولية وعربية للبنان، أخذت تلقي بأثقالها الشديدة الوطأة على اللبنانيين.

وإذا ما أضفنا إلى هذا الواقع ما نتج من آثار سلبية جراء الحرب الأهلية التي ابتدأت في العام 1975، على تكوين الأمر الواقع في لبنان. فقد جاء اتفاق الطائف، في العام 1989، برعاية سورية وعربية كانت على توافق معه، هذا بالإضافة إلى استمرار الرعاية الأميركية لذلك الاتفاق، فقد وصل رؤساء الميليشيات الطائفية التي شاركت بالحرب إلى المشاركة ببناء السلطة بعد اتفاق الطائف. هذا علماً أن رؤساء الميليشيات احتلوا المقاعدة السياسية، واحتل مساعدوهم المقاعد الإدارية في المؤسسات الرسمية، وجزء من الميليشيات العسكرية أصبحت جزءاً من مؤسستي الجيش والأمن الداخلي، هذا ناهيك عن أجهزة المخابرات الرسمية على شتى مستوياتها واختصاصاتها، وأما الجزء الباقي من تلك الميليشيات فقد خضع لنظام مساعدتهم مالياً من صناديق أحزابهم الطائفية. وبمثل هذا الواقع ما لا تستطيع الميليشيات من الوصول إلىه بواسطة السلطة الرسمية، فهي تمتلك الاحتياطي الكافي من تلك الميلشيات المسلحة من دون مظاهر، تستخدمها الأحزاب الطائفية في تنفيذ فرض سلطتها ضد كل خارج عن إرادتها.

إنه بلا شك أمن داخلي هش، تستطيع أية ميليشيا أن تهدده. فوحدة الجيش والأجهزة الأمنية رهن بقرار أمراء الطوائف، فهم بستطيعون تقويضها عندما تتناقض مصالحهم. وأصبح قرار السلم الأهلي أو الحرب الأهلية ملك أيديهم.

وماذا عن العراق في ظل الاحتلال؟

وأما في العراق، ولأن الاحتلال الأميركي فرض دستوراً يضمن مصالحه. وعلى الرغم من أن بعض مواده تنص على مفاهيم وطنية في ظواهرها إلاَّ أنها استنتسابية في بواطنها ولا تُعتبر مقياساً لمحاسبة الميليشيات على أساسها، بل علاجها يقتضي اقتلاع عملية الاحتلال من أساسها وتحرير العراق من الاحتلال، الذي يعني تحريره من التبعية للخارج، وتخليصه من مرض النقص في المناعة الوطنية.

 

الخميس، أغسطس 20، 2020

(المفهوم الثاني): سقوط مفهوم الأمن الوطني الواحد، لمصلحة أمن ميليشيات الأحزاب الطائفية

 سلسلة مفاهيم شاذة في معاجم أنظمة الطائفية السياسية (المفهوم الثاني):

سقوط مفهوم الأمن الوطني الواحد، لمصلحة أمن ميليشيات الأحزاب الطائفية

مع الفوارق بالدرجة والوضوح، وليس بالمفهوم النوعي العام، حلَّت ميليشيات الأحزاب الطائفية في كل من لبنان والعراق، محل المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدَّة وأمسكت بالقرار الأمني إلى جانب المؤسسات المشتركة. وقد برز نفوذ الميليشيات في مظهرين أساسيين، وهما:

-المظهر الأول: فرض اعتراف الدولة، مباشرة أو مداورة، بشرعية تلك الميليشيات كأمر واقع. وأصبح لكل ميليشيا أجهزة أمنية واستخباراتية ومواقع تدريب على السلاح، هذا ناهيك عن تخزينه، وبالكميات والنوعيات. وهي ذات صلاحية باستيراد السلاح من الجهة التي تريد.

-المظهر الثاني: كل حزب من أحزاب السلطة الطائفية حصة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، تأمر بتعيينهم من بين أنصارها من الموثوق بولائهم لأحزابها أكثر من ولائها للدولة. وبمثل هذا الوجود يستطيع أي حزب طائفي أن يعرقل أية خطة أمنية أو عسكرية أو حتى مخابراتية لا تتم من دون موافقته عليها. وهذا الوجود هو بمثابة (احصنة طروادة) للأحزاب الطائفية، وهو الأمر الذي يعيق المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدة من تنفيذ أية خطة لها صلة بالمحافظة على السلم الأهلي، أو بحماية حدود الدولة الجغرافية. إذ يصبح هذا السلم على كف عفريت طائفي، إذا تمَّ تجاوز مصالح هذا الحزب أو ذاك. ففي هذه الحالة تستطيع الآحزاب الطائفية لا أن تهدد السلم الأهلي فحسب، وإنما تهدد وحدة تلك المؤسسات أيضاً. وهذا يشكل أحد أشد المخاطر على المؤسسات الرسمية المنوط بها حماية الأمن الداخلي وأمن السلم الأهلي، لأنه إذا عجزت قياداتها تحت ضغط الأحزاب عن إلزام المنتسبين إليها بتنفيذ الأوامر، فسوف تتفتت وقد يتقاتل أبناء المؤسسات الواحدة، وينزلون إلى خنادق متقابلة.

تلك تجربة عرفتها أحداث الحرب الأهلية الدامية التي حصلت في لبنان بعد العام 1975، حينذاك انقسم الجيش اللبناني إلى ألوية طائفية، كل لواء منها محسوب على طائفة يأتمر بأوامر زعمائها، وأصبح أحد أدوات الميليشيات المسلحة يأتمر بأوامر قيادة تلك الميليشيات وبما يضمن مصالحها.

وأما في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، ووكيله الاحتلال الإيراني، فتكاثرت الميليشيات حتى داخل الطائفة الواحدة، وقد عرفت الشيعية السياسية خاصة أكبر عدد من الميليشيات التي أعلنت ولاءها للنظام الإيراني، والتزمت جانب الدفاع عنه شريطة إعطائها الحرية بأعمال السرقة والنهب وفرض الخوات، وتقاسم العائدات مع ذلك النظام. وعن ذلك، كشفت آخر التقارير أن الميليشيات تقاسمت مناطق النفوذ في كل محافظات العراق. تلك الميليشيات حلَّت مكان الدولة، وشكلت دويلات ميليشياوية تدير مؤسسات أمنية وعسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية تحمي سرقتها للثروات الطبيعية والسيطرة على مفاصل الحياة الاقتصادية.

وأما عن تزوير المفاهيم فحدِّث ولا حرج، فقد زعمت تلك الميليشيات أنها وطنية بامتياز خاصة عندما اضطربت العلاقة بين النظام الإيراني وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. حينذاك نُسبت لتلك الميليشيات أنها عضو فيما يسميه النظام الإيراني (محور المقاومة والممانعة) لتطهير الأرض العربية من الوجود الأميركي.

وعن واقع تلك الميليشيات نجد من الضروري إلقاء أضواء خاصة عنها، لما لها من علاقات وثيقة مع أطماع النظام الإيراني في الوطن العربي، وزيادة نفوذ قوته الإقليمية الخاصة في مجرى الصراع الذي يجري تحت اسم مشروع الشرق الأوسط الجديد. وبما له علاقة بتمويل الميليشيات الأخرى في أقطار عربية أخرى غير العراق.

كان الإعلان عن انتساب تلك الميليشيات في العراق وغيره إلى (محور المقاومة والممانعة) المزعوم يشكل غطاء وهمياً لأهداف خطيرة ضد الأمة العربية. ونحن نحسب أن تلك الميليشيات ما كانت لتنتسب إلى ذلك المحور لولا وجود أسباب أخرى، ذات منافع خاصة ومجزية لزعمائها وكوادرها الأساسيين. وتلك الأسباب تعود للدفاع عن مصالح مالية هائلة تحصل عليها قيادات الميليشيات. ومن المفيد التفصيل في بعض وقائعها لما له علاقة بالسؤال القائل: إذا كان ضرع النظام الإيراني قد جفَّ نتيجة الحصار الاقتصادي الأميركي الخانق، فكيف يستطيع هذا النظام تقديم مساعدات لحلفائه وأصدقائه في العراق واليمن وفلسطين وسورية ولبنان؟

بحثاً عن جواب على السؤال، نختصره بنتيجة سريعة نقوم بتفصيل بعض جوانبها. والنتيجة السريعة هي أن (محور الممانعة والمقاومة) تحول إلى محور للمقاولة في العراق وعلى حساب آلام الشعب العراقي ونهب ثرواته الطبيعية، وهذا ما أكدته الوقائع والمعلومات، والتي تدل على ما يلي:

-يشكل الحرس الثوري الإيراني خلية أزمة للتنسيق بين شتى الميليشيات الموالية لنظام ولاية الفقيه يتم استخدام بطاقة Qi Card من قبل شخصيات الميليشيات المدعومة من إيران الذين يديرون مخطط "موظفين أشباح" (فضائيين) على نطاق واسع لسرقة مئات الملايين من الدولارات من الرواتب الحكومية، وقد سُجِّل حوالي 70.000 جندي (فضائي).

-كل ميليشيا لها قيادة تشرف على عملياتها العسكرية والأمنية والاقتصادية وتنظم شؤونها في شتى الحقول. ولعلَّ من أهمها: (عمليات التضليل الروتينية لنقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والاختلاس من الرواتب الحكومية). وغالباً ما تضم الحكومات العراقية (أشخاصاً لهم صلات ببعض أسوأ مشاريع الكسب غير المشروع التي ابتليت بها البلاد). (إن أولويتهم القصوى هي الحفاظ على نظام عراقي يتم فيه بيع كل شيء). (الفساد ليس مجرد مشكلة سياسية أساسية، ولكنه المحرك الأهم لمعظم المشاكل الأمنية). إذ (تبدو الحياة السياسية في العراق وكأنها حرب عصابات، في كل وزارة حكومية، يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب على فصيل أو آخر.( (الفساد هو الطريق الثالث للسياسة العراقية: لمسه يمكن أن يقتلك أنت أو أقاربك بسهولة). (عام 2014، عندما استولى داعش على المدن، كانت النتيجة الرئيسية هي ظهور سلالة جديدة الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش، والمعروفة مجتمعة باسم الحشد الشعبي. والحشد اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة، اعترف رئيس الوزراء حيدر العبادي بها كجزء من قوات الأمن في البلاد، ويتقاضون رواتب منتظمة مثلما يحصل عليه الجنود وضباط الشرطة). ومن أهم تلك الجماعات هي كتائب حزب الله التي (بنت إمبراطورية اقتصادية، من خلال شق طريقها إلى الشركات الشرعية والعقود الحكومية). و(الشركات العادية والبنوك تم طردها من قبل أولئك الذين يدعمون الأحزاب السياسية والميليشيات الرئيسية).

-تسيطر كل ميليشيا على محافظة من محافظات العراق، بحيث تشكل المرجعية الآمرة الناهية في جغرافية سيطرتها، ابتداء من الأمن الداخلي انتهاء بالأمن الاقتصادي، الذي هو الغاية من تشكيلها، وهو تكديس الثروات بالنهب والفساد والخوات، بحيث تتقاسم الأرباح مع قيادة الحرس الثوري الإيراني، ويذهب القسم الضئيل منها إلى أفراد القاعدة الأمنية من جنود ورتباء وقادة مجموعات لتضمن ولاءها وسيطرتها عليها.

-وما وصل من تقارير يدل على أن المساعدات التي تُصرف إلى عملاء نظام ولاية الفقيه في الأقطار العربية تكون نتيجية مساعدتها في تأسيس شركات وهمية بالتعاون مع الميليشيات العراقية تجبي عائداتها لمصلحة تقوية نفوذها في أقطارها. وقد كشفت المعلومات أن حزب الله اللبناني قد حاز على نصيب وفير من عائدات شركاته ومؤسساته في العراق، وخاصة في محافظة البصرة الغنية بالنفط ومرافئ التهريب. هذا ناهيك عن أنه يلتزم تهريب أموال قيادات الميليشيات نقداً إلى لبنان من أجل تبييضها، والتي بلغت كما أشارت التقارير عشرات المليارات من الدولارات. وقد تكشف تقارير لاحقة عن تفاصيل أكثر، وهذا ما يفسِّر مظاهر الغنى الفاحش التي يبدو عليها وضع الحزب المالي في لبنان. وذلك بتقديمه الرواتب المرتفعة في وضع لبنان المالي المنهار، وخاصة في حالة انهيار الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها. كما يفسر الوضع المالي لأنصار حزب الله في لبنان من الذين يستلمون مساعدات مالية بشكل مباشر، أو عبر توفير فرص فتح شركات لهم للمقاولات في العراق.

-بانتظار صدور تقارير أكثر وضوحاً، وأكثر تفصيلاً، قد تنكشف وسائل تمويل أصدقاء نظام ولاية الفقيه في أكثر من قطر عربي، من المرجَّح أن تكون مساعدتهم تتم عن توفير فرص لهم في شركات المقاولات في العراق.

 

 

السبت، أغسطس 15، 2020

-المفهوم الأول: الوحدة الوطنية في مفهوم أحزاب الطائفية السياسية:

 مفاهيم شاذة في معاجم أنظمة الطائفية السياسية (المفهوم الأول)

-المفهوم الأول: الوحدة الوطنية في مفهوم أحزاب الطائفية السياسية:

تمهيد للملف

تؤكد كل دساتير العالم على أن وحدة الأرض والشعب من أساسيات بناء الدولة العصرية. وعلى كل مواطن أو مجموعة واجب المحافظة عليها، والدفاع عنها. وخلافاً لهذا المبدأ نجد في نظام الطائفية السياسية في لبنان، وكذلك في العراق ما بعد الاحتلال، مفاهيم شاذة لا علاقة لها ببناء وطني سليم.

ومن أجل الكشف عن تلك المفاهيم، سنفتتح ملفنا هذا بالنظر ببعض ما استطعنا التقاط فكرته من تلك المفاهيم التي تتناسب مع مصالح أحزاب الطائفية السياسية ولكنها تتناقض تماماً مع مصلحة الوطن ولذلك اعتبرناها شاذة. وهي شاذة فعلاً لأن لكل طائفة من طوائفه مفاهيمها الخاصة حنى ولو تناقضت مع المفاهيم الوطنية.

ولكي نحيط بها كلها لتشكل ثقافة موحَّدة للوطنيين من الرافضين لنظام الطائفية السياسية، نعتبر هذا الملف مفتوحاً أمام كل من يلتقط فكرة حول مفهوم شاذ منها، ولذلك ندعو الأحزاب الوطنية، والكتاب والمثقفين والمفكرين في لبنان من أجل الإسهام في هذه الورشة وذلك من أجل الكشف عن واقع أحزاب النظام الطائفي السياسي ومفاهيمه الشاذة التي يعمل كل حزب منها على تثبيتها على حساب وحدة الثقافة الوطنية.

 

-المفهوم الأول: الوحدة الوطنية في مفهوم أحزاب الطائفية السياسية:

من أهم مفاهيم الدولة الحديثة أن ينقسم المواطنون إلى فئتين: فئة حاكمة، وفئة معارضة. تلك معادلة تفرضها الأعراف والقواعد الديموقراطية. تتسلم الحكم فيه أكثرية نيابية حازت على أكثرية المقاعد في المجلس النيابي. ولها وحدها صلاحية الحكم في شؤون الدولة الداخلية والخارجية. ويكون من صلاحية المعارضة أن تراقب وتعلن رأيها في كل ما يصدر عن الحكومة من قرارات. ولا تُسمى أية حكومة بأنها (حكومة وحدة وطنية) إلاَّ في حالات الطوارئ القصوى لمواجهة حدث طبيعي أو بيئي أو أمني.

وأما في لبنان والعراق، القطران المحكومان بنظام الطائفية السياسية، فتختلف المقاييس التي تُصاغ بها مفاهيم (حكومة الوحدة الوطنية)، وتحلُّ بها مقاييس مصالح الطوائف بدلاً من المقاييس الوطنية الجامعة. وفي تشكيلها تعتمد الأحزاب الطائفية الممثلة في المجلس النيابي مبدأ توزيع المقاعد الحكومية بين تلك الأحزاب. ولذلك على رئيس الحكومة المكلَّف أن يمثَّل في حكومته جميع المكونات الطائفية باعتماد مبدأ (مقاييس توزيع الحصص على الطوائف). ولذلك فلا يمكن أن تمر أية حكومة لا تعتمد تلك المقاييس. وإذا حصل العكس من ذلك، ترتفع أصوات من لم يتمثل فيها بالاعتراض والاتهام بأنها ليست حكومة لـ(الوحدة الوطنية).

إن مفهوم الوحدة الوطنية في هذين النظامين، لا شكَّ بأنه مفهوم شاذ. لأن العدالة في هذا المفهوم لا يقوم على أساس الكفاءة والنزاهة، والعدالة والمساواة بإعطاء كل المواطنين فرصاً متساوية في حق التمثيل النيابي أو الحكومي، أي أن تختار الحكومة لإدارة الدولة من هو أكثر كفاءة في حقله وأكثر نزاهة بعيداً عن مقاييس التمثيل الطائفي. وبدلاً من ذلك تلتزم (حكومة المحاصصة الطائفية)، التي زعموا أنها (حكومة وحدة وطنية)، بتوزيع المسؤوليات حسب التمثيل الطائفي، حتى ولو كان ممثلو الطائفة أقل كفاءة ونزاهة من غيرهم من الطوائف الأخرى.

وعن هذا، والأكثر شذوذاً هو أن يتم اختيار ممثلي الطوائف في مؤسسات الدولة، السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية، من قبل الحلف المعقود بين الأقلية السياسية الحاكمة والمؤسسات الدينية المتحالفة معها، بحيث لا يحظى بالوصول إلى وظيفة إدارية أو سياسية من لا يرضى عنه ذلك التحالف. وبهذا الامتياز يبقى من الصعب اختراق صفوف الطبقة الحاكمة لأنها تتحكم بمفاصل الدولة من أكبرها وصولاً لأصغرها. وحيث إن الأقليات الحاكمة للأحزاب الطائفية تشارك كلها بالحكم، لن تجد معارضة جدية في ظل هكذا نظام، وتتحول الحكومات إلى نسخة مصغَّرة عن المجلس النيابي. وبدلاً من أن يشكَّل المجلس سلطة رقابية على أداء الحكومة فإنه يتحوَّل إلى سلطة تغطي على الحكومات أداءها السيء، وبمثل هذا الدور تختفي المعارضة وأهميتها في تشكيل رقابة على الحكومة.

واستناداً إلى هذا الواقع أصبح مفهوم (حكومة الوحدة الوطنية) من مهازل نظام الطائفية السياسية. وارتكبت أبشع الجرائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحق الشعب اللبناني. وما المشهد الذي يظهر به لبنان في هذه المرحلة سوى أكبر تلك المهازل، وهو من النتائج البارزة التي أظهرت كم أصبح مفهوم الوحدة الوطنية هشاً ومزوراً وشاذاً في مكاييل حكم الطوائف. ولأن كل طائفة تأتمر بقرارات الدول الخارجية المرتبطة بها وبمصالحها تحولت ما تُسمى بـ(حكومة الوحدة الوطنية في لبنان) إلى حكومات الارتهان إلى إرادة الخارج ومصالحه.

وكذلك الحال في العراق، لا يصل إلى المجلس النيابي أو إلى توزيره في الحكومة كل من ليس مدعوماً من حزب طائفي. ولن يصل أي حزب طائفي إلى المجلس النيابي أو يتمثَّل في الحكومة إلاَّ من كان مدعوماً من قوة خارجية. ولأن قوة التأثير قبل العام 2011 كان للحاكم العسكري الأميركي كان الرضى الأميركي هو كلمة السر لوصول من يريد أن يصل إلى الحكم والإدارة. وبعد العام 2011 تحول التأثير للحاكم المخابراتي الإيراني، أصبح رضاه يشكل المفتاح للوصول إلى السلطة السياسية أو للسلطة الإدارية في المؤسسات. ولأن كل الميليشيات الفالتة في العراق تحوز على رضى القوة الخارجية المؤثرة، ولأن كل ميليشيا طائفية لها الحق بأن تتمثل في المجلس النيابي أو في الحكومة، تحول مفهوم (حكومة الوحدة الوطنية) إلى مفهوم شاذ يشارك فيها كل من ارتضى أن يتنازل عن قرار بلاده المستقل والخضوع إلى إرادة وقرارات القوة الخارجية المهيمنة.

وإنه عن هذا المفهوم نتج الكثير من المفاهيم الشاذة الأخرى التي سنضعها تحت مناخل النقد والكشف عن مساوئها ومخاطرها ليس على مستوى علاقة الحكم مع المواطن في لبنان والعراق في الشؤون الداخلية فحسب، وإنما ستتكشف الكثير من الجرائم على مستوى علاقة كل من الدولة اللبنانية والعراقية مع الدول الخارجية أيضاً.

وأما المفاهيم التي سننشرها تباعاً، فهي التالية:

-المفهوم الأول: الوحدة الوطنية في مفهوم أحزاب الطائفية السياسية:

-المفهوم الثاني:  سقوط مفهوم الأمن الوطني الواحد، لمصلحة ميليشيات الأحزاب الطائفية .

-المفهوم الثالث: مصادرة حق الدولة في عقد الاتفاقيات مع دول خارجية والمحافظة على وحدة المؤسسات الأمنية.

-المفهوم الرابع: في الكوارث الوطنية الكبرى تحل صناديق الإغاثة الطائفية بديلاً للصندوق الوطني الجامع:

-

 

                     

 

الاثنين، أغسطس 10، 2020

بعد أن أفلت مشروع الشرق الأوسط الجديد عفاريت الدول الإقليمية

 بعد أن أفلت مشروع الشرق الأوسط الجديد عفاريت الدول الإقليمية

في العام 2011، وبعد انطلاقة مشروع الشرق الأوسط الجديد مستغلة انتفاضات الشعب العربي التي انطلقت من تونس، وتحت دخانها، راحت الإدارة الأميركية تعمل على تنفيذ مشروعها التفتيتي للوطن العربي، تحت الإشراف المباشر للصهيوني هنري برنار ليفي، الذي عرَّف الإعلام عنه بأنه (مهندس الربيع العربي).

ومنذ أن استفاقت الدولة الروسية على خطورة ذلك المشروع لأنه يستهدف اقتلاعها من المنطقة العربية، راحت تعمل على إفشاله بداية باستخدام حق النقض ضد مشروع قرار لمجلس الأمن سوَّقته الإدارة الأميركية تحت غطاء (حماية المدنيين السوريين) حينها صرح الرئيس بوتين، قائلاً: (لقد خُدعنا في ليبيا، ولن نخدع مرة أخرى في سورية).

منذ تلك اللحظة علق منشار المشروع المذكور في عقدة النجار في سورية، فتأجلَّ تنفيذه، ولو بعد تدمير هائل تعرَّضت له الدولة السورية. ومن الواضح، أن تراجع ذلك المشروع كان انتظاراً لظهور فرصة مناسبة أخرى أمام التحالف الأميركي - الصهيوني. ولكن انطلاقة المشروع فتحت شهية دول الإقليم المجاورة للوطن العربي فوجدت أن التراجع عن التنفيذ قد يُغلق الأبواب أمامها ولن تجد فرصة أخرى خاصة أن الوهن قد أصاب أقطار الوطن العربي، بحيث راح كل منها يلعق جراحه ويفتش عن مخرج ليداويها.

وخلال فترة التأجيل الأميركي الصهيوني، ربما لمعالجة الثغرات في التنفيذ، ومن أهم تلك الثغرات أن النتائج أخذت تصب في مصلحة الدولتين الإقليميتين، إيران وتركيا، وذلك بسبب تقدمهما عليه بنقاط نوعية تتمثل باستطاعتهما إيجاد حواضن شعبية واسعة في الأوساط الطائفية في الأقطار العربية، يوفرها كل من تنظيمات ولاية الفقيه والإخوان المسلمين. ولذلك رست صورة المشهد في مرحلة الترقب الأميركي الصهيوني، على الشكل التالي:

-في الجانب الإيراني: حصَّل الجانب الإيراني في مرحلة تنفيذ المشروع على مكاسب خلال تسع سنوات ما عجز عنه المشروع الأميركي الصهيوني طوال عشرات السنين. ولعلَّ أكثر تلك المكاسب وضوحاً وقوة، الاستيلاء شبه الكامل على العراق، وعلى الجانب الأهم في القرار السوري بعد القرار الروسي. وفي لبنان استطاع تشكيل حكومة من لون واحد تمسك بالقرار اللبناني. وفي اليمن عرقل أي مشروع عربي لحل القضية اليمنية وسيطر على المساحة الجغرافية الأكبر، ومعظم الحجم السكاني فيه. وسيطر على نصف القرار الفلسطيني المتمثل بدعمه لحركة حماس في غزة.

وبسبب استئثاره بمعظم ما تمخَّض عنه المشروع من نتائج إيجابية، أصاب العلاقات الأميركية الإيرانية بعض الارتباك، الأمر الذي دفع بالنظام للتمسك بقوة بما حصل عليه من نتائج، خاصة أنه راح يبني آمالاً على استكمال مشروعه الخاص، ووصل به فائض القوة التي امتلكها إلى الشعور بأنه يمكنه مواجهة حليفه. فحصل الاشتباك على قواعد اقتصادية ناعمة، لم تُثنه عن المواجهة. وهي لا تزال مستمرة بينهما ولكن بطرق لا تطال سوى القشرة بالاشتباك الذي ظاهره عسكرياً، وباطنه طريقة العض على الأصابع التي يخسر فيها من يصرخ أولاً.

 

-في الجانب التركي: بعد أن تعرقل تنفيذ المشروع على الأرض السورية، وإسقاط نظام الإخوان المسلمين في تونس ومصر، وأخيراً في السودان. والقسم الأكبر منه في ليبيا، أصاب نظام أردوغان الخوف من أن يخسر كل أوراق القوة التي كسبها في المراحل الأولى لتنفيذ المشروع. ويظهر أنه استغلَّ فترة الإرباك في القرار الأميركي في مرحلة انشغال إدارة ترمب بالانتخابات الأميركية، فأخذ يشحذ سلاحه من أجل العمل على تنفيذ ما عجز عن تنفيذه في مرحلة ما بعد العام 2011. ويكون من المفترض أنه أراد أن يستغل أوراق قوته التي كانت لا تزال كامنة في الزوايا التالية:

-علاقته المتينة مع حكومة السراج، خاصة أنها تعتمد في قوتها على تنظيمات الإخوان المسلمين الإرهابية التي تسيطر على طرابلس العاصمة، وذلك استباقاً لمتغيرات جذرية قد تحدثها حركة الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر. فاستند إليها في إعادة السيطرة على ليبيا كلها بعد أن استطاعت حركة حفتر منذ العام 2014 تحقيق متغيرات وازنة على الساحة الليبية.

-لا تزال حركة النهضة في تونس تحافظ على حيويتها وأوراق قوتها الشعبية على الرغم من إسقاط حكوتها ذات اللون الواحد. وهي جاهزة للاستفادة مما قد يحصل عليه حليفها التركي من مكاسب على الأرض الليبية.

-على الرغم من إسقاط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وتراجع مسروعها في مصر، إلاَّ أن جمر تأثيرهم لا يزال كامناً تحت الرماد، فهي تنتظر أي تغيير قد يحصل في ليبيا لتلتقطه وتعيد بناء مشروعها في مصر من جديد.

-وفي السودان، وعلى الرغم من إسقاط نظام البشير المتحالف مع الإخوان المسلمين، فإن حاضنتهم الشعبية لا تزال على قيد الحياة، وقد تقوم بحركة صحوة جديدة إذا ما حصلت متغيرات في المحيط العربي للسودان.

-وأما في سورية، وفي ظل التواجد الروسي الاستراتيجي في سورية، ظلَّ نظام أردوغان، وسيبقى شريكاً في القرار السوري، وهذا ما سوف تحافظ إدارة بوتين علىه طالما تخشى من استعادة استقطابه من قبل الإدارة الأميركية.

إذن استعادة النظام التركي دوره في إحياء تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد يصبح مفهوماً من خلال توظيف أوراق القوة التي يمتلكها بمعزل عن الإدارة الأميركية صاحب المشروع الأساس. وهو قد بدأ بالتنفيذ ابتداء من ليبيا، في مرحلة تُعتبر فيها الإدارة الأميركية في أضعف حالاتها.

 

إعادة تنفيذ المشروع بواجهات إقليمية:

بعد أن كان المشروع يُنفَّذ بواجهة وقيادة أميركية صهيونية، ظهرت الفرصة الثانية في هذه المرحلة، بوجه إقليمي تقوده تركيا. وما زخم التدخل التركي وحجمه الآن على الأرض الليبية سوى البداية.

كانت الواجهة الأميركية الصهيونية عند بداية تنفيذ المشروع في العام 2011، تستفز المشاعر العربية والإسلامية، ولولا المشاركة الإيرانية والتركية لما كان تنفيذه ليستقطب قبولاً لما تمثِّله الواجهة الأميركية الصهيوتية من قبح يستفز المشاعر الشعبية. ولهذا السبب كانت المشاركة الإيرانية والتركية تشكل خطورة أكبر على الوضع العربي لأنها تتميز بتوفير عاملين أساسيين لا تتوفر لنسخة المشروع الأميركي الصهيوني، وهما:

-يتمثَّل العامل الأول بالحاضنة الشعبية التي يوفرها نظام ولاية الفقيه في إيران في قطاع واسع من الشرائح الشيعية في الوطن العربي. وتلك التي يوفرها نظام الإخوان المسلمين في تركيا في قطاع واسع من الشرائح السنية فيه.

-والعامل الثاني يتمثَّل بالتجاور الجغرافي، وهو وجود إيران على البوابة الشرقية للوطن العربي، ووجود تركيا على بوابته الشمالية. وهو ما يضمن الإمداد اللوجستي العسكري لهما في مشروعهما لاستقطاع حصة كل منهما من الأرض العربية.

نجاح تنفيذ المشروع مضمون بائتلاف دولي إقليمي:

وإذا كان من غير الممكن أن يتم تنفيذ المشروع بنسخته الأميركية الصهيونية من دون إسناد ومشاركة إقليمية؛ فإنه أيضاً لا يمكن تنفيذه بنسخته الإقليمية من دون رعاية أميركية صهيونية. ولهذه الأسباب لا نرى موجباً لفصل النسختين عن بعضهما، بل هما متكاملتان وتصبان في نتيجة واحدة، وهو إعادة تفتيت الوطن العربي وتقسيمه حصصاً بينهم. ولكل تلك الأسباب أيضاً، نحسب أن تنفيذ المشروع  تنفيذهبدأ بواجهات إقليمية، ودعم ومساندة أميركية صهيونية. ومن أهم مظاهرها ثلاثة أشكال:

-الشكل الأميركي الذي يعتبر أن منع وحدة الأمة العربية، وفرض التفتيت والتقسيم ونشر التخلف، من أهدافه الاستراتيجية منذ مؤتمر كامبل بانرمان (1905 1907).

-والشكل الإيراني، بأهدافه التاريخية والأيديولوجية، والذي ازدادت وتيرة تنفيذه سرعة وقوة بعد استلامه العراق من قبل الإدارة الأميركية في العام 2011.

-وأما الشكل التركي، بأهدافه التاريخية والأيديولوجية أيضاً، والذي كاد يُصاب بالهزيمة بعد أن أفلس بإخضاع الساحة السورية، فراح يلتف على فشله من خارج تلك الساحة، ولجأ إلى البوابة الليبية، حيث هي مؤهلة للانفتاح أمامه بواسطة حكومة السراج المدعومة بالميليشيات الإرهابية التي تربطها أصلاً بحكومة أردوغان روابط عقيدية وثيقة.

وما الخلافات التي تحصل أحياناً بين أشكال التنفيذ الثلاثة لا علاقة لها بجوهر الأهداف، وإنما بقشور المتغيرات التي تحصل من هنا أو هناك. ولهذا يتم توزيع الأدوار دائماً ويبقى الهدف واحداً.

كل الأدوار في تنفيذ المشروع تصب في خدمة الملك كما في لعبة الشطرنج:

وبناء على معادلة التكامل بين الأطماع الدولية والإقليمية، تنقسم لعبة الشطرنج إلى أربعة أدوار، تتوزَّع بين الملك والوزير والقلعة والفيل وعموم البيادق، وكان مبتكر اللعبة قد حدد دور كل منها. وللمقاربة بين أصولها وأصول الأرضية السياسية التي تدور عليها أحداث اللعبة، فنرى التالي:

1-الملكان: الثنائية في الصراع الدولي، بين المعسكرين: الأميركي وحلفاؤه من الدول الكبرى. والروسي وحلفاؤه من الدول الكبرى أيضاً.

2-الوزيران: ويمثلهما الدولتان الإقليميتان الأساسيتان تركيا وإيران.

3-القلعتان والفيلان: ويمثلهما بعض العرب عملاء الملكين والوزيرين، ويأتي في المقدمة منهم حركات الإسلام السياسي: مشروع ولاية الفقيه، ومشروع الإخوان المسلمين.

4-البيادق: عامة الناس من الطائفيين المنفعلين بالمشروعين الإسلاميين السياسيين. وهم عادة ما يكونون من المنفعلين بالوباء الطائفي، أو من المستفيدين من بعض مساعدات لا تكاد تدرأ عنهم جوعاً أو مرضاً.

تسلسلاً تصاعدياً، ينحصر دور البيادق، وهم من الحاضنة الشعبية للطائفيين، في حماية العملاء، ويأتمرون بأمرهم وهم من المحسوبين على الهوية العربية، ويلعبون دور (أحصنة طروادة) الذين تمَّ توظيفهم لاختراق أمن الدول التي ينتمون إليها. ووظيفة أحصنة طروادة (حركات الإسلام السياسي) أن يقوموا بحماية الوزراء، وهما النظام الإيرني والتركي. ودور الوزراء (التركي والإيراني) حماية الملكين (الغربي والشرقي). وإذا انتهت اللعبة فسيبقى الملك، وتكون النتائج في أن تدفع القلعة والفيل والبيادق، الثمن ولن يخسر الملك شيئاً. وبهذا يكون المشروع الأميركي الصهيوني قد وظَّف العاملين الإيراني والتركي في خدمة المشروع الأم، مشروع الشرق الأوسط الجديد.

 

وأما لماذا يتجددَّ تنفيذ المشروع بواجهة تركية بعد عرقلته لسنوات طويلة؟

لقد كسب النظام الإيراني كل شيء، ولم يدفع شيئاً. وكاد النظام التركي يخسر كل شيء بعد أن دفع الشيء الكثير. ومن أجل حفظ التوازن بالحصص في تقسيم الوطن العربي، راح النظام التركي يفتح بوابات أخرى للعودة إلى ميدان التنافس من أجل استعادة حلم تم تقويضه في الهلال الذي رُسمت معالمه في بدايات تنفيذ المشروع التفتيتي.

أصبح من الواضح أن مشروع الشرق الأوسط الجديد، تفرَّع إلى ثلاثة مشاريع متقاربة النوايا والأهداف، يتم تنفيذها بأدوات عربية وعلى الأرض العربية، يدفع فيها الثمن (البيادق العربية) تحت قيادة وتحريض حركات الإسلام السياسي. تلك الحركات التي تدعم وتساند وتقبل كل دعم ومساندة حتى ولو كانت مصادرها من التحالف الأميركي الصهيوني.

وإن ما يجب الإشارة إليه، إنه وإن تناقضت مسارات المشاريع الثلاثة في بعض المراحل، كما هو حاصل الآن، فإن تفتيت الوطن العربي هو النتيجة المؤكدة. وإن ما يظهر الآن من تناقضات بين المشاريع الثلاثة، هو حول نسبة الحصص. ولأن المشروع الأميركي الصهيوني هو المشروع الأم الذي أيقظ المشاريع الإقليمية من سباتها، فهو لن يرضى على الإطلاق أن تستفرد أية قوة إقليمية بحصة نظيفة من جسد الوطن العربي ما لم تكن تحت سقف خيمته وإشرافه ورهناً لقراره. وهذا ما تؤكده شروط لعبة الشطرنج، التي تحصر مهمة جميع الأحجار بحماية الملك. ولذلك وإن استفاقت النزعات التاريخية الفارسية والتركية، الشيعية والسنية، فغير مسموح لأي إمبراطورية، أو شبه إمبراطورية، أن تقصي المصالح الغربية الصهيونية وتتجاهلها. تلك المصالح التي من أجلها اندلعت حربان عالميتان أكلت أخضر العالم ويباسه من أجل إسقاط أية قوة في المنطقة العربية لا تخضع لنفوذهما، ومن غير المسموح لأية سحابة أن تمطر خارج أرض الإمبراطورية الغربية الصهيونية. وعلى الجميع أن يعملوا لحماية ذلك الملك، الذي لا يستطيع أن يرى أية قوة تعمل خارج خيمته. وهذا ما يدفعنا إلى توجيه التساؤل للدولتين الإقليميتن، إيران وتركيا، إلى متى تركبهما أحلام سرابية غير قابلة للحياة. وإلى دعوتهما إلى الخروج من سرابية تلك الأوهام، وإعادة تقييم ما ارتكباه من أخطاء في حق جيرانهم العرب. ودعوتهما إلى الاتزان والعقل ووعي حقيقة ثابتة تنص على أنه لا يمكن لأية قوة في العالم أن تنال من أمنهما طالما محيطهما العربي محصناً ضد الاختراق، وإنه لا يمكن لأية قوة في العالم تستطيع اختراق أمن أقطار الوطن العربي طالما كانت محمية بجدران إقليمية محصنة ضد اختراقها.

دق ناقوس الخطر إلى من أصيبوا بعمى الأوهام

كما أصبح من الواضح أن النظام العربي الرسمي تنازل عن سيادته للقرار الوطني، وعمل على تلزيمه للتحالف الاستعماري الصهيوني الأم، ووزَّع ولاءه بين هذه الدولة الإقليمية وتلك. ومن المؤسف حقاً أن بعض هذا النظام كان يدفع نفقات التنفيذ المالية. كما من المؤسف حقاً أن يدفع الشعب العربي نفقات الأرواح والدمار.

إن هذا الوضوح في وقائع الأمور، وإن كان مريراً، وحتى شديد المرارة يجب أن لا يدفع لليأس، لأن في الأمة من لا يزال يمسك رباطة الجأش والعزيمة على الاستمرار في مقاومة أكثر المشاريع استهدافاً لوجود الوطن العربي. إنها ثورة الشباب المستمرة التي ابتدأت طلائعها تظهر في القطر الليبي منذ العام 2018، وفي السودان منذ أواخر العام 2018، وكذلك في الجزائر. ويتم تتويجهما بثورة الشباب في العراق في أول تشرين الأول من العام 2019، وانتفاضة الشباب في لبنان في 17 تشرين الأول 2019. هذا ناهيك عن استمرار الثورة الفلسطينية في حراكها المتعدد الوسائل.

إنها إشعاعات الأمل التي لن تنطفئ مهما ادلهمَّ الظلام. إنها الجرس الذي لا بُدَّ من أن يخترق آذان الأنظمة العربية الصماء. إنه الناقوس الذي لا بدَّ من أن يُنذر دول الجوار العربي بأن أحلامهم ليست مشروعة، بل ما هو مشروع هو عودتهم عن غيٍّهم والإيمان بأن أمن الوطن العربي هو الضمان الحقيقي لأمنهم.

الثلاثاء، أغسطس 04، 2020

كما اللون الأبيض انعدام للون فإن الشر هو انعدام لفعل الخير

من سلسلة مقالات (اجوبة صادمة)
 كما اللون الأبيض انعدام للون فإن الشر هو انعدام لفعل الخير
 فكرة الله، احترام للذات البشرية: 
 بين من يعتقد بوجود إله خلق الكون وسيبقى الكون خالداً بإرادة هذا الإله، ومن يعتقدون أن الكون خلق من عدم، ومصيره العدم. يبقى الاعتقادان نظرية غيبية مجرَّدة قائمة على الافتراض والاستقراء والاستنتاج. وهنا يتساوى الاعتقادان بإمكانية الإصابة والإخفاق. ولذلك لا يستطيع أي منهما أن يدحض بيقين أسباب الآخر باعتقاده طالما استند الإثنان إلى القواعد الغيبية في تفسير ما توصلوا إليه. ولهذا ليس هناك كافر ومؤمن. فكل منهما كافر من وجهة نظر الآخر. والأمر كذلك، فليؤمن من يشاء، وليكفر من يشاء. أما نحن فنرى التمييز بين الاعتقادين، بأننا ننحاز إلى جانب المقولة المنطقية التي تقول: (لا معلول من دون علة). منطلقاً من هذا الاعتقاد، ومستنداً إليه، وإن كان مبنياً على نرجسية بشرية، أقول: بأنه لن يتساوى مصير الحجر والشجر والحيوان مع مصير الإنسان. وإذا كان العدم مصير كل من هذه الموجودات فهذا ليس مصير الإنسان لأنه يُعتبر سيدها على الكرة الأرضية، والدلائل والبراهين العيانية على ما نقول به، أكثر من أن تحصى. ويكفي الإنسان أنه يستطيع أن يُسخِّرها جميعها لخدمته. وأما لماذا الإنسان يتميَّز بما ذكرنا، فلأنه يمتلك مقدرة عاقلة، تدل تجارب التاريخ وتطور الحضارة البشرية على تلك المقدرة. فمسار الحضارة والتطور البشري يتصاعد بشكل يثير الدهشة والإعجاب. وهي تصل إلى مستوى التطور التصاعدي الهائل. إن المقدرة العاقلة عند الإنسان جزء من ذات الله الذي خلقها على غاية من التعقيد مما يعجز أحياناً عقل الإنسان على إدراكها. ووهبها المقدرة على التطور التصاعدي. وهذا ما يفسِّر النقلات النوعية فيها على شتى الصعد. وإذا كانت الحضارة المادية قد تصاعدت بهذا الشكل الهائل، والتي فيها تسود النزعة المادية على ما عداها من النزعات النفسية والروحية، فهذا يفسِّر لنا مدى خطورة الافتراق بين التطورين، ومدى خطورة غياب التوازن بينهما، الذي إذا ما اختلَّ فسوف تعاني البشرية من آثارها البشعة على مستقبلها الأقرب فالأبعد. لقد حاولت الأديان أن تردم الهوة بين التطورين، ولكنها فشلت وضلَّت الطريق لأنها استخدمت مقاييس البشر المادية في تهذيب النفس والروح، وحصرت وسائلها بالعبادات دون غيرها من العناية بتربية النفس والروح تساوقاً مع سموها وتعقيدها. ولعلَّ أخطر تلك الوسائل عند الأديان، هي الزلفى إلى الله لأنها تعتبره الأقوى؛ وتعتقد بذلك، كما لو كان الله إنساناً نرجسياً ترضيه الأدعية والصلوت والعبادات، والله أبعد ما يكون عن ذلك. ولعلَّ أهم تلك المعضلات، كانت مسألة خلق الأفعال، إذ أخطأ الذين ينسبونها إلى الله، والاعتراف بقدر الله ومشيئته، ونكران مقدرته على أن يهب الإنسان حرية اختيار أفعاله. فإذا حصل خير من الأفعال فهي بفضل من الله، وإذا حصل شر فبقدر مكتوب منه. وعلى الرغم من ذلك تقوم بتحميل الإنسان وزر ما يحصل، على فرضية أن الله سيحاسب البشر على نتائج تلك الأفعال؛ فالعقاب لمن يخطئ، والثواب لمن يصيب. إشكالية العلاقة بين الخير والشر: ليس الشر كما هو معروف عنه أنه متلازم لثنائية (الخير والشر)، وهو ليس نزعة قائمة بذاتها، بل هو انعدام لوجود شيء آخر، وهو انعدام الخير. الله الذي نؤمن به، كما نعتقد، لم يخلق في الإنسان نزعتين، نزعة الخير ونزعة الشر، بل هو خلق نزعة الخير فقط، ومن لم يمارس تلك النزعة فكأنه يعمل شراً. فعمل الخير، إذن، هو الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها. أي حضَّ الله البشر على القيام بأفعال الخير من أجل سعادتهم، فمن فعل خيراً فلنفسه ومن أجل سعادته، ومن خالف هذه النزعة فكأنه يمتنع عن فعل ما يصب في توفير تلك السعادة، وهذا ما تمَّ الاصطلاع عليه بـ(فعل الشر). تلك فرضية اقتضى قولنا بها أسباب ووقائع ونتائج استنباطية زوَّدتنا ببراهين للدفاع عنها. وهذا ما سوف ندرسه في هذه المقالة. أولاً، وقبل أي شيء آخر، نرى أن ما نبحث عنه، هو من المقولات الغيبية الماورائية. ففكرة الله استنتاجية واستنباطية تعود أصولها إلى البحث عن وجود قوة تفوق قوة البشر، لا بل تقهرها. والبحث عن فرضية وجود خالق للكون. وتراوحت الفرضيات بين وجود الله أم عدم وجوده. ولأن فكرة الله ما ورائية، فهي لا تتساوى مع مستوى الواقع العياني الملموس أو المنظور أو المحسوس، بل ترقى إلى مستوى المنطق النظري البرهاني المجرد. ولهذا نعتبر أن المسألة المطروحة مسألة قديمة تعود أصولها إلى أول محاولة للعقل البشري انكبت على البحث في فكرة الله، وتعود جذورها إلى متلازمة (العلة والمعلول)، أي أنه لا بد لأي موجود مصنوع من وجود صانع له. فالكون الواسع بكل تفريعاته وتعقيداته لا يمكن أن يُخلق من عدم، ولا بُدَّ من وجود صانع له. فكانت فكرة وجود (العلة الأولى) التي اصطلح على تسميتها باسم (الله). واستتبع وجود هذا البرهان العقلي، البحث في وجود الإنسان ومصيره قبل الموت كواقع عياني، ومصيره بعد الموت كافتراض ما ورائي غير منظور أو ملموس. ولهذا ابتكر الإنسان وجود (فكرة الله)، واعتبر أنه مخلوق من مخلوقاته. ولأن الإنسان يمثل الوجود العاقل على هذه الأرض، فهو يشكل محور هذا الكون المنظور (الكرة الأرضية). ولأن ظاهرة الموت استدعت وجود أسئلة عن مصير الإنسان بعد الموت، اكتنز تاريخ العقل البشري الكثير من الأسئلة المعقَّدة التي وجد أن البحث عن أجوبة لها مهمة عسيرة وأكثر تعقيداً ولكنه لم يستسلم بل ظل مستمراً في البحث عنها على الرغم من أنه لم يجد حتى الآن براهين عيانية تقنع الأكثر تفكيراً عقلانياً، وكذلك الأكثر سطحية. فالبراهين العيانية جامع مشترك بين المستويين. ومن بين أهم تلك الإشكاليات، أمام من يبحث عن مصيره بعد الموت، كانت إشكالية الحساب بعد الموت. وقد ساد حتى الآن عند من يعتقدون بوجود إله، ووجود حساب بعد الموت، أن من فعل خيراً سوى يلقى حساباً يؤدي إلى خلاص نفسه ودخولها إلى الجنة. وإن من فعل شراً سوف يلقى حساباً يؤدي إلى دخول نفسه إلى النار. تلك الإشكالية قادت إلى إشكالية أخرى تتلازم معها، هي السؤال عمن خلق تلك الأفعال التي يتم محاسبة الأنفس عنها. هل هي من خلق الله، أم هي من خلق الإنسان. وتلك، بلا شك، كانت من أهم المعضلات التي واجهت الفكر الديني في شتى مراحل ظواهره. وما زالت تشكل حتى الآن المعضلة الأهم، والأكثر جذباً لحركة العقل البشري. والتي منها انبثقت ما تُسمى بـ(ثنائية الخير والشر). ترابط خلق الأفعال بفكرة الخضوع والسيطرة: تعود أصول خلق الأفعال إلى بداية العلاقة بين القوي والضعيف. القوي الذي يمتلك المواد الأولية التي لا يمكن للحياة أن تستمر بدونها. فالطفل الوليد بحاجة إلى قوة الأب الذي يوفر الغذاء، وقوة الأم التي تحضن الأطفال. والأب بحاجة إلى مساعدة توفرها قوى أكثر مقدرة منه. وهكذا تتكامل الحياة البشرية بوجود من يملك، ووجود من لا يملك. فالذي يملك هو الأقوى، والذي لا يملك هو الأضعف. وبدلاً من وجود حالة التكامل والتبادل بالخدمات فقد سادت فكرة الخضوع والسيطرة. وهذه الفكرة عزَّزت نزعة الخاضع إلى كسب رضى الأقوى، ونزعة الأقوى للسيطرة على من هم بحاجة إليه. وكانت النزعتان مرتبطتين بمسألة خلق الأفعال. فكانت البدايات المعرفية تقوم على أن الأقوى هو من يخلق الأفعال، وهو الذي يحاسب الآخرين ليستحوذ على إرادتهم ويضمن خضوعهم له، وطلب رضاه. فطاعته خير، والتمرد عليه شر. واستناداً إلى هذه البدايات المعرفية، نسبت بعض الدعوات، وخاصة الدينية منها، خلق الأفعال إلى الله، وكأنها تعيد المقولة المعرفية بأن الله هو الذي خلق الأفعال بالبشر ويحاسبهم عليها تماماً كما كانت خاضعة لمقولة العلاقة بين الإنسان المسيطر والإنسان الخاضع؛ فالمسيطر له الحق في كل ما يفعله لأنه لم تكن سيطرته خاضعة إلى أي قيد من القيود، يتصرف تجاه الضعيف كمالك له مثله كمثل أية مادة أخرى يستطيع امتلاكها. ولا ضير أن يحاسبهم على أفعال لم يصنعوها، وذلك ترابطاً مع نزعة السيطرة التي يتميز بها الأقوى بين البشر. فهو من يملك قوة فعل كل شيء، وفي ما يفعله الخير كله، وفي ما يرفضه الشر كله. استناداً إلى التجربة الإنسانية العيانية المعاشة، ابتدأ تكوين المعرفة الدينية، فاعتبرت أن الله القادر الوحيد والأقوى، شبيهاً بالإنسان القوي القادر، وأضفت عليه صفات إنسانية يمارسها القادر من بين البشر، ولنسمه (الحاكم، أو المالك). وتلك مواقع بشرية يستخدم فيها سلطته للهيمنة والسيطرة على غيره من البشر ممن هم بحاجة إليه. يهب الطعام لمن يشكر، ويحجبه عمن يتمرد على الأوامر. ويمارس الضعفاء دور المسكين المحتاج لأعطيات الأقوى، ولا ضير من أن يقدموا إليه فروض الطاعة والخضوع لنيل الرضى والمغفرة. بينما الله خالق الكون، كما نعتقد به، خلق الإنسان ليس ليكون عبداً، بل خلقه ليكون حراً مسؤولاً عن أفعاله. هذا هو الله، الذي لا يحتاج إلى عبودية ولا شكر، بل هو يمثل دور قيم الأبوة والأمومة. وبحيث كانت تلك القيم من قيم الله، فكما أن الأب والأم لا يحتاجا إلى شكر من أولادهما، ويمتنعان عن عقابهم مهما كانت الأسباب، فكذلك هو الله الذي خلق تلك القيم. وأما عن السؤال عما إذا كان المخطئ والمصيب يتساويان في الحساب، فلنترك هذا الأمر لأننا لن نصل منه إلى أية نتيجة طالما ظلَّت تخضع لأسباب غيبية. وبدلاً من ذلك، لنتفرَّغ إلى استكناه ما نعتبره أهم غاية خلق فيها الله الإنسان، وهو هدف أن يكون الإنسان سعيداً يتمتع بحياة سعيدة وذلك بسلوك الطرق السليمة للوصول إليها، وهو ما نرمز إليه بوسائل تطبيق أفعال الخير التي تعني الإنسان ضمن مجتمع، سواءٌ أكان المجتمع صغيراً أم كان كبيراً، تبدأ من علاقة الأبوين بطفلهما، وتنتهي عند حدود المجتمع العالمي الأوسع. الله خلق فطرة الخير وعلى الإنسان أن يستفيد منها لصنع أفعاله: ولأننا عالجنا تلك الإشكالية في مقالة سابقة، عرضنا فيها قناعتنا بما جاء في كتابات الأولين عنها، خاصة ما أتت به فرقتا القدرية والجبرية، على الرغم من تعارض هذه الاستنتاجات والبراهين مع الفقه الديني، واعتبرنا فيه أن أعمال الإنسان هي من فعل الإنسان، وليست من خلق الله وقدره، فإننا سنتابع في هذه المقالة، موضوع ما يتم تسميته بثنائية (الخير والشر)، ولعلنا نستطيع أن نعبِّر فيه عن وجهة نظرنا، وعلى أن تكون بشكل أكثر وضوحاً لدى القارئ. نعتقد أولاً أن الله خلق في الإنسان فطرة الخير فقط، ولم يخلق فيه نزعة الشر، وهذا ما يقوِّض الأسس التي قالت بها الأديان السماوية والتي أدَّت إلى ثنائية (الله والشيطان)، ومنها افترضت أن هناك نزاعاً دائماً بين الله والشيطان، أي بين الخير والشر. وفي هذا النزاع كأنني بالأديان السماوية قد افترضت وجود إلهين، واحد يأمر بالخير، والآخر يأمر بالشر. وفي هذا الافتراض ما فيه من تناقض مع نظرية التوحيد الإلهية. بينما تعريفنا هو أن هناك إلهاً واحداً يدعو للخير فقط، ولا يصدر عنه ما يدعو إلى الشر أو السماح بوجود من يدعو إليه ويأمر به. وفي هذا تقويض لثنائية (الله – الشيطان)، وكذلك ثنائية (الملاك – الشيطان). وبهذا نريد القول بأن الله غرس فطرة الخير فقط في نفس الإنسان العاقل، ورسم له وسائل تطبيقها. فإذا طبَّقها حصل على سعادته، وإذا فشل فقد تلك السعادة. وهنا نجد أنه لا بُدَّ من البدء بتوضيح رؤيتنا في تعريف هذه الفطرة. الخير هو الفطرة التي خلقها الله في الإنسان: إن الله خلق الإنسان ليكون سعيداً في حياته، وخلق فيه كل ما يساعده للعمل على توفير تلك السعادة. وترك له حرية خلق أفعاله، لأنه لو خلقها فيه ويخضعه للحساب لكان ما يصدر عن الله منافياً لقواعد العدالة، وتلك من الصفات التي لايجوز أن نفترضها عند إله عادل. وعندما خلق الله إرادة الخير فقط، ورسم فيها حرية الاختيار، فقد خلق في الإنسان العوامل التي تساعده على توفير سعادته. فإن أحسن تدبيرها فسيبقى سعيداً، لذا يكون استمرار السعادة مرتبطاً بإرادة الإنسان طالما ظلَّ محافظاً على القيام بالأفعال التي تحافظ على سلامة أعضائه الجسدية والنفسية، وكذلك القيام بدوره المنوط به بمساعدة الآخرين. وإن أساء التدبير فسوف ينحدر إلى مستوى التعاسة الذاتية، والامتناع عن القيام بدوره الاجتماعي سوف يساهم بخلق التعاسة عند الآخرين، وهذا ما نعني به ارتكاب الشر عندما يمتنع عن صيانة عوامل الخير بالنسبة للذات وبالنسبة للآخر. تعريف عمل الخير: لأن السعادة، كهدف مقصود للبشر، نعتبر كل ما يصب في توفيرها هو فعل للخير، وكل إهمال لها هو شر. وفعل الخير ينقسم إلى أفعال مادية، وأفعال نفسية. فالله، حسب فرضية العلة والمعلول، خلق الإنسان من روح وجسد. ولكل منهما عوامل تساعد على تنميته لتبقى عناصر تكوينها سليمة، وسلامتها دليل على الحصول على السعادة الجسدية، وكذلك السعادة النفسية. وهذه التنمية هي فعل من أفعال الخير. وإذا أهمل الإنسان هذه التنمية، فسوف تصاب العناصر التي توفر السعادة بالتلف، وهذا ما يؤدي إلى عكس السعادة، وهذا ما نسميه بفعل الشر. وفعل الشر مترابط ومتلازم مع فعل الخير، لو لم يوجد هذا لانتفى وجود ذاك. فموضوعة الشر ليست قائمة بذاتها كما هو حاصل لفعل الخير، وهذا شبيه بتعريفنا للون الأبيض الذي لا وجود له، وهو ما نسميه بـ(انعدام اللون)، وكذلك فإن فعل الشر هو انعدام فعل الخير. أي ليس هناك عمل من أعمال الشر، بل هو تقصير في عمل الخير. فعمل الشر المتعارف عليه في التقليد المعرفي، ليس عملاً له شروطه ولا موجباته ولا آلياته، بل هو انعدام عمل الخير. في مواجهة الحساب يتحمل الظالم والمظلوم مسؤولية نسبية: لأن الإنسان خالق أفعاله يتحمل مسؤولية الإصابة في خلقها أو الإخفاق فيها. ولأن القوى الأخرى، المساعدة للفرد في خلق الأفعال لها دور محوري في خلق أفعال السعادة، ولا يستطيع الفرد أن ينجح في عملية الخلق من دون العوامل المساعدة، يتحمل العامل المساعد، حسب تعريفنا له، مسؤولية مماثلة. وهذا ما يمكننا تعريفه بمبادئ الحقوق والواجبات. فمن يقصر في واجباته مسؤول عن التقصير، ومن يقصر بالحصول على حقوقه فهو مسؤول أيضاً. ولذلك، يتحمل الفرد المسؤولية على مستويين: الأول، إخفاقه في خلق الأفعال. والثاني، امتناعه عن مطالبة العوامل المساعدة بحقوقه عليهم. وظيفة رجل الدين الحثَّ على الالتزام بالحقوق والواجبات: آخذاً التكوين المعرفي في علاقة الأضعف بالأقوى بين أبناء البشر، بحيث يؤدي الأضعف فروض الطاعة للأقوى، اختصر رجل الدين، ومن بعده المؤسسات الدينية، وظيفته بالدعوة إلى عبادة الله، وأتقن فنون القيام بها. ونحسب أن تلك الوظيفة ترتبط تاريخياً ومعرفياً بالدعوة إلى طاعة الأقوى التي تعود جذورها إلى تقديم فروض الطاعة للأسياد التي سادت في العصور الأولى لنشأة الإنسان، والتي قام الفقهاء والكهنة، في شتى العصور اللاحقة، اتصالاً بالمراحل الحاضرة، لترويجها والحضِّ عليها. ولما كانت عبادة الأقوى هي التقليد الذي لم تشذُّ عنه الأديان السماوية، فقد كانت تلك عادة انعكست على تعريف علاقة المخلوقات بالخالق بعد أن سادت رؤية التوحيد الإلهي. وصوَّرت الأديان السماوية الله بشكل بشري يغضب وينتقم ويعتبر البشر عبيداً له عليهم أن يؤدوا فروض الطاعة والعبادة له. ولأن الله الذي نعتقد به لا حاجة لعبادة البشر، ولأنه خلقهم بأفعالهم ليصلوا إلى مستوى متقدم من السعادة الذاتية، وحثَّهم على الفعل الذي يحافظ على سلامتهم الجسدية والنفسية، وهو ما رمزنا له بفعل الخير لخدمة الذات وخدمة الآخرين، نعتبر بناء على ما تقدم أن من ينتدب نفسه للإرشاد الديني أن يحث على قيام الإنسان بواجباته تجاه نفسه، وأداء حقوق غيره، على قاعدة أنه ليس هناك أقوى وأضعف، بل هناك تكامل جماعي يؤدي فيه كل فرد واجباته. وفي هذه القاعدة ما فيها من الأصول القيمية التي تساعد على الوصول إلى السعادة التي أرادها الله، وليس إلى تعليم فنون العبادات التي لا يحتاجها الله على الإطلاق. فمن دعا إنساناً للمحافظة على واجباته تجاه ذاته، وتجاه غيره من البشر. وكل من حثَّ إنساناً على المطالبة بحقوقه ممن عليهم أن يؤدوا تلك الحقوق، خاصة أن الله خلق البشر لأجلها، لكان أجدى وأنفع للبشر من كل العبادات التي لا يحتاجها الله. ونحن نعتقد بذلك لأن الله، بكماله، خلق البشر ليس لذاته، بل خلقهم ليكونوا سعداء. ولم يخلقهم ليعبدون.