على قاعدة وحدة العراق وعروبته
وفي ظل المآزق الغربية الحادة
من العراق ابتدأت، وفي العراق ستنتهي.
من العراق بدأ المخطط في بناء إمبراطورية رأسمالية أميركية تحكم العالم بعد أن تهاوى الاتحاد السوفياتي، وكل الدلال تؤكد أن تلك الإمبراطورية ستُقبر في أرض العراق، وتذوي كل أوراقها، وتذروها رياح الصحراء العربية. وما يجري الآن من مفاوضات مكوكية تنسق إدارة أوباما خيوطها، وتفصل أدوار حائكيها، وتدير اجتماعاتها، وتوزِّع أدوار اللاعبين على ملاعبها، وتحدد حصص الإرباح لكل مشارك فيها، إلاَّ مظاهر ضعف وليست كما تبدو مظاهر قوة.
ودليل مظاهر الضعف تلك تتبيَّن من اختلاف المشاهد باختلاف نتائج احتلال أميركا للعراق. فلو استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تثبِّت أقدام احتلالها في العراق، لكان باستطاعتها أن ترتِّب أوضاع الوطن العربي من دون جهد أو عناء، ومن دون مساعدة من أحد. إذ كان يكفي الإمبراطور الأميركي أن يأمر هذا النظام فيذعن لأوامره، وأن يطلب من ذاك توجيه غيوم ثروات بلاده إلى سماء أميركا لتمطر فوقها لفعل من دون تردد. وحتى أوضاع دول الإقليم المجاور للوطن العربي كانت موضوعة حكماً على روزنامة رعايا الإمبراطورية الأميركية، وما كان لأحد منها مفر من الإفلات من القبضة الحديدية. وهنا لا بُدَّ من القول: إذا كانت هذه الدول تدري هذه الحقيقة وتعمل الآن على إنقاذ الولايات المتحدة الأميركية من مآزقها فهي مصيبة، وإذا كانت لا تدري فالمصيبة أعظم.
ومن أهم مآزق الولايات المتحدة الأميركية الآن هو أن مشروع احتلالها للعراق قد فشل فشلاً ذريعاً، فراحت إدارة أوباما تعمل على الالتفاف على الفشل، لعلها تستطيع أن تعيد إنتاج الاحتلال بوسائل أخرى. وهذه المرة استنجدت بتركيا، فأغرتها بالكثير من الوعود، لعلَّ أكثرها إلحاحاً السماح لها بدخول نادي الدول الأوروبية، وتخصيص حصة لها في مشروع ترتيب أوضاع الوطن العربي على ضوء النتاج الذي تجنيه مما تسميه (الربيع العربي). فاستجابت تركيا للإغراءات، خاصة أن هذه المرحلة التي ينوء فيها الاقتصاد الرأسمالي الغربي تحت أثقال كبيرة، تشهد تنسيقاً أميركياً أوروبياً لم تعرفه علاقاتهما منذ احتلال العراق، مما يشكل قناعة لدى نظام أردوغان بأن الوعود التي تُغدَق عليه ليست وعوداً عرقوبية، وإن منظومة الدول الأوروبية ستفي بهذا الوعد لأنها شريك أساسي للولايات المتحدة الأميركية فيما يجري الآن.
واستناداً إلى هذا تعمل أميركا الآن على تسوير حدود الوطن العربي بقوى من الإقليم المجاور. ولهذا تستخدم النظامين التركي والإيراني لترتيب الوضع العراقي من أجل تحقيق ما عجزت عنه بالاحتلال المباشر، وذلك بوعدهما بحصة مجزية من الأرباح تغري التاجر الشاطر بقبولها.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد بدأت مشروعها من العراق، ففي العراق سينتهي. ولا إمبراطورية أميركية من دون عراق يدين بالولاء لها، ويؤدي أمام عرش إمبراطورها مراسم الطاعة والإذعان. ولهذا السبب تستبق إدارة أوباما لحظة إنهاء احتلالها الأخيرة للعراق، بالعمل على توفير ظروف ملائمة لتجديد احتلالها، ولكن هذه المرة ليس على قاعدة احتكار الأرباح لنفسها، بل على قاعدة مشاركة حلفائها بجزء منها يسيل لحجمه لعابهم.
أما بالنسبة لتركيا وإيران، وعلى عكس احترامهما لقواعد الجيرة الحسنة التي لو تقيَّدا بها فإنها كافية لتقوي أوراق الجار والمجاور، أي تقوي أوراق الوطن العربي وأوراق جيرانه، فقد شارك الجار الإيراني باحتلال العراق منذ لحظاته الأولى. أما الجار التركي، فقد امتنع في البداية، وبرهن على أن امتناعه كان ينطلق من أن المحبوب التركي عرف مكانه من الحبيب الأميركي فتدللا. وتوهَّم كلٌّ منهما أنه في هذه المرحلة قد تحوَّل إلى لاعب أساسي بمجرد أن استنجدت به إدارة أوباما، وهو لا يعلم أنه مجرد بيدق تستخدمه تلك الإدارة في مراحل ضعفها الراهنة، ولا ضير عندها أن تضحي به من أجل سلامة الملك.
بداية نقولها: فشل الاحتلال الأميركي على الرغم من مشاركة النظام الإيراني زائداً ثلاثاً وثلاثين دولة، هذا بالإضافة إلى أن الخزينة الأميركية كانت مُتخَمَة بالأموال. والذي تغيَّر في المشهد هو أن النظام التركي جاء ليحل مكان تلك الثلاث والثلاثين، زائداً خزانة أميركية تئن من عجز كبير يكاد يعصف بالأمن الاجتماعي والاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية، هذا إذا لم تكن بداية انهيارها. وهذا يعني أن تركيا دخلت على خط المشاركة في الظرف والمكان الخاطئ، لأن التحالف الجديد بعد دخول تركيا إلى صفوفه لن يصل إلى حدود إعادة التوازن المختل لصالح المقاومة الوطنية العراقية، التي تمتلك الكثير من عوامل القوة، وبين ما تبقى من عوامل قوة للاحتلال، هذا إذا ظلَّ لها عوامل قوة.
بالإضافة إلى كل ذلك، استطاعت المقاومة الوطنية العراقية أن تزلزل الأرض تحت أقدام الاحتلال من دون معونة من أحد، حتى إنها لم تتلق أي دعم من تركيا في مرحلة علاقة هذه الأخيرة التي كانت باردة مع الولايات المتحدة الأميركية. وهذا يعني أن دخول تركيا على خط مشاركة الاحتلال الأميركي بمخططاته الجديدة، لن يؤدي إلى نقص في أي عامل من عوامل القوة التي تمتلكها المقاومة العراقية، كما أنه لن يؤدي إلى أضافة عامل قوة لأميركا في العراق.
ولهذا كله ما يزال قرار الحسم بيد المقاومة. وهذا الاستحقاق الأخير، أي الانسحاب الأخير المفترض، الذي ينتظر أميركا أصبح على الأبواب. فهل تعيد تركيا حساباتها؟ وهل تتعلَّم إيران من دروس فشل الاحتلال الذريع الذي شاركت فيه؟ وهل آن لها أن تقوم بإعادة ترتيب حساباتها، وإعادة جدولتها، ليس من رؤية أخلاقية جديدة فحسب، بل برؤية حسابات المصالح الجديدة وروحيتها أيضاً؟
إذا كنا، في هذه المرحلة نراهن على أن العراقيين، باستثناء قلة منهم أُتخمت على حساب وطنها ومواطنيها من السرقة والنهب، سيختارون أخيراً مصلحة وطنهم العراق. نؤكد هذه الحقيقة لأن تجربة الاحتلال كانت أشد مرارة من أي تجربة أخرى مرَّت على العراق طوال تاريخه، الأمر الذي لن تُمحى آثار مرارته من ذاكرة العراقيين، كل العراقيين، خاصة أنها غيَّبت الأمن السيادي للعراق بكل أوجهه العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان البعض منهم قد ضلَّ عن سواء السبيل لظروف مرحلية، إلاَّ أن ما نراه في أفق العراق أن العراقي سيتلاقى مع أخيه والدمع في عينيه، والحب يملأ قلبه، وسلاحهما المقاوم سيتوحد في مواجهة كل ألوان الغزاة وأشكالهم. وسيغفر البعض منهم للبعض الآخر هنات وزلاَّت قد ينزلق إليها الإنسان في لحظات ضعف أو في ظروف قاسية يفقد فيها عامل الرؤية الصحيحة للواقع. وكل العراق سيجتمع على قلع أظافر من تسوِّل له نفسه البقاء على أرض العراق، سواءٌ أكان من دول الإقليم المجاور، أم كان من غيره. وسواءٌ أكان ذلك البقاء مباشرة أم كان بالواسطة.
واستناداً إلى الرفض العراقي الشعبي العارم، إذا كنا على غاية من الاطمئنان إلى أن الجرح الداخلي بين العراقيين سيتماثل للشفاء حالما يُنهي الاحتلال وجوده مرغماً، فلنا كلمة نتوجَّه بها إلى القوى الإقليمية، وتحديداً إلى إيران وتركيا، لنقول:
ما عجزت عنه أميركا في عز قوِّتها لن تستطيع تحقيقه في أكثر لحظات تاريخها ضعفاً. وهذا ما يؤدي بنا إلى الاستنتاج، أن رهان الاحتلال في ظل هذا الواقع على إعادة إنتاج نفسه، لن يكون أقل من رهان خاسر. ولكن إذا بلغت الأوهام بكل من إيران وتركيا درجة تجعلهما يحلمان بالاستفادة من لحظة الضعف الأميركي ليعيدا إنتاج إمبراطوريتهما اللتان سقطتا بفعل التاريخ، فهما ضعيفان في رؤيتهما للتاريخ الغابر، وكذلك للواقع الحاضر. ولهذا نرى من المفيد التذكير بأهمها:
-سقوط النزعة الإمبراطورية الفارسية منذ خمسة عشر قرناً تحت ضربات الثورة الإسلامية بقيادة النبي العربي، يؤكد أن ما مات منذ التاريخ السحيق لن يُسمح له بأن يحيا من جديد.
-سقوط النزعة الإمبراطورية الصفوية منذ خمسة قرون تقريباً بفعل حدة الصراعات التركية – الصفوية، تلك التي خيضت تحت عباءة الصراع السني – الشيعي. نرى من خلال ما يجري الآن أن أردوغان، الذي وصل إلى رئاسة الحكومة التركية بقوة الحركة الإسلامية السنية، سيلعب الدور ذاته. وهذا يعني أن هناك مشروع حرب دائمة بين الجارين الإيراني والتركي.
-سقوط النزعة الإمبراطورية العثمانية منذ قرن تقريباً، تلك التي حكمت باسم الإسلام لقرون عديدة، وكان قد بدأ سقوطها بفعل وعي ذاتي عثماني اخترق صفوف الطبقة العثمانية الحاكمة أولاً، بحيث سقطت كلياً بفعل الحرب العالمية الأولى ثانياً. وهنا، لا بُدَّ من تذكير أردوغان الطائر على أحلام وهمية، أن من أسقط تلك الإمبراطورية لن يسمح لها بإعادة إنتاج نفسها من جديد.
إن استنهاض النزعة الإمبراطورية، الفارسية والعثمانية، في هذه المرحلة، يتم تحت شعارات وأهداف إسلامية متناقضة ومتنابذة. الأولى اتخذت عباءة (ولاية الفقيه)، والثانية اتخذت عباءة (إعادة إحياء الحكم الإسلامي)، وعلاقة حكم أردوغان بالأصولية الإسلامية ليست خافية على أحد. كما أن العلاقة الحميمة بين تلك الأصوليات مع مشروع الشرق الأوسط الجديد واضحة المعالم والحدود. فكل من القوتين، إيران وتركيا، تخطط للحصول على حصة لها من ذلك المشروع الخبيث.
وهنا لا يسعنا إلاَّ تسجيل المضمون الفعلي للتحالف بين الغرب طرفاً أول، والقوى الإقليمية طرفاً ثانٍ، يقوم على دعامتين اثنتين: ضرب المشروع القومي العربي بالعمق، وتقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ ومصالح. هذا ناهيك عن أن احتواء الولايات المتحدة الأميركية، لخدمة مشروعها الراهن، بكل من إيران وتركيا يحمل أكثر الأهداف خبثاً، وهو العمل على خلق بؤرة صراع سني – شيعي دائم في المستقبل، تنشغل به القوتان الإقليميتان، وتلتهيان به أيضاً عن حماية كيانيهما القوميين. وهذا الاحتمال يوفر للغرب أيضاً مناخاً أمنياً مناسباً لتعزيز قوته على حساب إضعاف قوى الإقليم وإشغالهما بمخاوف متبادلة، أو بحروب متواصلة.
وحيث إن النزعة الإمبراطورية الأميركية شهدت مصرعها الأخير على أرض العراق، فهل ستسمح المقاومة العراقية بإعادة إحياء النزعات الإمبراطورية الإقليمية؟
وإذا كانت تلك النزعات بشتى أشكالها وألوانها ومصادرها تعمل على اختراق الحراك الشعبي العربي، وتحقق نجاحاً هنا أو هناك، فإن مقبرتها ستكون في العراق لأن فيه قوى الثورة المختزنة غير المخترقة، والتي لا يمكن أن تُخترق، والدليل الآن واضح من خلال تحالف المقاومين العراقيين والشعب العراقي معاً. إن الأحلام التي تراود إيران وتركيا تنمو وتتزايد في مرحلة تظهر وكأن الساحة خلت لهما، إلاَّ أن مراجعة استراتيجية بسيطة يجب أن تدفعهما إلى مراجعة مدى واقعيتها ودرجة نجاحها.
وهنا، نتوجه من منطلق الحرص على بناء نظام إقليمي – عربي إلى قول ما يلي:
-لا مصالح مضمونة لأطراف النظام الإقليمي إلاَّ وفق قواعد الجوار الحسن وشروطه القائمة على الاعتراف بمصالح كل طرف فيه.
-إن العمل على تقسيم الوطن العربي سيشكل الإسفين الأخطر في تهديد دول الإقليم من تقسيم مشابه في مراحل لاحقة.
-إن مساعدة الغرب على استعادة سيطرته على أقطار الوطن العربي، خاصة تحت دخان الحراك الشعبي العربي، أو ما أطلق عليه الغرب مصطلح (الربيع العربي)، لهو حفر قبر جديد لكل من يتوهم أنه سيحافظ على مكتسبات قد يحصل عليها في هذه المرحلة. لأن الغرب لن يترك لأحد دوراً مؤثراً في المستقبل.
-إن مشروعية أن تعمل كل دولة لضمان مصالحها لن تتم ترجمتها إلاَّ بالاعتراف بحقوق ومصالح الدول الأخرى. وهنا، وللخروج من الأوهام التي تسيطر على عقل النظامين الجارين للوطن العربي، لا بُدَّ لهما من الخروج من أوهام النزعات الإمبراطورية، والعودة إلى الاعتراف بالدولة القومية ذات الحدود والحقوق المعترف بها دولياً.
وحيث إن استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية، بشكل خاص، والغرب بشكل عام، هو القضاء على المقاومة العربية واجتثاثها. ولما عجزت عن القضاء على المقاومة الوطنية العراقية من داخل العراق، فإنها راحت تلتفُّ عليها من خارج لحصارها والتضييق عليها لخنقها. ولهذا فكل من يعمل على إنقاذ المشروع الأميركي، وكل من يعمل على التضييق على المقاومة العراقية، هو كمن يحفر قبره بيديه. فهل ما يزال النظامان الإيراني والتركي مُصرين على رهانات وأوهام ستكون خاسرة لهما في المستقبل؟ أم هل آن لهما أن يلتقطا فرصة اللحظة الأخيرة قبل حلول العام 2012، فيوفرا على نفسيهما، كما على العراق، الكثير من الآلام والمآسي؟ وأما السبب فيعود إلى أن العراقيين كلهم سيتابعون معركة تحرير الأرض لاستعادة وحدة وطنهم وعروبته.
إننا، وإن كنا نعلم أن مناشدتنا من قبيل الأماني، فهذا لا يضير من ينطلق من ثوابت علاقات الجوار الحسن بين الدول قاعدة له. ولعلَّ وعسى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق