الأربعاء، نوفمبر 25، 2020

تهافت المشاريع الدينية الغيبية بداية انبعاث الأمل في التغيير

 

تهافت المشاريع الدينية الغيبية بداية انبعاث الأمل في التغيير

في 25/ 11/ 2020  حسن خليل غريب

بعد أن أُسقطت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في العام 1917، كانت الحرب العالمية الثانية التي جرت أحداثها في الأربعينيات من القرن العشرين نهاية للإمبراطوريات التقليدية في التاريخ، وهي الإمبراطوريتان الإنكليزية والفرنسية، اللتان وإن كانتا السبب في دحر مشروع الإمبراطورية النازية ودفنه قبل أن يُبصر النور، فقد دُفنت آمالهما في استعادة مكانتهما في التاريخ.

كانت أهداف الحرب العالمية الأولى إسقاط الإمبراطورية العثمانية ليصفو الجو أمام الإمبراطوريات الرأسمالية الأوروبية الغربية، والتي بسبب إنهاكها بحربين عالميتين جاء من يرث المنهج الإمبراطوري بديلاً عنها، فقد شهدت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ولادة مشروعين دوليين كبيرين، مشروع الاتحاد السوفياتي، ومشروع الإمبراطورية الأميركية.

ماتت الإمبراطوريات التقليدية، العثمانية والإنكليزية والفرنسية، وتمَّ وأد المشروع الإمبراطوري النازي، وخلفتها ولادة إمبراطوريات العصر الحديث، روسيا وأميركا. وبهذا وبسرعة فائقة تقل عن نصف قرن من الزمن، لم يعرفها تاريخ الإمبراطوريات القديمة، ماتت ثلاث إمبراطوريات، وتم وأد الرابعة قبل أن تكمل مشوارها من جهة، وولادة إمبراطوريتين كبريين جديدتين من جهة أخرى.

في غضون نصف قرن من التاريخ تقريباً ماتت إمبراطوريات وعاشت إمبراطوريات أخرى. ولشدة شبق بعض قادة الشعوب لحكم العالم، لم تتوقف أحلام من ورثوا مناهج الإمبراطوريات التقليدية، فقد دخلت إمبراطوريتا العصر الحديث، أميركا وروسيا، في سباق من التنافس والصراع، فسقطت إمبراطورية الاتحاد السوفياتي في العام 1991، لتنفتح الشهية الأميركية بحلم حكم العالم من دون شريك، خاصة بعد أن أصبحت الأبواب مشرَّعة أمام مالولايات المتحدة بغياب المنافس الروسي.

ولذلك انطلق المشروع الأميركي تحت مسمى (نحو قرن أميركي جديد) والذي وضع منهجاً له تأسيس إمبراطورية أميركية على مقاييس الأيديولوجيا الصهيونية، التي تقضي بالتمهيد لمعركة الخير والشر في معركة هرمجدون في فلسطين تمهيداً لظهور (المسيح المخلص) كما يعتقد بها التيار المسيحي المتصهين الذي إما أنه يتقارب بالأهداف مع الصهيونية العالمية، وإما أنه من صنع تلك الصهيونية. وليس من الغريب أن يصرِّح أحد الرؤوساء الأميركيين، قائلاً: (إن الرب كلَّف الشعب الأميركي بأن يخلِّص العالم).

تحت شعار تصدير المشروع المذكور، بدأ تنفيذه في العام 2003 باحتلال العراق تحت حجة إسقاط محور الشر، الذي هو مصطلح تلمودي قديم. فماذا جرى، منذ احتلال العراق؟

من أجل تنفيذ مشروع ذلك الإسقاط، كان لا بدَّ من إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية تتقاتل فيما بينها ليصفو الجو لتنفيذ المشروع من دون عوائق تُذكر، ولذلك غذَّى أصحاب المشروع نزعة أطماع الدولتين الإقليميتن إيران وتركيا بوعدهما بحصص دسمة في المشروع. وكان من غير المألوف أن تتشارك في تنفيذ مشروح واحد ضد الوطن العربي، مشاريع سياسية متناقضة يكفر فيها أحدهما الآخر، ويستبيح أرضه وعرضه.

  توافق في المصالح وتناقض في الأهداف:

ليس من الغريب فقط أن يتم التوافق بين ثلاثة مشاريع متناقضة، بل من المريب أن يضمهم تنفيذ مشروع واحد أيضاً.

وأما تناقضاتها فهي من الحدة التي لا يمكن أن تلتقي، لأن لكل منها، كما تزعم، مشروع إلهي تعلنه جهراً وليس سراً. ولذلك يستطيع حتى الغبي أن يتعرَّف على نوايا الآخر، وعلى قراءة مخططه بوضوح. وهذا ما يطرح التساؤل التالي: إذا كان كل منهما يعرف حقيقة خطورة مشروع الآخرين ضد مشروعه، فعلى ماذا يتفقون إذن؟

 -فالمشروع الأميركي، بغض النظر عن أنه مشروع رأسمالي، وقد تلتقي في معظم الأحيان مصالحه مع أكثر من قوة اقتصادية يتقاسمون فيها المصالح، وقد تتناقض تلك المصالح فيعيدان تصويب قواعد المحاصصة. وأما لأنه يستند بشكل أساسي إلى مشروع أيديولوجي ديني، وكأن تنفيذه جاء بأمر من الرب فهنا يكمن مصدر الخطورة فيه. ولأنه يستند إلى أيديولوجية (شعب الله المختار) بصفته ينفذ أيديولوجيا (اليمين المسيحي المتصهين)، فهو لا يمكن أن يقبل ربَّاً آخر.

-وأما المشروع الإيراني فهو قائم على أسس ظهور المهدي المنتظر، الذي غيَّبه رب الإسلام الشيعي كما يزعمون أنه سوف يظهر مع جديد لإنقاذ العالم ونشر العدل فيه، وهو مشروع يتناقض مع أي مشروع آخر إلى الحد الذي يتم تكفير من يرفضه من المشاريع الإسلامية السياسية الأخرى، فكيف به إذا كان المشروع خليطاً من عقيدة مسيحية يهودية، كالمشروع الأميركي؟

-وأما المشروع التركي، فيرفض هذا وذاك من المشروعين المذكورين أعلاه، لأنه يستند إلى وجوب بناء مشروع إلهي يتناقض معهما إلى حدود تكفيرهما معاً. ولا يجوز شرعاً، كما يعتقد أصحاب المشروع، أن يتم تأسيس أي نظام لا يحكم بـ(شرع الله)، كما ينص عليه القرآن والسنة النبوية.

ولأن أهداف تلك المشاريع واضحة وجلية عند أطراف التحالف، لا نبالغ إذا قلنا أن هذا التحالف هو تحالف مريب.

لماذا التوافق حول تنفيذ المشروع المريب؟

على الرغم من أن أطراف التحالف الشاذ يدركون التناقض الشديد بين المشاريع الثلاثة، إلاَّ أنهم انخرطوا في تنفيذ المشروع الأميركي، ولكن كل منهم يضمر الانقلاب على صاحبه عندما يستأنس عوامل القوة الكافية لتنفيذ مشروعه الخاص.

فبالإضافة إلى أن تحالفهم شاذ استراتيجياً لكنهم ارتضوا التحالف المرحلي، من أجل التعاون على تذليل العوائق التي تحول دون تنفيذ المشاريع الخاصة لأن إمكانيات مشروع واحد من المشاريع الثلاثة يعجز عن التنفيذ بمفرده.

وإذا كان الأمر يتعلَّق بما بدأوا بتنفيذه منذ العام 2011، ففيه وزَّع المشروع الأميركي الأم، كما جاء في وثائق الرئيس أوباما، الأدوار بينهم. بحيث يستقطب النظام الإيراني المكون الشيعي، والذي كان مرسوماً له أن يحصل على هلاله في المشرق العربي. وأن يستقطب النظام التركي المكون السني ليحصل على هلاله في المغرب العربي. وتشكل حصيلة الهلالين إضعاف للعرب جميعاً، مما يقضي على أي حلم عربي بالوحدة. ولأن الولايات المتحدة الأميركية تعتقد بأن الأولوية في مشروعها هو تفتيت الوطن العربي على أسس طائفية، وهذا لا يتم بغير مساعدة النظامين الطائفيين الإيراني والتركي. ولأنها تمتلك من قوة السلاح والمال ما يفوق بمئات الأضعاف مما يمتلكه النظامان الإيراني والتركي، كانت تخطط، بعد نجاح المشروع، لاحتوائهما معاً تحت مظلة أوامرها ونواهيها. على أن تكون (العصا لمن عصا).     

المشاريع الغيبية من أخطر مشاريع الإمبراطوريات في التاريخ:

كل الإمبراطوريات في التاريخ السحيق وصولاً إلى مشاريعها في عصرنا الراهن، تُعدُّ خطيرة على حاضر الشعوب ومستقبلها. ولعلَّها أشد خطورة هي تلك التي تستند إلى عقائد دينية غيبية.

إن الإمبراطوريات ذات الأهداف التوسعية لأهداف اقتصادية يمكن مقاومتها بشكل جماعي من قبل مواطني الدول التي تمَّ احتلالها، وهي تلقى إجماعاً باستثناء قلة من المنتفعين الذين غلبت عليهم أهواؤهم بضمان مصالحهم على حساب مصالح أبناء أوطانهم. وبالإجمال لن تستطيع الإمبراطوريات التوسعية لأسباب اقتصادية أن تضمن وجود حواضن شعبية لها، وهنا يكمن سر ضعفها، وهذا ما حسب له المشروع الأميركي حساباته.

أما الإمبراطوريات ذات المشاريع الغيبية الدينية فتجد حواضن شعبية ممن يؤمنون بنصرة الدين على حساب نصرة الوطن، أو نصرة المذهب على حساب نصرة الدين. وتظهر خطورتها في أنها تجد من يحمي احتلالها في الأقطار العربية من المتعصبين مذهبياً، ويعمل على استمالة الآخرين من أبناء مذهبهم من الذين يرفضون الاحتلال، تحت وابل من التهديد والوعيد، بنار الدنيا ونار جهنم الآخرة.

وأما خطورة هذا النوع من الإمبراطوريات على الصعيد الوطني المتعدد الانتماءات الدينية أو المذهبية، أو على الصعيد العالمي، فإنها تؤسس لحروب دائمة لن تتوقف حتى ينتصر إله واحد من آلهة المتصارعين. ولهذا بيَّت كل منهم الشر للانقلاب على حليفه في الوقت المناسب.

ولأنها تمتلك عوامل الإيمان بأنها تمتلك مشروعاً إلهياً، ولأن المنجرفين في تيار المتعصبين لها يعتقدون بالنصر الإلهي لها، تتعقد الأمور أكثر إلى الدرجة التي يسهل فيها الموت (في سبيل نصرة الله) كما يزعمون. وكذلك يُشرِّعون القتل في سبيل (نصرة إلههم المزعوم).

 

وضع التحالف في هذه المرحلة يبشِّر بالقطيعة مع المشروع المريب:

بعد انكشافه وتهافته في أقل من عشر سنين، وإذا كان تهافت المشروع جلَّي وواضح، بعد فشل تطبيقه، إلاَّ أنه لم يمت، بل يعمل أطرافه المشاركة فيه ليس على إلغائه بل إلى تأجيل تنفيذه انتظاراً لمتغيرات جديدة وانتظاراً لإعادة تنفيذه في الظروف المناسبة. ولهذا السبب على جميع القوى، على مستوى الأقطار العربية، كما على المستوى الدولي، وبالأخص منهم الذين يدركون مدى خطورة المشاريع الغيبية المتناقضة الثلاثة، أن يعملوا متآزرين ومتضامنين من أجل نشر ثقافة بناء أنظمة وطنية مدنية، التي تضمن تغييراً في علاقات تلك الأنظمة لكي تسير عملية التغيير بسهولة وسلاسة. ومن أهم الشروط التي عليهم أن يستندوا إليها، أنظمة وشعوباً، هي في نشر مبادئ العدالة والمساواة بين جميع مواطني الدولة من دون تمييز بالنسبة للدين أو المذهب أو العرق، والتي هي بها، وبها وحدها، يتم تجريد المشاريع الغيبية من الذرائع التي تتلطى بها في التحريض ضد الأنظمة القائمة، وتعتبر أن قوانينها الوضعية هي السبب في التواطؤ على مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير الشعبية وحرمانها من حقوقها. ولذلك تستثمر الفقر والحاجة  عند البشر لإدخالهم في آمال غيبية.

علم النفس الاجتماعي خير مرشد لتطوير مناهج أنظمة الاستغلال:

يفهم علم النفس الاجتماعي أن البشر يلجأون إلى الاستنجاد بالقوى الغيبية في أوقات الأزمات والمحن، خاصة إذا لم تتوفر وجود أجوبة وضعية مقنعة على تساؤلاتهم، ولا تمتلك حلولاً لمشاكل تلك الشرائح المعيشية. ولأن غياب مبادئ العدالة الاجتماعية من مناهج الأنظمة الحاكمة تؤدي إلى الإفقار والعوز وعدم معالجة الأزمات الحادة التي تعاني منها الشرائح الشعبية الواسعة، وتداويها بالقمع على من يرفض مناهجها تُعتبر من أهم الذرائع التي تسيطر بها على عقول العامة من البشر.

ولأن الحركات الدينية السياسية، والتي يقع في القلب منها أطراف التحالف الشاذ المشار إليه أعلاه، تستغل قصور الأنظمة الرسمية لتعبئة أوسع الشرائح الاجتماعية حاجة بثقافة الهروب والاستنجاد بالقوى السياسية الدينية الغيبية.

لكل ذلك، تقع على عاتق الأنظمة العربية الرسمية مسؤولية معالجة أسباب انقياد أوسع الشرائح الاجتماعية المحتاجة للوسائل الغيبية بحيث تقع فريسة بين براثن أصحاب الدعوات الإمبراطورية الغيبية، وذلك بسحب ذرائع الحاجة والعوز بتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية بين موطني الدولة.

كما تقع على عاتق الحركات الثورية عبء نشر الثقافة المدنية الجديدة، ورفض ثقافة التواكل والتسليم التي تقوم حركات الإسلام السياسي بترويجها أولاً، وبالعمل الدؤوب من أجل وضع الأنظمة الرسمية أمام مسؤولياتها ثانياً.