(... ق. م. – 586 م)
إن جاز لنا أن نجتهد في تقسيم مراحل التكوين التاريخي للأمة العربية، فإننا سنقسمها الى ثلاثة أطوار. وهذا التقسيم يعتمد على مقياس الإضافات النوعية في صناعة هذا التاريخ. وفي سبيل ذلك فقد اعتبرنا أن بناء الدولة العربية، في ظرفها وزمانها، معياراً نوعياً. إضافة إلى ذلك بما أنجزته الدولة ذاتها من متغيرات حضارية أسهمت في تراكم التراث الإنساني.
لهذا، وإذا حسبنا أن الدولة مظهر من أهم مظاهر أمة من الأمم، فسنعتبر قيام أول دولة عربية مقياساً لدراستنا. لذا فإننا سنعتمد هذا المعيار في تقسيم الأطوار والمراحل التي مرَّت بها الأمة العربية. ولأن الدعوة الإسلامية، بإيديولوجيا دينية، شكلت حلقة وسيطة بين الطور التاريخي الذي عاشته الأمة قبل الإسلام، وبين معالم ومظاهر اتجاهاتها لبناء دولة وضعية، فسنقسم مراحل دراستنا الى ما يلي:
2-طور بناء أول دولة عربية في ظل الإيديولوجيا الدينية الإسلامية.
3-طور بناء الدولة العربية القومية، وهو الطور الحديث والمعاصر، الذي لا يزال يمر في مخاضاته الأولى في عصرنا الراهن.
من هذا التقسيم سنهتم بدراسة طور التكوين، ونقوم الآن بنشره، آملين أن يشكل محوراً لحوار نقدي نحسب أنه سيفيدنا في إنجاز دراسة متكاملة عن مراحل خطة بحثنا التي أشرنا إليها أعلاه.
مقدمة
خلافاً لما روَّج له الإسلام السياسي، ولا يزال يروِّج له، خاصة منه الذي لا يزال يعتقد بإمكانية بناء دولة أممية عابرة للقوميات، لم يكن الطور الذي سبق الدعوة الإسلامية جاهلياً إسماً على مسمَّى. بل كان مصطلح الجاهلية يُستخدم للتمييز بين مرحلتين تاريخيتين: مرحلة ما قبل تأسيس الدولة العربية الإسلامية، ومرحلة ما بعدها.
وقد استخدم الخطاب السياسي الإسلامي، ذو الاتجاهات الأممية، مصطلح «الجاهلية» للتشهير بالعرب لغايات تعصب شوفيني قومي، ألبسوه ثوب الإسلام. وهذا ليس بعيداً عما نحسب أنه تبرير ليتولى غير عربي شؤون العرب تحت حجة عالمية الإسلام. وبغير هذا الزعم كيف كان يمكن أن يتسلل العامل الفارسي إلى بنيان الخلافة العباسية؟ وأن يتسلل المماليك، ومن بعدهم الأتراك العثمانيون، للاستيلاء على كرسي الخلافة؟ فعلوا ذلك خاصة أن الشعوب التي استولت على الخلافة قد أخذت تستنزف موارد الدولة العربية الإسلامية لمصالحها الخاصة من خلال امتيازاتها، متعللين بأنهم أسهموا في بناء الإمبراطورية الجديدة، أو حمايتها.
وبالعودة إلى تاريخ المرحلتين المملوكية والعثمانية تؤكدان ما رحنا إليه بأن مزاريب لبن الدولة الإسلامية وعسلها كانت تصب في جِرَار الطبقات غير العربية التي استلمت السلطة. وقد دانت «ولاية أمر المسلمين» لهم قروناً عديدة كان فيها «فقهاؤهم» يحيطون ببلاطهم ليشرعوا لهم الحق بولاية أمر المسلمين، خاصة وأن شروط مبايعة الخليفة تغيَّرت أكثر من مرة، كان يتم التلاعب بها وصياغتها لتصب في مصلحة الخليفة الذي احتلَّ مقعدها. وقد استنبطوا من النص الإسلامي ما جعل فتاويهم تلبس شرعية إسلامية لا غبار عليها.
من كل ذلك، وللبرهان على دعاويهم، ظلَّت تيارات الإسلام السياسي حاملة سلاح التشهير بالعرب، واستخدام مصطلح «الجاهلية» بمفاهيمه السلبية لا يزال ساري المفعول. وهل أقبح من قول من قال من أصناف هؤلاء: «لو وجد الله قوماً أكثر جهلاً من العرب لكان قد وجَّه الدعوة الإسلامية إليهم»؟
لقاء كل ذلك، ولأن البحث العلمي الرصين في مرحلة ما قبل الإسلام، لم يكن له مكان إلاَّ في اهتمام بعض الباحثين القوميين، ولأنه لم يحظ من اهتمام الأحزاب والحركات القومية العربية بأي نصيب أكثر من الإشارة إليها في الخطاب الإيديولوجي، جئنا في دراستنا هذه لنكشف اللثام عن بعض تلك الحقائق التاريخية، على قاعدة أن التاريخ العربي قبل الإسلام لم يدل على أن العرب كانوا في جهل وتخلف، كما يزعم أصحاب الأغراض والأهواء، بل إن العكس هو الصحيح، لأن دراسة ذلك الطور تؤكد على تقدميته وأسبقيته في الحضارة الإنسانية. ولم تكن الدعوة الإسلامية، التي لا شك بأنها تقدمت ما سبقها من مراحل تاريخية، لكنها لم تكن إلاَّ نتاجاً للتكوين التاريخي الحضاري للعرب واستئنافاً له.
ونحن سنعمل في هذه الدراسة على إلقاء أضواء عامة تكشف أمامنا عن مستوى العناصر الأساسية للتقدم الحضاري الذي أحرزه العرب في طور التكوين القومي الأول، الذي سبق ولادة القومية العربية كما نراها في عصرنا الراهن. وسنقوم بتصنيفها لعدد من المحاور. ولعلَّ من أهمها كانت عوامل الغزو المتبادل بين ممالك ذلك الطور، وكذلك عوامل التقدم على مستوى التجديد في الحضارة المدنية والاكتشافات العلمية، الجديدة في زمانها ومكانها، وانتهاء بعوامل التجديد الروحي بدءاً من نشأة الأديان المتعددة الآلهة وصولاً إلى نشأة الرسالات السماوية التي نادت بوحدانية الإله.
أولاً-مراحل الغزو بين شعوب منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل وقبائلهما عزَّزت عوامل التزاوج والتمازج الحضاري:
آخذاً بعين الاعتبار أن عوامل التكوين القومي للشعوب لا يجوز محاكمتها على أسسس من معايير المفاهيم المعاصرة للتقدم الاجتماعي والسياسي والفكري والتكنولوجي.. بما فيها من مفاهيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، و...
وآخذاً بعين الاعتبار، بما لديَّ من ثقافة عامة عن تاريخ مراحل التكوين الأولى للعروبة، والتي تؤكد أن تلك المراحل التي تمتد إلى آلاف السنين قد بُنيت على أيدي الملوك الطغاة، كما على جماجم الشعوب التي كانت تتعرض لغزوات من هم أقوى منهم.
كما أنني لم أجد حضارة ذات بنية مادية أم فكرية في ذلك التاريخ إلاَّ وكان بُناتُها من الجبابرة الذين بطشوا بشعوبهم والشعوب الأخرى. فبرج بابل مثلاً بناه ملك جبَّار، وإهرامات مصر بناها فراعنة لم يعرفوا الرحمة والرأفة. وعلى الرغم من ذلك فنحن نتغنى بأهمية تلك المعالم الحضارية، ونفتخر بها.
لقاء كل ذلك، أتمنى على الأكاديميين ممن يدينون بالإيديولوجيا القومية أن يقوموا بعبء تصنيف تاريخ علمي لمرحلة ما قبل الدعوة الإسلامية، على أن تتوج نتائج بحوثهم خلاصات يستفيد منها مفكرون قوميون آخرون لهم إلمام بالعلوم الاجتماعية والفلسفية من أجل الإسهام في إنضاج نظرية قومية عربية تستند إلى نتائج علمية، تبتعد فيها عن الخطاب التعبوي، وتقترب بها من المستوى العلمي التاريخي، لتستجيب لمتطلبات العصر الذي يقترب يوماً بعد آخر إلى السؤال العلمي، وهو ما يجب مواجهته بجواب علمي أيضاً.
وبانتظار البدء بتحقيق أمنيتي للقيام ببحوث موسَّعة. وبما يخدم دراستي المحدودة الحجم، سأستعين بمعلومات مكثَّفة فأبدأ القول في هذه الفقرة: لقد اتفق الباحثون حتى الآن على أن تاريخ المنطقة العربية، تحديداً المنطقة الممتدة بين بلاد ما بين النهرين ووادي النيل، يمثل ظهور بداية الخلق على الأرض. وتاريخها يسبق السبعة آلاف سنة قبل الميلاد.
في هذه المنطقة، ارتقت أول خلية بشرية الى مستوى العشيرة، ومنها الى مستوى المملكة التي ضمَّت إليها عدداً من العشائر والقبائل. وهذا لا يدعنا نغفل أن بناء الممالك قام على عامل القوة التي استخدمتها العشيرة الأقوى في غزو العشائر الأضعف واستعبدتها واستولت على ثرواتها. ومنها عرفت تلك المراحل من هذا الطور صيغة الممالك التي اكتسبت اسم السلالات العشائرية التي كان لها السيادة والسلطة.
كانت بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين من أولى المراكز الحضارية في العالم. ومع ازدهار الحضارات فيها وفي أوقات متزامنه ومتعاقبة تم احتلال الأراضي المجاوره شرقاً في إيران وغرباً سورية وصولاً إلى فلسطين... وحينما تقدمت حضارة الفرس. تم احتلال بابل وما بعد بابل على يد قوروش. حتى جاء الفتح الإسلامي.
كانت الحاجة للدفاع والري من الدوافع التي ساعدت على تشكيل الحضارة الأولى في بلاد الرافدين. وهذا يعود إلى سنة 6000 ق. م. وظهرت المدن في الألفية الرابعة ق.م . واخترعت الكتابة المسمارية. وكان السومريون مسئولين عن الثقافة الأولى هناك. من ثم انتشرت شمالاً. حتى جاء حمورابي من بابل، ووحد الدولة لسنوات قليلة في أواخر حكمه.
عرفت هذه المنطقة غزوات متبادلة بين ممالكها، تارة كانت تأتي من شرق المنطقة لتصل إلى جنوبها، وكان العكس سائداً أيضاً. وهي الغزوات التي شنَّها السومريون والآكاديون والآشوريون والبابليون القادمون من بلاد ما بين النهرين. أو تلك الغزوات التي شنَّها فراعنة مصر باتجاه الشمال.
يعود هذا الطور الى ما يفوق الستة آلاف سنة قبل الميلاد. وفيه تراكمت الأسس المعرفية التي أفادت العالم القديم، وإليه يعود الفضل في تأسيس الفلسفة اليونانية، التي تُعتبر بحق أم الفلسفات، فلسفة سقراط وإفلاطون وأرسطو. كما يعود الفضل إليه، بمقاييس الزمان والمكان، في تأسيس المنهج العلمي في الصناعة والزراعة وعلم الفلك. كما عرفت هذه المرحلة اختراع أقدم لغة مكتوبة، وانتشرت المكتبات في معظم المدن والمعابد. وهناك العديد من الأعمال الأدبية البابليه التي عناوينها معروفة لنا. واحدة من أشهر هذه هي ملحمة جلجامش. كما ترجع أصول الفلسفة إلى حكمة بلاد ما بين النهرين القديمة، ولا سيما الأخلاق، في أشكال جدل، حوار، شعر ملحمي... وكان أقدم شكل للمنطق قد وضع من قبل البابليين، وكان للفكر البابلي تأثير كبير على الفلسفة اليونانية. وتعزز علم الرياضيات أيضاً، والعلوم الطبية، ووسائل التقنية بما في ذلك المعادن والأعمال النحاسية، والزجاج والنسيج، واستخدموا النحاس، البرونز والذهب، كذلك تم استخدام النحاس، البرونز والحديد للدروع وكذلك لأسلحة مختلفة مثل السيوف، الخناجر، الرماح... وسنَّ الملك حمورابي مجموعته من القوانين في العام 1780 قبل الميلاد، التي هي واحدة من أقدم مجموعات القوانين.
كانت حضارة قدماء المصريين منفردة بسماتها الحضارية وإنجازاتها الضخمة، منذ سنة 5000 ق.م. إلى سنة 30 ق. م.
قدماء المصريين قد أقاموا أقدم مرصد في العالم وقبل عصر بناء الأهرامات منذ فترة زمنية حسب الشمس والنجوم. وكانت قد انتشرت العلوم والآداب والتقاليد والعادات والكتابات والقصص والأساطير وتركوا من بعدهم تسجيلات جدارية ومخطوطة. كما شيدوا البنايات الضخمة كالأهرامات والمعابد والمقابر التي تحدت الزمن. وكذلك التحنيط والموسيقى والنحت والأدب والرسم والعمارة والدراما.
يمكن تتبع آثارهم في المنطقة الممتدّة من جبل الكرمل في فلسطين جنوباً إلى اللاذقية في سورية شمالاً، مروراً بكل لبنان. كما أن حدود كنعان ما قبل سنة 1200 ق.م. تبدأ من خليج اسكندرون ساحلاً حتى عريش مصر، وشرقاً نحو البحر الميت، وتمتد شمالاً حتى تصل بمحاذاة نهر الفرات، وهذه المنطقة عرفت باسم كنعان، وربما تعني سكان المنطقة المنخفضة أي السّواحل.
ينقسم الكنعانيّون حسب التصنيف اللغوي إلى عدّة فروع أشهرها: الفينيقيون، والأموريون، والعبرانيون، والعمونيون.
أقامت المدن الكنعانيّة-الفينيقيّة علاقات تجاريّة وثقافيّة مع مصر وبلاد الرافدين. واشتهر الفينيقيون بالتجارة، فمخروا البحر وبنوا المستعمرات وصولاً إلى شمال الساحل الأفريقي في تونس، فبنوا قرطاجة التي شغلت جزءاً كبيراً من تاريخ الصراع مع الرومان. وكان للأبجديّة والاكتشافات الفينيقيّة، والرّحلات الجغرافيّة، والصّناعات والمستعمرات الأثر الهام في تاريخ الشّعوب القديمة عامّةً، فقد اشتهر الفينيقيّون خاصّة «الصّوريّون» و«الأوغاريتيون» بالعلوم، لا سيّما في علم الفلك والحساب الضّروريّين في الملاحة والتّجارة. واكتشفوا النّجم القطبي الشّمالي لتحديد الجهات. كما ساهموا في تطوّر علم الجغرافيا نتيجة رحلاتهم الاستكشافية حول أفريقيا وعبورهم مضيق جبل طارق، والبحار والمحيطات والتي أكسبتهم معرفة بأحوال القارّة الأفريقيّة. واهتدوا إلى الشّمال بواسطة النّجم القطبي، وقد سمّاه الإغريق باسمهم أي «النّجم الفينيقي».
بعد تفرق بني نوح أول من نزل اليمن قحطان وهو أول من ملك أرض اليمن. ثم مات قحطان وملك بعده ابنه يعرب. ثم ملك بعده ابنه يشحب. ثم ملك بعده ابنه عبد شمس وهو الذي بنى السد بأرض مأرب وفجر إليه سبعين نهراً وساق إليه السيول من أمد بعيد.
يعتقد أن السبأيون قد أسسوا مجتمعهم ما بين 1100-1000 قبل الميلاد، وانهارت حضارتهم حوالي 550 بعد الميلاد، بسبب الهجمات التي دامت قرنين والتي كانوا يتعرضون لها من جانب الفرس والدولة الحميرية.
وتمكنت سبأ من السيطرة على عدة مناطق في القارة الإفريقية.
يعرف السبئيون من خلال التاريخ كقوم ذوي حضارة عالية، ويعتبر سد مأرب الذي كان أحد أهم معالم هذه الحضارة، دليلاً واضحاً على المستوى الفني المتقدم الذي وصل إليه هؤلاء القوم.
ويجب التمييز بين فترتين في تاريخ مملكة سبأ: الأولى استمرت من القرن الثامن حتى القرن الأول قبل الميلاد وطغى عليها اقتصاد «القوافل»، الموجه صوب الأسواق الكبيرة في الشرق الأوسط، في حوض الفرات الأوسط، خلال القرنين الثامن والسابع، ثم في غزة في الفترة الفارسية، وأخيرا في البتراء إبان الفترة الهيلينية.
كانت الملكة بلقيس من أشهر ملوك سبأ، ويُذكر أنها أعلنت إيمانها بالله، على أيدي الملك سليمان، وآمن معها العديد من أبناء شعبها.
ثانياً: طور الإمبراطوريات الغازية من خارج المنطقة:
1-الإمبراطورية الفارسية:
تأسست الإمبراطورية الفارسية عام 559 ق.م. بواسطة قورش. وتعرف بدولة الفرس أو الدولة الكسروية، وكانت من أعظم وأكبر الدول التي سادت المنطقة قبل العصر الإسلامي، حتى إنها فاقت الإمبراطورية البيزنطية في الشهرة والقوة.
لم يعرف الفرس الديانات السماوية التي سبقت ظهور الإسلام إلا بنطاق محدود جداً، وكان أكثرهم على المجوسية فمنذ القرن الثالث الميلادي صارت الزرادشتية ديناً للدولة. وتقوم العقيدة الزرادشتية على الثنوية، أي وجود إلهين في الكون هما إله النور أهورا مزدا وإله الظلام أهريمن. وتقدس الزرادشتية النار، وقد أقيمت معابد النيران في أرجاء الدولة، ويعرف رجال الدين الزرادشتيون بالموابذة وكل منهم يرأس مجموعة يسمون الهرابذة وهم الذين يخدمون نار المعبد في كل قرية.
2-الإمبراطورية اليونانية:
امتد التاريخ الإمبراطوري اليوناني من العام 478 ق. م. وكان من أهم مراحله ذات العلاقة بالغزو اليوناني للمنطقة العربية، هي مرحلة الإسكندر المقدوني، التي بدأت منذ عام (334) ق .م باحتلال إمبراطورية الفرس الأخمينيين وضمها إلى مقدونيا وبعد معركة ايسوس عام (333) ق .م احتل سورية. وفي العام 332 ق.م دخل الإسكندر الأكبر مصر وغادرها في 331 ق.م ليواصل حروبه ضد الفرس ليتوفى في 323 ق.م. الذين كانوا يسيطرون على المنطقة.
وبعد وفاة الإسكندر في بابل قسمت إمبراطوريته بين قواده فأصبح هؤلاء القواد ملوكاً مستقلين عن بعضهم. إلا أن الرومان الذين نزلوا في آسيا الصغرى عام (191) ق .م . استطاعوا تجريد سلوقس نيكاتور من معظم البلدان التي تتبعه وانحصرت مملكته في حدود سورية .
3-الإمبراطورية الرومانية:
علماً أن قرطاجة مدينة على سواحل تونس في شمال إفريقيا، بناها الفينيقيون القادمون من مدينة صور في لبنان، بدأ الصراع الروماني - القرطاجي كصراع تجاري ثم أخذ أبعاداً عسكرية في العام 264 ق. م. وكانت البداية الأولى للحرب بين الرومان والقرطاجيين التي استمرت إلى العام 241 ق.م.
إثر الانتهاء من درء الخطر القرطاجي اتجهت أنظار الرومان شرقاً وراحوا يعدون للاستيلاء على مملكة مقدونيا في اليونان. فاحتلوها بعد سلسلة من المعارك، وتمت السيطرة على بلاد الإغريق. وبنهاية هذه الحروب اتسعت حدود الجمهورية الرومانية. وبعد هذه الانتصارات أصبحت الدولة الرومانية دولة عظمى يصعب قهرها وتتحكم بمقدرات العالم القديم الغربي والشرقي.
بدأ العد العكسي في حياة الدولة الرومانية اعتباراً من العام 235م. وعودة نفوذ الإمبراطورية الفارسية في الشرق التي انتزعت أرمينيا من يد الرومان وسيطرت على أراضي ما بين النهرين وزحف الجيش الفارسي واجتاح إنطاكية وسوريا.
وفي الحقبة الرومانية نشأت الدعوة المسيحية بداية كامتداد للرسالة الموسوية، أي بعد 37 عاماً من استقرار الغزو الروماني، إلى أن أخذت تميز نفسها عنها، خاصة بعد أن أسهم اليهود باعتقال المسيح وصلبه. وانسلخت المسيحية عن اليهودية لأن المسيح عاين ظلم الرومان في الوقت الذي كانت فيه اليهودية ساكتة عن الظلم استرخاءً لما كانت تكسبه من مميزات، ولأن الرومان كانوا يعترفون بهم على شرط أن لا يُظهرون معارضة لحكمهم.
إن اليهودية كانت رداً على ظلم الفراعنة، خاصة أن النبي موسى عاش ونشأ في بلاطهم. ولكنها استسلمت لحكم الدولة الفارسية، ومن بعدها لحكم الدولة الرومانية. الأمر الذي دفع الى ظهور المسيحية التي تمردت على ظلم الرومان. يقول المسيح مخاطباً الرؤساء الجائرين: »إنكم على ضلال، وأنتم في ضياع ليس لكم ملكوت السماء وسعادة الأرض إن لم تثوبوا إلى الرشاد، وتؤمنوا بحق الإنسان كل إنسان، وتعودوا إلى الطريق السليم، مؤمنين بوحدانية الله«.
وكأن المسيحية جاءت رداً ثورياً، ونقداً للديانة الموسوية التي استسلمت لظلم الغزاة القادمين من خارج المنطقة.
لكن الموسوية لم تستطع أن تبني أكثر من مملكة يهودية، استرخت للعيش في ظل حكم الشعوب القادمة من الخارج، كالفرس واليونانيين والرومان. وأما المسيحية فلم تستطع أن تبني دولة في المنطقة، وإنما استكانت لحكم الإمبراطورية البيزنطية كونها الدولة المسيحية وإن كانت تمثل ما تُسمى بالكنيسة الشرقية.
في ظل ذلك الواقع كانت شعوب المنطقة خاضعة لنفوذ القوى الخارجية، لكننا نجهل اتجاهات تلك الشعوب في تلك المراحل ومواقفها من أنظمة الحكم التي كانت تخضع لسيطرتها، وهنا لا بُدَّ من أن نسجل مدى حاجتنا لمعرفة تلك الاتجاهات ببحث خاص. ولكن سنولي هذا الجانب بعض العناية في الفقرات التالية من هذه الدراسة، خاصة وأن هناك تمهيداً لها كان يلوح في شبه الجزيرة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق