الاثنين، أغسطس 23، 2010

هل يحقـق الفقـه المذهبي الإسـلامي وحـدة الدولة والقانون؟


هل يحقـق الفقـه المذهبي الإسـلامي وحـدة الدولة والقانون؟  ([1])

I - النص المقدَّس في ميزان العقل والنقل.
أ-فالمقدس تعريفاً:
ب - إشكاليات النص بين وحي الله وتأويل البشر.
الإشكالية الأولى: تقع حول كمال النص واكتماله، غموضه أو وضوحه، خصوصيته أو شموليته.
الإشكالية الثانية: الوضع والنحل حول النص وفيه وله.
الإشكالية الثالثة: التباين حول ضرورة الاجتهاد أو عدمها.
الإشكالية الرابعة: التباين حول مضمون الاجتهاد وشروطه.
الإشكالية الخامسة: التباين حول تعريف الإجماع ومضمونه.
II  - النص الوضعي في ميزان العقل والنقل.
فما هو تعريف المجتمع؟  والسلطة؟ القانون/ التشريع؟ من هي الجهة النافذة في إصدار التشريعات؟ ما هي مصادر القوانين؟ أما ما هو دور النظريات الاجتماعية في مصدر القوانين؟
III  - أية مصادر تشريعية تحفظ وحدة السلطة والقانون؟
IV - أين يكمن الحــل؟




مدخــــل
استفحل الصراع الدائر بين القائلين بأولوية النص الديني وأوحديته في التشريع، وبين القائلين بأولوية النص الوضعي.
اتَّخذ أصحاب الاتجاه الديني -الإسلاميين بشكل خاص- سبباً لاعتقادهم المطلق بالنص الديني، لأنه وحي من الله. ورفضوا النص الوضعي لأنه من صنع البشر.
وبشكل عام، فإن ما كان مصدره إلهياً، فهو بالطبع خير مما كان مصدره من صنع البشر. هذه مسلمة لا يستطيع كل من آمن بوجود إله واحد خالق لهذا الكون، أن يقع في سذاجة المفاضلة بينهما. لكن، من جانب آخر، لن يسمح المنطق والعقل، وعدالة الله أن يفسحوا في المجال لأحد كي يضع نفسه في موقع المزايدة على أحد في التقرب و الزلفى لله على حساب الآخرين.
أما نحن؛  مستندين إلى موقع الإيمان المطلق بالله، وتحدونا مصلحة عباد الله ونحن منهم، فسوف ندلي برأي في هذه المسألة، بما يرضي العقل فينا وهو هبة من الله لبني الشرِ، وبما يرضي الله الذي لم يكن ولن يكون له كفواً أحد.

I  - النص المقدَّس في ميزان العقـل والنقـل.
إن المتتبع للدراسات الإسلامية، بشكل خاص دراسة التراث الديني-الفقهي، يصطدم بإشكاليتين حول ما يطلق على تسميته النص المقدس: إشكالية النص المقدس، و إشكالية التفسير والتأويل والاجتهاد التي تدور حوله، والتي أصبحت جزءاً أساسياً منه.
أ- فالمقدس تعريفــاً
-" من الأفكار المهمة التي يقوم عليها كل دين، فكرة القداسة".
-فالمقدس هو كل ما لا يمكن تلويثه أو تدنيسه. . .
-وهو كل ما يحظى بالاحترام، بشكل  مطلق، و كل ما هو غير قابل للهتك أو الخرق ولا يجوز الاعتداء عليه. . .
- وهو ما يثير في النفوس، الخوف والرهبة والاحترام والخشوع. . . وهو كمبدأ لا يُسمح بالحديث عنه ولا يحق مناقشته، ويكون عقبة أمام التفكير الإنساني الحر الخلاق، حيث تكون المقدسات محَّرمات لا ينبغي الاقتراب منها"([2]).
ونحن نرى، أن أول ردة فعل، تصدر عن كثير من الإسلاميين، هي تكفير كل من لا يردَّ الأحكام الدنيوية أو غيرها إلى النصوص الدينية، أو ضد كل من يناقش تلك النصوص. ويرى محمد عمارة، متأسفاً، أنه قد"برزت وشاعت تلك الظاهرة السيئة والخطيرة، ظاهرة (تكفير) الخصوم الفكريين... وأصبح مألوفاً -مع الأسف الشديد- تحويل الخلافات الفكرية والاجتماعية والسياسية إلى خلافات (دينية) تصدر فيها أحكام (الكفر) و(الإيمان)، بدلاً من أحكام  (الخطأ) و (الصواب) و(الضرر) و(المنفعة)... وهي (لعبة) قديمة، وخطرة"([3]).

ب - إشكاليات النص بين وحي الله وتأويل البشر.
لم تُعط أحكام الشريعة، من خلال الكتاب والسُّنة، بصيغ وعبائر واضحة، بل يشوبها الشك والغموض، لذا كانت الحاجة إلى الاجتهاد، والاجتهاد يقوم على التأويل والتفسير.
لما أنزل جزء من النص بوحي من الله، وجزء آخر نطق به الرسول. ولما لجأ فقهاء المسلمين، لتوضيح الغامض في النص، ولمواكبة حاجة التشريع في المسائل الجديدة اللامتناهية، إلى ما سُميَّ بالاجتهاد القائم على التأويل والتفسير، فهل حافظ الفقهاء البشر-على قدسية النص الإلهي؟
نشأت بين النص والاجتهاد، على مدى قرون، إشكاليات عديدة:
الإشكالية الأولى: تقع حول كمال النص واكتماله، غموضه أو وضوحه، خصوصيته أو شموليته.
لم يكن  النص جامعاً مانعاً واضحاً يغني بذاته عن أي تفسير أو تأويل. فكيف حصل ذلك؟
- يرى محمد باقر الصدر أنه" لو كانت أحكام الشريعة قد أُعطيت كلها مـن خلال الكتاب و السُّنة، ضمن صيغ وعبائر واضحة صريحة لا يشوبها أي شك أو غموض، لكانت عملية استخراج الحكم الشرعي من الكتاب و السُّنة ميسورة لكثير من الناس، ولكنها في الحقيقة لم تعط بهذه الصورة المحددة المتميزة الصريحة "([4]).
 - يقول الشهرستاني  (479 -548 هـ) إنه إذا كانت النصوص متناهية "والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى"([5]).
  - وعلى العكس مما يقوله هؤلاء، ينبري فقيه اسماعيلي، ليكذًّب ادِّعاءَهم باستدلال واضح من النص. فيرد النعمان بن محمد ( 259-351 هـ) على كل من قال أن هناك ما ليس موجوداً في كتاب الله ولا في سُّنة رسوله قائلاً: إنه قول "يكذِّبه الكتاب والسُّنة، كمثل ما جاء في آية  ]وما فرّطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام 6: 38([6]).

الإشكاليـة الثانيـة: الوضع والنحل حول النص وفيه وله.
فهل يحافظ النص على قدسيته إذا نحل حوله وفيه وله، من دون أي ضابط، وفي غياب أية سلطة تحاسب وتردع، أو تصحح وتُلزم؟
- يقول محمد حسين فضل الله، معبِّراً عما حصل في النص، ويحذِّر من "الوُضَّاع المرتزقة، الذين ابتلي بهم الإسلام في كثير من فتراته، فدَّسوا ما شاءَت لهم أغراضهم في ثنايا الأحاديث التي تتناول شؤون الإسلام، عقائداً وأحكاماً. . . حتى عادت الأحاديث تركة مثقلة بالدسّ والتحريف اللذين تلتقي فيهما بالكثير، الكثير من المفاهيم الغريبة عن روح الإسلام وحقائقه الأساسية العظيمة. . . "([7]).
إن المسلمين، حتى أيامنا المعاصرة، يشعرون "بالحرج الكبير أمام فقدان الضوابط التي تمنع انتشار الكتب التي تتحول إلى ما يشبه (الكشاكيل الفكرية)الحاملة للخرافات والتفاهات والأفكار المغلقة. . . مما يخلق لنا كثيراً من ألوان الفوضى في الفكر والعمل، ويدخلنا في مجالات الصراع الداخلي، الذي يهرب منه الفكر لتعيش في أجوائه سذاجات القداسة الغارقة في ضباب الزيف الروحي والفكري"([8]).
- ويقول أحمد أمين: "استباح قوم لأنفسهم وضع الحديث ونسبته كذباً إلـى رسول الله. ويظهر أن هذا الوضع حدث حتى في عهد الرسول. فحديث (من كذب عليًّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار) يغلب الظن أنه إنما قيل لحادثة حدثت، زُوِّر فيها على الرسول"([9]).
وما حمل الوُضَّاع على الوضع أمور أهمها: الخصومة السياسية - الخلافات الكلامية والفقهية - وضع الحديث تزلفاً لهوى الأمراء والخلفاء([10]). وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح: " فأهل السُّنة يجرّحون كثيراً في الشيعة؛  حتى إنهم نصَّوا على أنه لا يصح أن يُروى عن علي ما رواه عنه أصحابه وشيعته... وكذلك كان الشيعة مع أهل السُّنة، فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت، وهكذا...([11]).
لقد سُدَّت أبواب النجاة على النص المقدس، لأن النحل في الحديث، واجتهادات أئمة الفقه التي قامت على أساس من الاستدلال بالعديد من الأحاديث المنحولة، جعلت النص يوُلد نصاً آخر، فأصبح لكل إمام نص يعتدُّ به، وأصبح لكل إمام نص يفوق قدسية النص المقدس؛ في هذا الصدد يقول السيد سابق: "وقد بلغ الغلوّ في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال الكرخي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مُؤوّل أو منسوخ"([12]).

الإشكالية الثالثة: التباين حول ضرورة الاجتهاد أو عدمها.  انقسم فقهاء المذاهب الإسلامية حول  ضرورة  استخدام الاجتهاد أو عدمها، إلى فريقين متمايزين، حتى إن أصحاب الفريق الواحد لم يتفقوا اتفاقاً إجماعياً واحداً من جهة، و تعدَّلت مواقفهم حول المسألة ذاتها من جهة أخرى.
1ـ الفريق الرافض للاجتهاد: يقول النعمان بن محمد، أحد أكبر فقهاء الإسماعيلية، إن من يتفقًّه بغير النص فإنما ادعوا لأنفسهم منزلة فوق منازل الأنبياء والملائكة([13]).
يستدل النعمان على عدم وجود ضرورة في الاجتهاد، من الآية: ]إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [ النساء4: 105، فإن النص القرآني، إذاً، لم يقل بما رأيته أنت ولا بما استحسنته، ولا بما قست عليه، ولا بمـا نظرت، ولا بما اجتهدت فيه([14]).
لكنه على الرغم من إصرار فقهاء المسلمين على ضرورة استخدام الاجتهاد، يتابع النعمان، فقد"اختلفوا فيما ليس في كتاب الله  بزعمهم- ولا في سُّنة نبيهم، بقولهم ذلك بتقليد أسلافهم، وطاعة ساداتهم وكبرائهم، وقالوا: هم أعلم منا بوجه الحق، فما قالوا به قلنا به، واتبعناهم فيه ولم نخالفهم، وقلدًّناهم ما تقلَّدوه، وسلمنا لهم فيما هم قالوه. واختلفوا فيمن قلَّدوه، فذهب كل منهم إلى قول قائل ممن تقدمهم، فقالوا بقوله، وأحلًّوا ما أحلًّه لهم، وحرَّموا ما حرَّمه عليهم، وأقاموا قوله حجة عندهم، وأعرضوا عن قول من خالفه. . . وخطّأ بعضهم بعضاً، وكفرَّ قوم منهم قوماً، ممن خالفهم و فارقهم. وآخرون أنكروا التقليد؛ وذهبوا، فيما جهلوا، مذاهب الذين قلَّدهم الآخرون في الاستنباط؛ وقالوا لنا أن نستنبط كما استنبطوا... وقال بعضهم بالقياس... وقال آخرون بالنظر... وقال آخرون بالاستدلال..."([15]).

2ـ الفريق القابـل بالاجتهـاد:
وينقسم إلى فريقين أيضاً، أحدهما أقرَّ به ثم جمّده وهو الفريق السُّني، أما الآخر فقد أقرَّ به واستمر على إقراره، وهو الفريق الشيعي.
 أ ـ الفريق السُّني: خطوة إلى الأمام فخطوة إلى الوراء.
يقول الشهر ستاني، في معرض دفاعه عن ضرورة استخدام الاجتهاد، إن النصوص متناهية، والوقائع غير متناهية، ولأن الأمر هكذا، فإن "ما لا يتناهى  لا يضبطه ما يتناهى، عُلِمَ قطعاً، أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد"([16]). وإنه من اللازم، أيضاً، معرفة أن" الاجتهاد من فروض الكفايات لا من فروض الأعيان، إذا اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع"([17]).
إلا أنه على الرغم من إقرار السُّنة بأهمية استخدام منهج الاجتهاد، فقد سدَّ فقهاء السُّنة هذا الباب، و"منذ أوائل القرن الرابع للهجرة، قرَّر الفقهاء السَّنيون سد باب  الاجتهاد بطريق الإجماع  الضمني، خوفاً من الاضطهاد، والاكتفاء بالمذاهب الأربعة المعروفة... فاستتبع ذلك تفشي التقليد، وتوقف الاجتهاد في الفقه، وكثـرة البدع المبنية على الوهم والجهل، وانتشار الخرافات السخيفة..."([18]).
نتيجة لذلك، فترت همة الناس "وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد، فاكتفت كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه... ويتعصب له... وينزل قول إمامه منزلة قول الشارع، ولا يجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطه إمامه، وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الأئمة، حتى قال الكرخي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا، فهو مُؤَّول أو منسوخ..."([19]).
ومن الآثار السلبية التي انعكست على وضع التشريع في الإسلام، أن أصبح النص الإلهي، وهو الأصل، فرعاً كمثل النصوص الأخرى، لأنه كما يقول السيد سابق: "وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسُّنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله، ولا يُعتدّ بفتاويه"([20]).
ولهذا السبب أي "بالعكوف على التقليد، وفقد الهداية بالكتاب والسُّنة، والقول بانسداد باب الاجتهاد، وقعت الأمة في شر وبلاء"([21]).
ب ـ الفريق الشيعي: الاجتهاد خطوة  مستمرة نحو الأمام.
ولأن النص الكتاب والسُّنة- لم يكن واضحاً وصريحاً، بل يحوطه الشك والغموض، كان الاجتهاد حاجة ضرورية لاستخراج الحكم الشرعي"بصورة تفرض الحاجة إلى جهد علمي…واستخراج النتائج النهائية... ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورة... كلما ابتعد الشخص عن زمن صدور النص...هذا إضافة إلى أن تطور الحياة يفرض عدداً كبيراً من الوقائع والحوادث الجديدة لم يرد فيها نص خاص" ([22]).
فإن اتفق السُّنة والشيعة على ضرورة مبدأ الاجتهاد، وإن السُّنة وقفوا في وسط الطريق، بينما استمر الشيعة بالقول بمبدأ الاجتهاد، إلا أنهما اختلفا حول مضمون الاجتهاد وشرائطه.

الإشكاليـة الرابعـة: التباين حول مضمون الاجتهاد وشروطه.
إذا كان الإسماعيليون- كما نحسب- قد اقفلوا باب الاجتهاد، بمقتضاه التقليدي إنما ليقفلوا هذا الباب في وجه فقهاء المسلمين، من الذين رفضوا القول بوجود نص على ولاية علي بن أبي طالب وأهل بيت الرسول، وذلك لأسباب عدم وثوقهم في سلامة تفسيرهم للنص المقدس.
وإذا كان الشيعة قد فتحوا باب الاجتهاد، إنما كان ذلك ليفتحوا الباب أمام أهل البيت، الذين هم وحدهم، كما يعتقد الشيعة، في الموقع الصحيح لتطبيق النص المقدس.
فهناك نقطة تقاطع واتفاق بين الإسماعيلية والشيعة.
وإذا كان السُّنة قد فتحوا في القرون الإسلامية الأولى باب الاجتهاد، وإذا كانوا قد شعروا بأهمية إعادة فتحه بعد إقفاله، إنما تجمعهم مع الشيعة نقطة تقاطع و اتفاق أيضاً ولكن ليس على المضامين والشروط بل على الحاجة والضرورة الفقهية.
فلو استندنا إلى شواهد محدودة -كنماذج منهجية- عند الإسماعيلية والشيعة والسُّنة، فإننا سوف نرى أن نقاط الاتفاق أو الافتراق بينها خاصة، حول موضوع واحد تفرِّخ افتراقات شتى حول الموضوع ذاته. وهذا واقع انعكس بشكل جماعي بين مختلف الفرق الإسلامية عامة.
أما حول إشكالية التباين حول مضمون الاجتهاد وشروطه، فكان واقعاً فرض نفسه في داخل المذاهب المتجانسة، و في داخل شتى المذاهب الإسلامية على حد سواء.
يرى أحمد علي حسن أنه "لم ينتشر مذهب من هذه المذاهب المتعددة بناء على قوة حجته، ورجاحة برهانه على غيره، ولم يتقلص مذهب منها لضعف سنده ودليله، أو خطأ في اجتهاده، لأن كل مذهب يستند  (إلى) قول رسول الله وفعله..(إنما) السياسة هي التي فعلت فعلها..."([23]).
فهو يتساءل عن السبب الذي جعل المذاهب التي تلاشت تتلاشى، ويجيب أن بني العباس تبنوا  مذهب أبي حنيفة ابتعاداً عن مذهب أستاذه جعفر بن محمد الصادق. وأعرضت الأندلس عن مذهب أبي حنيفة، لأنه نشأ في ديار بني العباس. و لما استولى الفاطميون على مصر، نشروا مذهب التشيع ومذهب إمامهم حعفر الصادق. ولما استولى صلاح الدين على مصر، و أزال الخلافة الفاطمية، ألغى التشيع ومذهب جعفر الصادق. . . وفي أيام الموحدين، أبعد سلطانهم فقهاء المالكية وأحرق كتبهم..."([24]).
ولعل الغزالي، وبعده ابن تيمية، طاول واستطال في ميادين التكفير، ومضامير التبديع والتفسيق، فقسَّم المسلمين إلى مؤمنين وكافرين، ملحدين ومارقين وخارجين ([25]).
هذه الصورة السريعة عن الواقع التاريخي، تؤشر إلى خلافات عقائدية كان يفرضها الواقع السياسي على المذاهب الإسلامية. يستقوي العامل  السياسي بالعامل الديني فيُنَصِّب إلى جانبه مذهباً فقهياً يدعم بواسطته جذوره، و يستفيد المذهب الفقهي، في المقابل، من دعم العامل السياسي له.
ولأن موضوع العلاقة بين السياسي والديني، ليس موضوع بحثنا، نحسب أن الإشارة إليه بهذا المقدار تكفي لكي تساعدنا على إلقاء الضوء على موضوع بحثنا. لكن -كما نحسب- لم تكن العلاقة كاملة ذات جذور سياسية صافية، أو جذور دينية صافية، و إنما تبادل طرفا المعادلة عوامل الاستقواء أحدهما بالآخر، استناداً إلى النص الديني.
إذا كان الإسماعيليون -كفرقة من فرق الشيعة- قد تعارضوا مع المذاهب الأخرى حول ضرورة وشرعية مبدأ الاجتهاد، إلا أنهم قد حددوا مضمونه وشروطه في الحال التي تتم فيها الحاجة إليه.
- يقول النعمان بن محمد: " لم يأمر الله بتقليد أحد بعد رسول الله والأخذ عنه فيما جهله من جهله، غير أولي الأمر الذين أقامهم بعد الرسول في السمع والطاعة، ونصَّبهم لبيان ما أشكل على الأمة من فرائض دينه وأحكامه، واحداً بعد واحد، في كل زمان وعصر، قائم منهم وشاهد. فمن ردَّ إلى من لم يأمر الله جل ذكره بالرد إليه، وقلَّد من لم يأذن الله بتقليده، فاتَّبعه، وقال بقوله، وتدَّين به، ولم يأمر الله جل ذكره به، فقد اتخذ إلهاً من دونه، وأشرك به..." ([26]).
من هو الذي نُصِّب كي يتولى شؤون الأمة بعد وفاة الرسول ؟
هو الأعلم، وهو من شهد له الرسول  بعلمه، ودلَّ به "وجب على الناس التسليم إليه فيه، ولم يحتج في ذلك إلى أحد قط بعد رسول الله" ([27]).
ويؤكد على ذلك يقول النعمان- القول المنسوب لعلي بن أبي طالب، وقد رأى اختلاف الناس  بعد رسول الله: " أما لو ثُنيت لي وسادَة، وجلست للناس، لقضيت بين أهل القرآن بالقرآن، وبين أهل التوارة بالتوارة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، ولما اختلف إثنان في حكم من أحكام الدين"([28]).
- ويلتقي محمد بن يعقوب الكليني، فيما يراه، مع النعمان. يقول الكليني: " فليست عصمة الإمام بأقل أولوية من عصمة الرسول، لأن الإمام إذا لم يكن معصوماً لاحتاج إلى إمام آخر، وعلى الرعَّية أن ترده إلى الصواب، مع العلم  أن الرعية بحاجة إليه للاقتداء و للإئتمام به... والشيعة لا يسلمون بأن إكمال الدين وعصمة الرسول تغنينا عن المعصوم لأن الأحكام متجددة، والأحوال متغيرّة، وحاجة الناس ليست فقط لإمام يحفظ الشرع، و إنما ليفسَّر الأحوال المتجددة، ولا طريق إلى ذلك إلا بالمعصوم الذي لديه التفسير الذي يفيد اليقين"([29]).
لا يعاني الإسماعيليون من انقطاع في النظرية عندهم لأن سلسلة الأئمة الإسماعيليين لم تنقطع حتى الآن، مما يفسح المجال أمامهم -حسب اعتقادهم-لأن يبقى الإمام حاضراً بينهم يستظلون بمشورته في الفتوى.
أما الشيعة الإمامية -بشكل خاص- فيعانون من حالة الانقطاع هذه، بعد غيبة الإمام المهدي الثاني عشر. ولم يبق لديهم إلا ما سلف من تراث الأئمة السابقين من آل بيت الرسول من ذرية علي بن أبي طالب. وهم حسب ما نراه -تحول الإشراف عندهم على رعاية الشريعة من المعصوم إلى المجتهد. وهذا السبب أدى إلى انقسام جديد في داخل الشيعة الإثني عشرية، ما بين منتظر ظهور الإمام الغائب، وبين من وجد نائباً له، وهو ما عُرِف بنظرية ولاية الفقيه.
 - يرى محمد باقر الصدر أن أصول الاجتهاد تنحصر في" الكتاب الكريم والسُّنة الشريفة المنقولة عن طريق الثقاة  المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم، أما القياس ونحوهما فلا نرى مسوُّغاً شرعياً للاعتماد عليها. . . وأما ما يسمى بالإجماع فليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسُّنة، وإنما لا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات"([30]).
-       أما ما هو مضمون الاجتهاد عند السُّنة، وما هي شروطه؟
تفرَّق بعض الصحابة والتابعين، في الأمصار الإسلامية المختلفة وقد غلبت على كل بلد فتاوى من كان فيه منهم([31]).
انقسم الفقهاء السنة -في العصر العباسي- إلى طائفتين: أهل الرأي في العراق برئاسة أبي حنيفة النعماني، وأهل الحديث في الحجاز برئاسة مالك بن أنس.
اشتهر مذهب أهل الحديث بالتمسك بالسنة النبوية، وبالنفور من الرأي والاجتهاد. وسبب سيادة هذا المذهب في الحجاز لأن أهلها كانوا لا يزالون على بساطة من العيش قريبة من البداوة " فكانت الفتيا المستمدة من النصوص الشرعية كافيـة للفصل في منازعاتهم"([32]).
"و إنما سموا أصحاب الحديث لان عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا  خيراً  أو شراً " ([33]). وفي  هذا الصدد قال الشافعي: "إذا وجدتم لي مذهباً، و وجدتم خبراً  على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي الخبر"([34]).
أما في العراق، فقد ساد مذهب أهل الرأي، إذ "كان أهله اكثر تعمقاً في الحضارة، بما في ذلك من مشاكل عديدة، و وقائع متجددة ". وكان الفقهاء لا يأخذون من الأحاديث إلا قليلاً، و كانوا  يرجعون في كثير من المسائل الفقهية إلى تحكيم العقل والرأي([35]).
وإنما سُمَّوا أصحاب الرأي لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار([36]).
فأصول الاجتهاد -في الإجماع السني- أربعة: الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس. يقول الشهر ستاني، إنما تلقى، الذين يقرون الأصول الأربعة، صحة هذه الأركان من إجماع الصحابة؛  وتلقوا أصل الاجتهاد والقياس وجوازه منهم أيضاً. فإذا وقعت حادثة شرعية من حلال أو حرام، ابتدأوا بكتاب الله، فإن وجدوا فيه نصاً أو ظاهراً تمسكوا به؛ وإنلم يجدوا فزعوا إلى السُّنة. وإن لم يجدوه في السنة فزعوا إلى الاجتهاد، ومن شروطه الإجماع ([37]).
ومن شرائط المجتهد أن يعرف "مواقع إجماع الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين من السلف الصالحين، حتى لا يقع اجتهاده في مخالفة الإجماع ([38]). وإذا حصّل المجتهد هذه المعارف ساغ له الاجتهاد. ويكون الحكم الذي أدى إليه اجتهاده سائغاً في الشرع، ووجب على العامي تقليده والأخذ بفتواه([39]).
وأما العامي، الذي يجب عليه تقليد المجتهد، فإذا كان يوجد في بلد واحد مجتهدان، على العامي أن يجتهد فيهما حتى يختـار الأفضـل والأورع ويأخـذ بفتواه ([40]).
ومن مسألة ضرورة الاجتهاد وشرائطه، عند أهل السُّنة و الشيعة، تبرز إشكالية عقلية وإشكاليات عملية.
فالإشكالية العقلية هي هل يستطيع العامي أن يميّز بين الأفضل والأورع من بين المجتهدين في الوقت الذي لا يستطيع فيه أن يجتهد لنفسه في أمور أسهل بكثير؟وهل هناك قواعد محددة لمعرفة من هو الأورع؟ وهل هو من أصحاب الرأي أم أصحاب الحديث؟
والإشكاليات العملية  كما نحسب- هي التالية:
- إن ما يراه بعض السُّنة إجماعاً حول الأصول الأربعة للاجتهاد، وإلى أن يثبت عكس ما نرى، نحسب أن هذا الإجماع هو تجميع للقواعد التي وردت عن رؤساء المذاهب السُّنية بفريقيهم: أهل الرأي وأهل الحديث. وهو ليس إجماعاً لأن كلاً من الفريقين قد تعصب لقواعده. فمذهب الشافعي هو الخبر؛ ومذهب أهل الرأي هو تقديم القياس الجلي على آحاد الأخبار.
- إذا كان من المتفق عليه من هم السلف الصالحين عند مذهب سُني فهل هذا يلزم، أو يجمع عليه غيرهم من أتباع المذاهب السُّنية الأخرى؟ إننا نشك في ذلك، خاصة وأن وقائع التاريخ المذهبي الإسلامي أثبتت  أن من كان سلفاً صالحاً عند مذهب فهو ليس صالحاً عند مذهب آخر.

الإشكاليـة الخامسة: التباين حول تعريف الإجماع ومضمونه.
الإجماع تعريفاً: أي الاتفاق ومنه يقال: أجمع القوم على كذا؛  إذا اتفقوا عليه. وعلى هذا فاتفاق كل طائفة على أمر من الأمور يسمى إجماعاً "([41]).
قال الرسول  :" أمتي لا تجتمع على ضلالة؛  أمتي لا تجتمع على الخطأ". وهناك أحاديث أخرى تدل على عصمة الأمة من فعل الخطأ والضلال([42]).
يقول الآمدي: "الإجماع عبارة عن اتفاق  جملة  أهل الحل و العقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع هذا إن قلنا إن العامي لا يُعْتَبرَ في الإجماع. وإلا فالواجب أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد"([43]).
يتساءل النعمان بن محمد، هل الإجماع، هو إجماع جميع أهل القبلة، أو إجماع بعضهم دون بعض؟ ويجيب، إن هناك فريق قال: لا تجب حجة الإجماع إلا بعد أن يجمع على القول، الذي يكون حجة، جميع أهل القبلة من الفرق المختلفة المهدية باتباع الحق، والضالة ببعض البدع. وفريق يقول: ينعقد الإجماع وتجب حجته بإجماع المؤمنين من فرق الأمة دون سواهم([44]).
أما أن يكون الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد، فقهاؤهم والعامة منهم، فهذا من المستحيلات، وسوف نبرهن على ذلك.
وأما أن لا تجتمع الأمة على ضلالة -كما جاء في حديث الرسول- فله علاقة بالبحث عن الفرقة الناجية من النار، والتي حدّث عنها الرسول أيضاً؛  وهذا له بحث آخر. والحديث عن عدم اجتماع أمة محمد على ضلالة، و إذا أخذ على ظاهره، ومنفصلاً عما حوله، فهي من أغلى الأمنيات/ الأحلام التي تراود أي مسلم. ولكن هيهات...
و إذا كنا قد رأينا أن من العسير/ المستحيل أن نناقش مضمون الإجماع عند الآمدي انطلاقاً من اتفاق المكلفين من أمة محمد؛  وانطلاقاً من امتناع هذه الأمة عن الاجتماع على الضلالة والخطأ؛  فإننا بكل واقعية سوف نناقش مسألة الإجماع هذه انطلاقاً من شريحة نخبوية ضيقة داخل هذه الأمة، و ليس كلها، بل  داخل فرقة واحدة من أصل ثلاث وسبعين فرقة حدَّث عنها الرسول.
ومن هنا نتساءل، هل حقق فقهاء أهل السُّنة إجماعاً بينهم حول مفهوم الإجماع؟ إن" الإجماع عند جمهور الفقهاء هو أن يتفق على الحكم جميع المجتهدين المسلمين في عصر من الأعصار. فلذا لا يكفي عندهم عمل أهل المدينة وحده. و ذلك خلافاً  للإمام مالك، الذي قال إن المدينة دار الهجرة و دار الصحابة، وإن أهلها أعلم بالوحي وبأحوال صاحب الشريعة، وإن إجماعهم يُعمل به وحده"([45]).
أما أحمد بن حنبل، وداود الظاهري، فقالا إن الإجماع مختص بالصحابة دون غيرهم؛  و قد استدلاَّ بالحديث الشريف" عليكم بسَّنتي وسنة الخلفاء الراشدين ([46]).
والإجماع إما أن يكون بإبداء الرأي صراحة، وإما أن يكون سكوتياً؛  وقد جعل أبو حنيفة الإجماع السكوتي حجة. أما الشافعي فنفاه ولم يقرَّه([47]).
يقول عبد الرحمن النجدي، من الوهابية: "على أن الحق لم يكن محصوراً في المذاهب الأربعة. . . ولو كان الحق محصوراً فيهم لما كان لذكر المصنفين في الخلاف، و أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن خرج عن أقوال الأربعة فائدة "([48]).
فالإجماع لم يتحقق -إذاً- عند القائلين به. فهو داخل المذهب الواحد لم يعد إجماعاً. فكيف الحال إذا توسعنا لنسأل أين موقعه في دائرة أوسع من دائرة مذهب واحد، ، الدائرة الإسلامية الشاملة.

فماذا يقول الشيعـة عن الإجمـاع؟

- يقول  النعمان بن محمد  الفقيه  الإسماعيلي، مسائلاً  أهل  السُّنَّة: "كيف لكم بأن تكون الفرقة التي شهد لها الرسول بالهدى منكم دونهم، والشهداء لله على عباده من جماعتكم دون جماعتهم؟حتى يكون إجتماعكم حجة عليهم، بلا دليل"([49]).
- يقول محمصاني عن موقف الشيعة من الإجماع: "لا يقبلون الإجماع إلا  إذا صدر عن أهل البيت، أي أهل النبي، أو إذا اشترك مع المجتهدين سيدهم الإمام المعصوم. فالإجماع على المشهور عندهم، (هو الاتفاق  المشتمل على  قول المعصوم عليه السلام، لا مجرد اتفاق العلماء على قول)([50]).
- يقول محمد باقر الصدر: "وأما ما يسمى بالإجماع فليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسُّنة، و إنما لا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات".
  - ويرى عبد الحسين شرف الدين أن تعبُّد الشيعة في الأصول بغير المذهب الأشعري، وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب، وهو لا يشك في اجتهادهم ولا بعدالتهم ونزاهتهم علماً وعملاً.
لكن كيف ينظر الشيعة إلى الاجتهاد والى الإجماع والى من يجب أن تؤخذ عنهم سنن الشريعة؟ فيحددها شرف الدين على الشكل التالي:
ـ أخذت الشيعة بمذاهب الأئمة من أهل بيت النبوة نزولاً على حكم الأدلة والبراهين، وتقيداً بسنة النبي محمد أولاً.
ـ إنه لا دليل للجمهور على رجحان شيء من المذاهب الأربعة.
ـ إن الاجتهاد والأمانة والعدالة والجلالة غير محصورة بهم.
ـ ليس هناك من يجرؤ على تفضيلهم على أئمة أهل بيت النبي.
ـ إن السلف الصالح لم يدن بتلك المذاهب في كل عصر ومصر، فأئمة المذاهب الأربعة ولدوا خارج القرون الثلاث: الأشعري (270-330هـ)؛  إبن حنبل (164-241هـ)؛  الشافعي (150-204هـ)؛  مالك  (95-179هـ).
ويتساءَل شرف الدين عن السبب الذي دعا السُّنة لإقفال باب الاجتهاد بعدهم([51]).
فالإجماع، إذاً، أصبح مجرد حلم جميل يتغنى به الفقهاء، وكأن هدف الشريعة أن نتخذ لها ألقاباً جميلة، وصفات قد لا تحملها أو لا تتحملها؛ أو نسبغ عليها من أحلامنا ما نريد أن تكون، وليس ما هي كائنة عليه.
فليتفق الفقهاء حول أي إجماع يريدون، فإذا كان إجماع أهل المذهب الواحد فأين هم منه؟ و إذا كان إجماع المذاهب الإسلامية، فنحن نرى على أية مسافة يقفون مبتعدين عن بعضهم البعض؟ و إذا كان إجماع المكلفين من أمة محمد، فهذا في الواقع يشكل اكثر المستحيلات وجوداً.
فالنص، كما أصبح واضحاً، إختلط فيه ما هو إلهي ومعصوم، مع ما هو بشري مختلف عليه ومشكك فيه. و إذا كانت الشرائع غير موحَّدة فهي لن تكون موحِّدة. والشرائع إذا استجابت لحاجات إرضاء المشترع في التزلف والقربى، وفي كسب الأجر، سواء أصاب المشترع/ المجتهد/ الفقيه/ العالم في اشتراعه أم أخطأ، تصبح بعيدة عن الواقع الانساني المعاش، وتصبح ترفاً يُسبَغ عليه الأمر الإلهي، وليس له من سلطة على العوام إلا التخويف والترهيب والتكفير، وسوء المصير.
فإذا كان التشريع بأصوله الدينية المذهبية، لم يستجب لحاجات البشر الواقعية في اكثر من معترك، ولم يستطع أن يوحد الأمة، فهل التشريع، بأصوله الوضعية أو ما يسمى بالقانون الوضعي، قد استطاع أن يتجاوب مع الواقع المجتمعي المعاش؟

II  ـ النص الوضعي في ميزان العقل والنقل.
         لم يكن وجود النص الوضعي، والذي له علاقة بتنظيم شؤون البشر في كتلة مجتمعية واحدة موحَّدة، محمية بشرائع وقوانين تنظم حياتهم المدنية، و علاقاتهم وحقوقهم وواجباتهم، من صنع بشر مخلوقين من طينة غير طينة البشر المتدينين. و إذا كنا نعالج الموضوع، موضوع الشرائع بمفهومها الديني- السماوي، أو بمفهومها الوضعي، فإننا نرفض أن نستخدم ميزان الإيمان والكفر في توصيف المعسكرين الديني والوضعي.
فالذين لجأوا إلى وضع قوانين وتشريعات لحماية المجتمع إلى مصادر غير مصادر الشرائع السماوية، لم  يكن من غاية لهم أنهم ولدوا كفاراً، ويعشقون مبدأ التناقض مع الدين؛  وإنهم لم يكونوا ينفذون مآرب استعمارية، ولا استوردوا حضارات بهروا بوميضها الخادع. و إنما انطلقوا في محاولاتهم وأعمالهم من مصلحة عباد الله، وفي سبيل خلق مجتمع آمن، يأمن الفرد فيه على حقوقه ويلتزم بأداء واجباته.
وإننا نؤكد أن من وضع نفسه في موقع الواضع للشرائع والقوانين، وإن كان غير مستند إلى مصادر دينية، لم يخطر بباله، على الإطلاق، أن يكون نداً لعزة الله وعلمه ومقدرته، بل إنما جاء بما جاء به خاضعاً للقيم الإلهية السامية التي نعتقد اعتقاداً جازماً أن الله هو الذي خلقها في الإنسان بمستوى الغريزة التي توجه سلوكه وتصرفاته، كمثل الرحمة وحب العدل وحب التضحية والدفاع عن الذات والآخرين... وخلق له العقل-أهم نعمة-وهو الضابط الأهم لكل تصرفاته واختياراته.
فالذي يميز البشر عن غيرهم من مخلوقات الله، أن الإنسان اجتماعي بالطبع/ بالفطرة؛  وهذا المجتمع بحاجة إلى قوة متفق على صلاحها في إدارة شتى شؤونه؛  وهذه القوة بحاجة إلى قانون/شريعة تنظم علاقاته على مختلف مستوياتها و أهمها: علاقة أفراد  المجتمع بين بعضهم البعض، وعلاقة أفراد المجتمع مع السلطة التي تدير شؤونه.

فما هو تعريف المجتمع؟ 

يطلق لفظ المجتمع على المجموع من الأفراد تؤلف بينهم روابط واحدة، تثبتها الأوضاع والمؤسسات الاجتماعية، ويكفلها القانون، أو الرأي العام بحيث لا يستطيع الفرد أن يخالفها، أو ينحرف عنها، إلا إذا عرَّض نفسه للعقاب، أو السخط، أو اللوم([52]).

والسلطـة؟

لا بد للمؤسسات الاجتماعية والقانونية التي تُنظم أحوال المجتمع، من وجود مؤسسة سياسية تديرها وتشرف عليها وتنظمها، وهي ما عرفت بالسلطة السياسية. فهناك، كما يرى إدمون رباط "شعور عام وعميق في كل فرد من البشرية بأجمعها، بأنه يخضع لسلطة" وأن لهذه السلطة قانوناً، وأن هذه السلطة إنما تقوم بإدارة المجتمع وسياسته... فالدولة، إذاً، لتبدو في أول وهلة كظاهرة نفسية، اجتماعية، تلازم كل مجتمع منظم"([53]). وهي" المرجع الأعلى المسلم له بالنفوذ، أو الهيئة الاجتماعية القادرة على فرض إرادتها على الإرادات الأخرى بحيث تعترف الهيئات الأخـرى لها بالقيادة والفعل، وبقدرتها وبحقها في المحاكمة وإنزال العقوبات، وبكل ما يضفي عليها الشرعية ويوجب الاحترام لاعتباراتها والالتزام بقراراتها. وتمثل الدولة السلطة التي لا تعلوها سلطة في الكيان السياسي، ويتجسد ذلك من خلال امتلاك الدولة لسمة السيادة، لأنها مصدر القانون محتكرة حق امتلاك وسائل الإكراه واستخدام القوة لتطبيق القانون في المجتمع([54]).
يقول رباط عن السلطة: "إنما هي السلطة التي شاع تسميتها في لغة القانون الحديثة، بالسيادة. ولا ريب أن السيادة إنما هي التي تميز المجتمع السياسي عن أي نوع من المجتمعات الأخرى، وذلك ليس فقط من الوجهة القانونية، باعتبار أن  السيادة هي من خصائص الدولة، بل ومن الوجهة الاجتماعية أيضاً، أي أن السيادة هي المظهر الذي تتخذه القيادة في المجتمع السياسي في كل طور من أطواره"([55]).
وحيث إننا نعني بالسلطة السياسية القائمة على أساس المبدأ الديمقراطي، وليس غيرها من المبادئ الأخرى المعروفة بالسلطات المطلقة الصلاحيات. إذن لا بد أن يكون بين يدي هذه السلطة قوانين/ تشريعات تحدد مسئوليتها من جهة تنظيم المؤسسات العامة التي تعمل من  أجل أمن المجتمع في شتى وجوهه، وتنظم علاقات السلطة مع المجتمع/ الرعية، وتنظم علاقات الأفراد في المجتمع بين بعضهم البعض.

فما هو تعريف القانون/ التشريع؟   
"إن الظاهرة الأساسية في كل مجتمع أنه لا يستطيع العيش بدون القانون"([56]).  وللقانون صفة إلزامية، وهي صفة تنحصر في أغلب الأحيـان فـي القوانيـن الوضعية فقط "([57]).
فالقوانين: هي مجموعة المبادئ والأسس والأنظمة والقواعد التي تطبقها مراجع القضاء في الدولة على ما يطرح أمامها من شؤون أو منازعات" ([58]). و"من الحقائق العلمية الثابتة، أنه لا بد من أن يكون لكل دولة قانون أساسي، أو تستند إليه على الأقل، القواعد القانونية على اختلاف درجاتها، التي تنتظم في نطاقها حياة الدولة، ونشاط الخاضعين لسلطانها، من مواطنين وأجانب"([59]).
 من هي الجهة النافذة في إصدار التشريعات؟
في الدولة الحديثة "لم يعد للعرف الدور الرئيسي، الذي كان يلعبه في المجتمعات القديمة والمحافظة، في إنشاء الأحكام الشرعية، لأن المشترع في عصرنا قد اصبح معروفاً، مختصاً بوضع القوانين، بفضل مبدأ فصل السلطات، التي درجت عليه الدول الديمقراطية "([60]).
ففي الديمقراطيات "ينحصر العمل التشريعي بالحكومة أو اللجان، وقليلاً ما يتقدم أحد أعضاء المجالس النيابية باقتراح قانون، وإذا تقدم به، فإن لجنة خاصة أو البرلمان ذاته يدرسه و يعدله ويصوت عليه"([61]). فالعمل "التشريعي يصدر عن السلطة التشريعية... وتتصدر القوانين فيها المركز الأول"([62]).
وأما الدول "التي لا تنحصر فيها السلطة التشريعية في سلطة منفصلة، فإن القوانين فيها تكون صادرة، إما عن ولي الأمر في الدولة، وإما بنتيجة اجتهاد القضاء، الذي يتولى عندئذ، مستعيناً بمساهمة العلماء والفقهاء مهمة استنباط الأحكام الشرعية من أصول معينة، تختلف طرق استخراجها باختلاف الزمان والمكان، كما كانت عليه الحالة في روما القديمة، وفي صدر الإسلام"([63]).
إن السلطة التشريعية هي التي تملك حق سن القوانين ومناقشتها ومراقبة تنفيذها وسلامتها. وتمثل عادة في مجالس نيابية تشترط في أعضائها المواظبة، وخلو السجل العدلي من الخيانة، وسلامة العقل، واكتمال الأهلية. . . وفي واجبات السلطة التشريعية منع استبداد الهيئة التنفيذية، لأنها أعلى سلطة في البلاد ومصدر كل القوانين"([64]).
ما هي مصـادر القوانـين؟  
لمصادر القوانين نظريات متباينة، منها ما يتعلق بالنظريات المثالية، ومنها ما يتعلق بالنظريات الاجتماعية. ويندرج مصدر الشرائع السماوية في دائرة النظريات المثالية. فما هو دور هذه الشرائع إذاً؟
لعبت التعاليم الدينية دوراً تاريخياً حاسماً في إنشاء القواعد القانونية وتقدمها. وقد تجلت هذه الظاهرة في الدول القديمة والدول العصرية على حد سواء في الدول الشرقية والدول الغربية([65]). كانت سائدة في البلاد الإسلامية، قبل الغزو الأوروبي، وتقلصت بعده. على أن تقلص دورها لا يعني زوال آثارها من القوانين الحديثة "لأن تلك الشرائع قد أوجدت جواً روحياً وخلقياً خاصاً بكل  منها؛ فانطبعت  المجتمعات التي  سادت في ظلها عدة قرون، بمبادئها الأساسية وتعاليمها الفلسفية " ([66]).
أما في البلاد الغربية، عندما كانت تؤلف جامعة دينية ونفسية وثقافية واحدة، تحت السلطة البابوية القائمة في روما، فكان القانون الطبيعي يرتكز إلى الدين. وكان أنصاره في أيام الوثنية، أيضاً، يقولون بأنه يعبر عن مشيئة الآلهة غير المكتوبة. وفي عهد النصرانية، وخلال القرون الوسطى، بأنه نور الله المنعكس في هذا القانون" ([67]).
تميزت، إذاً، الشرائع الدينية -إسلامية ونصرانية ووثنية- بإعادة القانون إلى مصادر روحية إلهية يرعاها الله ويطيعها البشر. فإذا كان ما يُقال بأن الإسلام  قد تميز عن غيره من الدعوات السماوية بأن نصوص شرائعه ذات مصدر إلهي وردت في الكتاب والسُّنة؛  فإن الأديان الأخرى، سماوية أو وثنية، قد استنت لنفسها قوانين وتشريعات وصفها الأمناء على الدين بأنها ذات مصادر إلهية. فالجميع على حد سواء أسبغوا القداسة على نصوصهم. وتشاركوا، بشكل نظري وعملي، على فرض قواعد تمنع مناقشة المقدس على الرعايا.
فحتى في الإسلام، الذي تميز بأنه دين زمني وأخروي، بمعنى أنه حددّ في أصول نصوصه شرائع للإنسان في دنياه وفي آخرته. لكن من خلال مناقشتنا للنص المقدس تبيّن لنا أن ما هو إلهي قد تمازج مع ما هو بشري معرض للخطأ. فضاعت الحدود في الشرائع الإسلامية بين ما هو إلهي وبين ما هو بشري، وقد رأينا ما قاله الكرخي عن قدسية النص الفقهي، وما يعتقد به الشيعة من عصمة النص وعصمة ولي الأمر، استناداً إلى قدسية النص الذي ورد على أَلسنة المعصومين عند معظم فرقهم.
أما ما هو دور النظريات الاجتماعية في مصدر القوانين؟
وبجانب النظريات المثالية، التي تؤمن بأن مصادر القواعد القانونية كامنة في تعاليم الشرائع السماوية ومبادئ العدالة، تظهر طائفة النظريات القائلة بأن القوانين إنما هي وليدة المجتمع، ولا تكون إلا من ثمراته([68]).
فالإسهاب في دراسة النظريات العامة لمصادر القواعد القانونية يؤلف فرعاً من فلسفة القانون، مما يعقد الأمر في الوصول إلى أحكام نهائية، لأن العلم لم يتوصل حتى الآن إلى أي حل لهذه المعضلة([69]). هذا السبب دفع كثيراً من  رجال القانون إلى  الاقتصار على دراسة القوانين الوضعية "أي القوانين الصادرة عن هيئة تشريعية منظمة وحصر هذه الدراسة في نطاق هذه القوانين، بدون  التعرض إلى مصادرها الحقيقية" ([70]). ومن هذا الاتجاه نشأت طريقة جديدة، يلجأ إليها معظم الشًّراح في الوقت الحاضر؛  للابتعاد عن المناقشات التي تبدو لهم عقيمة، عن مصادر القانون الحقيقية، وهي الطريقة، أو النظرية المعروفة بالمذهب القانوني الوضعي([71]).

III  ـ أية مصادر تشريعيـة تحفظ وحـدة السلطـة والقانون؟
يرى البعض أن العالم الحالي قد فقد طابع القدسية التي كان يتمتع بها فيما مضى ([72]). ولأن الشرائع الوثنية قد اندثرت أمام موجات التوسع للشرائع السماوية وبشكل أساسي الشرائع الإسلامية. ولأن النصرانية، وموطنها الكثيف في البلاد الغربية، قد تنازلت أو أرغمت على التنازل أمام مصادر التشريع الوضعي. يبقى أمامنا مناقشة الدور التشريعي للإسلام.
ما هو موقع النص المقدس إذا كان غامضاً؟ أي بحاجة إلى تفسير وتأويل؟ وهل يلتقي النص المقدس بمصدره الإلهي أو المعصوم، مع تفسيره أو تأويله الصادر عن البشر الخاطئين؟ هل أناب الله أحداً من البشر أن يفسر ويؤول ما أُنزل من عنده؟
 يقول النص الإسلامي: ]ولو ردّوهَ إلى الرسول، والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم  [ النساء4: 83.
 ]هو الذي أنزل عليك الكتاب، فيه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم [ آل عمران3: 7. ] إن الذيـن فرقَّوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيْ [ الأنعام6: 159.
أناب الله عز وجل الرسول وأولي الأمر والراسخون في العلم، بتفسير ما تشابه من آيات القرآن. لكن  من هم أولو الأمر والراسخون في العلم؟
هم الإمام/ الخليفة، وهم أيضاً الفقهاء وعلماء الدين. . .
لكن إذا اختلف قول إمام / خليفة عن قول آخر، و إذا اختلف قول صحابي عن قول صحابي آخر أو إذا اختلف قول فقيه / عالم دين عن قول فقيه / عالم دين آخر؛  وهم فعلاً اختلفوا إلى حدود تكفير بعضهم البعض الآخر، فما هو الحل؟
يقول البعض بالإجماع، ونحسب نحن أن الإجماع سراب، إلا ما ورد من عبارات مثالية في خطب الفقهاء.
ويقول البعض يكون الحل بوجود المعصوم؟ واختلفوا حول العصمة والمعصومين: قبلها البعض ورفضها البعض الآخر. وحتى إن من قال بالإمام المعصوم، توقفت سلسلة المعصومين بغياب آخرهم منذ مئات السنين، بل تجاوزت الألف ومائتي سنة.
فالسلطة والقانون، إذا لم تكن موحدَّة وموحدِّة، فلا سلطان لها على عباد الله، وإن فرضها بالإكراه، و بالتحصن وراء النص المقدس، ليس هو الحل المطلوب، لأن الإكراه سوف يؤدي إلى الانفجار.
فلا حل موحَّداً وموحِّدِاً في مصادر التشريع الإسلامي المذهبي، إلا ما أكره عليه الناس بالتكفير داخل الفرق الإسلامية. فلا تفسير موحَّد ولا تأويل موحِّد، إذاً فلا تشريع  موحَّد، ولا قانون موحَّد؟
وغياب وحدة القانون تؤدي إلى غياب وحدة السلطة، فالحل هو الفوضى.
يبقى -كما نحسب- أن النص الوضعي حتى ولو كان ناقصاً وكان مصدره بشرياً، هو بداية الحل لأن النص الوضعي ليس مقدساً وهو قابل للنقاش، ولأنه مسموح التظاهر ضده وإسقاطه متى ثبت بطلانه والنقص فيه.
أما النص المقدس، فلن يلغى، ولن يجروء أحد على إلغائه حتى ولو تجاوزه الزمن، وأصبح مناف لتطور المجتمع والتقاليد الاجتماعية؛  فانظر ما قال محمد جواد مغنية في معرض حديثه عن الإماء وأحكامهن:"إن الحديث عن الإماء وأحكامهن أصبح  بلا جدوى بعد إلغاء الرق"([73]). يحدث ذلك بحكم الأمر الواقع الذي يفرض نفسه على الفقهاء والشريعة من دون أن يتجرأ فقيه على استباق الأمور، واستنان قواعد تشريعية تسمح لرجال الدين بأن يواكبوا النص بحركة تطويرية دائمة تواكب روح العصر بالنسبة للمجتمع الإسلامي من جهة، ومواكبة علاقاته مع التعدديات الدينية والفكرية على مستوى رقعة العالم من جهة أخرى.
 وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية لم تقم بإلغاء مبدأ الرق لأنه مثبت بالنص؛  لذلك لم يتجرأ أحد من الفقهاء على القول بإلغاء هذا النص على الرغم  من منافاته لروح العصر، بل إن الذي ألغاه هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر من العام 1948 ([74]).
أما النص الوضعي فهو محصن بإرادة المجتمع، من خلال السلطات التشريعية المنتخبة. وهو محصن أيضاً بمنع إسباغ صفة التقديس عليه، وهو سهل التغيير كلياً، أو التعديل جزئياً. فمقياسه ليست  قداسته، بل  مقياسه عدالته، وتثبت عدالته بتجربته أو لا تثبت.
أما النص المقدس فقد يجمد نصاً، وتفسيراً وتأويلاً واجتهاداً؛  فيقف التشريع، وهذا ما حصل، كما يقول السيد سابق: "وقف العلماء لا يستظهرون غير المتون. .. حتى وثبت أوروبا [بقوانينها الوضعية]على الشرق تصفعه بيدها وتركله برجلها. فكان أن تيقظ [العالم الإسلامي] على هذه الضربات... فإذا هو متخلف عن ركب الحياة الزاحف" ([75]).

IV - أين يكمن الحــل؟
اشتهرت في التاريخ اليوناني قصة عرفت بـ" سرير بروكست". وبروكست هذا كان لديه سرير، وكان كلما التقط فريسة بشرية، يضعها على سريره، فإذا كانت الضحية أقصر من السرير يربط أطرافها ويمددها ليصبح طولها مساوياً لطول السرير. أما إذا كانت أطول فإنه يقطع من أطرافها الطول الزائد عن سريره.
وحتى لا نقع فريسةً للجدل حول أيهما أولاً: النص أم الحاجة الاجتماعية. وحتى لا نقع في إشكالية طريقة بروكست أي نقتطع من الحاجات الإنسانية ما لا يتناسب مع النص، أو نمدد أطراف هذه الحاجة لتناسب قياسه. قال الله تعالى في  كتابه: ] ولا نكلف  نفساً إلا وسعها...[ المؤمنون23/ 62. و قال أيضاً: ] ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض[ لقمان 31: 20... والله تعالى سخَّر للإنسانَ كل شيء، ليحسم الجدل بقوله الكريم إن النفس الإنسانية أولاً، وما جاء من نصوص إلا لتنظم السبل التي تجعل حياة الإنسان أكثر يسراً.
فسواءٌ أكانت نصوص القانون، الذي يحفظ المجتمع وتماسكه، ذات مصادر دينية أم أخلاقية أم اجتماعية، فمقياسه أن يتجاوب مع حاجات المجتمع والأفراد، في وحدتها وتماسكها، في أمنها وسلامتها، في حقوقها وواجباتها، في العدالة بينها وحفظ حرياتها.
فغاية القانون أن يكون حارساً للمجتمع، وكلما ابتعد عن غايته أصبح لاغياً، واصبح من الواجب تغييره وتبديله أو تعديله. فمصلحة المجتمع، كمجتمع، هي الثابت، أما القانون فمتغير مرتبط بهذه المصلحة.
فسيان كانت مصادر القانون، وهي لن تكون إلا من نتاج المجتمع البشري، أفراداً أو جماعات، فإن مقياس نجاحه أو فشله، قبوله أو رفضه، متعلق بمدى تحقيقه لوحدة الدولة والمجتمع، وهاتان الغايتان لن يتحققا إلا بوحدة القانون. وإننا نحسب أن في المصادر الدينية الإسلامية، ما يوحِّد وفيها أيضاً ما يفِّرق، خاصة تلك التي لها علاقة بتمايزات الفقه المذهبي. فما يضير لو أخذ المشترع منها ما يوًّحد، وترك ما يفرِّق.وماذا يضير أيضاً لو اتخذ من القانون الوضعي ما يوَّحد؟
أفلا تتحقق غاية توحيد القانون كسبيل لتوحيد المجتمع والدولة، إذا أخضعت كل النصوص لسلطة تشريعية تمثل المجتمع كل المجتمع، وأن تكون هذه النصوص قابلة للمناقشة والتعديل أو التبديل كلما تعارضت مع وحدة المجتمع والدولة؟

 



مصادر البحث ومراجعـه

- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
- الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام (ج1): دار الكتب العلمية: بيروت: لبنان: 1983: د. ط.
- أمين، أحمد: فجر الإسلام: دار الكتاب العربي:  بيروت: 1975: ط11.
- حسن، أحمد علي: المسلمون العلويون في مواجهة التجني: الدار العالمية: بيروت: 1985: ط1.
- رباط، إدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام : دار العلم للملايين: بيروت: 1983: ط3.
-……………: الوسيط في القانون الدستوري العام  (المقدمة): دار العلم للملايين: بيروت: 1968: ط2. 
-زيادة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية: معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986:  ط1.
- السيد سابق: فقه السُّنة: دار الكتاب العربي: بيروت: 1983: ط5.
- شرف الدين، عبد الحسين: المراجعـات: مؤسسة الوفاء: بيروت: 1980: ط21.
- الشهرستاني: الملل والنحل: دار صعب: بيروت: 1986: د. ط.
- الصدر، محمد باقر: الفتاوى الواضحة: دار التعارف: بيروت: 1983: ط8.
- صليبا، جميل: المعجم الفلسفي (ج1): دار الكتاب اللبناني: بيروت: 1982: د.ط. 
 - عمارة، محمد: الإسلام وقضايا العصر: دار الوحدة: بيروت: 1984: د.ط.
- فضل الله، محمد حسين: قضايانا على ضوء الإسلام: دار الزهراء: بيروت:1985: ط6.
- الكليني، محمد بن يعقوب: الإمام والإمامة عند الشيعة: دار الحمراء: بيروت: 1990: ط1.
- الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة  (ج3): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1983: ط1.  
- بن محمد، النعمان: اختلاف أصول المذاهب: دار الأندلس: بيروت: 1983: ط3.
- محمصاني، صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام: دار العلم للملايين: بيروت: 1980: ط 5.
 - مغنية، محمد جواد: التفسير الكاشف: دار العلم للملايين: بيروت: 1981: ط3.
- النجدي، عبد الرحمن: الدرر السَنيَّة: دار العربية للطباعة والنشر: بيروت: 1982: ط2.
***



 ([1]) نُشِرَ هذا البحث في مجلة دراسات عربية : بيروت: في شهر أيلول -تشرين الأول/ سبتمبر - أوكتوبر من العام 1999.
([2]) زيادة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية (م1): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986:  ط1:  (المادة: مقدس): ص ص 773-774.
 ([3]) عمارة، محمد: الإسلام وقضايا العصر: دار الوحدة: بيروت: 1984: د.ط: ص 91.
 ([4]) الصدر، محمد باقر: الفتاوى الواضحة: دار التعارف: بيروت: 1983: ط8: ص88.
 ([5]) الشهر ستاني: الملل والنحل  (ج1): دار صعب: بيروت: 1986: ؟ : ص198.
 ([6]) بن محمد، النعمان: اختلاف أصول المذاهب: دار الأندلس: بيروت: 1983: ط3: ص39.
 ([7]) فضل الله، محمد حسين: قضايانا على ضوء الإسلام: دارالزهراء: بيروت:1985: ط6: ص56.
 ([8]) م . ن: ص12.
 ([9]) أمين، أحمد: فجر الإسلام:  دار الكتاب العربي:  بيروت: 1975: ط11: ص ص 210-211.
 ([10]) م. ن: 212-215.
 ([11]) م. ن: ص 217.
 ([12]) السيد سابق: فقه السُّنة (م1): دار الكتاب العربي: بيروت: 1983: ط5:ص13.
 ([13]) بن محمد، النعمان: اختلاف أصول المذاهب: م. س: ص45.
 ([14]) م. ن: ص 41.
 ([15]) م. ن: ص ص 36-37.
 ([16]) الشهر ستاني: الملل والنحل  (ج1): م. س: ص 199.
 ([17]) م. ن: ص 205
 ([18]) محمصاني، صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام: دار العلم للملايين: بيروت: 1980: ط5: ص 202.
 ([19]) السيد سابق: فقـه السُّنة  (م1): م. س: ص 13.
 ([20]) م. ن: ص 13.
 ([21]) م. ن: ص 14.
 ([22]) الصدر، محمد باقر: الفتاوى الواضحة: م. س: ص 88.
 ([23]) حسن، أحمد علي: المسلمون العلويون في مواجهة التجني: الدار العالمية: بيروت: 1985: ط1: ص20.
 ([24]) م. ن: ص 21.
 ([25]) م. ن: ص 23.
 ([26]) بن محمد، النعمان: اختلاف اصول المذاهب: م. س: ص55.
 ([27]) م. ن : ص31.
 ([28]) م. ن: ص 31.
 ([29]) الكليني، محمد بن يعقوب: الإمام والإمامة عند الشيعة: دار الحمراء: بيروت: 1990: ط1: ص9.
 ([30])  الصدر، محمد باقر: الفتاوى الواضحة: م. س: ص98.
 ([31])  محمصاني، صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام: م. س: ص34.
 ([32]) م. ن: ص35.
 ([33])  الشهر ستاني: الملل والنحل  (ج1): م. س: ص206.
 ([34]) م. ن: ص207.
 ([35]) محمصاني، صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام: م. س: ص36.
 ([36]) الشهر ستاني: الملل والنحل  (ج1): م. س: ص207.
 ([37]) الشهر ستاني: الملل والنحل  (ج1): م. س: ص 198.
 ([38]) م. ن: ص 200.
 ([39]) م. ن: ص 201.
 ([40]) م. ن: ص 205.
 ([41]) ا لآمدي: الإحكام في أصول الأحكام (ج1): دار الكتب العلمية: بيروت: لبنان: 1983: د. ط: ص280.
 ([42]) م. ن: ص 402.
 ([43]) م. ن: ص 282.
 ([44]) بن محمد، النعمان: اختلاف أصول المذاهب: م. س: ص107.
 ([45]) محمصاني، صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام: م. س: ص178.
 ([46]) م. ن: ص178.
 ([47]) م. ن: ص179.
 ([48]) النجدي، عبد الرحمن: الدرر السَنيَّة (ج1) : دار العربية للطباعة و النشر: بيروت: 1982: ط2 : ص273.
 ([49]) بن محمد، النعمان: اختلاف أصول المذاهب: م. س: ص108.
 ([50]) محمصاني، صبحي: فلسفة التشريع في الإسلام: م. س: ص179.
 ([51]) شرف الدين، عبد الحسين: المراجعات: مؤسسة الوفاء: بيروت: 1980: ط21: ص ص40-42.
 ([52]) صليبا، جميل: المعجم الفلسفي (ج1): دارالكتاب اللبناني: بيروت1982: د.ط: ص 345.
 ([53]) رباط، ادمون: الوسيط في القانون الدستوري العام (ج1): دارالعلم للملايين: بيروت: 1983: ط3: ص8.
 ([54]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة  (ج3): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1983: ط1:  (المادة: سلطة): ص 215.
 ([55]) رباط، إدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام  (المقدمة): دار العلم للملايين: بيروت: 1968: ط2: ص 179.
 ([56]) رباط، ادمون: م. س  (المقدمة): ص 95.
 ([57]) م. ن: ص 93.
 ([58]) الفاروقي، حارت سليم: المعجم القانوني: مكتبة لبنان: بيروت: 1982: ط4:  (المادة: Law): ص408.
 ([59]) رباط، ادمون: الوسيط في القانون الدستوري العام  (المقدمة): م. س: ص 199.
 ([60]) رباط، ادمون: الوسيط في القانون الدستوري العام (المقدمة): م. س: ص 91.
 ([61]) م. ن: ص ص 89 ـ 90.
 ([62]) م. ن: ص 98.
 ([63]) م. ن: ص 98.
 ([64]) الكيالي، عبدالوهاب: موسوعة السياسة (ج3): م. س:  (المادة: السلطة التشريعية): ص216.
 ([65]) رباط، أدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام  (مقدمة): م. س: ص 104.
 ([66]) م. ن: ص 105.
 ([67]) م. ن: ص 126.
 ([68]) رباط، إدمون: الوسيط في القانون الدستوري العام (مقدمة): م. س: ص151.
 ([69]) م. ن: ص 172.
 ([70]) م. ن: ص 173.
 ([71]) م. ن: ص 173.
 ([72]) زيادة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية (م1): م. س:  (المادة: المقدس): ص775.
 ([73]) مغنية، محمد جواد: التفسير الكاشف (م2): دار العلم للملايين: بيروت: 1981: ط3: ص300.
([74]) راجع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: المادة الرابعة التي تنص: "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما". 
 ([75]) السيد، سابق: فقه السنة  (م1): م. س: ص15.

ليست هناك تعليقات: