الأحد، يناير 24، 2010

حوارات ومناقشات (1)


مناقشات وحوارات
حول كتابات حسن خليل غريب

المحتويات
1-تعريف ومناقشة لكتاب "الردة في الإسلام": الدكتور فايز القيس (ص 5)
2- مناقشة كتــاب الردة في الإسلام (وليد شحيتلي) (ص 17)
3- نقد كتاب «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام»: (د. علي الموسوي) (ص 69)
4- قراءة كتاب في سبيل علاقة سليمة المقدم إلى مكتب الثقافة والإعلام القومي
5- نقد كتاب (نحو طاولة حوار بين التيارين القومي والإسلامي) كرم الحلو (ص 94)
): (د. محمد مراد وآخرون) (ص 98)*6-مناقشة بحث«محمد عمارة: مفكر إسلامي يشد لحاف التيار القومي نحو كامل الإسلام«(
7- طاولة حوار في 1 / 8 / 2001 - صور: حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي) (ص 128)
8- استكمال طاولة حوار صور (تساؤلات جديدة) (ص 162).
9-مناقشة كتابيْ المقاومة الوطنية العراقية.
10-مراجعات بعض الكتب، وبعض ما نشرته بعض الصحف والمجلات.




(1): تعريف ومناقشة لكتاب "الردة في الإسلام"( )
فايـز القيس( )
التعريف بالكتاب:
كتاب جديد لعنوان قديم. محاولة جريئة في قراءة معضلات تاريخية عانى العرب والمسلمون منها. ولا تزال المعاناة قائمة في امتدادها الأفقي المتجذِّر في بطن التاريخ. وقبل التحديد نستعرض التعريف بالكتاب.
يتضمَّن الكتاب 494 صفحة بطباعة أنيقة وإخراج جميل. ويحتوي على ستة فصول؛ وكل فصل يتضمَّن كثيراً من العناوين التاريخية مثار البحث والجدل حتى يومنا هذا.
محتوياتــه:
يعالج الباحث، الصديق، مشكلة الردة في الإسلام، ومن ثمَّ الردة في المسيحية؛ فضلاً عن ذلك، يقرِّر أن المسيحية تجاوزت الردة باعتماد العقل منهجاً، والعلم حَكَماً، فتجاوزت محنتها كما يدَّعي بينما الإسلام وأهله لا يزالون يتخبَّطون في ديجور دوغمائية تجاوزها التاريخ المعاصر إذا لم نقل إن الزمن دَرَسَ برحاه بيادرها.
يطرح الكاتب في الفصل الأول مسألة اعتناق الإسلام بين الحوار والإكراه؛ ويفصِّل فيه مفهوم الحوار ( الديموقراطية ) والإقناع وأهميتهما في الإسلام من دون أن يهمل مرحلة الدعوة إلى الإسلام بالقوَّة.
ويعالج في الفصل الثاني مرحلة التأسيس لتكفير الجماعة، ومشكلة الخلافة بعد وفاة الرسول (ص). ويستفيض بعرض الفتن المتشابكة، والمتداخلة في آن واحد، تشابك الأهواء والمصالح السياسية.
ويناقش في الفصل الثالث مشكلة (افتراق الأمة سياسياً)؛ ويحدِّد مداخلته في هذا الفصل بالعصرين الأموي والعباسي.
أما في الفصل الرابع فيعالج افتراق الأمة عقائدياً، وتأسيس المذاهب وتفتُّتها إلى شيعٍ وفِرَق.
وتطرَّق الباحث في الفصل الخامس إلى معالجة الردة في الغرب المسيحي، وإلى كيف تمكَّن من تجاوزها. وينهي الفصل بنتيجة فحواها انتصار العقل الفلسفي والعلمي في الغرب وانحسار مبدأ الردة.
وينهي بحثه في الفصل السادس بمقارنة بين (الردة وعصرنا الحاضر)؛ ويناقش فيه عناوين، مثل: (المذهبية في خدمة السلطان)، وإشكالية مقاربة النص الإسلامي مع انتشار العولمة والأنسنة.
مناقشة أوَّليـة:
بدءًا، إن الكتاب في فصوله وعناوين فقراته يحتاج إلى دراسة تفصيلية موضوعية على ضوء النصوص التي تضمَّنها الكتاب. لكننا سنكتفي بإطلالة موجزة توخِّياً لما نراه مصلحة للأمة وتطورها. يقول الباحث في الصفحة 11: «فالردة في الإسلام-كما هي في المسيحية أو اليهودية، ومن قبلهما الوثنية- مظهر ثقافي له من صفات القداسة ما لا يَدَعُ أحداً من المتدينين أن يتجرَّأ على المساس به، وهو يُعبِّر أصدق تعبير عن حالة التجميد القسري التي يتعرَّض لها الفكر البشري، وأداة ضاغطة على العقل لفرض الجمود عليه ضد أن يعمل في سبيل تطوير المعتقَد والفكر».
(فالردة في الإسلام مظهر ثقافي): مظهر ثقافي، أولاً، أم سياسي تبطَّن بالثقافة؟ هل كان أساس الخلاف حول الخلافة ثقافياً أم سياسياً في موقع السلطة؟ فالتمظهر الثقافي، فيما بعد، كان تسويغاً لوجهة نظر السلطة المنتصرة-المنقسمة والمجزؤة؛ ومن ثمَّ أصبح التمظهر الثقافي للسلطة الواحدة المنتصرة. أما التساؤل الآخر فيتمثَّل بما يلي: هل كانت الثقافة آنذاك صانعة للسياسة أم العكس؟
وهكذا ينطلق إلى (الردة في المسيحية): فهل يعتبر الباحث حركة مارتن لوثر في ألمانيا والنمسا وأوروبا عموماً ارتداد أم إصلاح؟ وهل يعُدُّ انحراف رجال الدين الكاثوليك في أوروبا في حالة ارتداد على تعاليم السيد المسيح (ع)، أم في حالة سوية؟ وما هي مسوِّغات بروز حركة الإصلاح في أوروبا؟
إن اختلافاً بيِّناً بين ما جرى في الإسلام وما جرى في المسيحية؟ أما الارتداد في الوثنيةفكيف رآه الباحث، لا نعلم. ولماذا أراد إقحامنا في عالم الأساطير وألغاز "الإيل"، وسر عشتار؟ أسئلة تتشعَّب تشعُّب فصول الكتاب وفقراته.
ونلاحظ أن الباحث يحدِّد موقفه الرافض لمبدأ الردة ونتائجها؛ ويعتبر النصوص الفقهية المغلَّفة بالطهر والقداسة عاملاً من عوامل التجميد القسري التي تعترض الفكر البشري.
نستقرئ من ذلك المنهج، الذي استند الكاتب إليه، وهو منهج إزاحة السقف الضاغط على العقل الذي يحدُّ من القدرة على الخلق والإبداع. إذاً، (القداسة والطهارة) نسبيتان في المكان والزمان؛ وهذا ما جعل من العقل الأوروبي متقدماً على العقل العربي-الإسلامي منذ عدة قرون.
وانطلاقاً من هذا المنهج يعتبر المؤلف أن التنافس بين الفِرَق الإسلامية له وجهه البارز في تعميق الفِرقَة بين المسلمين: فإنه بالقدر الذي تعمل فيه الواحدة منها على إسقاط الفِرَق الأخرى فكأنها تعمل على إزاحة مَنْ ينافسها على حيازة موقع الفرقة الناجية من النار (ص71).
إن وحدة الإسلام، باعتقادي، تتطلَّب، وبجرأة، في عصر الأنسنة والعولمة، تجاوز النصوص الآيلة إلى تكريس الفرقة والانقسام بين المسلمين والإسلام، وبين المسيحيين والمسيحية، ومن ثمَّ بين الإسلام والمسيحية.
ولم تكن حروب الردة في الإسلام مقتصرة على مبدأ الخلافة، بل كان من أحد أسبابها إبطال حدود الدين؛ وهذا ما دعا أبو بكر الصدِّيق (ر) إعلان الحرب للدفاع عن حدود الإسلام، وعن مركزية الدولة-السلطة. لذلك، إن استعراض النصوص التي تُغرِق البحث من دون أن نلاحظ في مواضع كثيرة رأي الباحث الذي نستقرأه في كل فصل خلا من النتائج والاستنتاج.
ونلاحظ من خلال النصوص التي استعرضها المؤلف كثيراً من الإيحاء المُبَطَّن، وبخاصة في أثناء عرضه لأسباب ونتائج معركة الجمل وما آلت إليه. وبهذا يكون الكاتب أعاد نفسه إلى نقطة البداية التي انطلق منها؛ فيقع في التناقض القائم ما بين رفضه لمبدأ الردة من جهة، وبين الإيحاء من خلال النصوص التي تكرِّس الانجذاب نحو أحد طرفي المعادلة في الفعل ورد الفعل. وهذه هي الردة بعينها.
ويطرح، في الصفحة 71، إشكالية تحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق، فيقول: «ففي مجال إملاء مساحة الفراغ والتباين الموجود بين النصين القرآني والنبوي، لماذا لم يُعْطِ العلماء/الفقهاء أرجحية لصالح النص القرآني الذي أُنزِل من أجل هذا السبيل؟؛ ويقول في الصفحة 97: "من يُطِع الرسول فقد أطاع الله نساء 4/80».
نتساءل: كيف تجاوز الباحث القول: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى...»؟ وأين تقع مساحة الفراغ التي تحتاج إلى إملاء؟ فهل يقصد إبراز التناقض بين السلوك النبوي الشريف وبين النص القرآني؟ إذا كان الأمر كذلك، فأدعو الباحث لإعادة النظر بهذه النصوص، آخذاً بعين الاعتبار الزمان والمكان والمناسبة عند إعلان النصين المتناقضين كما رأى.
والكتاب زاخر بالنصوص والمشكلات التي ما زالت تحتاج إلى حل. مَنْ يحلها؟ العقل الفلسفي والعلمي تشبهاً بالأوروبيين، قد يشكِّل هذا جزءًا من الحل. فانتصار العقل العلمي والفلسفي في أوروبا كان نتيجة من نتائج الديموقراطية البورجوازية التي عرفتها في عصور انبعاثها. فهل يفتح البحث أفقاً جديداً لمعالجة مشكلة جهاد العقل في الديموقراطية والحرية الفكرية حتى لو تعارضت مع دين الدولة أو السلطان. إن الحلَّ، من دون زلفى، يتمثَّل بفصل الدين عن الدولة؛ هكذا انتصرت أوروبا، وهكذا ينتصر العرب عندما ينهي العقل العربي إجازته المفتوحة.
واللاَّفت أن المؤلف كان أكثر وضوحاً في معالجته لمسألة زواج المتعة في الإسلام، فيقول (ص130): «وهكذا تبقى دوائر المناظرات الفقهية، حول موضوع نسخ زواج المتعة أو عدم نسخه، تدور وتدور منذ مئات السنين، في الوقت الذي يجد فيه المتمذهبون، من السُّنَة والشيعة، حلولاً ذاتية لمشاكلهم الجنسية في كل يوم [وكل ظرف وكل مكان، بعيداً عن كل تلك المناظرات، وقد يكون بعيداُ عن كل الأصول الدينية]... ويحصل هذا في ظل المعاهدات الدولية التي تهتمُّ بحقوق الإنسان من ضمنها حقوق المرأة...[وهكذا تسقط بيزنطية في كل يوم، أما الجدل البيزنطي فمستمر من دون انقطاع]».
ماذا يريد الكاتب؟ هل يتبنَّى مبدأ زواج المتعة، أم يرفضه في ظل المعاهدات الدوليةوحقوق الإنسان؟ إن إعطاء المرأة حقوقها ومساواتها بالرجل يحتاج، كما يعلم المؤلف، إلى تحرير الرجل والمرأة معاً. فلا انفصام ولا انقسام في وحدة المجتمع. فالتقاليد واحدة، والتشريع واحد، وتحرير المرأة يعني تحرير المجتمع. فالمجتمع والقانون قد يحميان الرجل ولا يحميان المرأة، لكن الأهم أن يتحرَّر الرجل من نظرته الدونية للمرأة. والحرية مسؤولية ووعي وسلوك يهدف إلى بناء المجتمع الأفضل. لذلك، تظل مسألة تحرر المرأة مرتبطة بمدى ارتقائها ووعيها وسلوكها في إطار وحدة المجتمع وتطوره.
إن كتاب (الردة في الإسلام) تأريخ للردة وظروفها السياسية والاقتصادية بالرغم من تعدُّد الملاحظات. وتجاوز الردة يتطلَّب بحثاً مستقلاً إسهاماً في تعميق قنوات الالتقاء والتواصل، ولكي تضيق فجوات الخلاف في رؤية جديدة للإسلام من دون مذاهب.
وإذا كان الدين عند الله واحد، وهو الإيمان به، فرسالات الأنبياء تكون، عندئذٍ، مذاهب في دين الله الواحد. وتصبح (المذاهب) القائمة بمنزلة فِرَقٍ في إطار المذهب الواحد.
أما إغراق البحث بالسرد التاريخي، وما تضمَّنه من نصوص تتوافق وتتعارض، فيجعل من القارئ النخبوي في حالة ضياع، فكيف الأمر مع غير النخبويين؟ وهم الأهم.
ويطالب الباحث الفقهاء / العلماء أن يتقدَّموا بفتوى لكي يتم تصحيح مسار التاريخ المختَلَف عليه. أين تكمن مصلحة الكثيرين من هؤلاء؟ وإذا كان الخلاف سياسياً، وهو كذلك، فيصبح تدخُّل الفقهاء / العلماء من دون جدوى لأن من تنالهم الفتوى تصرَّمت حبال حياتهم.
وإذا كنا لا نشك بصدقية الفكرة التوحيدية عند المؤلف، لمعرفتنا الطويلة به، لكن، أليس جديراً بالبحث المعاصر في قرن تتكالب القوى من الشرق والغرب على كيان الأمة العربية وحضارتها وتاريخها- أن نؤسِّس على مقولات الردة مقولات اليقظة والانبعاث؟
ماذا يفيدنا اليوم معرفة الكيفية التي قُتِل فيها عمر أو عثمان أو علي (ر)؟ تكمن الإفادة، باعتقادي، في تسليط الضوء على تراثهم الفكري إسهاماً في انبعاث الأمة من جديد. وماذا يفيدنا التساؤل: من المسؤول عن معركة الجمل؟ (ص147).
إن صدقية التساؤل في البحث التاريخي مشروعة إذا توخينا إعادة كتابة التاريخ، لكن التساؤل الأكثر صدقية يتحدد بمدى أهميته في سياق المعطى الحضاري المعاصر والمستقبلي في آن واحد.
إن فصول الكتاب تحتاج إلى كثير من البحث والمناقشة؛ وكل فصل يحتاج إلى أطروحة مستقلة نظراً لإغراق البحث بالنصوص المستلة المتفق عليها أو المختلف فيها. والكتاب في خلاصته دعوة مفتوحة لإعمال العقل، وإنتاج الحرية الفكرية.
إن الدعوة لتجاوز التفتيت والانقسام في داخل الدين الواحد تسيطر على فكر المؤلف مسبقاً من دون إهمال للنصوص عينها التي يستند إليها دعاة التمذهب والانشطار. وأبرز الكاتب بسرده الموثق نصوصاً توحِّد وتُفَرِّق. وفي خلاصته يدعو إلى تدمير مصانع النصوص التي تكرِّس الفرقة والانقسام. فلماذا، إذاً، أبرز مثل هذه النصوص في عرضه للفرق المتنازعة حول مسألة الخلافة؟
ألم يكف الانطلاق من معالجة موضوع خطير مثل (الردة في الإسلام) أن نقصر بحثنا على فصل واحد حول المشكلة، ومن ثم الانطلاق في البحث لترسيخ مفهوم الوحدة والحرية الفكرية لكي يتجاوز العرب والمسلمون أسباب فرقتهم؟
إن ذلك بمنزلة دعوة للباحث أن يكمل ما بدأ به، مجاهراً بالحق، وهو الجريء في التصدي من أجل إنهاء إجازة العقل العربي. إن الدين عند الله واحد، والأنبياء من عثرة هذه الأمة؛ وكل شعوب الأرض التي تؤمن بالأديان السماوية مُدينة للأمة التي أنتجتهم. وهذا، باعتقادي، يفسِّر مقولة «خير أمة أُنْزِلَت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر».
فايز القيس 1/3/2000
***
ردٌّ على نقد موجَّهٍ إلى كتاب (الردة في الإسلام).
صديقي العزيز أبو هيثم:
أتوجَّه بالشكر إليكم لاهتمامكم بقراءة كتاب (الردة في الإسلام)، وبالتالي أوجِّه شكراً آخر لالتفاتتكم النقدية المكتوبة.
إطَّلعتُ بعين الاهتمام والتقدير على ما بذلتم من نظرات نقدية، فوجدت، لأنه لنا فائدة نجنيها من الحوار الهادف والموضوعي، أن أتوجَّه إليكم ببعض الإيضاحات أرجو أن تقرأها بعين الاهتمام:
إن من أهم غايات وأهداف النقد، إذا كان الناقد ممن يؤيدون هدف البحث المركزي، هو إبراز ما في الأثر المنقود من إيجابيات لتعميمها وإقناع الآخرين بصحتها؛ والتركيز على السلبيات في سبيل مساعدة الباحث أو المؤلف على تجاوزها، إما بالتراجع عنها أو توضيحها إذا كانت غامضة، ويتم كل ذلك في سبيل تطوير وسائل الدفاع عن القضية التي آمن كل من الباحث والناقد بصحتها.
إنني أتساءل يا صديقي: ألم تجد، أنت الذي يجمعني معه أكثر من رباط وسبب وجهد في سبيل «إزاحة السقف الضاغط على العقل» كما ورد في ردك- أية نتيجة أو رأي إيجابي في بحثي المنشور يصب في هذا الهدف؟!!! ألم تجد جديداً في بحثي ما يستحق أن تركِّز عليه وتقتنع به لنتعاون في سبيل إقناع الآخرين به؟ إذا كان هناك ما يستحق الإبراز فواجب الإثنين: الناقد والمنقود، أن يتعاونا على التركيز عليه وتوجيه الأنظار باتجاهه.
يدور البحث حول قضية مركزية / محورية حدَّدها الفصل الأول بوضوح وهي: نقد الفقهاء المسلمين الذين أمروا باستخدام القوة بالدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى قتل المرتد عن دينه استناداً إلى قول الرسول {من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه} . وقد دار لا إكراه]البحث حول التناقض أو التباعد على أقل تقدير بين النص القرآني  ... وبين النص النبوي { من[ إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ] و [في الدين ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه} وما يسبقه من استتابة المرتد لثلاثة أيام إذا لم يتراجع في خلالها يُقْتَل ...
فالقضية المركزية / المحورية هي الدعوة الصريحة الواضحة، مستندةً إلى براهين وأدلة نقلية وعقلية، إلى إلغاء مبدأ الردة؛ وهذا ما حرصنا على إثباته في الفصل الأول، الذي أَعِدُّه عمود البحث الأساسي، والذي سخَّرت في سبيل خدمته الفصول الخمسة الأخيرة للبحث.
فكل ما جاء في الفصول: من الثاني إلى السادس، وعلى الرغم من الإسهاب في سَوْقِ الأدلة والبراهين فيها، إنما جاء لتقدير منهجي كنت مقتنعاً بضرورة استخدامه لإثبات صحة فرضيتي، ثم قناعتي، بإلغاء مبدأ الردة استناداً لعدم شرعيته الدينية ولتناقضه مع الشرعية العقلية، والذي جاءت الأحداث التاريخية في الصراع الدامي المستمر لمئات السنين بين مذاهب المسلمين لتؤيِّد صحة النتيجة التي توصلت إليها.
ومن هنا انطلقت أنت في نقدك من الأدلة التفصيلية، وكان من الواجب عليك أن تحدد القضية المركزية للبحث، فإذا اتفقت معها كان عليك أن تحدِّد ذلك بوضوح، وإذا كان موقفك العكس كان من الواجب أن تحدِّد ذلك أيضاً، فأي موقف من الإثنين كان سيقودك إلى طريقة في الرد تختلف الواحدة عن الأخرى:
فلو كنت تتبنى الموقف المؤيد للقضية المركزية / المحورية، موضوع البحث، لكان موقفك الناقد سينطلق من نقد الأدلة والبراهين لترى إذا ما كانت تخدم الدفاع عن القضية المركزية أو لا تخدم، فيصبح ما بذلته من جهد في ردِّك يصب في هذا الاتجاه.
أما لو كنت لا تؤيِّد القضية المركزية، لأصبحت معالجتك ونقدك للتفاصيل بدون جدوى، ولا تستأهل أن يُدْفَع في سبيلها الوقت الذي يُصرَف عليها والكتابة حولها.
أما بالنسبة لبعض التفاصيل التي قمت بتسليط ضوء النقد عليها، فاسمح لي بأن أوضح ما يمكن إيضاحه، وأتمنى أن يفي بالغرض المطلوب:
-أولاً: إن ما قمت بذكره في بحثي من تفاصيل كثيرة، قد تكون أربكت سلاسة البحث، ليس في سبيل أن أتَّخذ موقفاً مؤيداً لطرفٍ في هذه الحادثة أو تلك من الأطراف المشاركة فيها؛ ولكنني أردت من عرضها، بشكل عام، ومن استعراض آراء شتى الفِرَق الإسلامية لغرض واحد، ليس تأييد مواقف هذا أو معارضة مواقف ذاك، وإنما كان كل همِّي منصبَّاً على أن أُبرهن على أن الذين يسبغون القدسية على نصوص يعدون مخالفتها مخالفة لإرادة الله أنهم هم بالذات مختلفون حولها. فماذا يعني اختلافهم من وجهة نظري؟
تغيب القدسية عن النص المقدس إذا كان له أكثر من وجه ، فمجرد الاختلاف حوله يُغيِّب عنه الوضوح، وإنني لا أجد منطقاً يبرِّر أن لا يكون الله واضحاً مع عباده. فهل من المنطق في شئ أن يكون فقيهاً ما أو حتى نبياً أكثر وضوحاً في تعبيره من الله؟!!!
إن اختلاف الفقهاء في تفسير أو تأويل نصٍّ مقدَّس كما أحسب- يُفْقِدْهُ الكثير من قدسيته، فالتأويل والتفسير أصبح من صنعٍ بشري وليس من صنع الله. وهذه هي النتيجة بالذات التي أردت أن أصل إليها من خلال إغراق البحث بكثير من الوقائع التاريخية والنصوص الدينية، وإغراقه بالرأي والرأي المضاد، وذلك للتدليل على أن ما اختلفت حوله الفِرَق الإسلامية لا علاقة له بالمقدَّسات، وإنما كانت الأهواء والأغراض السياسية هي صاحبة المصلحة الأولى في إضفاء صفات القداسة على هذه الفتوى أو تلك، خاصة وأن الثقافة الشعبية السائدة طوال مختلف العهود التي حُكِم فيها باسم الإسلام هي ثقافة دينية لا تبعد كثيراً عن مستوى الإيمان الساذج والسطحي.
-ثانيــاً: إن الحديث عن وجود مبدأ للردة في الوثنية لا علاقة له بالأساطير والألغاز، بل إن الأديان الوثنية-فعلاً-كانت تطبِّق حدَّ الردة على أعضاء مجتمعاتها، وتُنْزِل بهم عقوبة القتل إذا ما ارتدُّوا عن عبادة الأوثان التي كانت مجتمعاتهم تعبدها. أَلا يكفي دليل الحكم بالموت على الفيلسوف اليوناني سقراط، الذي حكمت عليه المحكمة بتجرُّع السُم، بتهمة تحريضه للشباب ضد آلهة اليونان؟
-ثالثــاً: بالنسبة لحروب الردة التي حصلت في عهد الخليفة أبي بكر الصدِّيق ليست هي الهم المركزي في بحثي، وإنما جاء ذكرها في البحث بقصد البرهان على أن الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول لم تكن أنموذجاً يُحتذى كما يدَّعي الأصوليون بل ابتدأت الفِتَن تذرُّ قرنها بعد وفاته مباشرة. وحرب الردَّة التي جرت في عهد الخليفة إبي بكر الصِدِّيق هي حادثة-فِتنة وحيدة من أحداث-فِتنٍ كثيرة حصلت في عهد الخلفاء الراشدين، وقد ذكرت أهمها للتدليل على أن ما يدَّعيه الأصوليون من أنه (لا يصلح الخلف إلا بما صلُح به السلف) ليس ادِّعاء صحيحاً. وتأتي، في هذا السياق، معركة الجمل بين علي وجماعة كبيرة من أهم صحابة الرسول، ولم يكن أحد همومي، على الإطلاق، أن أعطي حقاً لهذا وانتزعه من ذاك، وإنما لكي أقدِّم للقارئ برهاناً على هزال الحجج التي يقدمها الأصوليون بضرورة إعادة بناء نموذج للدولة الإسلامية شبيه بدولة الخلفاء الراشدين؛ ومن تلك النماذج التي قمت بنقلها من مصادر التاريخ الإسلامي تبيَّن أن كبار صحابة الرسول الذين رافقوه وتعلموا منه، عجزوا عن الاتفاق فيما بينهم، وكان الصراع الدموي هو البديل. ومن هذا نستدل على أن التاريخ الإسلامي لم يكن فيه أية محطة مضيئة بالكامل، ولم يكن فيه نموذج واحد يمكن تقليده واستنساخ صورة طبق الأصل عنه.
ولو افترضت أنني لم أقم بنقل مثل تلك النماذج من التاريخ هل كان من الممكن إقناع من كوَّن صورة طوباوية عن دولة الخلفاء الراشدين أن تلك المرحلة لم تكن بالشكل الذي صُوِّر فيه؟
أما ما تقصده بأن هناك تأييد مُبطَّن لأحد طرفي الصراع في معركة الجمل فإنني أقول لك إن الفقهاء السُنَّة، المفروض فيهم أن يؤيدوا فريق عائشة في تلك الحرب، قد أعطوا الحق لعلي بن أبي طالب بدون تلميح أو تبطين. وإذا كانت هذه النتيجة تخدمهم لأغراض دينية، فأنا لا يهمني الأمر أكثر من كونها جاءت لاستدلالات منهجية في البحث الذي قمت به.
-رابعــاً: أما بالنسبة للتناقض بين النص النبوي والنص القرآني أو التباعد بين النصين وعدم مقاربتهما، ودعوتكم إياي إلى إعادة النظر بالنصوص على ضوء الزمان والمكان والمناسبة فإنني قد فعلت ما تدعوني إليه في معرض مناقشتي لمسألة الحكم على المرتد في الفصل الأول من البحث، بحيث نكشت من المصادر قصة عبد الله بن جحش التي كانت المناسبة الرئيسة التي نزلت فيها آية الردة، وعلى أساس ظرفية الحادثة، وغيرها من الأسباب النقلية والعقلية، اعتمدتها مقياساً لظرفية مبدأ الردة.
ولكن في هذا الإطار، والذي تدعوني فيه إلى إعادة النظر بالنصوص على ضوء الزمان والمناسبة، لا بد من إعادة التوضيح بأن الفقه الإسلامي السائد يقوم على تكفير كل من يلجأ إلى تأويل النص بناءً على المكان والزمان والمناسبة؛ وعلى هذه القاعدة جرى تكفير حامد نصر أبو زيد. أما أنا فلم أجد حاجة في بحثي لأن أبحث عن كل وجوه التناقض بين النصين القرآني والنبوي، لأن ذلك لا علاقة له بالبحث المحدود الذي أقوم به وموضوعه المركزي/الرئيس هو البحث عن تأصيل لمبدأ الردة الذي على أساسه يُفتى بقتل المرتد عن الإسلام.
-خامساً: أنا لم أعالج مبدأ زواج المتعة لكي أرفضه أو أؤيده، وأحسب أنه أصبح من الواضح لديكم أنني استعنت ببعض مواطن الخلاف بين الفِرَق الإسلامية حول تأويل النص المقدَّس، ومنها مسألة زواج المتعة، ليس لكي أحدِّد موقفاً بتأييدها أو برفضها وإنما لأخلص بنتيجة أن هناك جدل فقهي عقيم، حول ما إذا كان زواج المتعة منسوخاً أم غير منسوخ. وهذا الجدل قد تجاوزته الظروف بينما الفقهاء يستمرون بالجدل الذي لا علاقة له بالواقع، وهذا ما أشرت إلى عدم جدواه بالجملة التي لم تنقلها أنت في نقدك، والتي أقول فيها: «وهكذا تسقط بيزنطية في كل يوم، أما الجدل البيزنطي فمستمر من دون انقطاع». وهنا لا يهمني، منهجياً، أن أقدم حلولاً لحقوق الرجل أو المرأة لأن أهداف البحث، منهجياً، لا تستطيع استيعاب كل ما يجب أن أقوله في هذا المجال.
-سادساً: هل صحيح -كما تقول في نقدك- أن "إغراق البحث بالسرد التاريخي، وما تضمنَّه من نصوص تتوافق وتتعارض، تجعل من القارئ النخبوي في حالة ضياع، فكيف الأمر مع غير النخبويين؟ وهم الأهم".؟
إنني بالفعل لا أستطيع إلا أن أتوافق معك، لأنك أنت القارئ وليس أنا. ولا أخفيك سراً أنه كان من أهم همومي أن أستطيع أن أوصل رأيي إلى القراء، حتى متوسطي الثقافة منهم، من دون تعقيدات الجمل والمصطلحات الفلسفية والفقهية، حتى إنني لم أترك فرصة أستطيع فيها أن أتجاوز تلك التعقيدات إلا وفعلت وتبيَّن لي، بعد أن لفتم النظر إلى ذلك، أنني لم أوفَّق تماماً بما عملت لأجله.
إن هذا الهم ليس خاصاً بل يعني كل من حمل همَّ العمل من أجل المجتمع، خاصة إذا كان من المجتمعات التي تُعَدُّ أكثريتها من ذوي الثقافة السطحية، لذا فإن هذه الإشكالية مطروحة للنقاش أمام كل المهتمين بهذا الجانب لإيجاد حلول لها.
وبالإجمال فإنه لا يمكن أن تخصِّص كل أنواع الفكر ليكون في متناول كل أفراد المجتمع؛ وقد تكلمت عن هذا الجانب مستدركاً ما قد يُوجَّه من نقد حوله- في الصفحة 307، قائلاً: «إذا كان الفكر بمستوى من التجريد، أو مما يعسر فهمه على كل الناس، فلن يكون بمتناول شرائح واسعة من المجتمع المُوجَّه إليه؛ فلا بُدَّ والحال كذلك- من وجود نخبة مثقَّفة وسيطة تعمل متفاعلة مع هذا الفكر لتُنْتِج، بدورها، وسائل إيصاله إلى المجتمع».
وهنا أدافع عن هذا الواقع، الذي لا يمكن أن نتجاوزه بسهولة كلما أردنا أن نكتب، بالتساؤل: لماذا كتب أرسطو فلسفته ونظريته بالمنطق الصُوَري؟ هل كان يكبِّله هاجس أنه يجب أن يكون مفهوماً من كل طبقات المجتمع؟ وهل استطاع أن يفعل؟ وهل فلسفة أرسطو إلا من الفلسفات التي أسهمت بتطوير الفكر البشري الذي يصب في مصلحة كل الطبقات على الرغم من أنها كانت غير مفهومة لديها كلها على المستوى ذاته؟ ولماذا كتب عمانوئيل كانت كتابه (نقد العقل الخالص) بلغة فلسفية بالغة التعقيد؟ هل كان من اللامبالين بأن تصب فلسفته في مصلحة كل الطبقات ومنها تلك التي كان متأكِّداً من أنها لن تستوعب ما يكتب؟
القاعدة الفُضْلى في إيصال الثقافة أن يعمل الباحث أو المفكر أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع على الكتابة بمنهج وأسلوب يتوخَّى منه أن يكون سهل الفهم عند أوسع قاعدة من القرَّاء. ولكن إذا لم يستطع ذلك، أو إذا خانته المقدرة، فإن واقع وجود نخبة مُثَقَّفة، وهي ليست مسألة طبقية، يمكن أن تلعب دوراً، كما أن عليها واجباً بعد أن تقتنع بفكر ما- أن تبتكر وسائل تسهيل إيصال هذا الفكر إلى أوسع قطاعات الشعب وطبقاته.
-سابعـاً: جاء في نقدك ما يلي: " أليس جديراً بالبحث المعاصر في قرن تتكالب القوى من الشرق والغرب على كيان الأمة العربية وحضارتها وتاريخها- أن نؤسِّس على مقولات الردة مقولات اليقظة والانبعاث؟". تتابع قائلاً: " ماذا تفيدنا اليوم معرفة الكيفية التي قُتِل فيها عمر أوعثمان أو علي (ر)؟ تكمن الإفادة، باعتقادي، في تسليط الضوء على تراثهم الفكري إسهاماً في انبعاث الأمة من جديد. وماذا يفيدنا التساؤل: مَن المسؤول عن معركة الجمل؟".
إن إشكالية ماذا ندرس في التاريخ وكيف، وأي جزءٍ منه علينا أن ننبش؟ وهل هناك منهج محدد لدراسته؟ وما هي أهمية كتابته في حياة الأمم؟ وما هي الفائدة التي نجنيها منها؟ ولماذا نكتبه، وكيف نكتبه، ومن هو الذي يتحكَّم في وقائع كتابته؟ وماذا يجب أن نسجِّل منه وماذا يجب أن نبتر؟ كلها أسئلة تقودنا إلى ضرورة أن نعمل على الاتفاق حول تحديد منهج موضوعي يجيب عن كل تلك الأسئلة.
إنني أحسب أنه لا بد من العودة إلى وقائع التاريخ التي لا تزال تلعب دوراً في الحاضر، وذلك ليس لمناقشتها في سبيل تقطيع الوقت، بل لنقد ما ينتج عنها من تأثيرات سلبية في شؤون الحاضر السياسية والفكرية والدينية
فهل نبش وقائع التاريخ الإسلامي، الذي له علاقة وثيقة بظروف مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين، له تأثيرات على الواقع الحاضر، أم أن نبشه هو لترف فكري عقيم؟
أنت تدري، ولا أحد ينكر أن مرحلة الخلافة الراشدة لا تزال تلعب دوراً مؤثِّراً في حياتنا الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية وعلى أساسها يبني الأصوليون الإسلاميون أملاً في إعادة بناء الدولة الإسلامية على أسس النموذج الراشدي. وإننا من غير الواهمين في استنساخ تلك التجربة لأسباب منها:
أنها دلَّت على فشلها بسبب من كثرة الفتن الدامية التي انخرط فيها صحابة الرسول.
وأنها لم تكن تمثِّل أنموذجاً إسلامياً سياسياً عقائدياً صالحاً للتطبيق في وقتنا الحاضر بسبب من كثرة الخلافات السياسية/العقائدية، التي حدثت من أجلها، تاريخياً، بين الفرق الإسلامية من جهة، وأنها لا زالت تؤسِّس، في وقتنا الحاضر، لخلافات جذرية دينية وفقهية وسياسية بين الفرق الإسلامية التي لا تزال حيَّة حتى الآن.
لهذا ركَّزنا في بحثنا على الظروف التي قُتِل فيها الخلفاء الثلاثة، لأسباب منها:
أن كثيرين من المسلمين لا يعلمون أن الخلفاء الراشدين قد ماتوا قتلاً / إغتيالاً؛ وإذا كان هناك من يعرف هذه الحقيقة فإنما يعيدون السبب إلى مؤامرة يهودية!!!
إنها لا تزال تؤثِّر في استمرار الخلافات بين الفرق الإسلامية التي تلعب، في وقتنا الحاضر، دوراً رئيساً في شتى وجوه حياتنا. ولهذا السبب ما عليك إلا أن تراجع الفصل السادس من البحث، وفيه تستعيد قراءة الخلافات السياسية-الدينية بين الخمينية والوهابية، وهما فرقتان إسلاميتان معاصرتان ومؤسِّستان لدولتين إسلاميتين كبيرتين.
أما ردَّاً على قولك بأنه علينا في هذا الزمن، الذي تتكالب فيه شتى القوى للقضاء على حضارتنا، أن نستذكر فكر الخلفاء الراشدين لنستفيد منها، فأقول: إنني لم أنبش ما نبشت من كتب التراث لكي أفتش عن دواء لكل ما ليس بحاجة إلى دواء، وإنما للتفتيش عن دواء للأعضاء المُصابة من هذا التاريخ. وهل مقتل الراشدين إلا من جملة تلك المراحل المريضة في تراثنا؟
وأخيراً فنحن نحسب أنها ستفقد أهمية إثارتها في الوقت الذي يغيب فيه تأثير دورها على أكثر من صعيد ديني ومذهبي وسياسي واجتماعي
أما كيف ننظر نحن إلى هذه المسألة؟
لم ينطلق اهتمامنا بها من زاوية التفتيش عن أسباب ندعم فيها اعتقاد هذه أو تلك من الفرق، أو لنثبت بطلان اعتقاد هذه أو تلك، وإنما جاء من زاوية تفتيشنا عن بطلان اعتقاد من اعتقد أن لها علاقة بحساب الآخرة بحيث يحسب الشيعي أنه لن يدخل الجنة إلا إذا آمن بأحقية آل بيت الرسول بالخلافة، فهي انطلاقاً من هذا يحسبون أنها تؤثِّر في نقص أو زيادة في إيمان المسلمين بالإسلام.
ثامنـاً: عود على بدء، إلى تعليقك الأخير والذي تقول فيه: "لا تضرم ناراً وتدعو إلى إطفائها"؛ فهل ما تقصده أنني أثير الفتنة عندما أنبش مواطن التناقض بين الفِرَق الإسلامية؟
إذا كان هذا ما تقصده، فإنني أقول بأن ما أنبشه من مواطن التناقضات ليس إلا عجيناً من تراث تلك الفرق، منذ أن نشأت، وهي لا تزال حتى الآن- تخبز من عجين الأسلاف.
أما لماذا استخدمت المعول في نبش ذلك؟ هل لأنني أثير جراحاً اندملت منذ مئات السنين؟ وهل صحيح أن تلك الجراح قد اندملت؟ وهل ليس لهذا العجين تأثير على الخبز المذهبي المعاصر؟
أنا من مُتتبِّعي الدعوات المعاصرة للفِرَق الإسلامية التي تدعو إلى وحدة المسلمين: من على بعض المنابر المحدودة، وفي المؤتمرات التلفزيونية، وفي بعض المناسبات التي تضم ممثلين عنها في وقت واحد فيدور فيها التبخير والمجاملات. فهم كلهم، في مثل تلك المناسبات، يمارسون التقية ولا يتكلَّمون الحقيقة التي يُعَبِّئون ويحقنون بها أتباعهم.
إذهب إلى التكايا والزوايا والحلقات المُغْلَقَة في المساجد أو في غيرها من الأماكن التي يتكَّوم فيها الواعظون من المقلِّدين والقارئين بنهمٍ كتبهم المذهبية، التي استعرت منها، في بحثي، الكثير من النصوص التي لفتت نظرك وحسبتها أنها وقود ألقيه بنفسي في النار لتستعر، وإنني أسهم في إثارة الفتنة، فهل أنت يا صديقي غريبٌ عن "أورشليم المذهبيين" وما يمارسونه من أساليب التفرقة والحقن المذهبي؟ أفليسوا هم دعاة الفتنة؟
وإذا كشفت أنا عن بعض النصوص التي يستخدمونها مادة لهم في التحريض فإنما الغاية منها فقط هي أن أُنَبِّه إلى أن ما يدَّعيه أولي الأمر الذين يقفون في الدرجة الأولى من الهرم المؤسساتي الديني من حرص على الوحدة الإسلامية ليس في محلِّه؛ وإذا ادَّعوا العكس فعليهم أن يمنعوا من التداول عشرات آلاف الكتب التي تحتضن عجين الفرقة والشقاق. أو على الأقل، وعلى الرغم من استحالة تطبيق اقتراحي، إصدار تعميمات دورية تُوَزَّع بشكل علني تدعو فيه المسلمين للامتناع عن قراءتها والإشارة إلى ما تحتويه من بذور للتفرقة
وأخــــيراً
أتوجَّه بالشكر إليك فقد فتحت عينيَّ على بعض النواقص، والتي لها علاقة ببعض الغموض في بحثي، وهذه مسألة قد يقع فيها الباحث، بينما لا تغيب عن ملاحظة القارئ؛ ومن هنا تأتي الاستفادة من النقد الهادف والموضوعي، فيصبح الناقد شريكاً للمؤلف في أبحاثه.
في 8/6/2000 حسن خ. غريب
***

(2): مناقشة كتــاب الردة في الإسلام
تعقيب وليد شحيتلي
أولاً: إن الآية  (البقرة:256).(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ]
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله ، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش[ لا إكراه في الدين ]تعالى لها ولد، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهوِّدَنَّه. فلما أجليت بنو النضير، إذا فيهم أناس من الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا. فأنزل الله . قال سعيد بن جبير، فمن شاء لحق بهم ومن شاء[لا إكراه في الدين]تعالى: دخل الإسلام( ).
لا إكراه في]وأما قوله تعالى   فقد تم نسخها بآية السيف، والباقي محكم( ). يقول الإمام[الدين  النيسابوري في كتابه أسباب النزول: المنسوخ في كتاب الله على ثلاثة أوجه، فمنه: ما نُسِخ خطه وحكمه، ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه، ومنه ما نُسِخ حكمه وبقي خطه.
إستنتـــاج:
1-تقع الآية التي تم ذكرها، وتدعو إلى الحوار،في باب ما نُسِخ حكمه وبقي خطه.
2- إن الحوار على الرغم من نزول الإذن بالقتال، لم ينقطع بشكل مطلق، مثل صلح الحديبية قبل فتح مكة والدخول إليها، خلال غزوة بدر، وقبل بدؤها كان هناك حوار ثم بدأت المعركة. غزوة الخندق كان بها حوار أدَّى إلى مصالحة. هذا دليل على الحوار.
3- إن ترك الأنصار لأولادهم أو الالتحاق بهم لا يمكن أن تكون مطلقة عامة في الحكم. فليس من المعقول في شيء أن يكون للرجل إبناً يتركه اليهود أو يتنصَّر بحجة لا إكراه في الدين. فيكون الأب على دين الإسلام، والأم على دين الشرك، والإبن على دين اليهودية أو المسيحية. إنه لتناقض كبير في الإيمان داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة. فذلك يقول لا إله إلاَّ الله، وتلك تعبد الأصنام، وآخر يقول إن المسيح ابن الله وثالث ثلاثة، وآخر يقول إن عزير ابن الله. فهذا لا يدخل في باب الحوار، إنه ذو قيمة ثابتة مطلقة.
ثانيــاً: يقول الكاتب في الصفحة 22، ما يلي: «إن آيات الحوار أنزلت في المرحلة المكيَّة حسبما يجمع علماء المسلمين، فجاءت آيات القتال التي أنزلت في المدينة لتنسخ الآيات المكيَّة ]التي تدعو إلى الحوار .وحول هذه المسألة لا بدّ من الإشارة إلى أن آية   -مثلاً- هي آية مدنية، وقد أنزلت بعد نزول الآيات[لا إكراه في الدين  التي تأذن / تأمر بالقتال.فلماذا، إذاً -حسب قواعد التفسير المتفق حولها- لا تكون هذه الآية قد نسخت الإذن بالقتال؟ أو ليس من الجائز الموضوعي أن يكون استخدام أسلوب القتال بالدعوة للإسلام هو المسألة المرحلية / الثانوية اقتضته ظروف المرحلة، بينما القاعدة الثابتة هي عدم الإكراه ؟».
يقول الإمام النيسابوري في كتابه الناسخ والمنسوخ، ما يلي: سورة التوبة [براءة] نزلت بالمدينة، وهي آخر التنزيل، تحتوي على إحدى عشرة آية منسوخة. أما الآيات التي نزلت في سورة التوبة بخصوص قتال المشركين، فهي:
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ] [وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا](التوبة:1).  أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى] (التوبة:2). [الْكَافِرِينَ النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ إِلَّا الَّذِينَ] (التوبة:3). [الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى فَإِذَا] (التوبة:4). [مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَإِنْ] (التوبة:5).[فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ] (التوبة:6). [يَعْلَمُونَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ وَإِنْ نَكَثُوا] (التوبة:7).[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً] (التوبة:12). [لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ قَاتِلُوهُمْ] (التوبة:13). [تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ يَا] (التوبة:14). [عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ  (التوبة:23).[يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا] يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ] (التوبة:28).[إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يَا أَيُّهَا] (التوبة:73). [وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ  (التحريم:9).[وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
إستنتــاج:
صحيح أن الآية (لا إكراه في الدين) هي آية مدنية، ولكنها لم يكن آخر ما أُنزِل لكي تكون مطلقة في حكمها وتقفل الطريق على الإذن بالقتال. إن الآية (لا إكراه في الدين) لو يَا]لم تُنسَخ، وبقيت حقيقة ثابتة مطلقة الحكم لتناقضت مع الآية:  أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ  (التوبة:23).[يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
-إن سورة التوبة [براءة]، هي آخر ما أُنزِل من القرآن، وكانت مدينية وعلى الرغم من احتوائها على آيات القتال بشكل محكم. لا يمكن الإغفال بأن: كان الحوار قيمة ثابتة، والقتال قيمة ثابتة، ثم ترابط الحوار والقوة قيمة ثابتة.
- يوجد بعض التساؤل:
1-هل من المعقول أن الله أذن للرسول بقتال المشركين لعام أو عامين أو ثلاث، ثم أوقف هذا الإذن؟
2-هل تمرد الرسول على نزول الآية (لا إكراه في الدين)؟
3-هل الحرب التي قام بها الرسول لنشر الدعوة كان مجرد اعتداء على الآخرين، لأنه لا يحترم، ولا يؤمن ما يؤمنون به طالما أُنزِلت الآية (لا إكراه في الدين) قيمة ثابتة؟
4-هل الرسول لا يعرف المرحلي من الثابت؟
5-إن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة. وبقي التنزيل لمدة 23 سنة لانتهاء تنزيله. فكانت الآيات تنزل تطابقاً لما يحدث على الأرض، هذا من جهة؛ وإعداد المسلمين حتى تتهيّأ لهم الظروف الذاتية والموضوعية لتقبل التحليل والتحريم. لأنه لا يتم نقل المجتمع من حالة إلى حالة دفعة واحدة.
- إن ما ورد في سورة التوبة يبيّن:
1-تبرَّأ الله ورسوله من المشركين.
2-الأمر بقتال المشركين وقتلهم بعد انتهاء أشهر الحُرُم.
3-إحترام العهد بين الرسول والمشركين لحين انقضائه.
4-الأمان لمن طلب الأمان حتى  . وهذا يعني أن الله ورسوله[بأنهم قوم لا يعلمون]يسمع كلام الله ذلك  يعلمون بأن المشركين، الذين يقاتلونهم، لا يعرفون شيئاً عن الدين الجديد، لأنه لم تُعطَ لهم فرصة كافية. وهذا دعوة للحوار على الرغم من نزول الإذن بالقتال.
5-منع المشركين من التقرب من المسجد الحرام.
6-إستعمال الغلظة عليهم وترصدهم وتعقبهم.
7-إن نزول الآيات بقتال المشركين وقتلهم، أينما وجدوا، تحذير قوي بأن الحوار يقابله حوار، وإن القتال يقابله قتال، والقوة تقابلها قوة، والأذى يقابله أذى.
8-ليس من المعقول أن يتبرّأ الله ورسوله من المشركين، ثم يتبرّأ من الأمر بقتالهم وقتلهم حيثما وُجِدوا، ثم يتبرّأ من منع المشركين من التقرب من المسجد الحرام. ثم يقول (لا إكراه في الدين). فما ذنب الذين قُتِلوا من المسلمين والمشركين في هذه الحرب التي أمر بها الله الرسول بالقتال، ثم الاستدراك والعودة إلى آية (لا إكراه في الدين). إن من يقوم بذلك هو الله وليس الإنسان، ليكون هذا التردد وعدم حساب الأمور بشكلها الصحيح.
ورد في الصفحة 37 من كتاب الردة في الإسلام، ما يلي: «ولأن القوة والقتال هما أسلوبان لحماية المثل العليا، فأحرى بهما أن يتوجّها إلى حماية حرية المعتقد، كمثل أعلى؛ وليس استخدامهما لإكراه الآخرين على أن يعتنقوا ما ليس لديهم قناعة به. ولهذا قال الله تعالى: إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب».
ورد في كتاب الناسخ والمنسوخ للإمام النيسابوري، ما يلي: «هذه الآية المجمع عليها، قوله تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، نُسِخت بآية السيف» ( ).
إستنتــاج:
-عن الرسول، في بداية دعوته، لم يكن يملك القوة للقتال، بل كان يدعو بالتي هي أحسن.
-إن قريشاً، وممن كانوا معها، ألحقوا الأذى بداية بالرسول ومن كان معه.
-إن قريشاً، في بداية الدعوة وخلالها، كانت تملك القوة والسطوة، والعدد والعُدَّة؛ فلماذا لم تترك الرسول وشأنه ليعبد ما يعبد، ويبشر بما يؤمن به، فستخدم قوَّتها لحماية ما آمن به الرسول؟
-أدركت قريش قوَّة الرسالة التي أتى بها الرسول وتأثيرها عليهم، فبادرت إلى استعمال القوة والتعذيب والحصار من أجل وأدها في مهدها. وقريش تعرف بأن محمداً صادقٌ وأمين، ولم يصبه ما أصاب أهل الجاهلية بشيء.
)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ]رابعــاً:  رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ  (النحل:125). لقد نزلت هذه الآية بعد غزوة أُحُد.[بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
ورد في كتاب الردة، تحت عنوان غزوة أحد، في الصحفة 29، ما يلي: «رداً على غزوة بدر، اجتمعت قريش مع من أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة، وأعدت جيشاً لغزو المسلمين. فكانت معركة أحد التي سقط فيها سبعون شهيداً».
وقد ورد في كتاب أسباب النزول للإمام النيسابوري، ما يلي: «إن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمُثلة السيئة، قالوا حين رأوا ذلك: لئن ظفرنا الله سبحانه وتعالى عليهم لنزيدنَّ على صنيعهم، ولنمثلنّ بهم مُثلة لم يمثلها أحد من العرب قط، ولنفعلن ولنفعلن، ووقف رسول الله (ص) على عمه حمزة، وقد جدعوا أنفه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استطرتها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها نظر رسول الله (ص) إلى حمزة، نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع قلبه فقال الرسول: والله لئن ظفرني الله تعالى بهم لأمثلن بسبعين وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا]منهم، فأنزل الله تعالى  [عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل:126). قال النبي بل نصبر، وأمسك عما أراد، وكفَّر عن يمينه»( ).
فهذه الآية ، من سورة النحل، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ]وتكملتها التي لم يشر إليها الكاتب:  بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا] (النحل:125). [أَحْسَنُ [عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ](النحل:126).   (النحل:127).[عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
إستنتــاج:
-لماذا لا تكون هذه التي أنزلها الله لكي تصبر النبي على ما أصابه بعمه وبالمسلمين. لكي يصبر المسلمين على ما ألمَّ بهم؟
-لما لا تكون هذه الآية عاملة على لملمة جراح النبي والمسلمين، وإعادة تنظيم صفوفهم بعد ما أصابهم من خسارة في هذه الحرب؟
-أمر الله الرسول بالمعاقبة بمثلها، وبيَّن له الصبر أفضل مما كان ينوي عليه، فاختار الرسول الصبر.
-يوجد فصل دائم للآية أولها عن آخرها، وفصلها عن الظروف التي نزلت بها. وأخذ الشق الذي يدعو إلى الحوار كمقياس مطلق.
-إن إعطاء صفة الحوار للآيات بصورة مطلقة على مدى التنزيل تُظهر الرسول وكأنه متعطش للقتال وإراقة الدماء على الرغم مما أمره الله به.
-يقول الإمام النيسابوري، في كتابه الناسخ والمنسوخ، تمَّ نسخ الآية أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، منسوخة، نسختها آية السيف( ).
ورد في كتاب الردة في الإسلام، في الصفحة 25، ما يلي: «ألمَّت بالمسلمين، في مطلع هجرتهم إلى المدينة، متاعب اقتصادية جمّة متعددة الأسباب منها : أن الأنصار فتحوا بيوتهم للمهاجرين، الذين كانوا يعيشون في حياة كفاف غالباً».
إستنتـاج:
يُستنتج من هذا النص أنه لم يحصل في المدينة حرب لكي يتم احتضان المهاجرين على الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي أصابتهم. وهذا الاحتضان كان عن قناعة نتيجة للحوار والتبشير بالدعوة الجديدة على الرغم من الإذن بالقتال، وهذا يدل على فرصة أُعطيت للرسول ليحاور دون التعرض له بالأذى لكي يبيّن لهم هدف الرسالة التي أُرسِل من أجلها. وهنا أعلى مراحل الحوار الذي أدّى إلى انتشار الدين الجديد وإيمانهم القوي الذي أدّى إلى احتضان المهاجرين على الرغم من الضائقة الاقتصادية.
ورد في الصفحة 38 من كتاب الردة في الإسلام، ما يلي: «فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل».
إستنتــاج:
-إن المقصود بالفسحة الزمنية، هنا، فترة زمنية قصيرة تُعطى لإعادة الحساب. وهذا ليس صحيحاً لأن الرسول بقي 13 عاماً يدعو المشركين بالحوار إلى الدين الجديد على الرغم من تعرضه للأذى.
-فلماذا لم تعطه قريش الفترة الزمنية نفسها دون التعرض له بالأذى، ومنعه من التبشير بما يؤمن به. فبذلك يكون التكافؤ بالحوار وبالفرصة؟
-لماذا كثرة استعمال عبارات القتل والقتال، وإظهار الإسلام بأنه لا يعرف الرحمة؟
-بلغ عدد غزوات الرسول 24 غزوة و5 سرايا. منها 7 غزوات حصل فيها حرب، و17 غزوة لم يقع فيها حرب إلى الدرجة التي لم يلتق في خلالها المتقاتلون [مراجعة غزوات الرسول من ص 27 - 34]. وإن الغزوات ال 17 كان المشركون يغيرون فيها على المسلمين بشكل مفاجئ، ويلحقون الأذى القليل بهم. أما الغزوات التي حصل فيها حرب فيمكن تفصيلها على الشكل التالي:
أربع غزوات ضد اليهود: غزوة بني النضير [السنة الثانية هجرية]. غزوة بني قريظة [السنة الخامسة هجرية]. غزوة بني المصطلك [السنة السادسة هجرية]. غزوة خيبر [السنة السابعة هجرية]. وكانت هذه الغزوات لقتال اليهود بسبب دسائسهم وغدرهم وعدم احترامهم للعهود والمواثيق، ولم تكن لتغيير دينهم.
-أما غزوة مؤتة [السنة الثامنة هجرية] فكانت ضد الروم، ولم تكن متكافئة من حيث عدد المسلمين، الذي بلغ 3000 آلاف مقاتل، أما عدد الروم فبلغ مئة ألف مقاتل. وفيها هُزِم المسلمون.
-هُزِم المسلمون في غزوتين مع المشركين، وهما: غزوة أُحُد [السنة الثالثة هجرية]. وغزوة حنين [في السنة الثامنة هجرية]. ويُلاحظ، هنا، وقوع هزيمتين بالمسلمين في العام ذاته: هزيمة حنين وهزيمة مؤتة.
-أما الغزوة التي انتصر فيها المسلمون على المشركين فكانت غزوة بدر [السنة الثانية هجرية]، أي أن: أربع غزوات ضد اليهود ظفر فيها المسلمون. وثلاث غزوات انهزم فيها المسلمون: اثنتين ضد المشركين، وواحدة ضد الروم، وواحدة ربحوا فيها ضد المشركين وهي بدر.
-عند بدء الرسول بالدعوة إلى الإسلام كان بالحوار [13 عاماً في مكة].
-لم تتقبل قريش فكرة الدين الجديد.
-بدأت قريش أولاً بإلحاق الأذى بالرسول، وبمن آمن معه وصدَّق رسالته.
-محاولة قتل الرسول، وهي قصة مشهورة، ويُروى أن علياً بن أبي طالب كان قد نام في فراشه.
-هجرة الرسول واختباؤه في مغارة، ولم يفصل بينه وبين القتل سوى خيوط العنكبوت.
-تعذيب وقتل من صدَّق بالرسول، وقصة عمار بن ياسر مشهورة بقتل أهله، وكانا أول قتيلين في الإسلام. وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على الإرهاب الفكري عند قريش.
-تعذيب بلال الحبشي الذي أصبح مؤذِّناً للرسول.
-فرض الحصار على من آمن وصدَّق بما أتى به الرسول، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وعدم شراء أي شيء منهم، أو بيعهم، وعدم الزواج منهم أو تزويجهم. هاجر بعضهم إلى الحبشة والبعض الآخر إلى المدينة. وقد عانوا من قلة الماء والطعام.
-إرسال قريش الرُسُل إلى القبائل وإلى حلفائها، لتضييق الخناق على الرسول واتباعه.
من كل ما تقدَّم، من خلال استعراض غزوات الرسول، يتبيَّن أن الإسلام لم يضع السيف على الرقاب بصورة قاطعة: إما القتال وإما القتل وإما الإسلام. إن عدم وجود صولات من الحرب وَمَا أَرْسَلْنَا]مع المشركين من العرب، التي أتت الرسالة من أجلهم،   (ابراهيم:4)، لكي تنتشر من[مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ خلالهم إلى بقاع الأرض.
إن هذا يدل على عظمة الرسالة التي انتشرت في بلاد العرب وعظمة العرب الذين حملوا هذه الرسالة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ]  (آل عمران:110)، بدون حرب(بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وبدون إراقة دماء. من الممكن أن انتشار الإسلام في بقاع الأرض قد تراصف مع القوة والإقناع، لأن القهر وحده في الفكر والإيمان لا يؤدي إلى مثل هذا الانتشار الكبير والواسع ما لم ترافقه القناعة والإيمان.
إن الإذن بالقتال كان بخصوص العرب المشركين، ولم تمتد إلى أهل الكتاب، أي أن الجبر كان للعرب لكي يتحمَّلوا تبعات انتشار الإسلام ويكون لهم دور في بناء الحضارة بعد أن كانوا قبائل متناحرة متناثرة لا قيمة لهم.
هل معركة بدر، التي انتصر فيها المسلمون، غيَّرت مجرى التاريخ العربي؟
هل معركة بدر، التي خاضها الرسول كانت بأمر من الله أو بأمر من الرسول؟ وهل تمرَّد الرسول على أمر الله لاختياره طريق القتال بدل الحوار؟
على الرغم مما أصاب العرب من ردات على الإسلام، بعد موت الرسول، استطاعوا أن يدكوا صرح الإمبراطورية الفارسية، وإمبراطورية الروم، على الرغم من قلة عددهم وعدَّتهم، وهذا يدل على عمق إيمان العرب، إيمان لا تراجع عنه، إيمان الشهادة أو النصر. وعندما اشتدَّ عود المسلمين، وأصبحوا يعاملونهم بمثل ما عُوملوا به، نرى أن الأذى الذي كان يصيب الرسول والمسلمين لا أثر له. فالقتال كان دفاعاً عن النفس ودفاعاً عن الرسالة. وكان الإذن بالقتال، عموماً، دفاعاً عن النفس بأمر من الله، وكل ما يأتي من الله فهو عدل.
لم يكن السيف الحد الفاصل لانتشار الإسلام، ولم يكن مسلطاً على رقاب العباد بصورة مطلقة، ولم يكن الإسلام دموياً وعنيفاً في أثناء نشر الرسالة. ولم يكن الحوار بعيداً جداً خلف السيف، بل كانت الظروف هي التي تقرر استخدام السلاح المناسب. فإذا كان الإسلام ظالماً بانتشاره، فإن الله يكون ظالماً لأنه يأمر الرسول، ما على الرسول إلاَّ البلاغ والطاعة. وإذا كان الإسلام عادلاً بانتشاره فإنه يكون عادلاً بأمر من الله. وإذا كان العدل والظلم متساويين، فإن انتشار الرسالة يقع في منزلة بين منزلتين. ولكن المنزلة بين المنزلتين تكون خاصة بالبشر من حيث الثواب والعقاب، لكن تنزيل الرسالة لا يمكن أن يكون بين المنزلتين لأن مصدرها الله التي كُلَّف بها الرسول.
وليد شحيتلي
***

تعقيب على مناقشة شحيتلي
بداية كان لا بُدَّ من أن أسجَّل شكري للسيد شحيتلي لاهتمامه بقراءة الكتاب أولاً، ولجهده الذي بذله في مناقشة بعض ما قرأ منه ثانياً. فالقراءة واجب تخلَّى عنه الكثيرون، ومناقشة أي مادة نقرأها ومن ثم ننقدها أصبحت من النقد النادر. فبالقراءة الناقدة نستطيع أن نسجل خطوة أولى على طريق اكتساب معارف جديدة، بالإضافة إلى تطوير معارفنا السابقة بما يتلاءم مع العصر الذي يعيش فيه كل من الكاتب والقارئ الناقد. فتطوير مناهج المعرفة واجب من أهم واجبات الكاتب والقارئ الناقد على حد سواء. وعلى قاعدة إيماني بأن طاولات الحوار هي من أهم الضرورات التي على المثقفين العرب أن يبسطوها فيما بينهم، سأعمل على تسجيِل بعض الانطباعات عن المنهج الذي سلكه السيد شحيتلي في مناقشة بعض ما جاء في كتاب الردة، ومنها:
1- يتميز منهجه باطلاَّع وافر وعارف عن مناهج البحث الإسلامي. وهو في هذا الإطار يعود في تطوير معارفه إلى ما جاء في التراث الإسلامي. وأدلته التي يستخدمها في تدعيم وجهة نظره النقدية ثابتة في مصادر الفقه السلفي.
2- يستخدم، بالإضافة إلى معرفته بالمناهج السلفية، قدرته على الاستنتاج وإبداء الرأي وهي من أهم ميزات الحوار فيما تدور حوله المسائل الخلافية.
3- خِلت نفسي، في أثناء قراءة الملاحظات، أنني أمام فقيه إسلامي بارد القسمات والطباع، واثق من نفسه وواضح في أسانيده ومناقشاته. وهذه الصفات مما يغري المحاور الآخر بأن يسترسل بحرية وراحة، بعيداً عن هاجس الاتهامات العشوائية، بالمناقشة وإبداء الرأي.
4- إن ما يميز، في هذه المناقشة، أحدنا عن الآخر هو منهج المناقشة حول نصوص ووقائع، تُعدُّها أنت أنها مطلقة وتحمل الحقيقة كلها لأنها جاءت بوحي من الله وبأوامر منه، أما أنا فأحسبها نصوصاً نسبية جاءت لتعالج مشاكل آنية كانت تنزل في وقتها وزمانها ومكانها. وليس أدلَّ على هذا الاستنتاج من أنك ترفع أسئلة، كمثل: «هل من المعقول أن الله أذن للرسول بقتال المشركين لعام أو عامين أو ثلاث، ثم أوقف هذا الإذن؟». «هل الرسول لا يعرف المرحلي من الثابت؟». «ليس من المعقول أن يتبرّأ الله ورسوله من المشركين، ثم يتبرّأ من الأمر بقتالهم وقتلهم حيثما وُجِدوا». «هذه الحرب التي أمر بها الله الرسول بالقتال إن من يقوم بذلك هو الله وليس الإنسان». «فإذا كان الإسلام ظالماً بانتشاره، فإن الله يكون ظالماً لأنه يأمر الرسول». «تنزيل الرسالة لا يمكن أن يكون بين المنزلتين لأن مصدرها الله التي كُلَّف بها الرسول».
5- لا بُدَّ، قبل أن نبدأ بالحوار، من أن نتَّفق على المنهج. فإذا كان المنهج قائماً على قاعدة تكبيل حرية المتحاورَين بنصوص مُنزَلَة من الله، فمن العسير عليهما أن يقفا أمام إشكالية التفضيل بين ما يقوله الله وما يقوله الإنسان. لأن نتائج الحوار لا بُدَّ من أن تكون لصالح ما يقوله الله وما يأمر به. فمن السذاجة، إذاً، أن نناقش ما أنزله الله وهو خالق الكون والبشر، والمحاور المكابر هو، أيضاً، من بين خلق الله. وهل من هدف لله تعالى أن يقف في مواجهة بشر هم من خلقه وتكوينه؟ وهل من الجائز أن يضع الدين العزة الإلهية نداً لند مع البشر؟
6- إذا كان النقاش يدور بين ما قاله الله وما أمر به، وبين ما يقوله البشر، فلن تكون المعركة إلاَّ خاسرة بلا شك. وفي مثل هذا الحالة لن أستطيع، كفرد من البشر، إلاَّ أن أرفع راية التسليم لله خالقي وسبب وجودي ووجود آبائي وأجدادي، ولن أكون ناكراً لقدرة الله ونعمته عليَّ وعلى البشرية والكون اللامتناهي. ولن أُتعب نفسي بمواجهة المستحيل من خلال أن أكون نداً لله جُلَّت قدرته.
7- إن المنهج الذي أعمل على أساسه، كما أصبح واضحاً، يستند إلى أن الله تعالى لم يضع أحكاماً تفصيلية للبشر لكي يلزمهم بتطبيقها. إنما زوَّدهم بالقوة بعدد من المُثُل العليا والتي عليهم بإخراجها إلى الفعل. ولا يمكنهم العيش من دونها في مجتمع متجانس ومقبول، المجتمع الذي يحاول أن يحقق من خلال عمل أفراده وسعيهم إلى بلوغ المُثُل العليا، المثل التي يصح أن نطلق عليها صفة الثبات والديمومة والتي تعبِّر عن الحقائق المطلقة. والحقائق المطلقة هي ما يصح تعميمه وقبوله في شتى المجتمعات على مختلف أرجاء المعمورة، في كل زمان ومكان. وكمثال على ذلك إشكالية الحوار والقوة، إشكالية الحرية والإكراه. وهي الإشكالية الخلافية التي خصصت لها بحثاً متكاملاً، وركَّزت فيه على الدعوة الإسلامية بشكل خاص بسبب التأثيرات السلبية الكبيرة التي يعاني منها المفكرون، والتي يحدثها غياب الرؤية الإسلامية الموحَّدَة لها من جهة، ولغياب إمكانية المقاربة بين الرؤية الإسلامية وبين رؤية المجتمعات البشرية المتعددة من جهة أخرى.
8- إنه من المتعارف عليه أن أي قانون أو تنظيم لا ينال رضى كل المجتمعات وقبولهم هو قانون نسبي وخاضع للتغيير وعدم الثبات، فهو ليس ثابتاً فكرياً، بل هو من المتغيرات. والإكراه، هنا، هو من القوانين النسبية والمتغيرة فهو ليس ثابتاً بل متغيراً. وإلاَّ لكان من الواجب أن يعمل الناس في علاقاتهم على قاعدة أن الأفضل هو من يستطيع أن يكره الآخرين على ما ليس لديهم قناعة بصلاحيته لهم، وعليهم أن يخضعوا إلى إكراه من يرى مصلحتهم من زاويته لا من زاويتهم. وهنا تنتشر فوضى تطبيق مبدأ الإكراه وتتكاثر بتكاثر الرؤى وتعددها.
9- أما الحرية، فهي مبدأ إنساني عام وقيمة من القيم التي تعمل من أجلها كل المجتمعات، كما يعمل من أجلها الأفراد أيضاً. وليس هناك على سطح الكرة الأرضية من يرى أن الحرية، كمبدأ فلسفي عام، هي من القيم المتغيرة، بل هي من القيم الثابتة. أما طريق العمل من أجل تعميمها فيختلف من بيئة إلى أخرى ومن ظرف إلى آخر. فقد يستخدم البعض أسلوب الحوار، وقد يستخدم البعض الآخر أسلوب المعارضة السياسية أو حتى أسلوب القتال من أجل الدفاع عنها كمبدأ ضد كل من يعمل على منعها أو مصادرتها. هنا، لم يتغير مفهوم الحرية من مجتمع إلى آخر، فالحرية هي قيمة مطلقة ثابتة. أما أسلوب العمل من أجلها فيتغير بتغير الظرف والبيئة، وأساليب العمل من أجل الحرية، والتي قد يكون أحدها القوة أو الإكراه، هو من المتغيرات، فهي ليست ثوابت بل متغيرات، لأن مبدأ الإكراه ليست من الغايات المطلقة التي تصب ممارستها في مصلحة الأفراد أو الجماعات.
10- وهنا، أيضاً، يحسب الفقهاء المسلمون استناداً إلى الكتاب والسنة، أن استخدام أسلوب الإكراه هو مبدأ إلهي، بل من الواجب تطبيقه من أجل نشر الدعوة الإسلامية. ونحن نعرف أن الدعوة الإسلامية ما وُجِدت إلاَّ من أجل مصلحة المجتمع. فهل في مثل هذا الاستخدام ما يبرر أن يكون الإكراه هو من المبادئ المطلقة؟
فإذا ما كنا من القانعين بصحة هذا الاستنتاج تصبح الشريعة غاية لا وسيلة، ويصبح الإنسان هو الوسيلة التي نؤهلها لخدمة الشريعة وليس العكس. فلمن يكون الله قد خلق هذا الكون، أمن أجل سعادة الإنسان أم أنه خلق الإنسان ليطبق الشرائع، حتى منها التي لا يرى أنها تمتلك المبررات العقلية والمصلحية الكافية؟ وهل الله بحاجة إلى أن يخلق إنساناً، ويخلق معه طبيعتيْ الطاعة والعصيان، ويضعه أمام امتحان عسير: إما أن يطيع ما حسب البعض أنه أمر إلهي فيدخل الجنة، وإما أن يعصي فيدخل نار جهنم إلى أبد الآبدين؟ ويحسب البعض، استناداً إلى الكتاب والسنة، أنهم أُمروا أن يقودوا البشر إلى الإيمان فالجنة حتى ولو استخدموا أسلوب الإكراه الذي يتعارض مع الحرية، كقيمة عليا من القيم التي فطرها الله في البشر كل البشر؟

ملاحظات الكاتب حول بعض تفصيلات النقد:
أما حول موضوع الناسخ والمنسوخ، فنرى أنه من الموضوعات التي لم تأت لتغيَّر حكماً بحكم، أو آية بآية أحسن مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا]منها:  أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ  (البقرة 2/ 106). بل إن ما جاء في القرآن هو تدليل على أنه لا[قَدِيرٌ يمكن للأحكام الزمنية أن تبقى ثابتة، بل إنها تتغير بتغير الظروف. وهو دليل على أن أسلوب النسخ جاء لا لكي يضع أحكاماً ثابتة لأعمال هي من المتغيرات، بل ليدل على أن الشريعة ليست ثابتة بل وُضِعت لتحاكي ظروف البشر ومصالحهم، فإذا أصبح الحكم لا يلبي مصلحة البشر فلا ضير ولا خوف من تعديله بأحسن منه.
قد يقول قائل بأنه ليس من حق أيٍّ كان أن يزج نفسه في سلك المفسرين والمجتهدين. فمن يريد أن يزج نفسه في هذا المضمار من دون أن يكون من أهله، كمن يفتري على استخدام سلطة ليست من حقه. بل لا يجوز أن يتنكَّب هذه المهمة إلاَّ من حاز على شروط الأهلية التي حددها السلف، وبذلك عليه أن يكون من الفقهاء الذين درسوا في كليات الشريعة. ولا يسعنا هنا أن نلفت النظر إلى أن كليات الشريعة ليست موحدَّة، بل يمكن أن ينفي بعضها صلاحية بعضها الآخر. نقول هذا في الوقت الذي لا بُدَّ لنا من أن نُذكِّر بأن المسلمين الأوائل لم يتخرجوا من أية كليَّة بل اعتمدوا على كفاءاتهم العقلية والنقلية.
لقد حدد النيسابوري أحكام النسخ الشكلية، لكنه لم يستطع أن يناقش أو يجتهد في جوهر النص. ولهذا يحدد أنواع النسخ بثلاث، وهي: ما نُسِخ خطه وحكمه. ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه. ومنه ما نُسِخ حكمه وبقي خطه. وهنا لا بُدَّ من التساؤل:
-ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط والحكم؟ فهل لدى النيسابوري تفسيراً لهذا؟ وهل لدى الله، الذي حدد بعض أحكام الشريعة فسُمِيَت محكمة، غرض آخر من إغفال حكمة ما نسخ خطه وحكمه؟
-لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمه؟ وهذه معضلة أخرى لا بُدَّ من توضحيها بغير القول إن العلم عند الله.
-ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟ وما فائدة بقاء الخط بغير الحكم؟ وهل الغاية هي الخط أم الحكم؟ فإذا كانت الغاية هي الخط، فلماذا نسخ الخط في بعض الأحكام؟ وإذا كانت الغاية هي الحكم فلماذا أبقى على خطوط أحكام كان قد نسخها؟
هنا لا بُدَّ من أن نتساءل أيضاً: هل لا يجوز لنا أن نناقش النيسابوري أو غيره من فقهاء المسلمين الذين وضعوا قواعد لفهم القرآن والسنة أم أن ما جاؤا به أصبح من النصوص المقدَّسة؟ وهل لنا أن نقول غير ما قاله الإمام محمد عبده: هم رجال ونحن رجال. وهل نغفر لما قاله محمد عبده لأنه خريج أحد كليات الشريعة؟
هل يمكننا، هنا، أن نقارن بين مستوى إيمان من آمن من المسلمين بالحوار وبين من استجابوا إلى الدعوة الإسلامية بحد السيف؟
-لقد عبَّرت، أنت، تماماً عن صلابة المسلمين الذي آمنوا بالدعوة بالحوار في المرحلة المكية. ألست أنت القائل: إن المشركين فرضوا «الحصار على من آمن وصدَّق بما أتى به الرسول، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وعدم شراء أي شيء منهم، أو بيعهم، وعدم الزواج منهم أو تزويجهم. هاجر بعضهم إلى الحبشة والبعض الآخر إلى المدينة. وقد عانوا من قلة الماء والطعام».
لو كان نسخ آية الحوار بآية السيف هو الأحسن والأفضل لكان المؤمنون بحد السيف هم أكثر إيماناً ممن استجابوا لها بواسطة الحوار. لكننا نرى أن العكس هو الصحيح، لأن من آمن بالدعوة في المرحلة المكية -مرحلة الدعوة بالتي هي أحسن- كانوا أشد إيماناً: فهم الذين تعرضوا للتعذيب، ومنهم من هاجر إلى الحبشة على الرغم من عذابات الهجرة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، لكنهم جميعاً ضحوا وكابدوا ودفعوا الثمن غالياً وبقي إيمانهم قوياً بقوة نيتهم على أن يموتوا في سبيلها. أما الأكثرية الساحقة من الذين أسلموا بالتخويف من القتل والقتال فقد كانوا من المنافقين، وقد أشار إليهم الرسول والنص القرآني بكثير من الوضوح. وهل يبقى أمامنا إلاَّ أن نميز بين الدعوة بالحوار والدعوة بالسيف، ونؤمن بأن الحوار هو القاعدة الثابتة أما السيف فهو القاعدة المتغيرة؟ وهل علينا أن نمتنع عن الإقرار بمثل هذه الحقيقة بسبب القواعد الفقهية حول تحديد الناسخ والمنسوخ. واستطراداً أن نؤمن بثبات الدعوة بالقتال وتغيير أسلوب الدعوة بالحوار، وليس لأي سبب إلاَّ لأن آية السيف قد نسخت آيات الحوار؟
أما حول الاستغراب الذي عبَّرت عنه النتيجة التي توصلت أنت إليها يا صديقي: «إنه لتناقض كبير في الإيمان داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة» إذا تعددت أنواع الإيمان. وما هو وجه الغرابة في ذلك؟ أيمكن القول إن السبب هو أن الإسلام هو دين الفطرة؟ وحول هذه المسألة أرجو العودة إلى استنتاجات كتاب الردة في أواخر الفصل الأول. وهل من الواقعية بشيء أن يبقى كل الناس على دين ملوكهم؟ فأين هي الحرية في الاختيار؟ فلو افترضنا، كما يحسب فقهاء المسلمين، أن في الإسلام كل الحقائق في الدنيا والآخرة، أي أن الإسلام هو دين ودنيا، يكفي فقيه عادل واحد أن يحكم البشرية كلها. وهنا لا يمكن أن يتسرب الخلل إلى الإيمان، ولا يمكن له أن يتعدد. فعلى المسلم أن يًسلِّم بما يفتي به الفقيه، وأن يمتنع على أولاده أو زوجاته أن يؤمنوا بغير ما يؤمن به رب البيت، تحت ذريعة أن هناك تناقض في الإيمان إذا انتمى أي واحد إلى دين غير الدين الذي ينتمي إليه أفراد أسرته. فهل يستقيم الإيمان في مثل هذه الحالة؟ وهل نستطيع أن نُثبِّت أنه من الواجب أن يُجمع كل أفراد الأسرة على الإيمان بدين واحد، وأن نمنع الحوار حول حق كل فرد أن يختار الدين الذي يقتنع به لأن هذا، كما تقول: «لا يدخل في باب الحوار، إنه ذو قيمة ثابتة مطلقة».
-لقد ساويت أنت بين الحوار والإكراه عندما قلت بأن «الحوار قيمة ثابتة، والقتال قيمة ثابتة، ثم ترابط الحوار والقوة قيمة ثابتة». فكيف تستقيم الأمور عندما توازن في المبدئية بين متناقضين؟
هل علينا أن نعمل من أجل أن يبقى القتال قيمة من القيم التي لا نسعى لإلغائها من التداول لكي تبقى أسلوباً صالحاً في حسم المشاكل؟
وهل يمكن أن نكون منطقيين عندما نساوي بين الحرية والإكراه؟
إن القوة والقتال والإكراه تتساوى إلى حد ما، كأساليب مرحلية، عندما نستخدمها في فرض القيم العليا. وبصورة أوضح: أنا أقاتل من أجل فرض العدالة والمساواة -كقيم عليا ومطلقة- بين الناس. وأنا أستخدم أسلوب إكراه الظالم على رفع ظلمه عن المظلومين. وأنا أستخدم القوة في سبيل أن أعيد الحق -كقيمة عليا مطلقة- إلى أصحاب الحقوق. ولكن عندما تتحقق العدالة والمساواة، وعندما يرفع الظالم ظلمه عن المظلومين، وعندما يُعيد المغتصب حقوق الآخرين إليهم، هل يبقى القتال والقوة والإكراه قيم ثابتة؟ هنا ليست هذه من القيم الثابتة بل هي من الوسائل التي نستخدمها أحياناً في سبيل الدفاع عن القيم الثابتة المطلقة.
لماذا نستخدمها أحياناً وليس في كل الأوقات والظروف؟
إذا استجاب الغاصب أو الظالم إلى رفع اغتصابه أو ظلمه بالتي هي أحسن، فهل يبقى من مبرر لاستخدام أسلوب القوة والقتال والإكراه لتحقيق الغاية ذاتها؟ لا بُدَّ من أن يكون الجواب: يستخدم الإنسان أولاً أسلوب الدعوة بالتي هي أحسن، أي بالحوار. فالحوار له الأولوية؛ إذاً، له الأفضلية. وهنا، منطقياً، لا يمكن أن يكون للحوار والقتال الأفضلية ذاتها. فهما ليستا متساويتين بالثبات والإطلاق.
هنا لا يمكن أن يكون خيار بين العدالة، كقيمة عليا ومطلقة وثابتة، واللاعدالة. إننا نقاتل اللاعدالة في سبيل العدالة. بينما هناك خيار بين استخدام الحوار والقوة، بل هناك أفضلية وأولوية للحوار على القوة.
تقول أنت: «إن نزول الآيات بقتال المشركين وقتلهم، أينما وجدوا، تحذير قوي بأن الحوار يقابله حوار، وإن القتال يقابله قتال، والقوة تقابلها قوة، والأذى يقابله أذى». لكن إذا حُلَّت المشاكل المتنازع عليها بالحوار الذي يقابله حوار، فهل هناك ضرورة واجبة في استخدام الأساليب الأخرى؟
تنقل ما يلي: «يقول الإمام النيسابوري، في كتابه الناسخ والمنسوخ، تمَّ نسخ الآية أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، منسوخة، نسختها آية السيف».
أنت تجيب بنفسك على السؤال عندما تقول: «إن الحوار على الرغم من نزول الإذن بالقتال، لم ينقطع بشكل مطلق، مثل صلح الحديبية قبل فتح مكة والدخول إليها، خلال غزوة بدر، وقبل بدؤها كان هناك حوار ثم بدأت المعركة. غزوة الخندق كان بها حوار أدَّى إلى مصالحة. هذا دليل على الحوار». لكنني أضيف إلى ما قلته أنت بأن الحوار كان الخيار الأول، وهذا دليل على أنه أكثر ثباتاً وأفضل قيمة من الأساليب الأخرى. وهذا دليل، أيضاً، على أن القتال هو أسلوب مرحلي. وعليه فإنه، على الرغم من أن آيات القتال قد نسخت آيات الحوار، يبقى الحوار ثابتاً والقتال متغيراً. وأكبر دليل على ذلك فإن القتال الذي أمر الله باستخدامه ناسخاً آيات الحوار، لم يعد الحل، بل إن واقع الحوار وقيمته الثابتة هو الذي نسخ واقعياً أسلوب القتال، فالمسلمون اليوم لا يستطيعوا أن يقسموا البشرية في القرن الحادي والعشرين بين مؤمن وكافر، بين مسلم ومشرك، ولن يستطيعوا أن يدعو إلى الإيمان بالله حسب تعاليم الإسلام عن طريق القوة. ومن هنا تصبح مبادئ الناسخ والمنسوخ بين آيات الحوار والقوة، التي استنبطها فقهاء المسلمين من النص لاغية بحكم الأمر الواقع، وهذا دليل على ظرفيتها ومرحليتها، ودليل آخر على ثبات الدعوة بالحوار كقيمة قائمة على مبدأ الحرية كقيمة مطلقة.
تقول: «إن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة. وبقي التنزيل لمدة 23 سنة لانتهاء تنزيله. فكانت الآيات تنزل تطابقاً لما يحدث على الأرض». ونحن متفقان على ما تقول. لكن، وبما أن الآيات، التي استمرَّت 23 سنة، والتي جاءت لتعالج المشاكل التي كانت تحصل على أرض الجزيرة العربية، وبين قوم هم من العرب، هل يعني هذا أن البيئة الاجتماعية العربية، والمشاكل الظرفية التي كانت تحصل على أرض الجزيرة في خلال ال 23 سنة هي ذاتها التي أتت بعد ألف وأربعماية سنة؟ وهل مشاكل الجزيرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قبل ألف وأربعماية سنة، هي شبيهة بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية للشعوب غير العربية قبل ألف وأربعماية سنة أو بعد ألف وأربعماية سنة؟
فإذا بقيت ظروف وبيئة اجتماعية محدودة جداً، قياساً على اتساع رقعة العالم، 23 سنة لتكتمل فيها دعوة إلهية، فهل من الممكن أن يتم تطبيقها على شتى المجتمعات؟ فإذا كان الجواب نعم؛ وهذا، كما نحسب، خطاب تعبوي أكثر منه واقعي، فما هي أهمية كل نظريات البشرية الفكرية والفلسفية والاقتصادية، التي أثبتت نجاحها وجدارتها، والتي لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية؟ تلك النظريات قد حققت لشعوبها السعادة التي لم نحظ بها نحن حتى الآن، هل يمكن الاستهتار بها ورفضها تحت ذريعة أنها ليست من تعاليم الشريعة الإسلامية؟
لماذا رجَّحت أنت، رداً على استغرابي بأن الله لم يفوِّض أحداً بأن يحاسب البشر بالنيابة عنه تبعاً  (الرعد: من[فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ]للآية  الآية40)، أن تكون الآية منسوخة أيضاً؟ وهنا أعيد الاستغراب لألف مرة: هل أنت تقف إلى جانب ادِّعاء الفقهاء بأن لهم حق إلهي بأن يحاسبوا البشر، يصدرون عليهم الادعاء بالكفر، ثم يستتيبوهم، ثم يُنزلون بهم الحد بالقتل، ثم ينفذِّون حكم القتل بهم؟
هل تُسوِّغ القاعدة الفقهية حول الناسخ والمنسوخ بأن يقوم بشر يخطئون بتمثيل دور الله على الأرض؟ هل نختزل الإرادة الإلهية، التي أمرت النبي بأن يبلِّغ فقط، ونضعها في أيدي بشر يصادرون، استناداً إلى قواعد فقهية من وضعهم، إرادة الله ويضعون مصير البشر وحياتهم بين أيديهم، وليس من سبب يدفعهم إلى ذلك سوى أن آية السيف نسخت كل آيات الحوار؟
ورد في الصفحة 38 من كتاب الردة في الإسلام، ما يلي: «فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل». لقد نقلت أنت هذه الفقرة وقمت بالاستناجات التالية:
1- إن المقصود بالفسحة الزمنية، هنا، فترة زمنية قصيرة تُعطى لإعادة الحساب. وهذا ليس صحيحاً لأن الرسول بقي 13 عاماً يدعو المشركين بالحوار إلى الدين الجديد على الرغم من تعرضه للأذى.
2-فلماذا لم تعطه قريش الفترة الزمنية نفسها دون التعرض له بالأذى، ومنعه من التبشير بما يؤمن به. فبذلك يكون التكافؤ بالحوار وبالفرصة؟
3- لماذا كثرة استعمال عبارات القتل والقتال، وإظهار الإسلام بأنه لا يعرف الرحمة؟
أولاً لا بُدَّ أمامي من التوضيح أن العبارة التي وردت في الصفحة 38 من الكتاب كانت نتيجة لمناقشة أقوال لبعض فقهاء المسلمين حول موقفهم من الحوار، وفيها يصرُّون على أن القتل والقتال هو النتيجة الفضلى ضد من لا يستجيبون إلى الدعوة للإسلام، في الوقت الذي جئت أنا في الفصل الأول بأسانيد من النصوص القرآنية تدعم وجهة النظر التي تؤكد أن النص الإسلامي قد أعطى أولوية لأسلوب الحوار، وقد عزَّزت الأسانيد التي تعارض ما ينادي به عدد من الفقهاء الذين يدعون إلى استخدام القوة بالدعوة إلى الإسلام. وهنا لا بُدَّ من أن يتضاعف استغرابي من توجيه ملاحظة أوردها الصديق شحيتلي والتي يلومني عليها موجهاً كلامه بالقول: «لماذا كثرة استعمال عبارات القتل والقتال، وإظهار الإسلام بأنه لا يعرف الرحمة؟». وهنا أرى من الواجب العلمي أن أعود إلى ما قاله البعض من الفقهاء المسلمين في أن الدعوة إلى الإسلام لا يمكن أن يكون بغير استخدام القوة، وبالتالي إلى ما أكَّد عليه السيد شحيتلي نفسه من أن آية السيف قد نسخت آيات الحوار:
أولاً: ما جـاء في النـص، وفي أقـوال الفقهـاء:
 أُذِنَ لِلَّذِينَ) يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى) (الحج: 39و40). (أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا وَقَاتِلُوا فِي) (البقرة:193). (عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ قَاتِلُوا الَّذِينَ) (البقرة:190). (اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ  (التوبة:29).(وَهُمْ صَاغِرُونَ
-جاء في حديث للرسول: أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة
يعتقد محمد حسين فضل الله أن القرآن قد عبَّر عن أمرين لا ثالث لهما: إما القتال، وإما الإسلام، وذلك قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ)لقوله تعالى :  (إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (الفتح:16). وهو يستدلّ على ذلك، أيضاً، من «حديث الإمام جعفر الصادق(ع): إن الله عزّ وجلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخـير في السيف و تحت السيف..».
جاء في حديث للرسول: «من غيّر دينه فاضربوا عنقـه». ويتّفق العلماء المسلمون، من مختلف العصور والمذاهب، على أن عقوبة المرتد عن الإسلام هي القتل:
جاء عند النيسابوري : من يرتدد عن دينه: في الدنيا لما يفوته من فوائد الإسلام، فيُقتَل عند الظفر به
جاء عند جعفر الصادق : «من يرغب عن الإسلام،  بعد إسلامه فلا توبة له.rوكفر بما أُنزل على محمد  وقد وجب قتله».
جاء عند النووي: التارك لدينه، المفارق للجماعة، عامّ في كل مرتدّ عن الإسلام بأي إرادة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام.
أما مالك بن أنس فيرى: «أنه من خرج من الإسلام إلى غيره، مثل الزنادقة وأشباههم .فإن أولئك، إذا ظهر عليهم قُتلوا ولم يُستتابوا، لأنه لا تُعرف توبتهم. وإنهم كانوا يُسرُّون الكفر ويُعلنون الإسلام. فلا أرى أن يُستتاب هؤلاء ، ولا يُقبل منهم قولهم. وأما من خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك، فإنه يُستتاب؛ فإن تاب وإلا قُتِل.».
أما الوهّابية فقالت: إنه كل شرك وضلال يصدر عن مسلم، فإن تاب صاحبه وإلا قُتِل.
ويرى السيد سابق أن الإسلام قرّر عقوبة معجّلة في الدنيا للمرتدّ وهي عقوبة القتل.
أما محمد جواد مغنية فيقول: «وإن أصرّ على الكفر قُتِل إن كان رجلاً».

ثانيـاً: دفاع السيد شحيتلي عن الدعوة بالقتال، ونسخ الحوار، منتخبة من رده:
-«يقول النيسابوري، في كتابه الناسخ والمنسوخ، تمَّ نسخ الآية أدع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، منسوخة، نسختها آية السيف».
لا إِكْرَاهَ]-وأما قوله تعالى   (البقرة: من[فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي الآية256)، فقد تم نسخها بآية السيف، والباقي محكم.
-إن الآية (لا إكراه في الدين) يَا]لو لم تُنسَخ، وبقيت حقيقة ثابتة مطلقة الحكم لتناقضت مع الآية:  أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ  التوبة (23).[يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
-ليس من المعقول أن يتبرّأ الله ورسوله من المشركين، ثم يتبرّأ من الأمر بقتالهم وقتلهم حيثما وُجِدوا، ثم يتبرّأ من منع المشركين من التقرب من المسجد الحرام. ثم يقول (لا إكراه في الدين).
-ورد في كتاب الناسخ والمنسوخ للإمام النيسابوري، ما يلي: «هذه الآية المجمع عليها، قوله تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، نُسِخت بآية السيف».
ثالثـاً: المقدمات التي سبقت فيها القول بالنتيجة / المأخذ:
وهكذا نجد أنه بين الحوار والقوة في الإسلام مسافة العام والخاص.فالآيات التي تدعو للحوار، كأسلوب للدعوة للإسلام، ليست مشروطة، وإنما هي مطلقة عامة، مثلها مثل القيم الأخلاقية المطلقة: كالعدل والمساواة والكرم والشجاعة والحوار بالتي هي أحسن، والامتناع عن الإكراه، أو منع استخدامه.
فلا يجوز اشتراط العدل، كقيمة عليا، بأية شروط، كأن تقول:على الإنسان أن يكون عادلاً إلا إذا أو أن تقول : إنني سوف أُكرِهُكَ على قبول رأيي إذا لم تقتنع بالبراهين التي سأقدمها لك الخ .
فأما القتال والقوة، فمن الموضوعية أن يكون استخدام أحدهما أو كليهما مشروطاً: كأن يكون هذا الاستخدام ضد من يعمل على منع تطبيق القيم الأخلاقية والاجتماعية المطلقة؛ أو لمنع الإكراه وليس لفرضه، حيث إن منع الإكراه هو من القيم المطلقة التي لها علاقة بمفهوم الحرية.
ومن هنا، ولأنه حسب قناعتنا، يُعَدُّ الإكراه منافياً لحرية الإنسان؛ والحرية حقيقة مطلقة؛ وتأتي حرية الاعتقاد والرأي، المشروطتان بعدم تشكيل خطر مادي أو معنوي على حرية الآخرين، وهي جزء أساسي من حرية الإنسان. ولأن القوة والقتال هما أسلوبان لحماية المثل العليا، فأحرى بهما أن يتوجّها إلى حماية حرية المعتقد، كمثل أعلى؛ وليس استخدامهما لإكراه الآخرين على أن يعتنقوا ما ليس لديهم قناعة به. ولهذا قال الله تعالى: إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب .
إن بين الدعوة إلى منع الإكراه والدعوة إلى القتال والقوة، كأسلوب للدعوة إلى الإسلام، مسافة تناقض، حاول معظم العلماء المسلمين، إن لم يكن كلّهم، أن يعالجوها بمنطق التوفيق والتبرير لترجيح استخدام القوة والإكراه أكثر منها إلى جانب استخدام الحوار . بل إن الحوار -كما يراه كثيرون من هؤلاء العلماء- قائم على أساس أن المسألة التي هي موضوع للحوار هي مسألة مُسَلَّم بها، فلا يمكن النقاش فيها. فهم يعنون بالحوار -إذا آمنوا به- أنه فسحة من الزمن تُعطى للطرف الآخر، ليس لكي يقدم براهينه، وإنما أعطيت له لكي يتراجع، في أثنائها، عن، قناعاته السابقة-حتى ولو كان مكرهاً -لصالح الاقتناع بالأسباب التي أقتنع بها المحاور الآخر، والتسليم بها وليس غير ذلك على الإطلاق.
لذلك، وكما نحسب، أن ما يسمونه حواراً، ليس بالحوار المتعارف عليه، أي أن تقول رأيك وأقول رأيي، فإذا لم يستطع أحدنا أن يقنع الآخر، يذهب كل منا إلى سبيله، بل إنه على أحد طرفي الحوار -سواء كان مسلماً أم غير مسلم- أن يصل في نهاية الحوار، مُكرَهاً، إلى مرحلة الإقتناع ببراهين / مسلمات الطرف المسلم، أو الذي يدّعي الإسلام. فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل.
بعد هذا العرض لوجهات النظر ألا يحق لي أن استغرب ما قاله السيد شحيتلي من أنني اعمل على إظهار الإسلام بأنه بلا رحمة من كثرة ما أستخدمت عبارات القتل والقتال؟
أليس من الواضح أنني كنت أنتخب من النصوص ما يعزز القول بأن الإسلام يستند بالدرجة الأساس إلى آيات الدعوة إلى الحوار بالتي هي أحسن، وبأنه لا إكراه في الدين ولذا دافعت عن وجهة النظر التي تقول بأن منع الإكراه والقوة هو القاعدة الثابتة، أما الدعوة إلى الإسلام بالقتال والقوة هي أسلوب مرحلي، ولذا قلت، في الصفحة 38 من كتاب الردة ما يلي «ففي الواقع، وحسب ما توصلنا إليه من خلال الآيات المتعلقة بالحوار والقتال، وجدنا أن منع الإكراه في الدين هو أصل قيمي ثابت، ديني وأخلاقي واجتماعي. بينما وجدنا أن القتال واستخدام القوة هو فرع مرحلي متغيِّر؛ فلا يمكن -والحال كذلك- أن ينسخ الفرع المرحلي المتغير الأصلي القيمي الثابت».
ألست أنت القائل: «من خلال استعراض غزوات الرسول، يتبيَّن أن الإسلام لم يضع السيف على الرقاب بصورة قاطعة: إما القتال وإما القتل وإما الإسلام». وفي مكان آخر تقول: «من الممكن أن انتشار الإسلام في بقاع الأرض قد تراصف مع القوة والإقناع، لأن القهر وحده في الفكر والإيمان لا يؤدي إلى مثل هذا الانتشار الكبير والواسع ما لم ترافقه القناعة والإيمان». وتقول في مكان آخر: «إن الإذن بالقتال، عموماً، كان دفاعاً عن النفس بأمر من الله».. وتؤكِّد في مكان آخر ما ذهبت أنا إليه من أن القتال متغير مرحلي عندما تقول: «كانت الظروف هي التي تقرر استخدام السلاح المناسب». فهل دفاعي واستنتاجي إلى تغليب الحوار على القتال لا يصب في النتائج التي تدافع أنت عنها؟
إن الفارق الوحيد بين رؤيتينا، هو أنني أريد، لأسباب نقلية وعقلية، أن أعطي الغلبة للحوار على القتال؛ أما أنت فتريد أن توازن بين متناقضين: الحوار والقتال، لأسباب نقلية فقط لها علاقة بالمبدأ الفقهي حول الناسخ والمنسوخ. وهذا ما يدفعني إلى دعوتك لمتابعة قراءة كتاب (الردة في الإسلام)، لعلَّ القادم فيه ما يُغني عن نقاش كثير.
رداً على ما جاء في الفقرة التي نقلها من الصفة 38 من كتاب الردة في الإسلام «فالحوار، في هذا المعنى، أن يُعطَى المحاور فسحة من الوقت لكي يراجع في خلالها حساباته من أجل التراجع عن قناعاته الشخصية، وليس هناك أي سبيل آخر سوى القتال والقتل»: يقول السيد شحيتلي موضحاً ومتسائلاً: «إن المقصود بالفسحة الزمنية، هنا، فترة زمنية قصيرة تُعطى لإعادة الحساب. وهذا ليس صحيحاً لأن الرسول بقي 13 عاماً يدعو المشركين بالحوار إلى الدين الجديد على الرغم من تعرضه للأذى». وثم متسائلاً: «فلماذا لم تعطه قريش الفترة الزمنية نفسها دون التعرض له بالأذى، ومنعه من التبشير بما يؤمن به. فبذلك يكون التكافؤ بالحوار وبالفرصة؟».
استناداً إلى قواعد الناسخ والمنسوخ، أصبح السلوك الذي سلكه الرسول في المرحلة المكية منسوخاً، فلا يمكن بمثل هذه الحال أن يعتدَّ به المسلمون. وعلى السيد شحيتلي أن لا يُضعف ردَّه بالاستناد إلى سلوكات / أحكام نُسخت أحكامها ولم يُنسخ خطها.
أما لماذا لم يقابله المشركون بإعطائه فرصة للحوار، بل بادلوه بالأذى، لكي يتكافأ الطرفان بالحوار والفرصة؟ فأرجو من السيد شحيتلي أن لا يفهم من آرائي أنني أضع المشركين والرسول في كفة ميزان واحدة، بل إنني أرفض، استناداً إلى انحيازي إلى جانب الإسلام كثورة حققت الكثير لمجتمع الجزيرة العربية الذي كان مصاباً بمرضين: التمزق الاجتماعي من خلال نظام القبيلة، والتمزق الروحي في تقزيم الجانب الروحي في الإنسان واختزاله في عبادة مجموعة من الأصنام / الأحجار. ولما كنت أرفض الكل عند المشركين فمن البديهي أن أرفض الجزء، وهو أنه من ضمن معتقداتهم المتحجرة لن يؤمنوا بالحوار في الدفاع عن أصنامهم. وما أطلبه من العاقل لن أطلبه من الجاهل على الإطلاق.

وهنا يأتي حوارنـا حول استنتاجاتـك الأخـيرة:
تقول في نهاية مناقشتك «إن الجبر كان للعرب لكي يتحمَّلوا تبعات انتشار الإسلام ويكون لهم دور في بناء الحضارة بعد أن كانوا قبائل متناحرة متناثرة لا قيمة لهم». وهذا السبب «يدل على عظمة الرسالة التي انتشرت في بلاد العرب وعظمة العرب الذين حملوا )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ]هذه الرسالة،   (آل عمران:110)، بدون حرب[بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وبدون إراقة دماء».
نحن لا نشكك بالانتصارات التي حققها العرب المسلمون في الفتوحات الواسعة التي وصلوا فيها إلى أقاصي الشرق ومغارب الغرب. لكن لم تكن شدة الإيمان بالإسلام هي السبب الوحيد، بل كانت الانتصارات تولِّد الانتصارات، وكانت كثرة الغنائم التي استفاد العرب منها تلعب دوراً لا يمكن تغييبه على الإطلاق، وأن لا يغيب عن التقييم ما كانت الشعوب التي خضعت للعرب تعاني من تمزق داخلي وصراعات سياسية وطبقية واجتماعية، وهي العوامل التي أسقطت دولة الإسلام في أوائل القرن 20م. دولة الإسلام التي لم تتنكر للشرائع الإسلامية. فلو كان الإيمان بالدعوة، وشدة هذا الإيمان، هو العامل الوحيد في النصر، لكان من غير المنطقي أن تنهار دولة تستند إلى مثل هذا الإيمان العميق.
لقد عشنا طويلاً على أمجاد الخطاب الذي يريد أن يقنعنا بأننا خير أمة أخرجت للناس، وكأن ما جاء في النص يكفي لأن نكون خير أمة. فإذا نظرنا إلى الواقع الآن، فهل ننظر إلى واقعنا بعين الرضى؟
قد يقول قائل، بخطاب تضليلي: إننا ابتعدنا عن الإسلام الصحيح، فعاقبنا الله بما نعاني الآن من مشاكل ومصاعب. وهنا نتساءل: لماذا عاقب الله العهد الراشدي، وفيه استفحلت الفتن، وراح ضحيتها مئات من آلاف المسلمين، ولم يوفّر القتل عدداً من الصحابة المبشَّرين بالجنة؟
وأخيراً، أيها العزيز، لا بُدَّ من أن أتوجه إليك صادقاً بأنك أتحت لي فرصة ثمينة من الحوار. ففيه وجدت نفسي في مواجهة الكثير من الأدلة النقلية، التي لولاك لما حصلت عليها بمثل هذا الوضوح. وأنا بدوري مقتنع تماماً أن في صدرك ما يتسِّع لمناقشتي إياك بوضوح وجرأة وانفتاح؛ وإن هذه الفرصة لن تتاح دائماً لمثلي، بمنهجه الذي يتخذ الشك العقلي أسلوباً، بالنقاش مع من يضيق صدرهم، وهم كثر.
إنني أتوجه إليك بالرجاء للاستمرار بمتابعة قراءة الكتاب حتى آخره، لأن أغراضي من البحث / المحاولة ستتَّضج أكثر من خلال النتائج التي توصلت إليها. وإنني طامع بمعرفتك النقلية لمناقشة الفصول القادمة بأكثر ما يمكن من الجرأة والوضوح، لأنه بغير هذه القراءة لن يتسنى لكلينا أن يسهما في إنجاح حوار مطلوب وضروري لمصلحة أمتنا ومجتمعنا.
مع الشكر، أرى نفسي ملزماً أن أطلب منك أن تسمح لي بتعميم هذا الحوار حيثما يتطلب الأمر ذلك. على أن يتم تعميم ما جاء في نقدك، كما جاء بنصك، على أن يكون مرفقاً بما جاء عندي من تعقيبات وتوضيحات عليه.
***
مرةً أخرى: توضيحات حول كتاب الردة في الإسلام
وليد شحيتلي
بدايةً لا بُدَّ من توجيه كلمة شكر لكم على الإطراء الذي كتبتموه لي، وبالتأكيد هذا الإطراء سيكون له نتيجة إيجابية دافعة للأمام.
حقيقة كنت متردداً في كتابة تعليق عما قرأت، ولكن ما عندي من ملاحظات على ما ورد في كتابكم دفعني لكتابة بعض من النقد. هذه كانت بداية كطفل يخطو خطوته الأولى في المشي بعد تردد، فيلاقي التشجيع والتهليل من أهله لكي يخطو خطوته الثانية. الأهل هنا، من حيث النسب والدم، بالنسبة لك أنت الأهل في العلم، والمعرفة، والخبرة والتجربة، والاطلاع على مجريات الأمور.
فالخطوة الأولى كانت بتشجيع من نفسي متردداً بها، لأنني أجهل الأستاذ حسن غريب، وكيف سيتقبَّل الرد. وهل سأكون بالشكل العام ضمن الرد المطلوب؟ كنت متردداً ومتردداً إلى أن استلمت ردكم، فدفعني لأخطو خطوتي الثانية.
كما أن ردي هذا أرجو أن لا يُفهَم بأنه رد على رد، وتعقيب على تعقيب، وندخل في باب السجال، ولكن كان في ردكم ما يُثير الرد. كما أشكر لكم طباعة ما كتبته لكم وإرفاقه بردكم.
بدايات لا بُدَّ منها، منقولة عن القرآن الكريم:
نــوح
)إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (نوح:1) )قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (نوح:2) )أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (نوح:3) )يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح:4) )قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً) (نوح:5) )فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً) (نوح:6) )وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) (نوح:7) )ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً) (نوح:8) )ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً) (نوح:9) )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح:10) )يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) (نوح:11) )وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:12) )مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح:13) )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) (العنكبوت:14) )فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (العنكبوت:15)
عــاد
)كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:123) )إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:124) )إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء:125) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:126) )وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:127) )أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء:128) )وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء:129) )وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء:130) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:131) )وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ) (الشعراء:132) )أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) (الشعراء:133) )وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الشعراء:134) )إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء:135) )قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) (الشعراء:136) )إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:137) )وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (الشعراء:138) )فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:139) )وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:140)
)كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:18) )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (القمر:19)
ثمـــود
)كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:141) )إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:142) )إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعراء:143) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:144))وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:145) )أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ) (الشعراء:146) )فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الشعراء:147) )وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) (الشعراء:148) )وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ) (الشعراء:149) )فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:150) )وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (الشعراء:151) )الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء:152) )قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (الشعراء:153) )مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الشعراء:154) )قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (الشعراء:155) )وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء:156) )فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) (الشعراء:157) )فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:158)
هــود
)فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65) )فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (هود:66)
وكذلك قصة ابراهيم الخليل مع قومه، ولوط مع قومه، وشعيب مع قومه وأوردت هذه القصص الخاصة بالأنبياء، وكيفية تعاملهم مع قومهم على سبيل المثال لا الحصر.
التساؤل: لماذا لم يورد آية واحدة تأمر هؤلاء الأنبياء بالقتال؟
لماذا كان الحوار دائماً هو الأساس؟
لماذا كان الوعظ والإرشاد والدعوة بالتي هي أحسن هي الأساس؟
وما يتم ملاحظته، من خلال النص القرآني، بأن الله كان يمهل فترة زمنية قصيرة إن هم عصوا، وكان القصاص يأتي مباشرة.
لماذا أمر الله الرسول محمد بالحوار والقتال دون بقية الأنبياء؟
لماذا لم يحاسب الله المسلمين كما حاسب بقية الأقوام؟
ورد في الصفحة 13/ السطر 19 من ردّكم: «لقد ساويت أنت بين الحوار والإكراه عندما قلت: بأن الحوار قيمة ثابتة، والقتال قيمة ثابتة، ثم ترابط الحوار والقوة قيمة ثابتة. فكيف تستقيم الأمور عندما توازن في المبدئية بين متناقضين؟».
من المعروف في حقل المناقشات، أن تقنع المقابل بالبديهة أو المسلمات لأنها من أصعب الأمور إثباتها بسهولة. والحقيقة أتّفق معك فيها، أن السلام هو الأصل والحرب استثناء. الحوار هو الأصل والإكراه استثناء. الحرية هي الأصل والعبودية استثناء. الديموقراطية هي الأصل والديكتاتورية استثناء.
على الرغم من تضاد المفردات، من حيث معناها ومفهومها، إلاَّ أنها على علاقة مع بعضها ولو بخيط رفيع، لأن الديموقراطية بمفردها لا تستقيم ما لم تتلازم مع شيء من الحزم [ديكتاتورية] في الأمور المهمة والخطيرة في ضبط المجتمع أو الدولة. والديكتاتورية لا تستقيم لوحدها ما لم تتلازم بشيء من الحرية، والتجارب أثبتت ذلك.
1-أما المتناقضات: الخير والشر، الشجاعة والجبن، المادة والروح، القوة والضعف، الكرم والبخل، الصدق والكذب، الحرية والديكتاتورية، الحوار والإكراه، الحق والباطل، الوفاء والخيانة ليس كل الناس أخيار وليس كلهم أشرار، ليس كل الناس على درجة واحدة من الشجاعة والجبن، ولا كل الناس ماديين [وإن الغالبية العظمى هكذا] ولا كل الناس روحانيين، ليس كل الناس كرماء أو بخلاء، ولا كل الحكام في عقر دار الحكام، الذين يدَّعون الديموقراطية، ما لم يمارسوا شيئاً من الديكتاتورية تفلت زمام الأمور من أيديهم.
مثــلاً: المادة والروح لا يلتقيان، ولكنهما اجتمعا في تكوين الخالق للإنسان. فالإنسان جسمه مادة والروح تسكن فيه وتحركه، فتلاقي الروح والمادة تجلّى في أروع معانيه. فليس كل التضادات معيبة بحق بعضها البعض، ولكنها قد تكون مكملة لها في جانب معين. لكن الإسراف في ناحية واحدة، على حساب الأخرى، تظهر لنا قباحة الضد.
على العموم، هذه صفات موجودة داخل الإنسان، ولها دور فعال في تكوينه، لا نستطيع الهرب منها إذا أردنا الإنصاف. أما لماذا خلقها الله فينا؟ هذا السؤال ليس محاسبة منا لله تعالى، ولكننا في صدد تعاملنا مع هذه الحالة من الخلق، لكي تثبت لنا عظمة هذا الرجل عن ذاك، وتميز هذا الرجل عن ذاك. والذي يستطيع التحكم في هذه المتناقضات داخل نفسه، وموازنتها مع بعضها، مع تغليب جزئي أو نسبي للضد، يكون هذا الرجل قائداً عظيماً، ويكون له دور ومكانة في التاريخ.
2-توجد أحزاب سياسية، منها من يرفع شعار الحرية في التعامل الداخلي للأحزاب، ومنها من يرفع شعار المركزية، ومنها من يرفع شعار الديموقراطية المركزية، وهذا شعار تعرفه جيداً، فكيف تمَّ جمع المتناقضين: ديموقراطية ومركزية؟
3-إن الإيمان والكفر صنوان منذ بدء خليقة البشرية حتى الآن. فحياة الإيمان والكفر متداخلتان، فتارة يخرج أهل الإيمان من أهل الكفر، وتارة يخرج أهل الكفر من أهل الإيمان. مثل تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ  (آل عمران:27).(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
ولو رجعنا إلى كتاب الله، القرآن الكريم، لوجدنا العديد من الآيات التي تشير إلى ذلك. فلا حياة مطلقة الكفر على الأرض، ولا حياة مطلقة الإيمان على الأرض.
فالحياة مطلقة الإيمان تكون في الجنة لا يتسلل إليها الكفر: )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الحجر:45) )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (الذريات:15) )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (الطور:17) )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (القمر:54) )ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) (الحجر:46) )وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47) )لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر:48) )وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر:73) ولا حياة مطلقة الكفر إلاَّ في النار: )وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71).
ولا يستطيع أهل الكفر من الدخول إلى الجنة، ولا يستطيع أهل الإيمان من الوصول إلى النار، لأن الله، في هذه الحالة، يكون الفيصل مباشرة، ووضع كلاً حسبما وعد. فالجنة للمؤمنين، والنار للكافرين. فلا دور للشيطان إلاَّ في هذه الحياة.
إن حياة الإيمان والكفر هنا متداخلة، فعند طغيان الكفر كان الله سبحانه وتعالى يتدخل بطريقة غير مباشرة من خلال رُسُله وأنبيائه، ومن خلال ما يُؤمَرون به، ويبشرون به: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبادة الله دون سواه. وهذا ما حصل مع قوم نوح، عندما عمَّ الشر والكفر أرسله الله إلى قومه فأمرهم ما أمر به الله. فكانوا يحاربونه، وعندما أمره الله ببناء الفلك كان قومه يستهزئون به إلى أن أتى أمر الله، وفار التنور، وفاضت الأرض بمائها، فنجاه الله والمؤمنون معه، أي إن الذين معه كانوا مؤمنين، ولا وجود للكفر في قلوبهم. ولكن مع مرور الزمن ووسوسة الشيطان خرج الكفر منهم، أي خرج الكفر من وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ)الإيمان. كذلك خليل الله، كان والده كافراً  إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ  (التوبة:114). وكان قومه كفاراً يعبدون(إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ الأصنام والكواكب. لكن الخليل كان يؤمن بالله الواحد الأحد. وهكذا خرج الإيمان من الكفر. وأيضاً خاتم الأنبياء والرسل محمد (ص)، كان يعيش بين قوم يعبدون الأصنام، ويتبرّجون تبرجاً قوياً، وكان الفسق والفجور سائداً، لكننا نراه خارج هذا الواقع، أي أن الإيمان خرج من الكفر. وهكذا الحال مع بقية الأنبياء ومن اتّبعهم إذا رجعنا إلى قصصهم. ويوجد تبادل حال بين الإيمان والكفر، لكن الغلبة ستكون للكفر على الأرض بانتهاء الرسل إلى أن يضع الله أمره.
4-لولا التناقض لما عرفنا غنى التنوع. فلولا الرأسمالية لما عرفنا الشيوعية، ولولا الفكرة الشيوعية لما عرفنا الفكرة القومية، ولولا الجمال لما عرفنا القبح، ولولا الصدق لما عرفنا الكذب. فالخلق على حال واحد تحرمنا من معرفة المعنى الآخر. ولولا هذا التناقض لما عرفنا معنى الحياة، لأنها ستكون بلون واحد. فالخطأ ليس في المتضادات، لكن الخطأ في الإنسان الذي يتعامل مع هذه المتضادات.

ورد في الصفحة 10 فقرة 5 من ردكم «لا بُدَّ، قبل أن نبدأ بالحوار، من أن نتَّفق على المنهج. فإذا كان المنهج قائماً على قاعدة تكبيل حرية المتحاورَين بنصوص مُنزَلَة من الله، فمن العسير عليهما أن يقفا أمام إشكالية التفضيل بين ما يقوله الله وما يقوله الإنسان. لأن نتائج الحوار لا بُدَّ من أن تكون لصالح ما يقوله الله وما يأمر به». إن الرد هنا:
1-بالتأكيد لا يستطيع الإنسان أن يقف نداً لله سبحانه وتعالى، لأنه خاسر لا محالة. ولكن الإنسان يستطيع أن يتكيّف بتعامله مع ما أنزل الله. وأنا في ردي حاولت البقاء على الصلة الروحية بالله وما أنزله لنا، وأن أكون في صف الإيمان، بغض النظر عن الشوائب التي ترافقت مع نشر وانتشار الرسالة الإسلامية.
2-لا أحد يستطيع إجبار أحد على تكبيل حرية العقل من خلال نقل النص. بمجرد مناقشة النص واستخلاص النتائج، والتساؤلات، نكون قد خرجنا عن تكبيل أنفسنا، بالنقل والنص، وأطلقنا العنان للعقل لكي يتفاعل مع ما يقرأ.
ورد في الصفحة 11 الفقرة 10 من ردكم ما يلي: «فإذا ما كنا من القانعين بصحة هذا الاستنتاج تصبح الشريعة غاية لا وسيلة، ويصبح الإنسان هو الوسيلة التي نؤهلها لخدمة الشريعة وليس العكس. فلمن يكون الله قد خلق هذا الكون، أمن أجل سعادة الإنسان أم أنه خلق الإنسان ليطبق الشرائع، حتى منها التي لا يرى أنها تمتلك المبررات العقلية والمصلحية الكافية؟».
هنا، لا بُدَّ من الإشارة إلى أن الشريعة غاية ووسيلة. فغاية الشريعة خدمة الإنسان وتفصيل الحياة له من حيث المحلَّل والمحرَّم، ووسيلتها الإنسان. لأن لا شريعة بدون إنسان ولا إنسان بدون شريعة، أكانت شريعة شرعية، أو شريعة وضعية. ثم إذا لم يخدم الإنسان الشريعة فمن يخدمها؟ وإذا لم يقم الإنسان بنشر الشريعة فمن يقوم بنشرها؟ فالشريعة والرسل خاصية الإنسان لا الحيوان. فالحيوان شريعته شريعة الغاب، وهو يعيش ليأكل ولا علاقة له بالقيم. أما الإنسان فيأكل ليعيش لكي يقوم بواجبه كإنسان.
إن طرحكم هذا يذكّرني بشعار: أعطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. أو الدين لله والوطن للجميع. وهذا فصل كبير جداً ما بين الشريعة والإنسان. هل يجوز أن ندين بمذاهب مدنية لكي نكون متحضرين؟ وإذا آمنا بما أنزل الله، مع محاولة لعصرنته، نكون سلفيين رجعيين؟

ورد في الصفحة 12 من ردكم ما يلي: «ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط والحكم؟ لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمه؟ ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟».
القرآن الكريم عبارة عن عدد من السور؛ وكل سورة تحوي على عدد من الآيات، ولا يمكن حذف أي آية من القرآن الكريم لمجرد وجود الناسخ والمنسوخ. والحكمة من النسخ هي تبدل ظروف التنزيل. وأصبح هناك نقلة بالمجتمع، وإن الآية قد خدمت ما أريد منها. فإذا حذفنا من القرآن ما نسخ خطه وحكمه، وما نسخ حكمه وبقي خطه، وما نسخ خطه وبقي حكمه، فماذا يبقى لنا من القرآن؟ وهذا دليل على أن تنزيل القرآن متبدل مع تبدل الظروف والأحداث.
ورد في الصفحة 13 السطر 19 من ردكم ما يلي: «فكيف تستقيم الأمور عندما توازن في المبدئية بين متناقضين؟». لقد ساويتم واستسهلتم بركم بين متناقضات إيمانية عندما قلتم في الصفحة 13 السطر 5: أما حول الاستغراب الذي عبَّرت عنه النتيجة التي توصلت أنت إليها يا صديقي: «إنه لتناقض كبير في الإيمان داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة» إذا تعددت أنواع الإيمان. وما هو وجه الغرابة في ذلك؟
إن وجه الغرابة في ذلك: ما الذي يربط المسلم مع اليهودي؟ من الناحية الدينية والشرعية والإنسانية. إنه لتناقض كبير في الإيمان، وتحاولوا أن تجمعوه، ولا ممكن جمعهم مع بعضهم، واستسهلتم جمعهم مع بعضهم، واستصعبتم الجمع بين الحوار والإكراه، والديموقراطية والديكتاتورية، مع أنه من الممكن الجمع بين الديموقراطية والديكتاتورية؟
أتريدنا أن نكون أخوة للذين طردوا شعباً من أرضه، ويرتكبون المجازر يومياً بحقهم؟
لا أريد الفصل، هنا، بين اليهودي والصهيوني، لأن اليهودي توراته تأمره بذلك. وبهذا أصبحت اليهودية والصهيونية حالاً واحدة.
لقد ورد في كتاب مفصل العرب واليهود في التاريخ للدكتور أحمد سوسه، وهو يهودي، ط 5: ص 48: وقع في الباب التاسع عشر من سفر التكوين أن لوطاً عليه السلام زنى بابنتيه (والعياذ بالله تعالى) وحملتا منه وقع في الباب الحادي والعشرين من سفر صموئيل الأول من أن داوود عليه السلام ما عمل بامرأة أوريا وحملت منه بالزنى فقتل زوجها بالحيلة وتصرَف فيها. وما وقع في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول: أن سليمان عليه السلام ارتد آخر عمره بترغيب أزواجه، وعبد الأصنام، وبنى لها معابد، وسقط من نظر الله
كما ورد في الصفحة 352 من كتاب الدكتور سوسه، الفقرة 4: إقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر، إقتلوها. لكن جميع الأطفال والنساء الواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر إبقوهنَّ لكم حيَّات. [سفر 3 - 17 - 18].
أو ليس اليهود هم الذين صلبوا المسيح، ويدعون لنفسهم بأنهم أصل الديانات بالدعوة إلى التوحيد، وفضلهم على المسيحية والإسلام؟
أوَ ليس عوفيديا يوسف، أحد كبار الحاخامات، صرَّح: أقتلوا العرب بالصواريخ والدبابات؟
أنريد أن نؤمن بقتل أنفسنا؟ أبهذا نريد أن نؤمن ونطعم الإيمان داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد؟
إنها لدعوة غريبة لتوافق بين معتقدين؟ إستسهلتم جمع التناقضات في الدين، داخل الأسرة الواحدة، واستصعبتم جمع التناقضين: الحوار والإكراه؟
1-من الناحية الشرعية التي التزم بها القرآن، أعلن رفضي لمبدأ تعدد الإيمان داخل البيت الواحد تحت أي مسمى كان. وقد جاء في القرآن الكريم: )وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120).
2-من الناحية العملية مرفوضة أيضاً، لأننا نرى ما حصل في البلد من تمزق طائفي، وما نعانيه من تعصب على صعيد لبنان كله. والأسرة الواحدة هي من الأسس في بناء الوطن، لأننا سننشئ من الأسرة الواحدة جيلاً متعدد الإيمان، متشبع بترسبات التاريخ وتعصبه التي لا حلَّ لها. إضافة إلى ذلك: إن التوزيع الطائفي الحالي، و التعصب الحالي، أفضل وأرحم من حالة التعصب التي ستنشأ من داخل الأسرة الواحدة المتعددة الإيمان والمعتقد.
3-إن هذا الطرح (تعدد الإيمان داخل الأسرة الواحدة)، ممكن في حالة واحدة مثالية مطلقة، خلق الإنسان الجديد، المسلم والمسيحي واليهودي مجرد من عواطف ما حدث في التاريخ وترسباته؛ بمعنى: يجب أن يتم محو ذاكرة ما حدث من حروب على مر الزمن بحق الطوائف مع بعضها البعض، إضافة إلى وقف القدح بمعتقدات البعض والاعتراف بها.
-ورد في الصفحات 5 و6 و7 لكتاب القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم لموريس كاي: لكن اليهودية لا تعترف بأي وحي جاء بعدها (ص 5 سطر 15).
-إن المسيحية، بدورها، لا تعترف بأي وحي جاء بعد المسيح وحوارييه، ولذلك فهي تستبعد القرآن (ص 6 سطر 2).
-وهكذا فإن الاستعمال السائد حتى اليوم في التسميات، مثل (الدين المحمدي) و(المحمديون)، ليدل على الرغبة في أن تظل النفوس مقتنعة بذلك الرأي الخاطئ القائل بأن تلك معتقدات انتشرت بفضل جهاد رجل (ص 6 سطر 14).
-زيادة على ذلك، هناك بعض أوساط مسيحية تحتقر المسلمين (ص 6).
-لاحظت أن هناك رفضاً باتاً للنظر بعين الاعتبار، ولو لمجرد التأمل، فيما يحتويه القرآن مما يتعلق الدراسة المزمعة، كان الرجوع في ذلك إلى القرآن يعني الاعتماد على الشيطان (ص 7 سطر 2).
-فكثير من المسيحيين، الذين تربوا في ظل روح عدائية صريحة، هم مبدئياً أعداء لكل تأمل في الإسلام. ولذلك فإنهم يظلون في جهالة لحقيقة الإسلام، وبالتالي فإن مفاهيمهم عن الإسلام مفاهيم مغلوطة لا شك فيها.
-ورد في الصفحة 137 السطر 7: هناك واحدة من تلك النظرات التعسفية على قدر بالغ الأهمية، فهي تقود إلى الاستخدام المنهجي في لغتنا لكلمة (Allah) للدلالة على إله المسلمين في الفرنسية، كما لو كان المسلمون يعبدون إلهاً غير إله المسيحيين. إن كلمة (Dieu) تعني بالعربية الله تعالى، والمقصود بها الله الواحد
-ورد في الصفحة 137 السطر 17: من هنا نفهم احتجاج المسلمين على العادة شديدة الشيوع، وهي النقل الحرفي في اللغات الأوروبية للفظة (Allah) بدلاً من الترجمة بكلمة (Dieu) الفرنسية.
-ورد في جريدة السفير، في الصفحة الأخيرة، بتاريخ 23 / 12/ 1998م، تحت عنوان: الإيرانيون احتفلوا بعيد الشتاء وأحيوا الليلة الأطول في العالم. وجاء في تفصيل الخبر ما يلي: احتفل الإيرانيون ليل الإثنين - الثلاثاء بعيد بداية الشتاء (يالدا)، وهو عيد للزرداشتية، دين فارس القديم، عمره آلاف السنين، صادف هذه السنة مع بدر شهر رمضان. وتعني كلمة (يالدا) الليلة الأطول في السنة وهي تعلن نهاية الخريف وبدء فصل الثلوج وللعيد الذي يحتفل به الإيرانيون، بصخب منذ القدم، على اختلاف مشاربهم العرقية والاجتماعية بعض القداسة. وهو مناسبة لهم لتمضية الليل ساهرين مع الأهل والأقارب، يروون الحكايات وينشدون قصائد الشعر الشعبي.
ويقضي التقليد في عيد (يالدا) بتناول فاكهة صيفية مثل البطيخ الأصفر أو طبق (كربوزة9، وهو خليط من البطيخ الأصفر السكري والعنب والفاكهة المجففة.
وتؤكد الكتب القديمة أن من يبدأ الشتاء بأكل فاكهة صيفية لا يمرض أبداً خلال فصل البرد. ويقول بعض المؤرخين إن كون (يالدا) ليلة مقدسة فإن العائلات تجتمع فيها لإبعاد الوحدة وطرد الأرواح الشريرة. ولكن ليلة هذا العيد ليست أطول من سابقتها بأكثر من ثانيتين أو ثلاث ثوان. وأمس تحدثت الصحف جميعها عن هذا العيد لكن بضجة أقل من السنوات الماضية، ويبدو أن السبب هو تزامنه مع شهر الصوم الذي يبدأ لتوه.
وقد تحفظت وسائل الإعلام الإيرانية عن نقل الكثير من أصداء العيد، ربما لأسباب اقتصادية أيضاً، إذ يدفع (يالدا) على غرار جميع الأعياد الزرادشتية، التي يحتفل بها في إيران، السكان إلى الإنفاق ويقول زرادشتيو إيران، الذين لا يتجاوز عددهم اليوم خمسين ألفاً، أن زرادشت ولد تحت عرش سليمان في أذربيجان الإيرانية، في العام 1737 ق. م. ودفن في المزار الشريف في شمال أفغانستان.
إستنتاج:
عند قراءة هذا المقال، تبدو وكانك أمام حكاية من التراث الشعبي، ولكن أقف عند هذا المقال وأقرأ فيه وأرى فيه ارتباط الفرس بزرادشت:
أ-لا يوجد في الإسلام سوى ليلة واحدة مقدسة، وهي ليلة القدر، وليس ليلة (يالدا)، لأنها أطول من سابقتها بثلاث ثوان. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الليلة بسورة القدر: )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) )وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر:2) )لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) )تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) )سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر:5)
ب-لا يتم طرد الأرواح الشريرة وإبعاد الوحدة، من الناحية القدسية، بأكل البطيخ، أو الفاكهة الصيفية في الشتاء، لأن القدسية الشرعية الإسلامية تتم من خلال التمسك بكتاب الله وقراءته وترتيله، والتقرب إلى الله بالصلاة والدعاء والقيام بالأعمال الحسنة.
ت-لا يوجد شهر فضيل سوى شهر رمضان لأنه فريضة على المسلمين، وفيه أنزل القرآن.
ث-لا توجد أيام تتمثل بالقدسية سوى أيام الحج، حيث لا فسوق ولا جدال، ولا رفث. وقال الله تعالى: )الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197).
ج-إن الأعياد الرسمية الإسلامية، هما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وإن هذه الأعياد قضت على أي عيد آخر.
ح-على الرغم من ضآلة عدد الإيرانيين الذين يدينون بدين زرادشت، دين فارس القديم، قياساً إلى عدد سكان إيران، إلاَّ أن الإيرانيين -على مختلف مشاربهم- احتفلوا بالعيد، ولم يقل احتفل الزرادشتيون الخمسين ألفاً بعيدهم. وهذا دليل على:
- يحتفظ الإيرانيون بزرادشت في داخلهم على الرغم من اعتناق الإسلام.
- أن الإيرانيين ما زالوا على تمسكهم بعاداتهم وتراثهم ودينهم القديم على الرغم من اعتناق الإسلام. و لا بُدَّ من التذكير بأن الفرس هزموا على يد العرب المسلمين في معركة القادسية على يد سعد بن أبي وقاص، وهذه عقدة كبيرة بالنسبة لهم، لأن صرح إمبراطوريتهم التي تغنوا بها كانت قد دُكَّت بتلك المعركة، وما زالت ذاكرتهم تحتفظ بها، وحنينهم يزداد إليها، وهذا ما نراه في خطب رجال الدين السياسيين.
كما أرجو أن لا يتم الدخول في هذه الواقعة من باب الديموقراطية، والتعبير عن الرأي أو الاعتقاد، لأني أرى من وجهة نظري لا صلة له بهذا بقدر صلته المجوسية الفارسية بالماضي الذي انهار على يد العرب.
4-إن تعدد الإيمان داخل الأسرة الواحدة، لم يُطرَح على أي صعيد ديني، من أي طائفة، بل جميع الأديان السماوية تعتبر أي إنسان يخرج عن دينه -دين الآباء والأجداد- مرتد يجب قتله، وهذه صفة مشتركة لهذه الأديان. أما بالنسبة لليهودية فحدِّث ولا حرج:
ورد في الصفحة 66 من كتاب الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية - الطبعة الثانية - للكاتب غارودي: إن هذه التنقية العرقية، التي تتم بصورة منتظمة في دولة إسرائيل اليوم، تنشأ من مبدأ صفاء العرق، بمنعها خلط الدم اليهودي (بالدم القذر) للآخرين، أي كل الناس. وهكذا فإن إله اليهود يطلب من موسى أن لا يتزوج شعبه من بنات هذه الشعوب، مجارياً في ذلك سلوك الذين يتَّبعون أمر الله بالقضاء على كل الشعوب التي يسلمها إليهم [الخروج XXXIV: 16].
ونجد في سفر التثنية في 3 من الإصحاح السابع هذه الآية: (ولا تصاهرهم، بنتك لا تعطيها لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك). ومن المصدر نفسه في الصفحة 67، ورد ما يلي: وفصل الغريب: [وكل الذين اتخذوا زوجات أجنبيات، طلقوهن مع أولادهن (عزرا: 10 - 44)].
وهكذا فقد تميز (يهوى) غيظاً من هؤلاء الذين انحرفوا عن حقيقته، وهي الحقيقة الواحدة الوحيدة بطبيعة الحال. ووقف (صوفونيا) ضد اللباس الأجنبي، وقال: رأيت يهوداً كانوا قد تزوجوا نساء أشدوديات وعمونيات ومؤابيات، ونصف كلام بينهم باللسان الأشدودي؛ ولم يكونوا يحسنون الكلام باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب، مخاصمتهم ولعنتهم، وضربت أناساً منهم، ونتفت شعورهم، واستحلفتهم بالله قائلاً: لا تعطوا بناتكم لبنيهم، ولا تأخذوا من بناتهم لبنيكم، ولا لأنفسكم. أليس من أجل هؤلاء أخطأ سليمان، ملك إسرائي، ولم يكن في الأمم الكثيرة ملك مثله. وكان محبوباً إلى إلهه، فجعله الله ملكاً على كل إسرائيل. هو، أيضاً، جعلته النساء الأجنبيات يخطئ. فهل نسكت لكم أن تعلموا كل هذا الشر العظيم، بالخيانة ضد إلهنا، بمسكنة نساء أجنبيات [نحميا: 13, 23 - 25].
ورد في الصفحة 69 من المصدر نفسه: وعندما لاحظ المشرع اليهودي عرا كان كثير من اليهود قد تزوجوا نساء أجنبيات، فإن هذه الزيجات قد فُسخت، وكان ذلك أصل اليهودية، التي بقيت نقية بفضل هذه القوانين العرقية، على مدى قرون كثيرة
وورد في الصفحتين 246 و247، في ليلة 2 آذار 1984م: نبش قبر امرأة ورُميت الجثة خارج المقبرة اليهودية، وسرعان ما أعلنت الطوائف اليهودية في العالم أجمع: إنه عمل بربري من أعمال اللاسامية. وبعد بضعة أيام كشفت الشرطة الإسرائيلية، بعد التحقيق عن المعنى الحقيقي لهذه الحقارة أن الجثة التي عُوملت على هذا النحو المخزي كانت جثة السيدة (تيريزا أنجلويكز) زوجة يهودي، لكنها من أصل مسيحي. واعتبر الأصوليون اليهود وجودها في المقبرة اليهودية مدنساً طهارة الأماكن. وكان حاخام (ريشون لتسيون) قد طالب بنبش القبر.
-فالسيد (جيرمون) الذي نبشت جثته ليلاً، والذي كان غرضاً لذلك التركيب المشؤوم للخوزقة، كان هو أيضاً مجرماً لأنه تزوج مسيحية، ونقلت جثته إلى قبر مجاور، قبر السيدة (أيما أولما) المجرمة هي أيضاً لأنها تزوجت كاثوليكياً. [المصدر: إسرائيل شاحاك: عنصرية إسرائيل، ص: 125 وما بعدها].
غداة يوم الديموقراطية في جامعة القدس العبرية، طرح طلاب السؤال الحقيقي التالي: لماذا لا تحتجون عندما تعلمون أن شارع (أرغون) في القدس، وفندق (هلتون) في تل أبيب قاما على مقابر مسلمة مهدّمة؟ [المصدر: طلاب المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية (ماتسبين) 2234 القدس].
-وكان المرتد عن المسيحية يتعرض، حسب ما ورد في الصفحة 316 من كتابكم للإرهاب الروحي والإرهاب الجسدي والحرمان الأكبر والحرمان الأصغر. وورد في الصفحة 319 من كتابكم أنه بلغ عدد الضحايا، ما بين الأعوام 1480 - 1508م / 885 - 913هـ، فإحرق 31912 وعُقب 291494 شخصاً. كما ورد في الصفحة 318: وقد سنَّ البرلمان الإنكليزي، قوانين أشد صرامة ضد الكاثوليك، تصل إلى حدود الإعدام؛ فكان الارتداد إلى الكاثوليكية -حسب القانون الإنكليزي، الصادر في العام 1581م / 989هـ، خيانة عظمى يعاقب عليها بتهمة الخيانة العظمى. وكل من يمتنع عن حضور الصلوات الأنجليكانية يُعاقَب بدفع عشرين جنيهاً في الشهر.
أ-فالارتداد عن الدين هو من الممنوعات والمحرمات، ويشترك فيه كل الأديان.
ب-لقد سنّ البرلمان الإنكليزي، وهو هيئة مدنية، التكريس الطائفي بأن الارتداد إلى الكاثوليكية عقوبتها الإعدام.
ت-وجود عقوبة مادية شهرية، وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت لا طاقة للعامة عليه، وفي الوقت نفسه إكراه على القيام بالصلاة تجنباً للعقوبة، وبالتالي ترويضه على التعود والاعتياد عليها مع مرور الوقت، أي جبراً.
ث-لو لاحظنا الإحصاء العددي للضحايا، التي وقعت نتيجة الهرطقة الدينية، أرقام كبيرة ومخيفة، تبين لنا مدى أهمية المحافظة على الهوية الدينية.

ورد في الصفحة 13 السطر 28 من ردكم: عندما تتحقق العدالة والمساواة، وعندما يرفع الظالم ظلمه عن المظلومين، وعندما يُعيد المغتصب حقوق الآخرين إليهم، هل يبقى القتال والقوة والإكراه قيم ثابتة؟ هنا ليست هذه من القيم الثابتة بل هي من الوسائل التي نستخدمها أحياناً في سبيل الدفاع عن القيم الثابتة المطلقة.
إن هذا الطرح أقرب إلى المثالية المطلقة منه للواقع، والتاريخ منذ القدم لم يقدم لنا برهاناً برفع الظالم ظلمه من تلقاء نفسه، ما لم يكن القتال طرفاً في رفع الظلم. والحكمة تقول: الحرية تُؤخذ بالقوة ولا تُهدى. كما أن كثيراً ما تعرضت بعض المفردات في حياة الأمم إلى التشويه والاستغلال، كالحرية، وحقوق الإنسان، والسلام وكثيراً ما استعملت هذه المفردات في سبيل التدخل في الشؤون الداخلية للدول لو تم التساؤل: هل المقاومة هدف أم نتيجة؟ والسلام حالة طبيعية في الحياة أم هدف؟
فالرد على التساؤل الأول من السهل الإجابة عليه ويكون مقنعاً. فلا مقاومة من دون احتلال، فالمقاومة هي النتيجة الطبيعية للرد على الاحتلال، وليست هدفاً بحد ذاتها. أي نقاوم (نقاتل) كي لا نُحتل.
أما الرد على التساؤل الثاني، ففيه صعوبة بعض الشيء بالرد المقنع. فإذا كان السلام هدفاً فإن كثيراً من الحروب والويلات والمآسي، ستقع على شعوب العالم. وتقع تحت رحمة هذا الشيء. وإذا كان السلام الحالة الطبيعية للحياة، وهذا هو المعنى الصحيح، فإن شعوب الأرض ستعيش بعيداً عن الخطر والأذى لأن الحرب حالة استثنائية.
فعندما يكون السلام عمل وقائي نتيجة لتفجر عقول صانعي القرار السياسي والعسكري، حسب نظرية المجال الحيوي، وعدم قناعتهم العيش كل حسب حدوده المعترف بها مع جيرانهم أو أية بقعة في العالم، وبأن هذه الأمة أو تلك تشكل عليها خطراً في المستقبل، أو أن تلك الأمة تمتلك ثروات طبيعية يجب السيطرة عليها بالقوة، دون أن يكون التعامل معها وفق المصالح المتبادلة، فتقع الحرب نتيجة لتلافي هذا الخطر، فبذلك يكون السلام هدفاً وليس نتيجة.

ورد في الصفحة 14 السطر 8 من ردكم: إذا حُلَّت المشاكل المتنازع عليها بالحوار الذي يقابله حوار، فهل هناك ضرورة واجبة في استخدام الأساليب الأخرى؟
بالتأكيد، إذا كانت المشاكل المتنازع عليها تحل بالحوار، فهذا أفضل الحلول وكل الأمم المحبة للعيش بسلام معه. هذا إذا نجح الأمر بالحوار، وكنت أتمنى منكم أن تبرزوا مثلاً واضحاً عن مشكلة حُلَّت بالحوار.

ورد في الصفحة 14 السطر 28 من ردكم: هل يعني هذا أن البيئة الاجتماعية العربية، والمشاكل الظرفية التي كانت تحصل على أرض الجزيرة في خلال ال 23 سنة هي ذاتها التي أتت بعد ألف وأربعماية سنة؟ وهل مشاكل الجزيرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قبل ألف وأربعماية سنة، هي شبيهة بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية للشعوب غير العربية قبل ألف وأربعماية سنة أو بعد ألف وأربعماية سنة؟
1-إن المشاكل تكبر وتتفاقم نتيجة لتوسع المجتمعات وتطورها. والمجتمع كل ما كان صغيراً كانت مشاكله أقل من المجتمعات الكبيرة. وليس بالضرورة أن تكون المشاكل نفسها من حيث التفاصيل في وقوع الأحداث الظرفية، لكن يوجد تقارب كبير من حيث الظروف والمشاكل. ومثلاً على ذلك:
أ-تفرق العرب في عصر ما قبل الإسلام على شكل قبائل، ويتفرقون اليوم على شكل 23 قبيلة، وكل قبيلة تشكل دولة، ومشاكل كبيرة وكثيرة واقعة بين هذه القبائل.
ب- كان الفساد والانحلال الخلقي والعادات الغريبة سائدة وكذلك اليوم.
ت- كان الروم والفرس متحكمين في مصير القبائل العربية وأرض العرب، وكان الولاة يُعيّنون من قبلهم، وبحمايتهم. وكذلك اليوم، الغرب متحكم بدولنا (قبائلنا) وثرواتنا وأرضنا، ويحمي حكامها، وهذا ما نراه اليوم على أرض العرب.
ث- ضلوع الأقطار (القبائل) العربية في حصار شعب العراق بحجة الالتزام بقرارات مجلس الأمن وتطبيق الشرعية الدولية.
ج- على الرغم من تفرق العرب، و على الرغم من الحروب بينها، إلاَّ أنه لم يتم طرد شعب من أرضه، مثل ما حدث في فلسطين.
أليس هذا تشابهاً بالظروف، بل أسوأ منه في بعض النواحي؟
2- بالنسبة لتشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية واختلافها عن الظروف الغربية:
أ-لو عكسنا السؤال: هل الظروف الغربية: الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، شبيهة بالظروف العربية؟
أقول: إن الظروف الغربية الاجتماعية، والأخلاقية، غير شبيهة بالظروف العربية الظرفية، ولكنها تغزو عالمنا العربي بكل المجالات الفنية، والأدبية واللغوية، والثقافية، فكيف نفسر هذا؟ إني أعتقد، على مر الزمن، أنه لا بُدَّ من تابع ومتبوع، فالقوي يفرض ما يريده من قيم. هكذا التاريخ والحاضر. كان العرب متبوع والغرب تابع، لأنهم كانوا أقوياء وانتشروا في بقاع الأرض من خلال نشر الرسالة الإسلامية. كذلك الغرب اليوم في أعلى مراحل قوته، فالغرب متبوع والعرب تابع، لأن العرب ضعفاء (قبائل).
نلاحظ، مثلاً، انتشار الشعر الطويل في مجتمعاتنا وربطه إلى الخلف مع وجود حَلَقٍ في الأذن. ربما يوجد من يقول بأنه ليس منتشراً انتشاراً كبيراً، ولكن كل شيء له بداية، وتكون محدودة في انطلاقتها الأولى.
ونلاحظ، أيضاً، اللباس الضيق للفتيات، التي تُبرز مفاتن الجسم بكل تفاصيله، وانتشار المسابح المختلطة للرجال والنساء. وانتشار (الستالايت) وما يحويه في (كابلاته). هل هذا الشيء من عاداتنا وقيمنا؟ لكي ينتشر في بلادنا؟
ب- ما وجه التشابه، من الناحية الاقتصادية والسياسية، بين العرب والغرب؟ فلا وجه للتشابه، فالغرب في واد والغرب في وادٍ آخر. فالغرب يخطط سياسياً واقتصادياً مع ما أيمانه من الخبث، وينفذ تخطيطه على أرض العرب، ولو اقتضى ذلك الحروب لمدد طويلة، أو حصار شعب بأكمله. فالغرب يقدم بضائع مدنية وعسكرية متطورة، والعرب اقتصادياً مجتمع مستهلك للغذاء. فالبضاعة غربية والصناعة غربية. والعرب لا يمتلكون صناعة أو زراعة ولا سيادة. أما الغرب فيملك سلسلة كبيرة من المصانع، والمعامل، والزراعة. إن البلاد العربية (القبائل) تنتشر فيها كل أنواع السيارات ويمتلكونها. فالذي يركب السيارة ليس كصانعها؛ والذي يستعمل (الدش) ليس كصانعه؛ والذي يستعمل الكومبيوتر ليس كصانعه. فالعالم العربي عالم مستهلك لكل ما يقع تحت يده من علم، وصناعة، وغذاء.
صحيح أن الوطن العربي تعج به كل الوسائل المتطورة والترفيهية، ولكن أين هو من صناعتها في حال أحجمت الجهة المصنعة من مده بالمواد الاحتياطية؟
ليس بالضرورة أن يكون هناك تشابه بالظروف لكي يكون هناك انتشار لفكرة معينة، لحالة معينة، لسياسة معينة، فالقوي بقوّته، قوي بقيمته.
بالرجوع إلى الفن، مثلاً، لا وجود لآلة عربية في مفردات الآلات الموسيقية، لا توجد نغمة عربية صافية من النغمات، لا توجد رقصة عربية، بل كلها نغمات غربية، لاتينية، هندية، رقصات غربية، هذا هو التطور، هكذا يقولون؟ أما الكلمات فحدث ولا حرج، إضافة إلى تطوير تصوير (فيديو كليب) في البانيو، أو لف الشرشف في المسبح فأي تشابه بالظروف لانتشار هذه الأشياء. لقد خلق الغرب هذه الظروف، وعمل على انتشارها، كما عمل الإسلام على خلق الظروف لانتشاره.

ورد في الصفحة 15 السطر 10 من ردكم: هل أنت تقف إلى جانب ادِّعاء الفقهاء بأن لهم حق إلهي بأن يحاسبوا البشر، يصدرون عليهم الادعاء بالكفر، ثم يستتيبوهم، ثم يُنزلون بهم الحد بالقتل، ثم ينفذِّون حكم القتل بهم؟
إذا كان القاضي يصدر حكمه بالإعدام، أو السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، أو السجن المؤبد، أو السجن العادي لفترة زمنية محدودة، فهذا بحد ذاته تعذيب للمحكوم عليه، من حيث هدر دمه، وحبس حريته، ووضعه في ظروف غير صحية، مما يكون له انعكاس سلبي على المحكوم خلال قضاء فترة سجنه. وبهذا يكون القاضي قد استند، في حكمه، إلى سنن وشرائع من وضع الإنسان، قوانين مدنية، وهذا أعطاه الحق باستعمالها وإصدار حكمه.
و إلى أي مرجع استند القاضي لكي ينزل حكمه؟ ألم يستند إلى سنن وشرائع من وضع الإنسان، وتسمى قوانين وضعية أو مدنية؟ وواضعو هذه القوانين، إلى أية جهة شرعية استندوا لكي يستمدوا شرعيتهم بتحديد عقوبات الإعدام، والمؤبد والسجن.
هل هذا يعطي القاضي الحق بحكمه، لأنه يستعمل قوانين مدنية، ويجب علينا أن نسلم ونقتنع بدون مناقشة، لكي نظهر بمظهر المتطورين؟
فإذا كان هؤلاء البشر لهم قوانينهم المدنية، ومصدرهم الشرعي، فإن الفقهاء لهم المصدر الشرعي الإلهي، استناداً إلى ما ورد بكتاب الله وسنة رسوله، وتجربة أسلافهم في القضاء.
لا يعني تساؤلي هذا بأني مع قيام الفقهاء بتمثيل الدور الإلهي على الأرض، لكنها مقارنة بين القضاء المدني والقضاء الشرعي.
وضع هؤلاء قانونهم المدني وتخطوا الدين، وهؤلاء تمسكوا بما ورثوه، وبقوا سجناء بما لديهم من كتب دون تطوير ما لديهم، فبرز لنا الإسلام بصورة الجامد، والغير ممكن تطبيقه إلاَّ في حينه، وإن الزمن مرَّ عليه. فالعيب ليس في الإسلام، بل في رجال الدين القيّمين على الدين.
والتساؤل: أيحق للقاضي المدني بأن يعدم، ويسجن، وينفي، لأنه آمن واستند إلى القوانين الوضعية، ولا يحق للفقهاء بأي حكم لأنهم يستندون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ هل القاضي الذي يقوم بتطبيق القوانين المدنية معصوم عن الخطأ في حكمه، وإذا أخطأ فهو معذور لأنه طبّق قوانين وضعية؟ وإذا أخطأ الفقيه تقوم الدنيا ولا تقعد؟ فالحقيقة، الخطأ وارد عند الجهتين: وكل استند إلى ما يؤمن به.

ورد في الصفحة 12 السطر 21 من ردكم: هل يمكننا، هنا، أن نقارن بين مستوى إيمان من آمن من المسلمين بالحوار وبين من استجابوا إلى الدعوة الإسلامية بحد السيف؟
-لا توجد مقارنة بين الإيمانين، ومن الخطأ المقارنة بينهما. والقرآن فرّق بين الإيمانين استناداً إلى الآية: )وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10).

ورد في الصفحة 344 من كتابكم السطر 4 للفيلسوف أبلار: كيف يستطيع عقل محدود أب يأتي عليه يوم يفهم فيه الله؟ وفي هذا يقول، كما قال أغسطين: لست أسعى للفهم كي أعتقد، بل إني أعتقد لكي أفهم.
وأنا مع هذا الطرح، إني أعتقد لكي أفهم، لأن الفهم -في بعض الأحيان عسير على العقل من حيث البرهان عن ناحية الإيمان، كالإيمان بالله الواحد الأحد، والإيمان بالرسل، والكتب، والملائكة. هذا كله عسير من ناحية فهم العقل لها، ولكننا نؤمن بها من ناحية الاعتقاد والفهم.
-إني اتفق معك تماماً، بأن الحوار يأتي بالدرجة الأولى، وهذا ما أردت قوله من خلال كتابتي لكم، ولكننا افترقنا من ناحية التوازن بين الحوار والقتال، لأني أعتقد بوجود ترابط بينهما، بشكل أو بآخر، و لا بُدَّ من وجود قوة لتفرض بعض المفاهيم. كما وأتلاقى معك بأن القتال ليس حالة مطلقة للحلول، و لا بُدَّ من أن يأتي دور استخدامها بعد فشل سبل الحوار. كما وأؤكد على مكروهية الحرب والقتال، كما ورد في الكتاب الكريم: )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216). وأفهم من هذه الآية بأن الحرب كره على الإنسان، ولكن قد تحمل معها الخير والاستقرار؛ ومحبة السلام قد تؤدي إلى التشرد والتفرقة، كحالة العرب الذين يسعون للسلام الاستسلامي. إن عملية الاعتقاد بترابط المتناقضين -بالنسبة لي- قد تؤدي إلى فهم الأمور التي تحكم الواقع إذا وُجد من يوازي بين المتضادين. فقباحة المضاد تُظهر لنا بصورة سيئة نتيجة الإسراف في استعماله.
أما بالنسبة للنصوص، التي تم نقلها والاستشهاد بها، أوردتها كما هي؛ وقمت باستنتاج على قدر ما أستطيع، وهذا يخرجني من الناحية النقلية للنص كما ورد. لقد حشرتني في زاوية النقل لا العقل، لا أرى نفسي خارج هذه الدائرة، فأنا مؤمن، ولكني لست برجل دين أو سلفي. وأؤكد على أهمية: لولا الحرب لما عرفنا قيمة السلام ونِعَم السلام، ولولا الديكتاتورية لما عرفنا قيمة الحرية ونِعَم الحرية.
لماذا نعتز بصلاح الدين الأيوبي، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم ألأنهم كانوا سياسيين وعسكريين؟
لماذا نندهش أمام عظمة نابليون، والإسكندر المقدوني؟
فعندما نعتز بقادتنا من العرب التاريخيين، الذين حققوا انتصارات عسكرية، وضعنا الصفة الشرعية لقتالهم وبطولاتهم، و إلاَّ لدناها من الأساس. وننظر بعين الدهشة والإعجاب إلى المنجزات العسكرية لقادة الغرب التاريخيين، وبذلك وضعنا الصفة الشرعية لقتالهم، وبطلاتهم، و إلاَّ لأدناها من الأساس وأدانوا أنفسهم.

بالعودة إلى ما ورد في الصفحة 14 السطر 8 من ردكم: إذا حُلَّت المشاكل المتنازع عليها بالحوار الذي يقابله حوار، فهل هناك ضرورة واجبة في استخدام الأساليب الأخرى؟
إن هذا الحل غير مكن تحقيقه، والسبب:
-لقد سيطرت إيران على الطنب الكبرى والصغرى وجزيرة أبي موسى. هل سيطرت عليها بالحوار أو بالاحتلال؟ وإيران حالياً، ترفض استقبال أية لجنة عربية أو أية وساطة لمناقشة مصير هذه الجزر.
-لقد اقتطعت تركيا لواء الإسكندرون من سوريا. هل اقتطعته بالحوار أو بالاحتلال؟ ولغاية هذا الوقت ترفض تركيا إعادته إلى سوريا أو التطرق إلى مناقشته.
-لقد احتلت (إسرائيل) فلسطين وطردت شعبها. هل احتلته بالحوار أو بالقوة؟
-لقد سيطرت أميركا على منطقة الخليج، هل كانت سيطرتها بالحوار أم بالقوة؟
-إن المشكلة اليوغوسلافية، وقصف دول الحلفاء لهذه الدولة، هل تم بالحوار؟
إذن، من خلال عرض هذه الأمثلة، ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بالحوار، وإن الدعوة للحوار لحل هذه المشاكل هي لصالح المحتل.
ملاحظــــــــة: الحياة لا تكتمل بدون المتناقضين: المرأة والرجل، الليل والنهار، فالحياة بينهما وفيهما. فالديموقراطية والديكتاتورية، كالماء البارد والساخن في الشتاء، فلا يستطيع الإنسان الاغتسال دون التوازن بينهما.
وليد شحيتلي
***
مرة أخرى: توضيحات الكاتب حول نقد كتاب «الردة في الإسلام»
حتى لا ندخل في باب السجال للمرة الثانية، كما تقول أنت في توضيحاتك؛ أرى، من جانبي، أن لا نتوه في تفصيلات مجتزأة عن مركز الإشكالية التي نتحاور حولها. ومركز الإشكالية كما حاولت أن أحدده في كتاب الردة، هو إعطاء حرية للعقل في اختيار طريق الإيمان الروحي على قاعدة لا إكراه في الدين. وفي بحثي المذكور حاولت أن أجد أسباباً نقلية وأسباباً عقلية أدافع بها عن تلك الحرية بعيداً عن مبدأ من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه. وعلى هذا الأساس حاولت أن أقارن بين إيجابية الحوار وسلبية القتال، أي أن الإيمان عن طريق الحوار هو أفضل من الإيمان عن طريق السيف والقتال.
I - موقفنا من المتناقضات (الحوار والقتال):
كان ردكم الأول مملوءًا ببراهين الدفاع عن أهمية القتال إلى الدرجة التي كنتم من المقتنعين بأهميته لأجل نشر الإسلام على قاعدة أن القتال هو دعوة إلهية حلَّت مكان الدعوة للتبشير بالتي هي أحسن. بالإضافة إلى أن آيات السيف قد نسخت آية لا إكراه في الدين. وانطلاقاً من هذه النقطة، كان ردي عليكم بأنني في مثل هذه الحالة اخترت طريق الدليل العقلي النقدي. أما أنت فقد اخترت طريق النقل عن الفقهاء.
وكان من أهم مميزات الطريق العقلي أن يستند إلى الشك، أما مميزات الطريق النقلي فإنه يتجنب الشك ويحذر منه، بل ويحرِّمه.
وعندما انتقدتك لأنك ساويت بين متناقضين: الحوار والقتال، ليس لأنني أحسب أن الحياة خالية من المتناقضات، بل لأنني أؤمن بأن من أهم أسرار الحياة هو وجود المتناقضات. ولكن كنت أجهد لأبرهن بأن قيمة المتناقضين ليست متساوية، بل إن طرفاً منها ثابت أما الآخر فمتغير. وبأن هناك أولوية لواحدة على الأخرى، واحدة منها غاية أما الأخرى فهي وسيلة. والدليل على ذلك، العبارات التالية التي وردت في ردي السابق، وسأنقلها حرفياً: «وهل يبقى أمامنا إلاَّ أن نميز بين الدعوة بالحوار والدعوة بالسيف، ونؤمن بأن الحوار هو القاعدة الثابتة أما السيف فهو القاعدة المتغيرة؟». و«يستخدم الإنسان أولاً أسلوب الدعوة بالتي هي أحسن، أي بالحوار. فالحوار له الأولوية؛ إذاً، له الأفضلية. وهنا، منطقياً، لا يمكن أن يكون للحوار والقتال الأفضلية ذاتها. فهما ليستا متساويتين بالثبات والإطلاق». و«بينما هناك خيار بين استخدام الحوار والقوة، بل هناك أفضلية وأولوية للحوار على القوة».

II
- العلاقـة بين الحوار والقتال مرة أخرى:
إنك تصف افتراضي عن إمكانية تحقيق العدالة ورفع الظلم وإزالة الاغتصاب بدون قتال بأنه دعوة مثالية. وأنا لا أنفي عن افتراضي أنه مثالي لأن النظر إلى المثالية ليست هَنَة، فمنها يأتي الحلم بالعمل نحو الأفضل. فالافتراض، هنا، هو افتراض مشروع؛ أوَ لم يدعو الله الظالمين إلى الامتناع عن الظلم من تلقاء أنفسهم؟
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا) تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا فَمَنْ تَابَ مِنْ) (البقرة:193). (عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ) (المائدة:39). (اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالَّذِينَ) (طـه:82). (تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ فَإِذَا) (لأعراف:153). (رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ثُمَّ) (التوبة:5). (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ) (النحل:119). (رَحِيمٌ  (النمل:11)(سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
وهنا يا صديقي، عندما افترضت تحقق العدالة والمساواة وارتفاع ظلم الظالمين لم اكن أريد أن أعالج مسألة فرعية، بل أردت أن أبرهن أن مواجهة اللامساواة واللاعدالة والظلم والاغتصاب يمر أولاً عبر الحوار، ولا نلجأ إلى القوة إلاَّ عندما لا ينفع الحوار. وكان غرضي من وراء ذلك أن أضع سُلَّماً للأولويات بين أسلوبيْ الحوار والإكراه، فوضعت الحوار في أولى درجات السُلَّم. وأنت في حياتك العملية الشخصية، عندما يخطئ أحدهم بحق من حقوقك، فإنك لن تشن عليه الحرب وتشهر في وجهه العصا أو البندقية لتنتزع حقك منه، بل تقوم بخطوة أولى هي أن تطلب منه أن يتراجع عن خطئه، فإذا لم يفعل تلجأ إلى الوسطاء، وإذا لم ينجحوا بوساطتهم تلجأ إلى المحاكم وإذا تمادى في ظلمه واغتصابه ترى نفسك ملزماً باتباع أية وسيلة تراها ملائمة لاستعادة حقك.
وهنا أرى أن نحصر النقد في محور البحث الأساسي و إلاَّ تتكاثر القضايا التي علينا أن نتابعها فيضيع المحور الأساسي ونتوه كثيراً في شعاب قضايا أخرى نرى أنفسنا أننا متفقين من حولها.
وحول القضايا الممكن أن تُحل بالحوار، أعطيك المثال التالي: عقد الرسول معاهدات سياسية مع اليهود، ومع المشركين: كمثل صلح الحديبية. وكمثل الاتفاق بينه وبين مشركي مكة، بالتوقف عن الحرب في الأشهر الحُرُم والاتفاق بينه وبين مشركي مكة بعدم الحج في العام الذي سبق الدخول إليها بالحرب وعندما عقد معاهدة بعد غزوة مؤتة مع المسيحيين على أن يدفعوا الجزية للمسلمين
هل يكفي، مثلاً، حوارنا الدائر من دون أن نتعرف على بعضنا حتى الآن؟ وهل تظن أننا سوف نعلن القتال فيما بيننا إذا لم نصل إلى نتيجة مشتركة بعد حوار يطول أو يقصر؟ وقد نصل إلى اتفاق بدون أن نلجأ إلى قتل أو قتال.
على كل حال، كانت توضيحاتك، واستطراداتك، حول أهمية وجود المتناقضات، هو من التكرار المفيد. وأنا معك تماماً بما جئت به من توضيحات واستطرادات. وكنت أتمنى، وحوارنا يدور حول مبدأ الردة في الإسلام، أي حول تطبيق حديث الرسول: «من ارتد منكم عن دينه فاقتلوه»، أن تبدي رأيك حول النتائج التي توصلت أنا إليها ومن أهمها إلغاء هذا المبدأ لأنه يتنافى مع العقل والنقل أيضاً. وأنا بانتظارك لكي تعود في المرة القادمة إلى الموضوع الأساس، لنسمع منك موقفاً واضحاً حوله.

III - موقع العقل في الدين عامـة والإسلام خاصـة:
أما حول حرية العقل، فتقول «لا أحد يستطيع إجبار أحد على تكبيل حرية العقل من خلال نقل النص. بمجرد مناقشة النص نكون قد خرجنا عن تكبيل أنفسنا، بالنقل والنص، وأطلقنا العنان للعقل لكي يتفاعل مع ما يقرأ».
لكنني لا بُدَّ من أن أسألك: ماذا تعني بعبارة «بمجرد مناقشة النص»؟ إن ظاهرها غامض ويحتمل الالتباس. فالمناقشة قد تعني أنك تعمل على فهم النص استناداً إلى أسس الفقه الإسلامي التقليدي الموضوعة دون أن تحيد عن التقليد والمحاكاة، أي أنك تناقشه لكي تفهمه من داخل مسلمات مسبقة؛ وقد تعني أنك قد تنقده من خلال عدم مطابقته لروح العصر حتى لو اقتضى الأمر العمل على نسخه.
أما إذا كنت تعني بأن الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، قد أعطيا للعقل حريته، فهذا كلام جميل، وأنا أتمنى من كل قلبي أن يكون ما تقوله هو الواقع الصحيح. إن الواقع هو غير ذلك على الإطلاق، لأن الحرية بالقراءة ليست هي المشكلة، بل إن المشكلة تكمن في نقد النص؛ وهنا أسألك: لماذا حُوكم حامد نصر أبو زيد؟ ولماذا يجري تكفير نوال السعداوي؟ ولماذا حُكم على الحلاج بقطع الأعضاء، ولماذا أحرقت كتب ابن رشد، وحُرّمت قراءتها؟………… أرجوك أن تعود إلى كتاب الردة من جديد لكي تقرأ بعض ما ورد في كتب التاريخ من مآسي كابد منها كل من تجرّأ على استخدام عقله في قراءة النص وتفسيره وتأويله. وهل كل الفلاسفة والمفكرين أطلقوا العنان لعقولهم لكي يتفاعلوا مع ما يقرأوا، وتركهم النص الديني، والفقهاء المسلمين، يهنأون بتلك الحرية؟؟؟؟
إن من أهم الأسباب التي دفعتني إلى تكبد العناء من وراء بحثي عن قانون الردة، هي تلك الشواهد المأساوية التي ارتكبها فقهاء المسلمين وخلفائه بحق العقل الذي يريد أن يستخدمه فيلسوف أو مفكر. ما زالت الجريمة مستمرة، ولن تنتهي إلاَّ من خلال جرأة نقدية موضوعية يقوم بها المثقفون العرب على الرغم من حملات الإرهاب التي يقودها روّاد »قانون الحسبة« الذين يدَّعون بأنهم يدافعون عن حق الله، وكأن الله عاجز عن الدفاع عن نفسه، فلم يجد من وسيلة إلاَّ أن يكلِّف روّاد قانون الحسبة بمثل تلك المهمة!!!
إن الشعار العام بأن الإسلام قد احتفظ للعقل بحريته، كما نفهمه اليوم، هو مجرد شعار تعبوي لا مضمون علمي أو عملي له. وهذا موضوع يستأهل النقاش الهادئ والمستقل إعطائه المزيد من الاهتمام والإنضاج. وقد تتسع مناقشاتنا في المستقبل لتشمل هذا الموضوع لأهميته البالغة. واستباقاً لانخراطنا في مثل هذا الحوار، تحت عنوان: هل الإسلام يعترف بحرية العقل؟ أرجو منك أن تعود إلى كتابي المنشور (نحو تاريخ فكري - سياسي لشيعة لبنان)، ففيه قد ناقشت بعض فقهاء الشيعة حول هذا الشعار، وبعد أن تطلع على ما قمت بكتابته، أدعوك لورشة حوار أخرى حول هذا الموضوع.
من هنا كنت أرجو يا عزيزي أن تقرأ بعناية ما كنت أريد أن أصل إليه من كتابة بحثي المذكور (الردة في الإسلام)، أكثر من أن نلجأ إلى الحوار حول تفصيلات، أي أن نتحول بأنظارنا عن الأساسي باستخدام بعض التفصيلات في هذه الصفحة أو تلك. وهذا لا يعني أنها ليست بذات فائدة، لكنها قد تصبح أكثر فائدة إذا كانت تدور حول المحور الأساسي للمشكلة.

IV - الناسخ والمنسوخ قانون ثابت لكنه مستمر من أجل التغيير:
وهذا مثل أكرره، استناداً إلى ما فهمت أنا من حكمة الناسخ والمنسوخ: في التقليد أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن أن يتجاوزا ما حصل في أثناء حياة الرسول، أما ما بقي من شرائع وأحكام، بعد وفاته، فتبقى ضمن مفهومها الثابت، كشرائع إلهية لا يمكن تغييرها. أما فهمي الخاص فيستند إلى أن قاعدة الناسخ والمنسوخ ما هي إلاَّ قاعدة دائمة، تعني إمكانية تغيير الشرائع أو تجديدها كلما اقتضت ظروف المجتمعات ذلك.
إذا اتفقنا على أن تنزيل القرآن متبدل مع تبدل الظروف والأحداث فهذا شيء مهم، بل وفي غاية الأهمية. وهذا ما لا يجعلني مصراً على معرفة لماذا بقي من الأحكام ما نُسخ خطه، ولا على معرفة ما نسخ من الأحكام وبقي خطه. بل ما يعنيني هو أن جوهر مسألة النسخ أن لا تقتصر على ما نُسخ في السابق دون أن نلتفت إلى تبدل الظروف في عصرنا الراهن. وهذا مما له علاقة بموضوع حرية العقل، الذي دعوتك إلى أن نناقشه باستفاضة وبحوارات أخرى.
V - حول علاقـة الشريعـة بالإنسان:
إن الإنسان هو الأساس في هذا أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا)الكون المنظور والملموس، فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ  (لقمان:20). لقد قلت،(بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ أنا: «فلمن يكون الله قد خلق هذا الكون، أمن أجل سعادة الإنسان أم أنه خلق الإنسان ليطبق الشرائع، حتى منها التي لا يرى أنها تمتلك المبررات العقلية والمصلحية الكافية؟»، فهل ما حسبته، أنا، غير واضح؟ فكيف تعرف أو تتأكد من أن شرائع ما تخدم الإنسان أو تكون ضده؟
إن أهم مقياس لمعرفة صلاحية شريعة ما أن تكون عادلة. فهل مبدأ قتل المرتد عن الإسلام هو شريعة عادلة؟
يرى البعض أن هذا المبدأ يتنافى مع حرية الإنسان في الاختيار، وإذا كان مجبراً على الاقتناع به، فسوف يتحول إلى منافق. وهل مسلم منافق هو خير للإسلام أم وبال عليه؟ فأين عدالة هذا المبدأ الديني والشرعي؟
هل علينا، إذا كنا مأمورين أن نخدم الشريعة، حتى تلك التي لا نرى مبرراً لصلاحيتها، أن نمتثل لما تقول؟ أرجو أن تقول رأيك بوضوح وأن نتعاضد في سبيل إجلاء الغموض عن موقفك، هل قتل المرتد عن الإسلام هو من الشرائع التي علينا أن نخدمها وأن ندافع عنها وأن نطبِّقها، على الرغم من الثغرات والهنات التي تتضمنها، مبدأ ونتائج؟ أرجو أن تعود لمراجعة الويلات والمصائب التي أحدثها تطبيق شريعة قتل المرتد من ويلات على الأمة الإسلامية، والذي طال النخب من الفلاسفة والمفكرين بينما كان الغوغاء هم الذين نجوا وحدهم من الآلام التي أحدثها.
هل أصبح مبدأ أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو الدين الله والوطن للجميع، من الشعارات التي علينا أن نتجنب الكلام عنها، أو أنها أصبحت غير ذات قيمة؟ أم علينا أن نعود إلى حصر صلاحيات الدين والدنيا بيد من يدَّعون أنهم مُكلَّفون من الله بأن يحكموا البشر؟ وهل علينا أن نعود من جديد إلى مبدأ (لا حاكمية إلاَّ لله)؟
هذا موضوع يا عزيزي وليد يتطلب منا أن نعقد حوله أكثر من طاولة حوار، ولن أطيل هنا، وأنا جاهز لأن نولي هذا الموضوع أهمية قصوى لأن له علاقة بإشكالية أي نظام نريد؟ هل نريد نظاماً سياسياً علمانياً تكون الشرائع الدينية مصدراً من مصادره، أم نظاماً دينياً يحكم على أساس الشرائع الدينية بالكامل؟ وهذا هو الموضوع الأكثر إلحاحاً في عصرنا الراهن.
VI - هل يمكن المقاربة بين بعض جوانب الشريعة الإسلامية مع القوانين العالمية؟
لاشك بأن هناك تشابه في بعض ظروف المجتمعات والأزمنة واختلاف في ظروف وأزمنة أخرى. ومن الظروف المختلفة، أذكر بعض منها، للبرهان على إبطال بعض الشرائع الإسلامية:
إن المسلمين اليوم لن يستطيعوا أن يتبعوا أسلوب القتال في الدعوة إلى الإسلام. وإذا كان هذا لا يزال صالحاً فعلى المسلمين أن يغزوا بلاد الصين والهند لأنهم لا يدينون بأديان سماوية، وبعضهم لا يزال يعبد الأصنام. أوَ لم يأمر الله المسلمين بالجهاد من أجل نشر الإسلام؟
إن الشرائع التي كانت تُتَّبع في أثناء غزوات الرسول أصبحت غير صالحة اليوم. فهل إذا قمنا بحرب مع العدو الصهيوني واستطعنا أن ندخل إلى قرية من قراهم ووجدنا فيها رجالاً ونساءً وأطفالاً وأموالاً وطعاماً يحق لنا أن نقتل الأسرى، أو نطلب فدية لتحريرهم، أو نسبي النساء ونعدهم من ملك اليمين، ونوزعهم أسهماً على المجاهدين، وأن نستعبد الأطفال ونعدهم من العبيد؟ وهل يحق للمسلمين أن يستولوا على أموالهم وأملاكهم، تحت حجة أنها غنائم حرب؟……….
هل يمكننا اليوم أن نطبق شريعة امتلاك الإماء، والرقاب؟ وهل يمكننا ذلك بعد أن ألغتها القوانين القوانين الوضعية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وهل هناك من يجرؤ على المطالبة بنسخ الآيات التي تعالج عتق الرقاب بالطريقة التي كان المسلمون يعالجونها بها:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ) يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي) (النساء:92). (حَكِيماً أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ)(المائدة:89).  يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ  (البلد: 13).(فَكُّ رَقَبَةٍ) (القصص:3). (خَبِيرٌ

VII - الأسرة وتعدد الانتماءات الدينيـة:
أما حول موضوع الأسرة ذات الإيمان الواحد. فإنني استفدت كثيراً من المعلومات التي أوردتها في ردك، خاصة تلك التي أخذتها عن شرائع الأديان الأخرى غير الإسلام. لقد جاءت لكي تعزز قناعتي بأن التعصب الديني، القائم على ما يعده البعض تعاليم إلهية، هو مرفوض من أية جهة أتى. ولا تنسى أيها الصديق العزيز أن في تعاليم الإسلام ما هو شبيه مما جاء عند الأديان الأخرى. فكل الأديان فيها ما يدعو إلى التعصب والتنابذ والفرقة. وهل غير هذا الجانب هو الذي دفعني إلى الدعوة إلى الإيمان بالحوار وليس بالإكراه؟ فإذا كان بحثي يدور حول الإسلام، فإن مرد ذلك يعود لأسباب منهجية. فما أنقده عند الإسلام ليس إلاَّ أنموذجاً لنقد الفكر الديني بشكل عام.
وأنا عندما أدعو إلى حرية اختيار طريق الإيمان عند أفراد الأسرة الواحدة فهو قائم على أننا عندما نوفر حرية الاختيار أمام أبناء الأسرة الواحدة فهذا لن يحصل من دون إلغاء عقوبة قتل المرتد، هذا المبدأ الذي آمنت به كل الأديان السماوية والوثنية على حد سواء. فعندما ينال الطفل منذ ولادته حرية الانتماء من دون تخويفه بأنه سينال عقوبة القتل في الدنيا أو الحرق في نار جهنم بعد الموت، ساعتئذٍ لن يخشى أن يعيش مع أخ يهودي غير مأمور بقتل أخيه إذا ارتد عن اليهودية، ولن يخشى أن يعيش مع أخت مسيحية غير مأمورة بقتل أخيها إذا ارتد عن المسيحية، ولن يخشى مسيحي أن يعيش مع أخ مسلم غير مأمور بقتله لأنه اختار المسيحية على الإسلام
عندما أدعو إلى تعايش أفراد أسرة، أخوة وأخوات، منتسبين إلى انتماءات روحية متعددة، فإنما قائم على أساس إلغاء كل مبادئ الردة التي تأمر بالقتل. ولو تابعت يا صديقي قراءة الفصل الخامس من كتاب الردة في الإسلام، لأستغنيت عن كتابة ما كتبت عن مبدأ الردة في المسيحية.
كانت غايتي من كتابة ذلك الفصل، أي الردة في المسيحية، هي أن أنقل تجربة عاشتها أوروبا في عصورها المظلمة وكانت معاناتها وآلامها تعود في الأساس إلى حكم الكنيسة تحت راية قانون كنسي يعطي الكنيسة الحق في الحكم الدنيوي والديني. وكانت من أهم ذرائعها أنها تحكم باسم الله وتطبق شرائعه السماوية. وكانت تلك التجربة أمثولة جديرة بأن نبحثها في عصرنا هذا، نحن الذين حُكمنا، أيضاً، ألفاً وثلاثماية سنة ونيّف باسم الشريعة الإسلامية، وخرجنا من تلك التجربة بتبرير ذرائعي يتلطى تحت شعار أن ما حصل من تجاوزات تفوق الوصف على شتى الصعد بأن ما حصل من تجاوزات وثغرات يتحمل وزره المسلمون وليس الإسلام. وإذا سألتهم ما هو الحل يقولون لك: لا يصلح الخلف إلاَّ بما صلح به السلف. و لا بُدَّ من العودة إلى الإسلام الصحيح. وإذا سألتهم ما هو الإسلام الصحيح، تذهب كل فرقة إلى الادعاء أنها وحدها التي تمثله وتحتكر صحته لنفسها. وما عليك إلاَّ بالعودة إلى الفصلين الثاني والثالث من كتاب الردة في الإسلام، وأرجوك أن تدلني كيف أصل إلى تحديد مصطلح الإسلام الصحيح، لنتابع الحوار من بعد اطلاعك.

VIII - الأخلاق في الغرب والأخلاق في الشرق:
دعنا يا صديقي من خطابات التعبئة والتحريض على الآخرين، ودعنا من مقالات الأخلاق التي يدّعي الكثيرون أن الغرب مصاب بها، وكأننا لكي ندلل على أخلاقنا علينا أن نتهم الغرب بأخلاقه، وعلينا أن لا نرى عوراتنا. هذا الخطاب التعبوي الذي لن يفيدنا بمعالجة أمراضنا لأننا لا نريد أن نراها. لماذا نهرب إلى الأمام دائماً؟ ونستخدم أسلوب الدفاع عن عوراتنا بتبيان عورات الآخرين. فمن كانت شبابيكه من زجاج أن لا يرشق شبابيك الآخرين بالحجارة.
أتعلم، مثلاً، ماذا كان يجري في قصور هارون الرشيد من موبقات؟ ألا يكفي أن نتذكر نواسيات أبي نؤاس في قصور هارون الرشيد؟ أننسى ما كان يجري من موبقات في قصور الخلفاء المسلمين؟ أو لم نقرأ ما كان يفعله خالد ابن الوليد من أجل النساء اللواتي كن ينلن إعجابه في أثناء غزواته، وهذا لا يقلل من تقييمنا لفتوحاته الباهرة؟ هل قرأت في كتب التاريخ عن دور الغلمان في حياة المسلمين العرب؟ وهل قرأت عن دور الغلمان في قصور خمسة من خلفاء المسلمين الأتراك؟
بلى إننا نرى موبقات الغرب الأخلاقية، ونرى أكثر منها، ولسنا من بلاد الواق الواق، وهل اتهامنا للغرب ورشق زجاج شبابيكه بالحجارة يعفينا من أن نحافظ على زجاج شبابيكنا من الرشق بالحجارة؟
إنني يا صديقي لا أدافع، ولن أدافع عن الغرب، ولكنني أدافع ضد أن نبقيَ على مستوى أدائنا وضد أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأنتقد خوفنا من أن نرى عوراتنا، ونعوض عن ذلك برؤية عورات الآخرين وشتمهم.

IX - أين تبدأ سلطة الفقيه وأين تنتهي في عصرنا الراهن؟
أما حول حق الفقهاء بإصدار الأحكام على شتى مستوياتها. أنا لست ضد أن يأخذ الفقيه دوره في القضاء. وأنا لا أقارن صلاحية هذه الشريعة الإلهية مع تلك الوضعية، ولكنني أطرح سؤالاً محدداً واضحاً:
إذا كانت شرعة الأمم المتحدة تضمن للإنسان حقه في الانتماء الديني، وتضمن كل دساتيرنا العربية هذا الحق، أيضاً. فهل يبقى مبدأ قتل المرتد عن الإسلام في أيدي فقهاء المسلمين بحيث يطبقونه خارج قوانين الدولة التي تحكم بشرائع وضعية؟ أو هل يجوز لدولة إسلامية أن تطبق أحكام هذا المبدأ في القرن الواحد والعشرين، ضمن عولمة القوانين، على الأقل تلك التي تقبل بها الأنظمة العربية ومنها تلك التي تقوم بتطبيق الشرائع الإسلامية؟ وعلى افتراض أن ذلك حق من حقوق سيادتها على رعاياها، وحق من حقوقها الشرعية الإسلامية، فهل لا يستطيع المسلم الذي يريد أن يختار غير الإسلام أن يلجأ إلى أية دولة من دول العالم؟ وهناك يجد أية دولة على استعداد لأن تؤمن له اللجوء. فما هي الفائدة، إذاً، من مبدأ إلهي يستطيع المسلم أن يزوغ عن تطبيقه بشتى الوسائل؟ وهل كل المسلمين في شتى أرجاء الأرض من الذين يطبقون الشريعة الإسلامية من دون ثغرات تسمح بتصنيفهم من المرتدين؟ وإني أسألك على أن تجيب بصراحة: كم تقدر عدد المنافقين في إسلامهم من مئات الملايين المنتشرين في العالم؟ لا شك إن عددهم يبلغ بمئات الملايين. فإذا كان هذا هو الواقع، فما هي النتيجة الإيجابية التي يؤديها الإبقاء على هذا المبدأ؟ هل غير أن يتكاثر عدد المنافقين ويزداد عدد المرتدين من دون أن تطالهم يد الفقهاء أو المحاكم الإسلامية؟
وما هو النفع من إبقاء حكم لا يتم تطبيقه وليس هناك استطاعة لتنفيذه؟ بلى، إسمح لي أن أقول معك، هذا نص أُلغيَ حكمه في الواقع، ولكن بقي خطه. وهناك ضرورة شكلية للإبقاء عليه. وهذا شبيه بمسألة الإماء والرق التي أصبح الحديث عنهما من غير فائدة، لأنها أُلغيَت بفعل الأمر الواقع.

أين تبدأ سلطة الفقيه، في ظل الأنظمة التي نعيش اليوم، وأين تنتهي؟
إن المجتمعات المحكومة في ظل الأنظمة العربية اليوم هي مجتمعات متعددة الانتماءات الدينية. فهل على كل مذهب من المذاهب الدينية الذي يعيش في ظل نظام دولة تحكم تعدديات دينية الحق بأن تحكم حسب شرائعها الدينية أم على تلك المذاهب أن تخضع لقوانين الدولة الموحدة؟
لا شك بأنك ستقول: على كل المذاهب الدينية، وغير الدينية، أن تخضع لسلطان القوانين الموحدة. ففي مثل هذا الحالة أين تصبح الأحكام الدينية أو المذهبية الخاصة، وإذا خضعت تلك الأحكام لقوانين الدولة يتولّى قضاة مدنيون بحكم الأمر الواقع مسؤولية إصدار الأحكام ولا مكان هنا لدور قضاة المذاهب.
والحال كذلك، كيف يستطيع القضاة الذين يطبقون الشرائع الإلهية، كما تقول، أن يطبقوا مضمون حديث الرسول «من ارتدّ منكم عن دينه فاقتلوه»؟
في عصر بناء الدولة القومية، التي تضم مجموعات من المواطنين المنتسبين إلى ديانات مختلفة، هل من الممكن أن نطبِّق مضامين الشريعة الإسلامية على المسلمين بقانون خاص؟ أي هل نعطي الفقهاء حق تطبيق قانون الردة القاضي بقتل المسلم المرتد عن الإسلام؟ وإذا أعطتهم الدولة القومية مثل هذا الحق، ألآ تصبح ملزَمة أن تعطي للكنيسة المسيحية حقها في فرض قوانيتها الدينية على المسيحيين؟ وهنا عليك أن ترى كم ستتشرذم قوانين الدولة القومية. هذه هي الصورة التي ستصبح عليها الدولة القومية. وكم سوف ستتشرذم قوانينها إذا ما أخذت المذاهب الدينية تطالب بإعطائها حق تطبيق قوانينها المذهبية الخاصة بها.
هل تصر على إعطائهم مثل هذا الحق؟ وأنت تعطيهم إياه تحت ذريعة أن من مبدأ العدالة أنه مثلما نعترف بحق قضاة الشرائع الوضعية في مقاضاة الناس علينا أن لا نستنكر أبداً أن يقوم الفقهاء الدينيون، بمصادرهم الشرعية الإلهية، بدورهم.
أما إذا كنت تقوم بالتساؤل حول هذا من دون أن تؤيد قيام الفقهاء بتمثيل الدور الإلهي على الأرض، وإنما غايتك كما تقول هي مجرد «مقارنة بين القضاء المدني والقضاء الشرعي»، فهذا ما يدفعني إلى التساؤل: ولماذا الغرق بمثل هذا الجدال النظري الذي لا يحمل إمكانية التطبيق العملي؟ فنحن لسنا بصدد الحوار حول مسائل نظرية لا علاقة لها بواقعنا الذي علينا أن نجد أو نسهم في التفتيش عن الحلول لمشاكله العملية التي لها علاقة مباشرة مع هذا الواقع. والمسألة المطروحة بالتحديد هي كما طرحت عليك السؤال في الحلقة السابقة : «هل أنت مع » أن يقوم الفقهاء، اليوم، بإصدار تهمة التكفير على المسلمين وسجنهم ثلاثة أيام واستتابتهم، وإذا لم يعودوا إلى الإسلام يُقتلون؟
سؤال واضح ومحدد وله علاقة بواقعنا الراهن، فهل أنت معه أو ضده. لم يكن لك موقف واضح من حوله، فإذا أردت أن تجيب عليه أو لا تجيب فهذا موقفك الذي أحترمه، لكن لا يمكننا القفز من فوق معالجة مشكلة عملية إلى معالجة مشكلة نظرية ليست لها علاقة بالواقع المعاش. كأن نقارن بين قضاء مدني يقوم بشتى مهمات القضاء، والقضاء الشرعي الذي حصرت الأنظمة دوره في الأحوال الشخصية من دون أن يتخطاها.
***
ردود وتوضيحات حول نقد لعدد من تفصيلات كتاب الردة
عزيزي وليد
لما انتهيت من الرد على ردكم الثاني، تلقيت منك توضيحات أخرى حول كتاب الردة في الإسلام. قرأته وتتبعت التفصيلات التي نقَّبت عنها أنت بجهد وعناء. فوجدت من المناسب أن أدمج الردين معاً، لأنني لم أجد في توضيحاتك الأخيرة إشكاليات جديدة، بل هي توضيحات جديدة حول ما جاء في بعض الروايات / المستندات التي قمت أنا، في كتاب الردة، باستخدامها لبلوغ أهداف رئيسة كنت أدافع عنها من خلال ذلك البحث.
إنني أزداد شوقاً للتعرف إليك شخصياً، وبشكل مباشر، لأن عندي كثيراً من الأفكار التي علينا أن نناقشها بعد الفترة التي تحاورنا فيها على الورق. فالحوار المباشر قد يفيدنا في تحديد كثير من المسائل التي نحسب أنها مجالاً للخلاف بيننا، بينما هي في الواقع نقاط التقاء.
أول تلك المسائل هي انكبابك على متابعة قراءاتك بجدية ودأب قلَّما تميَّز به الملتزمون بفكر وإيديولوجية قومية.
لقد مررت، مثلك، بمرحلة قرأت فيه كتب التراث، ولكنني، أيضاً، قرأت الفكر الإسلامي وما تفرَّع عنه من مذهبيات متناحرة ومتكافرة ومتعصبة. لكنني، بعد تلك القراءات الكثيفة، وبدلاً من أن تقودني إلى متاهاتها، فقد أثارت في نفسي الكثير من التساؤلات والهواجس والشكوك. وكنت كمثل إبليس الذي أتهمه الشهرستاني بزرع الشبهات الأولى. ولكنني وجدت نفسي، من خلال ما وجدت من أفكار وإيديولوجيات كثيرة ومتشعبة ومتناقضة ومتكافرة ومتفاسقة، بعضها يكفر البعض الآخر ويلقي به في النار ويحتكر الجنة لنفسه وجماعته، في موقع الذي لا يستطيع أن يكون محايداً في داخل غابة التناقضات التي عاش فيها المسلمون.
لهذا السبب اخترت طريق الشك. لكن هذا الطريق لم يشكل لي راحة نفسية، في البداية، بل زرع القلق في نفسي عندما وجدتها في مواجهة مع المقدس الذي غرسته تربيتي التقليدية في أعماق وعيي أو لا وعيي. وتعالت أصوات المحرمات والمقدسات لتحذرني من اجتياز طريق قد أدفع من أجل اجتيازه مقعداً في الجنة. وكي أبتعد عن النار عليَّ أن أسمع صوت المقدس وأبتعد عن طريق الشبهات التي زرعها إبليس.
أصبح إبليس إبليساً، عند الشهرستاني، بعد أن وجَّه ضدَّه التهم التالية:
لقد تساءل إبليس: إذا كان الله قبل أن يخلقه يعلم أي شيء يصدر عنه [أي عن إبليس] فلمَ خلقه؟ وما الحكمة من خلقه إياه؟
وتساءل، أيضاً: إذا كان الله قد خلقه على مقتضى إرادته ومشيئته، فلمَ كلَّفه بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف بعد أن لا يُنتفع بطاعته، ولا يُتضرر بمعصيته؟
ألا ترى معي كم هو إبليس مفكر جريء؟ [لكنك لست ملزماً بأن تراه كما أراه أنا]. لقد أعطاه الشهرستاني شهادة تقدير بدلاً من أن يشوِّه صورته أمامنا.
لقد تابعت الفرق الإسلامية -يقول الشهرستاني- طريق إبليس، فتتالت الشبهات، وتفرَّقت خير أمة أخرجها الله للناس إلى مئات الفرق، وفتح إبليس بأسئلته الجريئة، طريق النار أمامها جميعاً إلاَّ تلك التي سلكت طريق السنة والجماعة. وأصبحت كل فرقة تحسب نفسها الناجية، وكل الفرق غيرها في النار!!!
لقد استطاع إبليس الغير منظور أو محسوس أن يخرِّب كل ما بناه أنبياء الله طوال عشرات آلاف السنين. فهو قد أخذ من النبي موسى سبعين فرقة يهودية. وأخذ من السيد المسيح إحدى وسبعين فرقة مسيحية. وأخذ من الرسول العربي اثنتين وسبعين فرقة إسلامية!!!
أترى هنا كم هو إبليس أذكى من الاثنتين والسبعين فرقة إسلامية التي لوَّثها بشبهاته؟ وبدون أدنى شك فإن تلك الفرق تضم مئات الملايين من البشر، منهم الجاهل الباصم والمقلِّد والمستسلم والمتواكل. كما منهم، أيضاً، العالم والفقيه والمجاهد كُلُّهم انصاعوا إلى شبهات إبليس العقلية. فهل تدري يا صديقي أن ما أراده الشهرستاني من وصف أسئلة العقل بأنها من تلبيس إبليس، هو النيل من كل مفكر وفيلسوف أيضاً. وهو لا يستطيع أن يكافح ضدهم إلاَّ باتهامهم بما يستسغيه تفكير الفرد الساذج.
عجباً نحن نحمِّل إبليس مهمة جليلة، مهمة استخدام العقل. فأصبح استخدام العقل تهمة تقودنا إلى النار. وأصبح التقليد والتواكل والتسليم من الفضائل التي تقود إلى الجنة!!!. ولقد قادتني هذه النتيجة إلى المقارنة بين المقادين والمقلدين والمستسلمين والمتواكلين من جهة، والفلاسفة والعلماء والمفكرين من جهة أخرى.
أن تكون مع المفكرين، يعني أن تكون مع إبليس في النار. وأن تكون مع السُذَّج فتكون في الجنة. هل ترى يا عزيزي وليد كم هو الاختيار صعب؟
أن تستسلم لمن يخطط لك طريق الجنة، وهو مأمور بالتفكير عنك. أو أن تخطط أنت لنفسك وتفكر لها. بربك من يستمع إلى مواعظ أي رجل دين من دون أن يستخدم عقله متسائلاً: هل صحيح ما يتكلم به رجل الدين، أم هو مشوب بالريبة والشك، هل تضعه في كفة ميزان ترجح عن كفة من يستخدم عقله؟ وفي هذه الحال في أية كفة تضعني مع أي مقلد يؤمن باستسلام وصمت ودون تفكير؟
لقد عذَّبني، في البداية، اختيار طريق الشك في ما يحسبه المستسلمون مقدساً. لكنني وجدت أن ما يعده المسلمون مقدساً يتعرض إلى حملات النقد من آخرين لديهم مقدسات غير إسلامية. ووجدت أن احترام المسلمين لمقدساتهم لم يجزهم خيراً، والذين نقدوها، من الأديان الأخرى، لم يتضرروا من نقدهم لها، ولم تلحق بهم أية عقوبات. وهذه النتيجة لا يعدِّلها الإيمان بأن حسابهم في الآخرة.
إن المقدس -كما وصفه أحد الباحثين- اكتسب قدسيته من خلال العقل الجمعي الديني. والجرأة على اقتحام أسراره وقواعده لن يتيسر إلاَّ للذين أدركوا أن من حقهم أن يشكوا بكل ما هو مطروح أمامهم من قضايا. ومن حقهم أن يتوصلوا إلى الحقيقة عن طريق الإقناع المحسوس.
إيجازاً لما سبق، أقول إنني قد توسَّعت في قراءاتي للتراث. وكثرة الإطلاع استثارت في نفسي الكثير من الأسئلة. فتوصلت إلى قناعة أنه لا يمكن اكتساب المعرفة الصحيحة إلاَّ بالاطلاع على مواد المعرفة الأولية أولاً، وأن أراها من خلال عقل نقدي ثانياً.
استناداً إلى منهجي المعرفي قمت بإنجاز بحث الردة في الإسلام. وكان من أهم أهدافي أن أصل إلى عدة من النتائج، ومن أهمها:
الدفاع عن حرية العقل في التفكير والاعتقاد، من خلال نقد النص الإسلامي وفقهه.
البحث حول المقدس في النص الإسلامي، وقمت بالاستعانة بالفقه وتحديد الظروف. واستعنت، للوصول إلى النتائج، بالمنهج التاريخي. وكانت وسائلي تستند إلى التناقضات بين المسلمين حول تطبيق النص من جهة، وتأويله وتفسيره من جهة أخرى. فماذا وجدت؟
إن ما جهدت نفسك في التعليق عليه من تفصيلات هنا أو هناك؛ لم تكن الهدف الأساسي في بحثي. لذلك:
لم أكن أريد أن أتهم عمر بن الخطاب، لأسباب مذهبية، بأنه كان يتعارض مع الرسول أو يتوافق معه.
ولم أكن أبتغي تأييد المتعة أو معارضتها، لكي أرجح رأياً فقهياً سنياً على رأي فقهي شيعي، أو بالعكس.
ولم أرد من إظهار التناقض بين فاطمة، بنت الرسول، مع إبي بكر الصديِّق، الخليفة الراشدي الأول، لأعطي حقاً لهذا الطرف أو أسلب حق الطرف الآخر.
ولم أرد أن أؤيد حق علي أو حق عائشة في حرب الجمل.
ولم أرد أن أسلب حق علي في حرب صفين، أو أن أمنع حق معاوية بالاجتهاد في الحرب.
وإنما السبب، الذي دفعني إلى الاستعانة بكل تلك الحوادث، هو أن أستكشف مدى صحة ما تربينا عليه من مقدسات. فكانت النتيجة أن ما نحسبه مقدسات قد اختلف حوله الرعيل الأول من الصحابة المقرَّبين. فلماذا نقوم نحن بافتعال مقدسات لم تكن كذلك عند صحابة الرسول وآل بيته؟
لم تكن تعنيني غياب فاصلة من هنا أو نقطة من هناك حول حادثة ما أو نص ما. إلاَّ أن هذا لا يعفيني من أن أعترف بفضل التفصيلات، في النصوص والأحداث، التي كانت الوسيلة الأساسية، أي المادة الأولية، التي أسعفتني في التحليل والاستنتاج.
أخيراً، يا عزيزي وليد: إنني أراهن كثيراً على سعة اطلاعكم على التراث الإسلامي. ولديكم المادة الأولية الغزيرة والثمينة، التي تستطيع أن تساعدكم في صياغة الكثير من الآراء والنتائج التي تسعفنا في النظر إلى مشاكلنا الراهنة بعين الموضوعية.
وهنا قد تقول: وما أهمية التراث في صياغة الآراء والنتائج حول المرحلة المعاصرة؟ لا يغيب عن بالكم أن القاعدة الثقافية الأساسية التي يستند إليها واقعنا المعرفي يقوم على بنية ثقافية إسلامية، أساساً؛ وتلك البنية تعيق الكثير من حالات التطوير، لأنه كما لا يخفى عليكم أن عوائق التغيير، هي بالأساس عوامل ثقافية.
قل لي كيف تفكر أقل لك من أنت. وإذا بقينا عند الحدود الثقافية ونتائجها، التي وصل إليها السلف، فلن نستطيع أن نتقدم قيد أنملة. والدليل على ذلك أن البنية الثقافية التراثية فيها الكثير مما يعيق، وهي قد أعاقتنا لمئات السنين ولا تزال. ألا ترى كم نحن مصابون بالتخلف؟
قد تجيب إن المسلمين يتحملون وزر التخلف وليس الإسلام. وهذا جواب تقليدي استهلكه الزمن. فهل ننتظر قروناً أخرى لكي نجد أفضل من فقهاء المسلمين السالفين. وهل ننتظر آلافاً أخرى من السنين لكي يأتي صحابة أفضل من صحابة الرسول لتطبيق الإسلام الصحيح؟
لقد جئت بالفصل الثاني، مثلاً، من كتاب الردة لكي ألقي الضوء الساطع على العهد الراشدي، والذي كان أولو أمر المسلمين فيه من أفذاذ الصحابة، وعلى الرغم من ذلك تبيَّن أن أهم الفتن التي عرفها المسلمون قد تأسست في عهدهم.
لم أكن من هواة الكشف عن تاريخ الصحابة في سبيل محاكمات تاريخية لهذا أو لذاك منهم، بل ما أردت أن أصل إليه هو أن أكشف بشكل واضح عما كان فقهاء المسلمين يتحرجَّون من الكشف عليه خوفاً من ارتكاب الإثم. لكنهم لم ينطلقوا من أن الإثم هو في الخوف من نقد الذات وكشف العورات.
أرجو منك، ولو للحظات، أن تنتقل من الخوف على المقدس ومنه إلى الكشف عنه ومناقشته. فالساكت عن الحقيقة هو شيطان أخرس. ولا أرى، مع الكثيرين، أن التستر على أمراضنا هو الحل، بل الكشف عنها بجرأة ووضوح هو العلاج السليم.
مع الشكر لاستمرارك في تبادل الرأي فيما بيننا، أرجو أن تقرأ في أبحاثي ما أريد الوصول إليه أكثر من مراقبتي في هذه الزاوية أو تلك. فنحن قد نخطئ في التفاصيل، فلنتجاوزها لكي نستطيع أن نتلمس الطريق بنظرة استراتيجية، ونتلمس الهدف الاستراتيجي.
5 / 3 / 2002م حسن غريب
***