الاثنين، أبريل 19، 2010

لماذا حزب البعث؟ (5) والأخيرة

-->
لماذا حزب البعث؟
حزب البعث ضرورة فكرية نضالية
وحاجة قومية وحدوية
(وجهة نظر في تحليل الأسباب والمراحل)
المرحلة الخامسة والأخيرة
البعث هو حزب الضرورة التاريخية
والتنظيم الضرورة بين الرسالة الفكرية والنضال السياسي الوحدوي

منذ ابتدأ حزب البعث العربي الاشتراكي، كفكرة، منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت المسألة القومية ثابته الأول، وبوصلته المرشدة. والسبب يعود إلى أن ميشيل عفلق، مؤسس الحزب، استشرف خطورة المرحلة التي كانت قوى الاستعمار في تلك المرحلة تعمل من أجل تجهيلها. واستئنافاً لنشاط الحركة الفكرية القومية التي سبقت تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي انخرط عفلق في ميدان العمل القومي. فكان انخراطه امتداداً لحركة القوميين العرب الأوائل، حيث كانت البنية المعرفية للفكر القومي تشهد تراكماً متواصلاً جيلاً بعد جيل، وجاء حزب البعث ليضيف إليها مداميكاً جديدة أحدثت طفرة نوعية في مسار تلك الحركة. وقبل أن نستعرض تلك الإضافات، لا بدَّ من أن نقوم بإطلالة موجزة على التطور التدريجي لحركة الفكر القومي التي سبقت تأسيس حزب البعث.
المقدمات التاريخية التي انطلقت الفكرة القومية منها كانت كالتالي:
1- منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مهَّد عدد من المفكرين العرب، ورائدهم المعلم بطرس البستاني، اللبناني الأصل، بالتبشير بالفكرة القومية العربية، بعد أن أثبت النظام الإمبراطوري العثماني عجزه عن وضع حلول لمشاكل الشعوب المنضوية تحت لوائه. وكان من أهمها أن الدولة الدينية لا تستطيع تحقيق العدالة والمساواة بين مواطني الإمبراطورية.
2-تأثر المفكرون القوميون العرب الأوائل بمفاهيم الدولة الحديثة التي كانت تشق طريقها في أوروبا، والتي حققت إنجازات حضارية مهمة بهرت شعوب العالم الأخرى. فالدولة الحديثة قامت على أساس الرابط القومي، بعد انقلاب الأوروبيين على سلطة الكنيسة التي حكمت الشعوب الأوروبية بمفاهيم السيطرة الإمبراطورية التي تعتمد على الهيمنة والاستغلال. وكانت صورة الإمبراطورية العثمانية، تشبه إلى حد كبير صورة سلطة الكنيسة، إلاَّ أنها كانت تحكم بالمنطلقات الدينية الإسلامية، خاصة وأن شيخ الإسلام كان يضع نفسه في خدمة السلطان العثماني ويطوِّع الفتوى الدينية الإسلامية لمصلحته، ومن هنا انتشر مفهوم «فقهاء السلاطين».
3-شكل تجديد دعوة استعادة «دولة الخلافة»، التي أطلقها الإخوان المسلمون في العام 1928، حافزاً جديداً أمام القوى التي تعارض إعادة تجربة حكم الدولة الدينية، واندفعوا للاصطفاف حول شعار القومية العربية منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وكانت طلائع القوى العربية المثقفة تشترك معاً في تأسيس الصحف والمجلات؛ ولكن الحركة انقسمت بعد فترة قصيرة إلى كتلتين متنافستين: كتلة الشيوعيين وكتلة القوميين. وكان سبب الانقسام يدور حول المبدأ الذي قامت عليه الثورة العربية. إذ كان من المتفق عليه في صفوفها أن الأمة العربية قديمة في تكوينها، وهي جامع للذين انفصلوا عن الأتراك؛ إلى أن انفصل بعض الشيوعيين بمفاهيم جديدة عن الأمة، أي أن الأمم -كما أخذوا يروِّجون- تكوَّنت في العصر الرأسمالي الحديث؛ فخلصوا إلى أن الأمة العربية، قياساً إلى ذلك، ناقصة التكوين.
4-بعد انفصال الشيوعيين عن الحركة العربية بتأثير المد الستاليني الذي ألزم الشيوعيين العرب باعتبار الاتحاد السوفياتي مركزاً للثورة العالمية وعليهم حماية هذا المركز، اختار ميشيل عفلق صف القوميين؛ وراح يشق طريقه المتميز فاتَّجه نحو تأسيس حزب البعث منذ بداية الأربعينيات من القرن العشرين. وكان تميزه عن المفكرين القوميين الأوائل بأنه نزل بالفكرة القومية من السقف النظري إلى ميدان التطبيق. وبذلك لم تبق النظرية في برج المنظرين بل أصبحت ملكاً للشعب بأكمله.
5-بتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947، واجه البعثيون وحدهم أطرافاً ثلاثة يعلنون العداء للمسألة القومية، وهم:
-المشروع الاستعماري الصهيوني، الذي أظهر عداءه ليس بالتبشير الفكري المضاد للقومية العربية فحسب، بل أيضاً بتأسيس دولة صهونية على أرض فلسطين في العام 1948 من جهة، وبناء علاقات مع بعض الأنظمة القطرية العربية مؤسسة على التبعية من جهة أخرى.
-الحركة الشيوعية العربية بتبعيتها للمشروع الأممي، واعتبرت مركزيته الاتحاد السوفياتي.
-الحركة الإسلامية السياسية وهدفها استعادة «دولة الخلافة الإسلامية». وقد بدأت طلائعها مع حركة الإخوان المسلمين منذ الثلاثينيات من القرن العشرين أولاً، وحركة ولاية الفقيه منذ الثمانينيات من القرن العشرين ثانياً.
-وبين هذا الطرف و ذاك، انتشرت النزعة القطرية في شتى أرجاء الوطن العربي. بعضها المتمثل بأنظمة رسمية رجعية، أو ملتحقة بقوى الاستعمار؛ وبعضها الآخر متمثل بأحزاب وحركات قطرية شعبية.
لقد واجه البعث تاريخياً كل تلك الحركات لعشرات السنين؛ وصمد في تلك المواجهة على الرغم من أنها شملت تحالفات بين قوى خارجية أجنبية، وقوى إقليمية، وقوى داخلية عربية، بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. ولقد عملت تلك القوى، مجتمعة أو منفردة، ولا تزال تعمل بشتى الطرق لاجتثاث فكره، واستئصال هياكله التنظيمية، وكل همها اجتثاث الفكر القومي، والفكر الوحدوي العربي.
في تلك المواجهة صمد الحزب في شتى أقطار الوطن العربي، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، على الرغم من كل أشكال الملاحقات. وكان يحرز توسعاً وانتشاراً جديدين.
وأهم مظاهر صموده بدا واضحاً في ما يحصل اليوم في العراق، فقد واجه سياسياً مؤامرة انتزاع العروبة من فكر البعث ومن اتجاهات مشروعه النهضوي. ولما فشل الضغط السياسي الأميركي على النظام الوطني في العراق من أجل احتوائه وفرض التبعية عليه، قامت أميركا باحتلال العراق عسكرياً من خلال أكبر هجمة حشدت فيها إمكانياتها العسكرية الهائلة، وجمعت حولها إمكانيات عشرات الدول الأجنبية ناهيك عن إمكانيات دول الجوار الجغرافي، من أنظمة عربية وغير عربية.
كانت أولى القرارات التي أصدرتها قوات الاحتلال هو القرار الذي عُرف بقرار «تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث». وأهداف هذا القرار كانت واضحة وحاسمة بشأن الاجتثاث، الذي تناول الحزب على صعيد تفكيك بنيته التنظيمية والأخطر منها كان المقصود اجتثاث بنيته الفكرية أيضاً. نتأكد من هذا الأمر إذا عرفنا أن القرار مستند إلى استراتيجية أميركية قديمة تعتبر أن خطورة أي حركة سياسية في الوطن العربي تأتي من اعتناقها لأي توجه قومي. ولكن البعث قاوم وصمد، ولا يزال صامداً يقاتل على أرض العراق وينجز ليس الانتصارات وحسب، بل ألحق الهزيمة بالاحتلال أيضاً.
بالإضافة إلى كل ذلك، لا يزال الحزب مستمراً في نضاله على أكثر من ساحة قطرية في الوطن العربي وخارجه. وقد عجزت عن النيل منه أعتى قوى العدوان، كما لم تنل من انتشار فكره. ولأنه على الرغم من أنها أعلنت موتهما، فهي وإن أعاقت حركته فإنها لم تستطع إلغاءها. ومن كل مظاهر الصمود هذه، نخلص إلى النتيجة الأولى من نتائج دراستنا، والتي تقول: «إن البعث شكَّل طوال عشرات السنين، وهو لا يزال يشكل ضرورة تاريخية للأمة العربية».
I-حزب البعث ضرورة تاريخية للأمة العربية
ليس صمود الحزب، مترافقاً مع صمود الفكر القومي واستمراره، إلاَّ تعبيراً عن علاقة العلة بالمعلول، ولا معلولاً من دون علة. وهو أن الفكر القومي العربي، كما القومية العربية، كان من المحتمل أن يُصابا بالانهيار أمام قوة الهجمة وشراستها، لولا أن قُيِّضت لهما رافعة حملتهما، وحالت دون سقوطهما، تمتلك مواصفات وعوامل دفاعية لها القدرة على حمايتهما نظرياً بالتمسك بنشر الفكر، وعملياً بالتضحية والتصدي والصمود. فكانت تلك الرافعة ممثَّلَة بحزب البعث العربي الاشتراكي.
إذن، ليست هناك علة تشكل عاملاً لصمود المعلول لها قدرة السحر، بل تستمد قدرتها من خلال امتلاكها مواصفات موضوعية ملموسة تكسبها تلك القدرة. ولقد أثبتت التجربة التاريخية أن صمود الحزب وصمود الفكر القومي أصبحت تشكل ثنائية واقعية، ثنائية علمية وليست ثنائية سحرية؛ ثنائية قائمة على أن المحسوس العملي هو الذي يفسر استمرار المعقول النظري؛ ولأن حزب البعث هو المحسوس العملي، والفكر القومي هو المعقول النظري، فيعني ذلك أن استمرار البعث في الحركة يفسر لنا أنه سبب لاستمرار الفكر القومي العربي في الوجود.
ولأنه لا محسوساً في عصر العلم يمتلك قوة سحرية، بل يمتلك مزايا وشروطاً موضوعية؛ فحزب البعث، بما قام بتحقيقه، يمتلك تلك الشروط. فما هي تلك الشروط التي يتصف بها هذا الحزب؟
لقد أثبت البعث عبر مسار نضاله السابق أنه كان السد الذي حال دون تغريب الثقافة العربية، والتغريب الثقافي هو الجزء المتمم لاتفاقية سايكس بيكو، والمشاريع الأممية. ولا يمكن لتلك المشاريع السياسية المعادية أن تتحقق في المجتمع العربي من دون تغيير في بنيته الثقافية، أي نقلها من الثقافة الوحدوية إلى ثقافة التفتيت والتمزق، وهذا منطلق من حقيقة أساسية تستند إلى أنه لا يمكن ولوج بوابة تغيير واقع إلى واقع آخر من دون تغيير في بنيته الثقافية. ولأن اتفاقية سايكس بيكو، كما المشاريع السياسية الأممية، هي تعبير عن ثقافة تقسيمية أولاً، وثقافة تتجاوز حدود القوميات ثانياً، وهاتان الثقافتان لا يمكن انتشارهما إلاَّ بالقضاء على الثقافة القومية الوحدوية. ولأن حزب البعث تمسك بنشر تلك الثقافة، ومنع نفاذ ثقافة التغريب، يكون قد شكَّل حاجزاً صدَّ بواسطته تغلغل تلك الثقافة. ولقاء هذه الحقيقة يمكن تفسير العداء الشديد الذي يكنه الثلاثي المذكور لحزب البعث؛ هذا الثلاثي الذي يعلم أنه لا يمكنه أن يمرر مشاريعه من دون اجتثاث البعث فكراً وتنظيماً.
II-حزب البعث ضرورة قومية فكرية وتنظيمية
كل هذا يجعلنا نستنتج أن سر ديمومة البعث واستمراره يتعلق بعامليْن أساسيين، وهما: أنه يشكل ضرورة فكرية؛ وضرورة تنظيمية ونضالية.
بالعودة إلى مقدمات دراستنا التي أشرنا فيها إلى أن عملية التغيير تحتاج إلى مرحلتين: تشخيص المشكلة وتحديد وسائل ومقاييس علاجها، فهي إذن وعي نظري وعلاج عملي. ولما كان الحزب هو أعلى درجات وسائل التغيير الجماعي، تكاملت عناصر عملية التغيير في حزب البعث العربي الاشتراكي، على مستوى وعي مشاكل الأمة العربية نظرياً، وعلى مستوى الانخراط في ورشة عمل تطبيقية.
لكل هذا نعتبر أن البعث يشكل ضرورة فكرية وتنظيمية. وإننا قبل البدء في إلقاء نظرات أولية على هذين العنوانين، لا بدَّ من الإشارة رداً على من قد يوجِّه تهمة تضخيم البعث لذاته فنقول: إذا كنا نتكلم بلسان بعثي فليس إلاَّ لأننا نقوم بعرض موضوعي لشروط التغيير على المستوى القومي العربي. تلك الشروط التي إن امتلكها أي حزب آخر أو أية حركة أخرى، وإن كانت بأسماء أخرى، فهذا لن يضير البعث شيئاً أو ينتقص من دوره التاريخي. وإذا ما أرادت قوى أخرى أن تدخل للعمل إلى الساحة القومية على أرضية الثوابت التي برهنت تجربة البعث التاريخية أنها صحيحة فهو مُرحَّبٌ به أكبر ترحيب لأنه يضيف إلى إمكانيات البعث إمكانيات أخرى تعمل على تسريع حركة التغيير فتقصِّر المسافات وتختصر الزمن.
كما تجدر الإشارة إلى إن ثوابت البعث، كثوابت للعمل القومي، لا تعني على الإطلاق أن تفصيلات العمل اليومي هي من الثوابت أيضاً، بل على العكس تماماً لأن في التطبيق قد تحصل أخطاء كثيرة الأمر الذي يُعتبر فيه النقد والتصحيح حاجة لا يمكن الاستغناء عنها أو رفضها.
وإذا كانت إشارتنا إلى ما أشرنا إليه ضرورة قصدنا منها زرع عامل التطمين في نفوس من يمثلون «الرأي الآخر»، أو الآراء الأخرى، فسنعود إلى تكثيف عرض عامليْ الضرورة الفكرية والتنظيمية وتحليلهما، على أن تكون تفصيلات ما نريد أن نعرضه كمساحة للحوار والمناقشة في جولات أخرى، كلما استدعى الأمر حواراً ومناقشة.
مدخل لتكوين الاستراتيجيا الفكرية:
عملية تشخيص المشكلة وإن انطلقت من معرفة الواقع إلاَّ أنها تعتبر عملية نظرية فكرية تخضع لقوانين المعرفة الأكثر تعقيداً. وفي تحديد عناصر المشكلة الميدانية يتم تفكيكها واحداً إثر آخر، من أجل وصف علاج لكل منها. وهكذا تم تشخيص عناصر المشاكل التي تعاني منها الأمة العربية.
بداية، استنتج المنظرون القوميون العرب الأوائل أن الشعوب الخاضعة للإمبراطورية العثمانية لم تنصهر في تكوين اجتماعي سياسي اقتصادي يجعلها تشعر بالانتماء إلى هوية واحدة. ولا لقوانين وتشريعات توفر المساواة بينهم. ولا لنظام اقتصادي تتساوي فيه الطبقات بالحصول على حاجاتها البشرية. لذلك اكتشفوا أن النظام الإمبراطوري العثماني لا يوفر الحل العادل للرعايا العرب، فراحوا يبشرون بالقومية العربية.
وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية تفككت الأجزاء الجغراسية التي كانت تابعة لها، وشكل كل كيان جغراسي دولته الخاصة، وحصل كل منها على اعتراف دولي بحدوده الجغرافية. بينما الجزء العربي الذي كان تابعاً للإمبراطورية العثمانية لم يتم الاعتراف به كدولة واحدة لها الحق بالوحدة كمثيلاتها من الشعوب الأخرى. فكان هذا الحق ماثلاً عند قدامى المفكرين القوميين العرب، فأعلنوا شعار الوحدة العربية.
لقد اكتشف بعض من قدامى الرواد القوميين أن هناك إصراراً من قبل أكثر من قوة على إبقاء الجزء العربي مفككاً وممنوعاً من توحيد أجزائه. فطُرح السؤال التالي: إذا لم يكن من المتاح أن يحصل العرب على حقهم بالوحدة، فمن الضرورة أن ينظم العرب صفوفهم للضغط في سبيل تحقيق هذه الوحدة. ومن أجل هذا الهدف تفرَّد ميشيل عفلق، أحد الرواد القوميين الأوائل، للتفتيش عن الحل عبر تأسيس حزب قومي، خاصة أن التنظيم الحزبي هو من أهم ابتكارات العصر الحديث، وهو الأقدر على قيادة عملية التغيير وتنظيمها ووضع الخطط لها.
وهكذا تم تأسيس حزب البعث في العام 1947، وكان التأسيس مولوداً لفكرة عاشت في فكر ميشيل عفلق قبل خمسة عشر عاماً سبقت التأسيس؛ وفي تلك السنوات تجمَّع حوله عدد من المؤمنين بها؛ ولما نضجت عندهم الفكرة تماماً، اتبعوها بصياغة نظرية شملت الأسس الفكرية التي نصوا عليها بـ«دستور الحزب»، والأسس التنظيمية بـ«النظام الداخلي».
أولاً: البعث ضرورة فكرية
1-الهوية العربية تمنع العرب من الضياع:
لن يكتب لقضية الحياة إلاَّ إذا كانت مبرَّرة فكرياً، فالوضوح الفكري يشكل البوصلة التي تصحح اتجاهات ربان سفينة قضية ما، إذا واجهت تلك السفينة رياحاً عاتية تغيِّب عن أعين قبطانها الرؤية الصحيحة.
والمسألة القومية العربية هي قضية حياة للعرب إذا ظلت حية، أو قضية موت لهم إذا ماتت. ولهذا ركَّز البعث على تحديد قضيته الأولى وحافظ عليها عبر نظرية قومية، واعتبرها البوصلة الأساسية للعرب. فالمسألة القومية للعرب، كما آمن بها البعث، هي هوية لهم؛ وتأسيساً عليها تم إعلان هدف الوحدة العربية كحق يتساوون فيه مع الأمم الأخرى.
لذا كان إعلان البعث عن الهوية القومية العربية، وحدد أركانها، لأن العرب كانوا يتعرضون، ولا يزالوا، إلى أكثر وسائل تغريب هويتهم بالجنوح بها نحو القطرية تارة، وتارة أخرى نحو الأممية. فالقطرية والأممية كانتا ملهاة لبعض التيارات من أجل تجهيل هوية العرب العربية، أو كانتا مؤامرة إلغاء هذه الهوية عند التحالف الاستعماري الصهيوني.
ولقد كسب البعث جولته ضد تغريب الهوية أو تجهيلها، عندما أعلن شعاره أن العرب هم «أمة عربية واحدة». واستناداً إليه فإن المحافظة على هوية شعب هو كسب لنصف المعركة وخسارتها خسارة للمعركة كلها. فالمحافظة على الهوية ضرورة فكرية أساسية؛ ولا تحتمل أنصاف حلول.
وهكذا صدَّت نظرية البعث الفكرية رياح الاستعمار التآمرية، ورياح الأمميين الإيديولوجية. وفي وضعه للأسس الفكرية الوحدوية، وضع حداً لحركات التغريب القومي ومنعها من تغيير مسارات القومية العربية. فبهذا المعنى يُعتبر البعث ضرورة فكرية.
2-المضمون السياسي الاجتماعي مفهوم حقوقي على طريق إلغاء الفروقات الطبقية:
لم يقف البعث في معركة ضد اجتثاث الهوية القومية فحسب، وإنما عمل أيضاً على صياغة معادلة حقوقية في داخل المجتمع العربي، عندما جمع النضال من أجل حماية الهوية القومية، مع النضال من أجل بناء مجتمع عربي تسوده العدالة الاجتماعية والسياسية، فكانت الدعوة إلى الحرية والاشتراكية من أجلى مظاهرها.
ثانياً: البعث ضرورة تنظيمية ونضالية
لأن عملية التغيير ثنائية متكاملة، حدَّاها التشخيص والتنفيذ، أي عملية التكامل بين الرؤية الفكرية والوسيلة العملية، تميَّز البعث في أنه عمل على الوحدة المتكاملة بين النظر الفكري والتنفيذ العملي، فجمع بين وحدة الفكر والعمل. وبعد أن أنضج رؤيته الفكرية مكملاً تجربة الذين سبقوه، أسس الحزب السياسي الذي يعتبر الوسيلة الأساسية في ترجمة الفكر إلى واقع ملموس.
وإذا كان الفكر حاجة نظرية، فإن الحزب هو المعول الذي يهدم القديم والرافعة التي تبني الجديد. لهذا شارك الحزب الرواد الأوائل في إنتاجهم الفكري، وتجاوزهم بأنه شكل الرافعة التي راحت تعمل على تنفيذ ما أنتجته عقولهم.
وإن انطلق الحزب من ساحة قطرية عربية، وهي سورية، فإن أهدافه كانت قومية عربية. إذ انطلق تنظيمياً من سورية ليتمدد وينتشر إلى الأقطار الأخرى. وكان هذا الانتشار نتيجة تخطيط مسبق. فكان نظامه الداخلي مؤسساً على قاعدة قومية شاملة.
من أهم ما يمتاز به النظام الداخلي للحزب هو أنه ابتدأ من تنظيم أصغر خلية في ضيعة صغيرة، أو شارع في مدينة، ليتدرج متسلسلاً إلى أعلى هرم في القطر الواحد. واعتبر أن كل الحلقات في الهرم القطري تنضوي تحت قيادة القطر الواحد. وتصاعدياً للوصول إلى السقف القومي العربي، اعتبر النظام الداخلي أن قيادات الأقطار هي حلقات قاعدية للهرم القومي تقودهم قيادة قومية غالباً ما تتمثل بها معظم الأقطار العربية.
يُعتَبر التنظيم البعثي خلية عضوية واحدة من أدنى حلقاته حتى أعلاها. وللتنظيم القومي فاعلية كبيرة من حيث اهتمامه بشؤون كل أقطار الوطن العربي على قدم المساواة، وهو إن أفسح المجال لكل قيادة قطرية بالاهتمام بخصوصيات أقطارها لكن على أن لا تتناقض مواقفها مع السياسة القومية الموحدة. وبمثل هذا التراتب التنظيمي والعلاقة العضوية تجد أية قضية قطرية صداها في داخل التنظيم الحزبي البعثي على الصعيد القومي.
نظرياً لم يواجه التنظيم القومي صعوبات وعقبات، وعملياً برهنت التجربة على أن البعثيين تواصلوا فعلاً على صعيد النضال القومي، وعرفوا سرعة استجابة كل المنظمات في الأقطار مع كل القضايا العربية الساخنة، إن كان من حيث الخطاب السياسي، أو التظاهرات المؤيدة، أو المشاركة العسكرية في معارك التحرر من الاحتلال.
فالبعث في مثل هذه الحالة يشكل ضرورة تنظيمية ونضالية إذ جمع بين مسألتين: وحدة التنظيم القومي كتعبير عن مضامين الفكر الوحدوي.
-->

ليست هناك تعليقات: