الثلاثاء، نوفمبر 30، 2010

إخترنا لكم من أرشيفنا الخاص


مقتطفات من الفصل السادس من كتاب (الردة في الإسلام)

هل يمكن المقاربـة بين الردة وعصرنا الحاضر؟

من أين نبدأ ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين الميلادي، وقطعنا شوطاً من أوائل القرن الخامس عشر الهجري؟ ومن غير الجائز، وليس من الواقع في شيء، أن يسود منطق التناقض حول التساؤل التالي: هل أمتنا متخلفة، أم هي غير متخلفة؟
تعترف الأمة بالإجماع، أن الأمة متخلفة عربية كانت أم إسلامية- ويتأيد هذا الاعتراف بأقوال كل أبنائها، نقليون وعقليون؛ مؤمنون-متدينون وعلمانيون؛  نخبويون وعاميِّون…
وهل تعترف الأمة أنه من الواجب أن تنتقل إلى مصاف الشعوب المتقدمة أم لا؟ ومرة أخرى تعترف الأمة أن الواجب يقضي بضرورة أن تتقدم. فالأمة متخلفة، وقدرها بإرادة أبنائها- أن تتقدم، ولكن كيف؟
من هنا تبدأ الإشكالية، ومن هنا يأخذ التناقض مداه بين آراء أبنائها. فكل خلافها، إذاً، يدور حول علامة الاستفهام :«كيف»؟ فأبناء الأمة متَّفِقون حول تشخيص الواقع الراهن، لأنهم يحيون فيه وبه ومعه، فالواقع شاخص واضح تحت السمع والبصر وكل الحواس الأخرى… وفي القلوب والعقول.
أما الخلاف فيدور حول تشخيص الماضي، كنقطة انطلاق لتشخيص الأمراض؛ وعلى استشراف المستقبل. فتشخيص الماضي له علاقة وثيقة بتشخيص المستقبل، لماذا؟
ينطلق النصوصيون/ السلفيون من أن التخلف الحاصل كان نتيجة للابتعاد عن الدين وتحديداً الابتعاد عن سيرة السلف الصالح- فالشفاء من الأمراض لن يكون إلا بالعودة إلى تقليدهم تقليداً صحيحاً؛ فصورة المستقبل عندهم مرتبطة بالعودة إلى الأصول السلفية التي أثبتت صلاحها لخير الأمة.
لم يُنقل الماضي بدقة وموضوعية، بل غلبت على نقله الأهواء المذهبية والسياسية والطبقية؛ فلم يبق منه إلا محطات رئيسة واضحة، ونتائج ملموسة مخيبة للآمال.
لقد نقلنا من الماضي، في خطابنا الراهن وليس في بحثنا النقدي والموضوعي-الصورة المشرقة، مع أنه لا ريب في إشراق بعض الصورة. وكان النقل الخطابي ذا علاقة بمرحلة التحرر والاستقلال، فوُضِعَت الصورة الماضية المشرقة في خدمة الخطاب التعبوي؛ وهذه مسألة في غاية الأهمية، إلا أنها ليست الأهمية كلَّها. فلو استمرت -وهي مستمرة حتى الآن- فإنها تتحول، بلا ريب، إلى أحلام وأوهام وسراب…
فلو كان الماضي مشرقاً، إلى الدرجة التي وصفه الخطاب التعبوي، لما كان من المنطقي أن تسود الحاضر أية مسحة من الظلام. فالنتائج التي تحصدها الأمة اليوم هي أوضح علامة تؤكِّد أن التاريخ الماضي لم يكن مشرقاً إلى الدرجة التي أوصله إليه ذلك الخطاب.
فإذا كان للخطاب السياسي أو الديني أو السياسي-الديني أهدافه المرحلية، فإن البحث الرصين عليه أن يرى صورة التاريخ كما كانت بالفعل.
امتنع بعض النخبويين -من أبناء الأمة- وانعكس امتناعهم تضليلاً على وعي الجماهير الواسعة، وهي انفعالية بحكم طبيعتها الثقافية الموروثة، عن النظر إلى الجانب المظلم من الصورة، كرد فعل على ما شاب أبحاث عدد من المستشرقين الأجانب من ضلالات ذات استهدافات مسيئة لأمتنا. ولكن علينا أن لا ننسى أن المادة التي استخدمها المستشرقون  حتى استطاعوا الوصول إلى النتائج المسيئة كانت مواداً أولية استخرجوها من عجين التاريخ الذي سجَّله مؤرخو تاريخنا، من جهة؛ ومن الثغرات الموجودة في جدراننا العقائدية-المذهبية، أومن تراثنا السياسي والطبقي والاجتماعي من جهة أخرى؛ فتسللوا منها في سبيل النيل منا…
أما الخلاف حول استشراف المستقبل، فلم يكن أقل حِدَّةً من الخلاف الدائر حول تشخيص جزء الصورة القاتم، فبدا والحال كذلك -وهو صحيح كما نحسب-وكأن تقييم الماضي واستشراف المستقبل يرتبطان ارتباطاً جدلياً.
أما نحن فنحسب أن العلاقة بين الماضي والمستقبل صحيحة، فأساس الخلاف يستند إلى افتراقات عقائدية: منها المذهبية الدينية، ومنها السياسية الطائفية، ومنها القطرية والقومية والأممية… فالتاريخ، سواء كان في جوانبه العقائدية-الدينية، أو الأيديولوجية السياسية، خضع إلى أهواء هذه أو تلك من الفرق الدينية؛ أو هذا وذاك من المذاهب السياسية الفئوية؛ لذا أخذ كل اتجاه يغرف من التاريخ ما يُدَعِّم اتجاهاته وأهواءه.
وكان من أخطر ما دار الخلاف حوله ولا يزال مستمراً حتى الآن- هو البحث العقائدي الديني الإسلامي المذهبي، والذي أسبغ عليه كل فريق صفة القدسية. فكما فرَّخ هذا الخلاف وتفرَّع في الماضي، جاء الحاضر الراهن ليشهد استمرار التفريخ والتفريع.
اصطدمت كل دعوات التجديد، والبحث عن أسباب التخلف، بموجات التقديس للماضي -تاريخاً وعقائد- فأصبح المستقبل مرتبطاً بعودة المقدس. ولهذا قُمِعَت كل اتجاهات التجديد بفتاوى الاتهام بالردة. فما زالت الردة -حتى الآن-سلاحاً يمتشقه الأصوليون كلما أعجزهم الرد على كل فكر جديد. فهل يمكن المقاربة بين مبدأ الردة وعصرنا الحاضر؟

في نتائـج البـحث

بعد ألف وأربعمائة سنة من التكفير والتكفير المضاد


)وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( (يونس:99).
بعد ألف وأربعماية سنة من التقاتل الدموي تارة؛ والتقاتل الفكري، القائم على التكفير والتبديع والتضليل والتفسيق، تارة أخرى، هل استطاع المسلمون أن يتَّفقوا على حدود وشرائط الفرقة الوحيدة الناجية من النار؟
لقد مرَّت مئات السنين ولم تتغيَّر النصوص المذهبية، فلم تكترث النفوس المشتتة بين الفرق إلا بما بين يديها وبما يتم تلقينها به. واستمرت السنون الطويلة المؤرقة في دورانها، ولم تكتمل دورة العنف والصراع العنيف، تارة بالنص وتارة أخرى بالسيف.
استكانت المذاهب الإسلامية إلى الأمر الواقع، حيثما تعددت المذاهب في دولة تقاربت فيها الأعداد، وتعايشت. واستمر العراك بينها حيثما كانت الغلبة لمذهب على المذاهب الأخرى.
أتعددية هي تلك التنوعات في الأفكار المذهبية؟ ندعو إلى الله من كل قلوبنا أن يكون ذلك كذلك. لكن...
لا تعددية في المقدّس، فالمقدَّس واحد؛ إذن، فالتعددية المزعومة في المذاهب هي مجرد سراب ما دام سيف الردة مسلط على كل كبيرة أو صغيرة. ولكي تصبح تعددية موضوعية فلا بد أمامها إلا أن تسلك سبيل الحوار، أي الاعتراف بالآخر، والاعتراف بحريته في الاختيار بعيداً عن تكفيره بحجة البعد عن النص.
ولأن النص يحتاج إلى التأويل، فمن غير المبرَّر أن يكتسب التأويل صفة القدسية، مثله مثل النص. إذن، لو اقتنع المتمذهبون بأن التأويل ليس مقدَّساً، لشقَّ -حينئذٍ-الحوار المتكافئ طريقه بين المتمذهبين، فتصبح التعددية موضوعية ومفهومة بالفعل.
وإذا كنا نرفض المذهبية، كواقع للتفتيت، فإننا نرحِّب بالتعددية كطريق للإغناء وليس للإلغاء. أما أن تدَّعي كل فرقة بأنها الناجية وحدها من النار، فهي مؤمنة في الدنيا وتتحمل مسؤولية إعادة الفرق الأخرى إلى الإسلام بالسيف أو بالاستتابة، فبذلك تصبح الفرقة هي الإسلام كله، أما الفرق الأخرى فتصبح الكافرة/ المرتدة عن الدين... وبهذا يتحول دين الإسلام، كدين للفطرة، إلى معادلة جديدة ومُستَغربَة، لأنه فيها تصبح الفرقة/ المذهب هي فرقة/ مذهب الفطرة. فالدين ليس فطرة، بل الدين هو الاقتناع، فلا إكراه في الدين.
فالناسخ والمنسوخ في القرآن هو مبدأ للتجديد وليس مبدأً للتجميد. يقول ابن خلدون: «ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفاً من الله بعباده وتخفيفاً عنهم، باعتبار مصالحهم التي تكفَّل بها»([1]).
وما تغير الأحكام في السنة النبوية، بين مرحلة وأخرى، إلا دليل آخر على العطف على مصالح العباد. وما تغير أحكام أصحاب المذاهب واقتناعهم بضرورة الاجتهاد،التي جمَّدها اللاحقون بهم و عَدُّوها مقدسات أخرى، إلا دليل آخر وعطف آخر.
أصبح واضحاً، من خلال نتائج بحثنا، أن اتفاق المسلمين-على حقيقة مذهب موحَّدٍ يُجمِعون كلمتهم عليه فيصبح الجميع ناجين من النار-من المستحيلات. فأصبح لزاماً عليهم أن يعودوا بمبدأ الردة، الذي نُحِرَ على مذبحه ملايين المسلمين، إلى الثابت الإلهي الذي يُحذِّر من استخدام الإكراه في الدين، ودعا الرسول لأن يكون مُبلِّغـاً وليس مسيطراً. وإذا كان الإكراه ممنوعاً في الدين فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى المذاهب؟
إنه من أجل أن لا يعجب ربنا تعالى من الأسارى الذين يُقادون إلى الجنة بالسلاسل، كما يقول ابن كثير، نحسب أن إعادة النظر في مبدأ الردة القائم على قتل المرتد- وفي مبدأ الفرقة الوحيدة الناجية من النار، يشكل متنفساً مرحلياً أمام المذاهب الإسلامية المختلفة كي يعترف بعضها بالبعض الآخر، فيحترم خياراته. ولن يكون من نتائج ذلك إلا ندماً على دماء سالت في الماضي، وحقناً لدماء قد تسيل في الحاضر والمستقبل من جهة؛ وإبعاد المنافقين-الذين نجبرهم على النفاق-عن أن يكونوا مسلمين بالإكراه؛ فخير للمسلمين أن تنقص أعدادهم وأن تكون صفوفهم نظيفة من كل نفاق من أن يكون عددهم كبيراً وأن يكون مصدر ذلك عدد المنافقين الذين لن يفيدوا الإسلام في شيء إلا زيادة تضر ولا تنفع من جهة أخرى.
وإنه ستتحقق نتائج مذهلة في دفع الإسلام والمسلمين إذا اعترف الفقهاء بأن للعقل دوراً عليه أن يلعبه، وأن يبتعدوا عن تعطيل مَلَكَةٍ من أهم ما وهب الله للإنسان. أم هل يظن الفقهاء أن عين الله الساهرة تطمئن إلى عشرات ملايين المُقَلِّدين التي تلهج باسمه خوفاً، أم تطمئن أكثر إلى عقل واحد يبتهل إليه بلسان الوعي والإدراك؟
لقد حصلت مصالحة بين العقل والدين في الغرب المسيحي، يقول ديورانت: «إننا مَدِينون في الغرب[للفلاسفة] بالحرية النسبية التي ننعم بها في الفكر والكلام والعقائد وبسببهم استطاعت ديانتا [المسيحية] أن تتحرر أكثر فأكثر من الخرافة البليدة الكئيبة، واللاهوت الذي يبتهج للتعذيب وبسبب هؤلاء فإننا هنا الآن [في الغرب] نستطيع أن نكتب دون خوف ولا وجل، ولو مع شيء من اللوم»([2]).
وفي المقابل، وفي الشرق الإسلامي، واصلت: «قوى الظلام جهادها ضد العقل والمدافعين عنه، فتحرق الكتب، وتعدم كل من كتب كتاباً لا يعجبها، تبيح دم كل مثقف عرف المسؤولية، تاركة الجهل يأخذ مداه الكامل... وها هي تتحرك طليقة في الشوارع والمدن والقرى مستقوية بأعداء العقل والإنسان الذين يريدون لشعوبنا أن تظل غارقة في ظلمات الجهل والخرافة»([3]).
هناك، إذاً، حضارة متقدمة من دون محاكم للتفتيش؛ وهنا تقبع محاكم التفتيش من دون حضارة، بل مع التخلف والجهل والأمية. لقد اجتاز الغرب مسافة الردة عن الدين، وها هو اليوم ينعم بعطايا الله سبحانه وتعالى. أما نحن فما زلنا نعيش ونحيا في زمن الردة وعقوباتها، لكننا لا نحظى من نعم الله بما حظي به الغرب؛ وليس ذلك فحسب، بل إننا ننكبُّ-أصوليين وعلمانيين-على استهلاك إنتاج حضارته بشراهة لا مثيل لها!!!
استقلَّ العقل هناك فانتفحت الأبواب أمام الإنتاج العلمي والفكري؛ وهنا يستمر التضييق على العقل بحجة أن النقل عن السلف يكفي حاجاتنا وحاجات العالم معنا، فلم نستطع أن نسُدَّ حاجاتنا على الإطلاق، وبقينا نرتع في الجهل والتخلف والمرض…فإذا كانت الشراكة بين العقلين الديني والعلمي غير ممكنة، لكن لكل منهما «حقله وبذاره و عُدَّة عمله، ونتاجه...»([4]).
هل الفلسفة، كوسيلة من وسائل العقل، هدف قائم بذاته؟
إن الفلسفة وسيلة من وسائل العقل للارتقاء بالمجتمع الإنساني من حال اجتماعية-فكرية متخلفة وغير مقبولة لتناقضها مع مقتضيات الواقع الحاضر، إلى حال أكثر تقدماً وأكثر استجابة لمصالح المجتمع البشري. وهي تمارس دورها-كوسيلة لا تتوقف-في سبيل سعادة البشرية .وتتوقف الفلسفة عن لعب هذا الدور في الحالة التي يبلغ الإنسان فيها سعادته المطلقة؛ فهو حينئذٍ يصل إلى حالة إشباع حاجياته المادية والروحية... لكن يُعَدٌّ الوصول إلى مثل هذه الدرجة من الإرتقاء طموحاً طوباوياً، فالمطلق ليس من خصائص الكائنات البشرية، فتبقى الفلسفة، إذاً، في موقع الوسيلة وليس الهدف.
لن تقف الفلسفة-كما نحسب-في مواجهة مع الدين، لأن الدين أيضاً هو وسيلة تبتغي قيادة الإنسان إلى بلوغ سعادته في الدنيا وفي الآخرة. ولأن السعادة المطلقة طوباوية فلم يصل الدين حتى الآن، ولن يصل، بالإنسان إلى هذه النتيجة المطلقة.
فإذا تحوَّل الصراع بين الفلسفة والدين من صراع حدود إلى صراع وجود، يرتكب كل من المتصارعين إثماً كبيراً. لأنه في مثل هذا المشهد يقف كل طرف إلى جانب مبادئه بقوة مملوءة بالتعصب والانغلاق. فهل يمكن أن يكون الصراع بينهما صراع حدين متناقضين، أم صراع متكاملين، أم أن هناك حقيقة ثالثة؟
الهدف بين الطرفين واحد. فالفلسفة تعمل لبلوغ الهدف عن طريق العقل؛ والدين عن طريق الإيمان. فإذا وضع كل منهما مسلَّماته وبنى سدوده المضادة للاختراق، تكون النتيجة ولادة التعصب عند كل من الطرفين، وإذا أصبح التعصب متراساً لكل منهما، توقفت عملية التفاعل، فالتطور والتغيير.
أما بالنسبة للجانب الفلسفي، عبر تاريخه الطويل، فقد أثبت أن الفلسفة تسير بخط صاعد متطور، يبني اللاحق على السابق، إما بنقده وإعطاء البديل، وإما بنقضه وإزاحته من الساحة؛ فلم يقف الصراع في داخل الفكر الفلسفي برهة واحدة في التاريخ، ولم يتوهم الفلاسفة مرة أنهم أمسكوا الحقيقة المطلقة من رقابها. ولم يدَّعوا أنهم أمسكوا حقيقة ممتنعة على النقاش، ولم يحكم فيلسوف على آخر بالحرق والقتل، ولم يأمر صاحب فكر بإحراق كتب مفكر آخر...
أما بالنسبة للجانب الديني، وعبر تاريخه الطويل، سواءٌ أكان ديناً سماوياً أم ديناً وثنياً فقد حفل تاريخ كل منها بالتعصب والقداسة ومحاكمة الخصوم بالردة والتكفير والقتل والإحراق والإجبار على تجرع السم.. .ولم يقف الأمر عند هذه الحدود وإنما تجاوزتها إلى إنزال العقاب برفات الموتى بحق أصحاب الفرق المتفرعة عن الدين ذاته.
لم تترك الأديان مكاناً للحوار مع الآخر، سواء كان ذلك مع أصحاب الأديان الأخرى أو مع الفرق المولودة من رحمها. لكننا اليوم نسمع من هنا أو هناك ما يُسمَّى بحوار المجاملات بين الفرق وبين الأديان، ويصح تسمية هذا الحوار بحوار التقية. ولكن هل، في مثل هذه الحال، من كلمة سواء؟
يدعو رجال الدين، أو علماء الدين، أو فقهاء الدين، إلى وحدة الأديان لكنهم لا يفعلون، وهم لن يفعلوا فسيف الاتهام بالردة مسلَّط على رقابهم؛ فماذا يفعلون أمام ما يحسبونه نصاً مقدَّساً يأمر بقتلهم إذا ما اعتقدوا أن هناك أدياناً أخرى تضارع دينهم وتضاهيها في الوصول إلى معرفة الحقيقة الإلهية؟
-يعتقد المسلمون بوجوب قتل كل من ارتدَّ عن دينه...
-ويعتقد المسيحيون واليهود بوجوب قتل المرتد قتلاً، وأن تكون يدك عليه أولاً، ثم أيدي سائر الشعب؛ وسيان أن يكون المرتد من الأقربين أو من الأبعدين
فأين هي الكلمة السواء؟ ألا تصب الدعوة، التي يطلقها الجميع، سوى في دائرة المجاملات في سبيل حفظ التوازن في الرعب الذي يزرعه كل طرف في نفس الآخر؟
عرف الجميع تاريخياً- ويلات الاحتراب، فوضع اليوم- كل منهم سيفه في قرابه. دفع الجميع الكثير والكثير من الدم والآلام والعذابات، ظناً من كل طرف أنه بالغ الوعد الإلهي الذي يحسب أنه أُعطِيَ له وحده- فهذا شعب الله المختار، وتلك خير أمة أُخرِجَت للناس...
من بعد أن استفاق الجميع على ما ولدته حروب إلغاء الوجود بين الأديان السماوية، ومن بعد أن رأوا الجثث والجماجم جبالاً، والدماء أنهاراً، وآلام نيران جهنم الدنيا تجتاح كل المؤمنين المتقاتلين وتنهش في نفوسهم عذابات لا تنتهي، استسلمت الأطراف، فرفعت شعارات الوحدة، كهدنة غير ثابتة، لأن النص جاهز لفتح جبهات القتال الواسعة المقدَّسة... أو ليس هناك من يجرؤ على إعادة النظر في ما يحسبون انه نص مقدَّس يأمر بالقتل، فيبقى الإصبع على الزناد...؟
فإذا كنا نضرع إلى الله بملء حناجرنا لرؤية الإشكالية بوضوح، وليس بالدعوة إلى عقد اتفاق مؤقت، بين شتى الفرق والأديان المتحاربة، ليس لمنع استخدام أسلحة الدمار الشامل (الاتهام بالردة عن الدين)، بل إننا ندعو إلى تدمير مصانع هذه الأسلحة في سبيل أن نضمن عدم إنتاجها، وإلا فإن كل دعوة غير ذلك لن تضمن إلا هدنة مؤقتة و هشَّة. لأننا نكون كمن ينزع الفتيل ليُبقي القنبلة جاهزة. فكيف يحصل ذلك؟
استناداً إلى مبدأ الردة سوف يبقى الأمر بالقتل جاهزاً في يد أي رجل دين. وهذا المبدأ كما يحسب أي متدين يأخذ بظاهر النص- هو أمر إلهي لا يجوز التردد في تنفيذه متى صدر الأمر بذلك. ويعلم كل رجال الدين وعلماؤه أن زمام الأمر لن يكون ممسوكاً، دائماً، من فقيه مُتَعقِّل، بل يمكن أن يُعطي فقيه/ رجل دين في لحظة من لحظات الغضب أو التعصب، حيث يحلم فيه أنه يُنفِّذ حكم الله، وهو لن يرى في مثل تلك اللحظة إلا أبواب الجنة مشرَّعة أمامه على مصراعيها، ولن يتورَّع متدين يأمره صاحب الفتوى بالقتل عن ارتكاب ذلك واعداً نفسه بالجنة بشكل مضمون.
فهل ليس من حل أمام علماء الدين لحماية الدين إلا بقتل المرتدين أو المشركين؟
«إن الإبقاء على التقليد، الذي انتهى عصره، يعني فرض إطار ضيق على كيان الإنسان وروحه اللذين يتَّسعان إلى ما لا نهاية»([5]). ولهذا يجب أن ننظر إلى المستقبل بنظرتين: «أولاهما النظرة النقدية للتراث، والاستعداد لتقبُّل التغيير فيه. والثانية هي النظرة النقدية للحداثة باعتبارها مرحلة عابرة في تاريخ حياة الإنسان، وليست آخر مراحل التاريخ»([6]).
«فالعقل النقدي هو الذي واجه الاستبداد السلطوي وحده، وأنتج نظرية علمية/ عالمية للمعمورة؛ فتحرره أعطى فرصة للعقول الاعتقادية لكي تتحرر هي الأخرى، وتخرج من ظلمات المهجورة وإن العقل العلمي هو عقل لا إمتناعي، لا إمتثالي، لا سلطوي والفرص متاحة لشراكة بينه وبين عقول إعتقادية متحررة من عقدة إلغاء الآخر واستئصاله...»([7]).
خلق الله للبشر عقلاً ليستخدموه وسيلة في سبيل سعادتهم، وهو لن يعطِّل نعمة أنعم بها على عباده. وهو لم يخلق عقلاً يهودياً ولا عقلاً مسيحياً و لا عقلاً إسلامياً ولا عقلاً بوذياً... بل هو، أيضاً، لم يخلق عقلاً كاثوليكياً  وآخر بروتستانتياً أو أرثوذكسياً. وهو لم يخلق عقلاً خاصاً بالسُنَّة ولا بالشيعة... بل خلق عقلاً واحداً للبشر كلهم ... فلا تحبسوا العقل في قماقم المذهبية ولا تعطلوا قواه، ولا تجعلوا له حدوداً تأسرونه فيها، لكن... فلتكن منكم هيئة رقابة واعية، أعضاؤها من المتعقلين الأحرار بعقولهم... الملتزمين بمصالح عباد الله...
***




([1])  ابن خلـدون: المقدمــة: دار الفكر: بيروت: 1978: ط1: ص441.
([2]) ديورانت، ول :قصـة الحضارة (م38): م . س : ص 264-265.
([3]) راجع النص الكامل لبيان مجموعة من الكتَّاب والمثقفين والفنانين العرب في: ذهنيـة التحريم: لصادق جلال العظم: م . س : ص   405-408.
([4]) خليل، خليل أحمد: العقل في الإسلام: دار الطليعة: بيروت: 1993 ط1: ص41.
([5])  خاتمـي، محمـد: م . س : ص 74.
([6]) م . ن : ص 78.
([7])  خليل،خليـل أحمد:العقل في الإسلام: م . س : ص 41.

ليست هناك تعليقات: