الجمعة، ديسمبر 09، 2011

إخترنا لكم من أرشيفنا الخاص/ البعد الإيماني في فكر صدام حسين

-->
البعد الإيماني في فكر صدام حسين
عرف حزب البعث، منذ بداية المرحلة (1977-1992)، نشاطاً فكرياً متميزاً، أسهم في إنتاج فكري مواكب  لتجربة الحزب في قيادة سلطة سياسية. كانت تلك النقلة من خلال تجربة حكم الحزب في العراق. وتجسَّدت في تجربة الأمين العام للحزب، الرئيس صدام حسين*.

أولاً: مبادئ حزب البعث هي المبادئ المعاصرة للأمة العربية

تبلورت رؤية صدام حسين الفكرية من خلال أحاديثه وكتاباته، منذ أوائل السبعينيات.  ومن خلال مواكبتنا لبداية نتاجاته الفكرية، منذ العام 1976، وجدنا أنه  حدَّد تقسيمات فكرية استراتيجية بين البُعدين: القومي والديني. وإلى أن نتتبَّع ما حصل من تطورات فكرية تجديدية أخرى، نرى من المفيد أن نستخلص أهم خطواته بما يساعدنا على رسم خط بياني واضح لبداياته الفكرية حول تلك المسألة تحديداً:
يرى الأمين العام للحزب علاقة الفكر القومي بالفكر الديني، والإسلامي منه بشكل خاص، من خلال بُعد تاريخي قديم وبُعد تاريخي معاصر، أي من خلال التراث والمعاصَرة.  كما ينظر إليها  من خلال ثلاثة أبعاد: حزبية، فكرية، وتنظيمية وسياسية.
1-تمايز مبادئ الحزب عن مبادئ تيارات التغريب والاغتراب:
يرى الأمين العام أن علاقة التراث بالمعاصرة تستند إلى منهج كتابة التاريخ، وقراءته أيضاً. فهو يرفض المنهج الذي يفصل بين المراحل التاريخية للأمة، خاصة تلك التي سبقت الإسلام، والتي يقصد أصحابه التنكر «لدور العرب في الرسالة الإسلامية التي انبثقت في أرضهم»، أما المنهج الآخر «فقد يُغفل قيمة الإسلام كثورة في حياة الأمة».  وهو يرد على المنهج الأول بأنه من غير الممكن أن تحدث ثورة، بحجم ثورة الإسلام، «إذا لم تكن الأمة التي تنهض بها أمة حية وفي مرحلة مخاض عسير» ([1]). فمن الخطأ، إذاً، «أن يُنظر إلى تاريخنا وكأنه كان فارغاً أو مخجلاً قبل الإسلام» ([2]).
ومن جانب آخر، يرى الأمين العام أنه كي «لا تبدو هذه الأمة وكأنها خُلِقت بالإسلام، بما يقوّي منطق الرجعية الدينية المتخلفة، وبما يعني أننا يجب أن نكون حزباً دينياً يجب أن ندعم نظريتنا بالتاريخ القديم مؤكدين أن تاريخ الأمة العربية يمتد إلى عصور سحيقة في القِدَم، وإن كل الحضارات الأساسية التي نشأت في الوطن العربي إنما هي تعبير عن شخصية أبناء الأمة» ([3]).
2-ثوابت البعث الفكرية حصانة استراتيجية:
يرى الأمين العام أن نظرية حزب البعث «هي النظرية الصائبة لحياة العرب في الوقت الحاضر، مع إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً، لأجل ألاَّ تتحوَّل نظريتنا إلى مذهبية جامدة، فننغلق عليها، ونقتل روح المبادرة والاجتهاد»([4]). لكن، وبما أنه «لا توجد نظرية للحياة تصلح لكل الأمم»، وحيث إن «نظرية الحياة الأممية حاصل الجمع لتفاعل نظريات كل الأمم، هي النظرية الصالحة»، لا يمكن أن نقول إن نظريتنا البعثية «يمكن أن تصلح كلياً» للبلدان الأخرى ([5]).
ويرى، أيضاً، أن منطلقات الحزب مقياس أساسي نقيس عليها القضايا الأخرى، ففلسفته «ليست التراث والدين بحد ذاتيهما»، بل هي ما تعبِّر عنها منطلقات الحزب الفكرية والسياسة المتصلة بها. ولأن منطلقات الحزب هي الأساس، يلعب الماضي، والدين جزء أساسي منه، دوراً مركزياً، فيشكِّلان «رافدين أساسيين وحيويين». لكن منطلقات الحزب ليست حصيلة جمع الماضي والدين. و«إنما هي نظرة شمولية متطورة للحياة، وحل شمولي لدفعها ]أي الحياة[ إلى أمام عن طريق التطور الثوري وجرت صياغة ]منطلقات الحزب[ بالشكل الذي ]تعبِّر فيه[ عن واقع أمتنا، ومتقدمة عليه في نفس الوقت» ([6]).
من معالم فكر البعث أنه يعمل من أجل النهوض بالأمة «النهضة الروحية، والحضارية الشاملة، والعميقة، ذات الاستمرارية والديمومة«، و«إن أي طريق غير الطريق القومي، الإنساني، الشامل سيبقى قاصراً عن زخم خطوة البداية القومية، الإنسانية العميقة، والشاملة»، فطريق البعث «ارتقى بنضال الأمة إلى مستوى جديد لفكر جديد كلياً» ([7]).
ويرى أيضاً أن تجارب البعثيين، في المرحلة التاريخية الحديثة والمعاصرة، أصبحت جزءًا من ماضي حزب البعث، الذي أصبحت بعض نضالاته جزءًا من ماضي الأمة العربية. تلك التجارب، التي تعبِّر عن «روح الأمة واستعدادها»، استلهمت «روح البعث ورسالته»، من حيث أنه يمثِّل طوفاناً من «الإيمان والحمية، وقيم النضال، والجهاد، والفضيلة، والمجد»، فأصبحت، بدورها، مصدر إلهام للعرب في الحاضر والمستقبل([8]).
من مجموع تحليلاته، يؤكد أن حزب البعث هو «الصيغة الجديدة للتعبير عن روح الأمة» على طريق بنائها الجديد([9]). وستصبح الخصوصية البعثية، في كل خطوة من خطواتها، «تاريخاً في يوم من الأيام» ([10]).
ولأن البعث أصبح يشكل تراثاً تاريخياً للأمة، وأصبحت إنجازاته وتجاربه من الحوافز النضالية، فعلى الأمة أن ترتقي «عن طريق البعث، وما يقتضيه من تجديد روح النضال، والأساليب والأهداف التابعة في الوحدة، والحرية، والاشتراكية» ([11]).
3-علاقة التراث بالمعاصرة تشمل ما هو جامع:
أ-مقاييس التراث، كقيم وتقاليد، مقاييس نسبية:
ليست مقاييس قيم الماضي وتقاليده، كما يراها صدام حسين، ثابتة، بل «هي مقاييس موضوعية متطورة». وهي إن بدت مطلقة في مرحلة ما، فإنها «نسبية في حسابات النظرة الشمولية للحياة»، هذا ما هو ثابت في منطلقات الحزب([12]). وهنا يشير إلى أن لاستذكار التاريخ أثراً مهماً في استنهاض الهمم. فاستذكار «رموز الأمة العربية والإسلامية في صدر الرسالة الإسلامية»، كان يعطي المقاتلين «شحنة وطاقة لا حدود لها في مواجهة الغزاة» ([13]).
إن ما يتميَّز به الفكر البعثي، من خلال استناده إلى خصوصيات التراث العربي، هو أنه يتناول منه ما هو جامع، أي ما له علاقة بقادة التراث الروحي، وقادة العبقرية القومية «من الذين قدَّموا خدمة جليلة للإنسانية وللعالم كله مبتعدين عن المسائل المتعددة التي تنطوي على تباين في وجهات النظر» ([14]). لذا يستلهم حزب البعث، كما يقول صدام حسين، «دروس الأمة العميقة والعادلة، وفي المقدمة منها الإسلام»، لتأسيس نظرية جديدة اسمها حزب البعث العربي الاشتراكي، لكن على أن «لا ننسخ الماضي، ولا نستنسخ ]عنه[، وإنما نستلهم روحه بصيغة جديدة مع إعطاء الحق والحرية للإنسان في أن يؤمن بما يريد من الأديان وفق الطريقة التي يقتنع بها»، على قاعدة أن الحزب ليس حيادياً بين الإلحاد والإيمان([15]).
فعلى البعثي أن يُعطي تفسيراً جريئاً للتاريخ، «بحيث لا يكون متجنياً فيه وأن يختار طريقة مرتبطة بخصوصيته البعثية للأغراض التربوية»، وأن تتميَّز قراءته عن «المنهج والفقه الإسلامي في جوانبه المنغلقة المتحجرة لأن أصحاب المنهج الديني يُسقِطون من الحساب تفسير التاريخ للعوامل القومية والاجتماعية والاقتصادية، ويعتبرون العامل الروحي كل شيء في صيرورة الأمم، في نهوضها وفي انطفائها وانسحاقها» ([16]). كما يعطي للعرب دوراً في تبليغ رسالة الله للإنسانية في غياب الرسل، ومن أهم مستلزمات ذلك أن يحققوا وحدتهم. ومن أهم أهداف دورهم أن «يقيموا أركان العدل والعدالة الاجتماعية ويهيئوا السبل والأسباب، التي تنطلق فيها طاقات الإنسان الفكرية والعلمية إلى مداها الأرحب» ([17]).

ب-علاقة التراث بالمعاصرة علاقة تجديد:
يرى صدام حسين أن العرب انقسموا، في مواجهة الإمبريالية الحديثة، إلى تيارات متناقضة. فاستسلم البعض، عقائدياً، للدور السوفياتي، إلى الدرجة التي تناقض فيها «مع أعز ما ورث من التراث وهو الإيمان العظيم، الذي جاءت به الرسالات السماوية، وفي مقدمتها الدين الإسلامي»، واستسلم البعض الآخر لحضارة الغرب([18]). وكرد فعل على التيارين، قام البعض الثالث «باستعارة الدين في السياسة، واتخاذ الدين ثوباً لها»، ووسَّع معنى الأمة، متناسياً خصوصيات الشعوب والأمم، وتمسك بكل تفاصيل الموروث من غير أن يستحدث ما هو جديد لعصره([19]).
في مواجهة هذا الانقسام، يرى صدام حسين أن يقوم التجديد على هدي الإيمان، لينطلق من الثوابت الدينية المعروفة: وحدانية الله، العدل والفضيلة في الأرض، إقامة الطقوس والشعائر كل حسب إيمانه وعقيدته، وما عدا ذلك فهو خاضع للتجديد. ونزول أكثر من رسالة سماوية، وترك باب الاجتهاد مفتوحاً، هو دليل على وجوب التجديد لخدمة ما تقتضيه ظروف الحال المتطورة من جديد([20]). لذا يربط الأمين العام للحزب بين التراث والحداثة على قاعدة التجديد، ويرى أن رسالة الأمة التي انبثقت عن المؤتمر القومي التأسيسي كانت مرتبطة بالنضال، ولم يكن ذلك كمجرد وراثة مقومات عظيمة، بل كانت انطلاقة الحزب متجددة «في معاني ما يجعلها خير أمة أخرجت للناس»، كقاعدة «لنوع الإيمان الجديد، والفعل الجديد، والتطلع الجديد، والتكون الجديد، والممارسة النضالية، والجهادية، وليس لمجرد ما توارثته الأمة من إيمان، وتراث، ووصف لماضيها، فحسب»([21]).

ثانياً:علاقة الديني بالقومي التقاء وتمايز
1-علاقة الروح بالمادة ليس دينياً بل ضابطاً أخلاقياً
يرى أن حاجة البشر إلى الجانب الروحي ضرورية، «لإقامة حضارة تزدهر فيها قوانين الحياة، ويستقيم فيها الإنسان، وتتطور على أساسها نواميس العصر وقوانينه، في ميدان الثقافة، والصناعة، والزراعة، والفن، والعلم، وعلى أساس العدل، والإنصاف»، وبناء سعادة الإنسان، وبناء شخصيته على أساس «تاريخه وتراثه لا ليقلِّد المتعارض مع الخصوصية القومية والوطنية»، على أن يكون منفتحاً على تجارب الأمم الأخرى([22]).
أما التوجه إلى المادي، يرى صدام حسين، بدعوى أنه «قانون العصر»، فيؤدي إلى الغرق فيه، «ويتحول إلى غاية ومنطلق، بدلاً من أن يكون وسيلة لازدهار الروح والحياة معاً، وتحقيق سعادة الإنسان» ([23]). لذا لم تتحول حضارتنا العربية «لتكون مجتمعاً محكوماً بالأشياء، وعبداً للمادة، وإنما بقيت المادة لخدمة القيم العليا، وبقي الركن الروحي هو الذي يشكل مدخل النهضة» ([24]).

2-علاقة الحزب بالدين إيمانية وليست إيديولوجية سياسية:
يرى صدام حسين أن كون الحزب يعيش ضمن مجتمع متدين لا يمنع «تطبيق مستلزمات العبادة تاركين لكل إنسان حق ممارسة طقوسه الدينية في العبادة وفق دينه ومذهبه وطريقته الخاصة»، لكن الحزب لا يعالج شؤون الحياة من طريق ديني، بل «يأخذ معنى الحرية في الأديان وحرية المذاهب وحرية الاجتهادات» ([25]). وبداية لكل ذلك يرى الأمين العام، أن الحزب ليس حيادياً بين الإلحاد والإيمان([26]). وقد صاغ موقفاً من الظاهرة السياسية الدينية. وأشار إلى أن البعث «أعطى للمسألة الدينية اهتماماً بارزاً في عقيدته وفي سلوكه السياسي والاجتماعي؛ غير أن الحزب لم يدع إلى بناء دولة على الطراز الديني»، والبديل عنها يقوم على أساس «الرابطة الوطنية في إطار القطر الواحد، وعلى أساس القومية في إطار الوطن العربي الكبير» ([27]).
لذا يعتبر أن من أساسيات منطلقات الحزب أنه «ليس حيادياً بين الإلحاد وبين الإيمان، وإنما هو مع الإيمان، دائماً، ولكنه ليس حزباً دينياً، ولا ينبغي أن يكون كذلك«.  فعقيدة البعث ضد تسييس الدين من قبل الدولة وفي المجتمع، وهي «تعتزُّ بالدين بلا سياسات للدين» ([28]). ومع أن الحزب يحترم الإيمان الديني، يحذِّر صدام حسين من توزيع تهم الخيانة على أساس ديني ، إذ يوجد بين المسلمين خونة و«خيِّرون»، وينطبق الوصف ذاته على المسيحيين([29]). ويرى أن حل المشكلة تتم على قاعدة أن كل الناس أحرار أولاً، ورفض الأمراض «التي تنطوي عليها الخصوصية المحلية أو الدينية أو القومية» ثانياً، ورفض كل تناحر «بين دين ودين، وبين طائفة وأخرى، أو فرقة وأخرى» ثالثاً([30]). وبناءً عليه، كما يرى صدام حسين، يقيِّم الحزب «الإنسان على أساس عمله». أما عن اختيار المذهب الديني فهي ليست بالأساس من اهتمام حزب البعث العربي الاشتراكي([31]).

3-لقاء فكر الحزب مع الإيمان بوظيفتين متكاملتين:
أ-فكر الحزب استراتيجي، لهذا يمنع البعثيين من تغليب التكتيكي:
على صعيد الممارسة، يدعو صدام حسين، إلى ضرورة التمييز بين النظرة الاستراتيحية والعمل التكتيكي. وإن«التخصيص والدقة والمنهجية الواضحة والمعبِّرة عن فكرنا في النظرة للمجتمع، ومن بينها النظرة إلى كل ظواهر الحياة وشؤونها »، هو المطلوب أن يمارسه البعثيون في علاقتهم مع المجتمع. ولأن الحزب يريد أن «تكون الأغلبية من الشعب إلى ]جانبه[ في كل الأحوال، وبصورة دائمة، على طريق المبادئ المعروفة للحزب والثورة »، «وذلك لكي نكسب كسباً صميمياً وراسخاً، ونجعل دور حزبنا قيادياً في تحريك وقيادة المجتمع». ولهذا يرفض أن يتصرَّف البعثيون على أساس من «التعتيم والتعميم»، كوسيلة من «وسائل كسب الأغلبية». كما يدعو إلى «التخصيص والوضوح في النظرة والمعالجات الاستراتيجية ]اللتان[  هما الوسيلتان الحاسمتان في كسب الأغلبية من الشعب» ([32]).
ليست العموميات مقبولة، لأنها تقود إلى إعطاء توجيهات مختلفة حول القضية الواحدة.  ولا ينبغي أن يتوهم البعثيون وجوب دخول معركة سياسية «بصيغة من هو مع الدين ومن هو على الدين»، فمن خلال هذا المدخل على البعثيين، أيضاً، أن لا يتحولوا إلى رجال دين تحت حجة رفضهم للإلحاد، لأن التدخل «في الشؤون الدينية يؤدي إلى أن ينقسم شعبنا، ليس بين المتدينين وغير المتدينين فحسب، وإنما بين المتدينين أنفسهم بضوء اجتهاداتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية المختلفة».
فليس التدخل في معتقدات الناس الدينية هي من الوسائل السليمة، كما يرى صدام حسين، بل على البعثيين أن يلتقطوا «المفاتيح المركزية»، التي تتعلق بعقيدة البعث و«بمستلزمات تغيير المجتمع» ([33]). وهناك علاقة بين الاستراتيجي والتكتيكي، يتطلَّب تطبيقها ما يلي:
-مرونة ومبدئية في آنٍ معاً. ويتم ذلك من خلال التقاط «المفاتيح والحلقات المركزية»، على أساس ترك «بعض النهايات مرنة في حركتها»، ومراعاة عامل الزمن على أن لا «يفلت من يديك الزمام فيصبح دورك ثانوياً بدلاً من أن يكون قيادياً» ([34]).
-الابتعاد عن التدخل في حياة الناس، بما في ذلك «معتقداتهم وطقوسهم الدينية». ففي هذا الخطأ ما يؤدي إلى الاصطدام بهم. والابتعاد عن تحويل الحزبيين «إلى رجال دين أو الاصطدام برجال الدين»، خوفاً من أن يتحوَّل البعثيون إلى رجال دين في علاقتهم بالشباب، و«بممارساتهم الاجتماعية والخلقية ]وفق[ الصيغ القسرية» ([35]).

ب: عزل الدين عن سياسة الدولة:
تشكل المحاذير في سلوك الحزب، من سوء استخدام المسألة الدينية، محاذير مماثلة على الدولة. لذلك يدعو صدام حسين إلى وقفة ضد «تسييس الدين من قبل الدولة وفي المجتمع، وضد إقحام الثورة في المسألة الدينية»، على أساس أن يعود البعثيون إلى الاعتزاز «بالدين بلا سياسات للدين» ([36]).
ولا يعني رفض الطائفية، عند صدام حسين، رفضاً للدين، بل إن «العراق دولة مؤمنة، السلطة مؤمنة، والشعب مؤمن». وهذا لا يعني، أيضاً، ألاَّ ينصِّب البعثيون أنفسهم «رجال دين» فحسب، بل لا يمكن أن يُسمح بوجود تداخل «بين ممارسة الدولة لواجباتها وبين الدين» أيضاً. فلو حصل ذلك، يرى صدام حسين، لتحوَّل الحزب إلى «فرقة ضمن دين، أو فرقة ضمن أديان، أو ضمن طوائف»، وحينذاك سيتمزق الشعب. فمن باب أولى، إذاً، أن يتم «عزل الدين عن السياسة»، والنظر إلى المواطنين سواسية «بغض النظر إلى اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وقومياتهم» ([37]).
انطلاقاً من تلك المبادئ يقيس الحزب الإنسان «على أساس عمله» ([38]). وبهذا يمتنع على الدولة أن تضع سياسة معبِّرة عن الدين في منهجها التفصيلي، لأنه من الأسباب التي تجعل الشعب «ينقسم وفقاً للانتماء الديني والطائفي» ([39]). وإذا سلك أي نظام طريق الطائفية في إدارة الدولة، فهو يتلاقى مع أهداف الإمبريالية التي تسعى إلى تقسيم المنطقة العربية، كمثل المخطط المرسوم للعراق والقائم على مخطط تقسيمه إلى دويلات طائفية وعنصرية: سنية وشيعية وكردية([40]).
أما المطلوب من الدولة، يرى صدام حسين، فهي الواجبات التالية:
1-رعاية أماكن العبادة، «وبفعل متوازن وبنظرة شمولية ومبدئية».
2-الامتناع عن الترويج لأي من المذاهب الإسلامية واجتهاداتها.
3-إبعاد المراكز الإعلامية والثقافية ومؤسسات الدولة الأخرى عن طرح أفكار التعدديات المذهبية واجتهاداتها أو الترويج لها([41]).

ثالثـاً: التمييز بين الدين والحركات الدينية السياسية:
1-خطورة الحركات الدينية السياسية على الحزب والدولة:
ترافق تكوين الحركات السياسية الدينية مع توالي الأزمات على حركة الثورة العربية، ووقفت «ضد حركة القومية العربية»، مما دفع «بالقوى والدوائر الاستعمارية إلى تشجيعها، لأنها ظاهرة انقسامية وسلفية متخلفة تؤدي إلى تراجع الأمة ثقافياً وعلمياً وتقنياً» ([42]). فيرى صدام حسين أن الصهيونية تستغل نتائجها لاستخدامها «ضد الأمة العربية » ([43]).
ويتابع مذكِّراً بمعاناة العراق من تلك المخاطر، طيلة قرون، بحيث كان الاحتلال يتحصَّن «تحت ستار من الدين والطائفية»، وكان يستغلَّهما «لخلق حالات من الانقسام والتبعية»، وكان آخرها التجربة الإيرانية بعد وصول الخميني، والملالي، إلى حكم إيران([44])، ومروراً باستغلالها لتمرير المخطط الاستسلامي في المنطقة، انطلاقاً من لبنان انتهاءً بأكثر من قطر عربي([45]). وخطورة تلك الحركات في أنها لا تتورَّع عن القيام بدور تخريبي في أي قطر عربي مستهدفة إثارة «الضغائن الطائفية» ([46]).
فالطائفية، يؤكد الرئيس صدام حسين، موجودة في المجتمع العربي إلى جانب العشائرية والأقليات القومية. والسؤال هو كيف نمنع الأمبريالية من استغلالها؟ أما الجواب فهو أن يتم التصرف «بدراية فنية ميدانية للحياة، وبعقل منفتح، وبروح مبدئية» ([47]).
وتستخدم الرجعية المسألة الدينية وسيلة ضد حزب البعث  عن طريق دعوة الحزبيين إلى ممارسة الطقوس الدينية حسبما هو مُتداوَل، لذلك يحذِّر الأمين العام للحزب من الوقوع في أحد خطأين، وهما:
الأول: استدراج البعثيين إلى مواقع الرجعية الدينية.
الثاني: الابتعاد عن الدين، بمعنى الإلحاد([48]).
إن استدراج البعثيين إلى ممارسة دورهم على طريقة الدعوات الرجعية لبعض الأوساط الدينية، يعني أنهم يتخلون عن دورهم القيادي للمجتمع وفق «حركة  ثورية تصنع الحاضر وتتطلَّع إلى المستقبل بطرق واضحة معروفة «، وهي لن تهيئ لهم فرصتهم التكتيكية «لأن الرجعية الدينية، وفق هذه النظرة والسلوك، سوف تكون قائدة المسيرة» ([49]). لهذا يدعو إلى «إعطاء موقف واضح للمسألة الدينية في جوانبها العملية والنظرية ]وأن يُترَك للمواطنين، بمن فيهم البعثيين[ حرية ممارسة الطقوس الدينية وفق اختياراتهم» ([50]). ومن الخطأ أن تتم دعوتهم لممارستها «وفق صِيَغِ خاصة» قد تتحوَّل إلى ولاءات سياسية مضادَّة للثورة، لأنه عندما يصدر عن البعثي خطأ تكتيكي يُعمِّم الأعداء نتائجه، فيشكِّل حاجزاً نفسياً بين أفكار الحزب وبين أوساط معيَّنة من الشعب([51]). ولهذا يحدد صدام حسين بعض الشروط الأساسية، لقطع الطريق أمام مخططات الأعداء، ومن أهمها:
-أن تكون تصورات البعثي واضحة في العلاقة بين الدين والسياسة.
-أن يمارس الشعب طقوسه الدينية وفق اختياراته، على أن يبتعد عما يتصادم مع سياسة الحزب في تغيير المجتمع وبنائه وفق اختيارات مبادئه.
-الامتناع عن مواجهة الرجعية الدينية بالدعوة إلى الإلحاد، أو تبنّي المظهرية الدينية، أو التدخل في الشؤون الدينية وطقوسها([52]).

3-التجديد والابتكار أساس في صياغة العلاقة بين البعث والدين:
يخشى صدام حسين على البعثيين، إذا خاضوا صراعاً مع المتعصبين دينياً ومذهبياً عن طريق تداخل الخنادق معهم، أن لا يستطيعوا التصويب إذا ما لم يكتسبوا مهارة وتميزاً.  وإن غياب الوضوح، وخلط المفاهيم، يضع الحزب «أمام أزمة فكرية»، في الوقت الذي يخسر فيه سياسياً من موقعين: الأول خسارة الأرضية الفكرية، التي هي مصدر قوته؛ أما الثانية فهي خسارة التماسك الفكري، الذي يُفقده تميَّزه وجمهوره([53]). لذا يدعو إلى أن تكون المساحة بين أساليب الرجعية الدينية وفهم البعثي للمسألة الدينية «مكشوفة»، والممارسة الدينية بعيدة عن السياسة لكي نمنع انقسام الحزب ونحصِّن البناء الفكري من الارتجاج([54]). ويمكن معالجة هذا الأمر من خلال مقدرة البعثيين على التمييز بين التقليد والتجديد.
هناك نوعان من المقلِّدين، وهما: نوع يستنسخ عن القديم، وهم «اليمينيون والرجعيون». ونوع يستنسخ عن الجديد، وهم «بعض الحركات السياسية التي تستعير معالجات وتجارب الشعوب الأخرى» ([55]).
أما التجديد فهو التعامل مع المسائل «بصيغ ووسائل وأفكار متطورة»، ولذلك فمن غير الممكن، يرى صدام حسين، أن نحشر معالجاتنا للشؤون الدنيوية للحياة «حشراً فقهياً دينياً»، لأن مشاكل «المجتمع الحديث مختلفة اختلافاً أساسياً عن المشاكل التي واجهتها العصور الإسلامية الأولى» ([56]). فتعدد الديانات، وتتابع الأنبياء، وتوقيت المبادئ، لهي دلالات على أهمية التجديد لتتلاءم مع «تطور عقول وضمائر وإمكانات البشر» ([57]). كما أن التدرج في الأحكام ضمن الدين الواحد، يعبِّر عن مستلزمات التطور مع الحياة وقوانينها، ويعزِّز الابتعاد عن حشر عقيدة البعث وتحليلاته الفكرية والسياسية «حشراً دينياً» ([58]). وإذا كان التجديد ضرورياً فهو ليس من مهمات حزب البعث بمفرده، وإنما هو من متطلبات الدين أيضاً([59])
رابعـاً:هل في الدعوة  إلى «القومية المؤمنة» حلٌّ لإشكالية العلاقة بين الفكر الديني والفكر القومي؟
1- علاقة العروبة بالإسلام علاقة بين التراث والمعاصرة.
يرى صدام حسين أن طريق البعث هو «طريق المبادئ والالتزام الأخلاقي، والوطني والقومي، والإنساني طريق اليقين والإيمان، والعزة والمجد، والشرف»، ومن أجل سلوكه يستوجب اتباع وسائل «الحمية، والوطنية، ومبادئ النضال القومي، والإنساني».
ولهذا الطريق خصوصياته التالية: يستند إلى الإيمان بقدرة الله، ويستحضر «عمق كل ما هو مشرق من تاريخ أمتنا»، وفي مقدمتها سيرة النبي محمد وأصحابه([60])، على أن لا تعني الخصوصيات أن ننقلها حرفياً، كما يرى صدام حسين، بل أن نستخلص من معاني التراث ما هو ملائم لروح العصر، ليكون التراث مصدر إفادة للمعاصرة، بشرط ألاَّ نستخلصها على «قياسات دينية، في كل تفاصيلها» ([61])
فعقيدة البعث ليست «نسخة لأي تحليل أو منطلق ديني بما في ذلك روح الدعوة الإسلامية». بل هي ذات صيغ جديدة، ومن «منطلقات جديدة، وبحلقات مفتوحة للاجتهاد والتطور المستمرين»، وعلى الرغم من أن العقيدة البعثية تحمل روح العرب في الإسلام، فهي «ليست عقيدة دينية، وليست بديلاً أو نقيضاً لأية عقيدة دينية»؛ كما أن البعث «ليس عقيدة دينية جديدة، وإنما هو عقيدة دنيوية جديدة» ([62]). وفي هذا المعنى، يشكِّل التاريخ حافزاً أمام الأمة. فحيثما فيه صفحات مشرقة فعليها أن لا تتراجع، بل أن تراكم تلك الصفحات لكي تعزِّز الدافع أمام أجيالها لكي تصونها من التراجع. فروح الأمة، إذاً، حاضر في تاريخها المشرق([63]).
لم يستفد العرب من نقاط الارتكاز الصحيحة، كما يرى صدام حسين، «بين التاريخ والحاضر، وبين الدين وما يتَّصل به من الحياة وبين المعاصرة المنقولة عن قشور الغرب وطبيعة ما ينبغي من تطور بين النصوص الجامدة المنقولة ودورنا، وما يقتضي منا أن نسجله فكرياً وعلمياً بعد أن نستوعب الماضي ونتفاعل معه»؛ أما عملية «الخلق الجديد المولود عن التراث فنكاد لا نهتدي إليه في سياسة أي حاكم حتى وصل الأمر إلى أن نجد أن بعض أبناء هذه الأمة قد تبنّى الشيوعية، على ما فيها من إلحاد وبغض النظر عن مستوى التلاقي، أو الافتراق فإن النقل لا يحقق لأمتنا النهضة ]أما ما يحققها فهو[ الإيمان العظيم بالله، والقيم العليا لتراثنا الروحي، وفي مقدمتها الإنصاف، والعدل مستندين إلى الفكر القومي، وتكوين المجتمع القومي، والدولة القومية المؤمنة» ([64]).
ومن دلالات المصطلحات الإسلامية، التي يقصدها صدام حسين، سنفهم منهجه المعرفي في تحديد العلاقة بين العروبة والإسلام. ولهذا سنبحث عن دلالات مصطلحات «الجهاد»، و«الكفر»، و«الرسالة».

2-معاني الجهاد في المصطلح القومي تشمل شؤون الحياة كلها:
يكتسب الجهاد، عند صدام حسين، معانيه البعثية « في الميدان الوطني، والقومي، والإنساني». فهو يعني «البناء» بمعنى «روح التفاؤل»، المستمدَّة من «كل المعاني التي أضاءت طريق الاختيار» ([65]). ومن معانيه: «الإعمار، في إعادة البُنى الارتكازية والخدمات»، كما يعني «الوقفة الجهادية لمن جاهد صفحة الغدر والخيانة» ([66]).

وليست صفات الجهاد محصورة بفئة معيَّنة، بل تنطبق على أبناء الشعب كله، وأعضاء الحزب جميعهم، «ومن يردفهما في فعل وعمل الخير، من كل الوطنيين، والقوميين الشرفاء، والأحزاب والحركات السياسية، والمنظمات، والنقابات الجماهيرية والمهنية في العراق، والوطن العربي» ([67]) . بحيث يتميّز البعثيون من بين هؤلاء «بقلوب ملؤها الإيمان بالله، وبمبادئ حزبهم المجاهد، وثورتهم المجيدة» ([68]).


3-ليس الكفر في المصطلح القومي ذا دلالات دينية:
هل دلالات معاني الكفر في خطاب الأمين العام للحزب، هي ذاتها التي يستخدمها الخطاب الإسلامي؟
يستخدم صدام حسين مصطلحات وصفات تدل كلها على الأعداء: «حشد الظلم»، و«الضلالة»، و«الخيانة»، و«الغدر»، و«الكفر»، و«الفجور»، و«الطاغوت» ([69]).
ولعلَّ متابعتنا تعريفه «للصليبية الجديدة»، ما يسهِّل أمامنا مهمة التحديد. فتلك الصليبية تدَّعي، كما يرى صدام حسين، أنها حامل لرسالة حضارية، لذا يعلن دعاتها عدم ارتياحهم من التخلف الذي يخيِّم على بلدان العالم الثالث في الميادين الاقتصادية، والتقنية والعلمية، وميدان الثقافة والمعرفة، وهم يستسلمون «إلى الكسل والابتعاد عن النشاط» ([70]).
وعلى تلك القاعدة يحسب الغرب أن قياسه للثقافة والمعرفة هو القياس الصحيح. وقد اقتنعت أوساط عربية بادِّعاءاته. لكن عدوانه على العراق كشف كذبه وخداعه، والدليل هو أنه إذا كان حريصاً على مساعدة دول العالم الثالث على مكافحة التخلف، فكيف يفسر عدوانه على العراق بينما «العراق ... تطوَّر تكنولوجياً وعلمياً وثقافياً، وفي ميادين المعرفة» ([71]).
إن عدوانه على العراق يكشف عن أهدافه الحقيقية التي، كما يعددها صدام حسين، تمتدُّ إلى:
- عمق الماضي المتصل بتراث أمتنا «وبالذات تراث الثقافة والدين ودواعيهما إنه حقد يتَّصل اتَّصال وراثة بالحملة الصليبية التي قامت بها أوروبا ضد العرب».
- اغتصاب «ديار العرب واستعبادهم» في المرحلة الحاضرة.
-الحقد على كل ما هو «أصيل من تراث الماضي، أو تطلع نحو المستقبل» ([72]).
فمن أهداف الحملة «الصليبية الجديدة» ، كما يراها صدام حسين، إحباط التجربة القومية الجديدة القائمة على قواعد الإيمان، والربط بين الماضي والحاضر، وتوليد نهضة جديدة «باسم الأمة، وباسم الإنسانية»، واستحضار الخصوصيات الوطنية والقومية، والتمسك بالقرار المستقل في الرفض والقبول.  أما وسيلة مقاومتها فتكون بالإصرار على أهداف الأمة وتحقيقها. الإصرار  الذي يرتبط «بالإيمان بقدرة الله وبما يخلقه المجاهدون المؤمنون من فرص تحقيقاً لهذه الأهداف» ([73]).  وإن العمل والإيمان وجهان مندمجان بحيث يعزِّز العمل «عمق الإيمان»، الذي هو جهاد في ظرفه([74]).
بعد اطلاعنا على مظاهر العداء الغربي وحقيقة أهدافه، نجد أن مصطلح «الكفر» لا يكتسب عند صدام حسين معاني إسلامية دينية تقليدية، بل هو صفة يطلقها على كل مظاهر عدائية الغرب للعرب على مستوى الحضارة والمعرفة. وجُلَّ ما يصف فيه الكفر بمعانيه الدينية هو أن الغرب يستذكر، في معاركه السابقة مع العروبة والإسلام، كل ما له علاقة بالثأر من هزائم الحملات الصليبية التي ألحقها المسلمون بالغربيين منذ (700) عام تقريباً.

4-«الرسالة» ليست اجتراراً للموروث بل خلق جديد للحياة:
من معاني الرسالة، عند صدام حسين، الإيمان بالله، على أنه «ليس إيمان الوراثة». بل هو «إيمان الفعل، والثقة» وليس «إيمان القنوط، والنقل وإنه ليس اجترار الموروث»، وإنما هو «خلق جديد للحياة  » باتصال حي مع الموروث . وليس الموروث إلاَّ تلك النماذج التاريخية وحلقاتها المشرقة التي على الأمة أن تقتدي بها([75]).
ليست قوة أسلافنا العرب، بمظاهرها المادية، هي أهم تلك الحلقات، بل هي تلك المبادئ التي حملوها «في نفوسهم، وفي عقولهم وآمنوا بها». ومن أهمها أن تنهج الأمة كلها«منهج أمة الرسالة» ([76]).  تلك المبادئ هي «عربية وإسلامية»، والإيمان بها «ينطوي على نوع من تجديد الرسالة، وليس مجرد وراثة شعائر وطقوس من الماضي، وإنما يحمل معنى تجديد الإمكانية والاستعداد والحياة والممارسة تحقيقاً للأهداف».
وتلك المبادئ تكون مقدمات لاستعادة الأمة واقع الوحدة. ويتم الوصول إلى الهدف الوحدوي من خلال توحيد رايات المناطق والعشائر في القطر الواحد تحت الراية الوطنية، وتوحيد الرايات الوطنية تحت الراية القومية. وتمر كلها عبر بناء نماذج قومية إنسانية([77]). ويمر بناء الأنموذج عبر البحث عن الإمكانيات الذاتية في داخل كل مجتمع قطري، ويتم ذلك من خلال النضال والمعاناة، والصبر، والاستعداد للتضحية([78]). وتحتل القضية الفلسطينية موقعاً مركزياً عند الذين «يتحدَّثون عن دور رسالي» ([79]).

5-يستلهم  البعث من الإسلام ما يعزز دور العرب الإنساني:

يتمثَّل دور العرب، كما يراه صدام حسين، بجملة من الخصوصيات:
-جدارة العرب أكثر من غيرهم في فهم الإسلام.
-جدارتهم في قيادة العالم الإسلامي، على ألاَّ تعني تلك الجدارة وضع العرب فوق الآخرين، وإنما جدارتهم في خدمة المبادئ المشتركة.
-تأكيد الحكمة الإلهية على دور العرب القيادي، ليس في الدعوة الإسلامية فحسب، وإنما من خلال الرسالات السماوية الأخرى أيضاً([80]).
-جدارة العرب في أن لا يكونوا أنموذجاً في السابق فحسب، بل أن يكونوا بما تقتضيه «موجبات العصر« أيضاً، ومن أهمها استكمال مراحل التحرر من الاستعمار القديم بمتابعة النضال ضد وجوهه الجديدة.
ورث الاستعمار الجديد تراث سلفه، وظلَّت أهدافه على ما هي عليه. ومن مبادئه «أن يبقى العرب متخلفين عن دورهم، وعن طريقهم الصحيح في ممارسة الدور القومي والإنساني» ([81]).   ومما أبقى عليه الاستعمار هو الكيان الصهيوني كركيزة في المنطقة([82]).

6-ليس الإسلام، دولة وتشريعاً، صالحاً للدولة القومية:
حدَّد صدام حسين بعض معالم الحدود بين العروبة والإسلام، بين الدولة القومية والدولة الدينية، ورأى أن الدعوة إلى بناء دولة إسلامية،  ستصطدم بتحديد المذهب الذي سيحكم المسلمين،  وهم بذلك  سينقسمون منذ البداية. كما رأى أنه لا يمكن للفقه الإسلامي أن يكون تشريعاً للدولة القومية. فهو «الآن أقرب ما يكون إلى فقه يصلح لانتقاد الخطأ في الحكم أكثر مما يصلح للحكم وفق قواعد الدين»، أي أنه يصلح كفقه معارض وهدَّام للحكم، «أكثر مما يصلح كفقه للحكم» ([83]).

7-هل شعار «القومية المؤمنة» يزيل التناقض بين الدولة القومية والدولة الدينية؟
وبناء على ذلك، يرفع صدام حسين شعار «القومية المؤمنة». ويعتبرها طريقاً جديداً يتلازم فيه المادي مع الروحي، فهو يرى أنها «الأقدر على بناء مجتمع الإيمان والدور والرسالة». لكن هذا لا يعني أنه يريد استبدال عقيدة بعقيدة، أي أن يضع القومية والدين في موقع التصادم، بل يرى أن بينهما «حتمية التلازم والتفاعل». وهذا يتحقق بالابتعاد عن تبنّي نصوص القومية كما هي موروثة عن المعنى الجاهلي. والابتعاد عن تفاصيل الدين([84]).
يشير صدام حسين، في دفاعه عن الشعار، إلى أن الإسلام أعطى القومية دوراً مرجحاً من خلال تثبيت القرآن بعض أعراف العرب، كما ثبَّت بعض المفاهيم السابقة للإسلام،وسلَّم الخلفاء الراشدون العرب مسؤوليات وضع التشريع وقيادة الجيوش. ولم يكن كل ذلك منطلِقاً من قومية جاهلة، بل من إيمان لا يلغي دور القومية([85]). فتكون التجربة الماضية قد جمعت بين الإيمان الإسلامي والقومية العربية.
ويرى أيضاً أن مشروع «القومية المؤمنة» لن يمر من دون عوائق، ومن بينها تلك التي يضعها من يُلبسون «السياسة وخططها، وبرامجها، لبوس الدين». وهؤلاء، بدورهم، سوف يصطدمون مع رجال الدين أنفسهم من جهة، ومع شرائح واسعة من شعوبهم من جهة أخرى. ويظهر خطرهم أكثر في المجتمعات التي فيها أكثر من طائفة، وأكثر من فرقة، وأكثر من دين([86]).
ولكي تؤدي أمة العرب رسالتها، يرى أن عليها «أن تجعل مبدأ الأمة الواحدة فعَّالاً»، لأنها «صاحبة أعظم تراث زاخر بمعاني التوحيد»، وكان من أهمها «التراث الروحي، وتطبيقاته في المجتمع الإسلامي»، ولكن عليها «أن لا تفعل هذا بالنقل، وإنما بالتفاعل والإبداع وسط عصرها» ([87]).

8-إشكاليات فكرية وعملية تواجه شعار «القومية المؤمنة»
يستند فكر صدام حسين  إلى نظرته للعلاقة بين التراث والحداثة، فإذا كان التراث سجلاً لتاريخ الإيديولوجيا الإسلامية، فهو في الوقت ذاته سجل للتجارب التي مرَّت بها الحضارة العربية. فالتاريخ هو ذاكرة الشعوب، وإذا كان للتجارب دور مهم في اختبار صلاحية القيم والقوانين والتشريعات والعادات والتقاليد، فالتاريخ، بالنسبة للبعث، هو ذلك الميدان الذي لا يمكن الاستغناء عنه. ففيه خلاصة التجارب السلبية والإيجابية. وللتمييز بينها، وللاستفادة منها، لا بدَّ من إخضاعها للنقد. فتتجاوز السلبي وتتحاشى الوقوع فيه، وتجدد في الإيجابي وتستفيد منه.
وانطلاقاً من ذلك ينظر صدام حسين إلى التراث من منظار التوفير على الأمة القيام بتجارب جديدة ، يدعوها للاستفادة من تجارب التاريخ التي أصبحت تراثاً، على قاعدة النظر إليه من زاوية مدى صلاحيته لحاضر الأمة. وهو لا ينظر إليه بمنظار استنساخه أو تقليده، بل من منظار الاستفادة منه بنقل ما أثبت صلاحيته للاستمرار، ونقد ما يتنافى مع الحاضر لتطويره، أو إلغاء ما أصبح بعيداً عن روح العصر، وهذا ما يستجيب لمبادئ التجديد كقانون طبيعي يحكم نظرية التطور على شتى الصُعُد.
فالحقيقة التي يمكن أن نستند إليها هو نظر صدام حسين إلى التراث نظرة متحركة ودينامية. فالنظرة إلى التراث، كما نستنتج من دراسة فكره، ليست بالجملة إما أن نأخذه كله أو نرفضه بالكامل.
إن تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي أصبح يشكل جزءًا من التراث الحديث للأمة العربية بعد أن مضى على تاريخ تأسيسه أكثر من نصف قرن من الزمن، وفكره لم يبق في الدوائر النظرية بل خضع للاختبار من خلال النضال أولاً، ومن خلال تجربته السياسية في الحكم ثانياً، أصاب في بعضها وأخفق في بعضها الآخر. تلك الأسباب تدفعنا إلى النظر إليه على أنه أصبح تجربة قومية عربية يمكن للأمة أن تستفيد من تجاربه في الحاضر، كما أنه موضوع للاستفادة منه لرسم مشاريع المستقبل.
ولهذا يرى صدام حسين أن فكر الحزب أصبح يشكل «فكراً جديداً كلياً» وأصبح من تراث الأمة ولا يمكنها الاستغناء عنه، كما لا يمكن البعثيين أن يروا في غيره من تراث الأمة السابق ما ينافسه لأنه استفاد من الإيجابي فيه. وهو يشكل التجربة الحديثة والمعاصرة من تراث الأمة العربية.
وإذا كان الحزب قد استفاد من التراث العربي ليضع نظرية في القومية العربية، فهو قد استفاد منه أيضاً في استلهام الجوانب الروحية التي لها خصوصيات المجتمع العربي. وبناء عليه نظر صدام حسين إلى التراث الروحي، فيما له علاقة بقواعد التوازن بثنائية «الروح والجسد»، فوجد أن في ذلك التراث ما هو ذو أهمية. وهو إن رأى أن الإسلام كان أكثر تلك التجارب تأثيراً وأبعاداً سياسية وثقافية وحضارية، إلاَّ أنه وجد أيضاً أن الأمة العربية كانت موطناً ومنطلقاً  لكل الأديان السماوية. ذلك الواقع أكسب الأمة «خصوصية روحية».
لمثل تلك الأسباب وقف صدام حسين، بشكل أساسي، أمام تلك التجربة، فوجد أن فيها من الإيجابية ما يمكن الاستفادة منه. ومن أهم تلك الإيجابيات وجد أن طاقة الإسلام الروحية قد غيَّرت المجتمع العربي تغييراً شاملاً: وحدوية ثقافية للمجتمع العربي من جانب ووحدوية سياسية من جانب آخر.  وامتدت تأثيراتهما إلى تكوين سياسي جغرافي جديد للدولة العربية. وهنا يميز بين نظرتين إلى الإسلام: نظرة من يريد أن يلغي تأثيرات القومية العربية في إنتاج الإسلام، ونظرة تستند إلى أن الإسلام أصبح مصدر تخلف. تستهدف النظرة الأولى تشويه المنظر القومي العربي، أما الأخرى فتستهدف تشويه المنظر الإسلامي. وكلاهما صاحب غرض إيديولوجي.
أما حزب البعث، كما يرى صدام حسين،فقد نظر إلى علاقة العروبة بالإسلام من منظار علاقة التراث بحاضر الأمة ومستقبلها. فكانت نظرته متميزة عن غيره من الحركات الفكرية والسياسية والحزبية والدينية.
لا يمكن للأمة العربية أن تلغي ذاكرتها التاريخية. فالإسلام هو أحد أهم أعمدة تلك الذاكرة، لكن هذا لا يعني، كما يرى صدام حسين، أن تنظر إلى التراث نظرة جامدة مقدسة. فأعاد إلى ذاكرة الأمة جانبها التاريخي الإسلامي، وعمل على مقاربته من العصر العربي الحديث، وأخذ منه ما لا يمكن إلاَّ أن يصب في مصلحة حاضر الأمة. ونظر إلى الزوايا الأخرى، التي تتعارض أو تتناقض مع متغيرات العصر، من منظار بناء دولة قومية ذات تشريعات تتناسب مع تعددياتها الدينية والمذهبية في إطار قومي مدني موحَّد. فماذا وجد حول التوفيق بين أسس الدولة المدنية والبعد الإيماني؟
بما لا يتعارض أو يتناقض مع تاريخية الثقافة الروحية للمجتمع العربي، سواءٌ أكانت الثقافة المسيحية، أم كانت الثقافة الإسلامية، أم كان التراث الحضاري الذي سبق الإسلام، أم بما يناقض تاريخية تلك الثقافة من دعوات إلى الإلحاد، آمن صدام حسين بمبدأ عام يرفض الإلحاد ويدعو إلى الإيمان.
وكي لا يلتبس الأمر عند القوميين العرب، بسائر اتجاهاتهم الفكرية الوضعية والدينية، وعلى رأسهم البعثيون، وضع صدام حسين تحديدات علمية واضحة للعلاقة بين الدين من جهة وكل من الفكر القومي والدولة القومية من جهة أخرى. ومن أهم تلك التحديدات:
1-الفصل بين الاعتقاد الديني ووظيفة السياسة: على قاعدة أن الاعتقاد الديني التزام ذاتي حر. وإن الدعوة إلى الإيمان ليست وظيفة سياسية. لذا لا تقاس المواطنة بمقياس الانتماء الديني، بل بالكفاءة بالعمل.
2-رفض الطائفية، كحركة دينية مسيَّسَة، على ألاَّ يمس جوهر الموقف من الدين. وحذَّر من خطورة الطائفية، واستغلالها من قبل القوى المعادية.
3-تحذيره البعثيين من أن يلعبوا دور رجل الدين.
4-قناعته بأن التشريعات الدينية لا تصلح لأن تكون تشريعاً للدولة. وحذّر من خطورة أن تتدخل الدولة، على شتى مستوياتها، في شؤون الناس الإيمانية وطريقة اختيارهم لطرق الإيمان الخاصة.
مواجهة نظام الحزب السياسي في العراق من قبل أكثر من طرف معادٍ للأمة العربية، استخدموا فيها سلاح الدين عاملاً أساسياً، وضعته أمام تحديات ومعوقات كبيرة. فكان لمثل تلك المعركة تأثيرات دفعت، بمؤسس الحزب وصدام حسين معاً، إلى إعطاء المفردات الإيمانية دوراً مهماً في الأحاديث والخُطب والتوجيهات. ولما كنا قد أفردنا حيزاً كبيراً لأفكار مؤسس البعث، فسنقصر اهتمامنا هنا بعرض أفكار صدام حسين.
كانت مواجهة تلك الدعوات المشبوهة سبباً في تصعيده الخطاب الإيماني، وإبرازه لإبطال مفعول السلاح الطائفي الديني السياسي في معركة الأمة مع أعدائها. ولهذا واجه تلك المعركة بإثارة مسألتين:
الأولى: خطورة الطائفية والمذهبية، وخطورة الحركات الدينية التي تستخدم الدين لأغراض سياسية.
الثانية: إبراز حقيقة موقف حزب البعث الإيجابي من الدين، ورفضه قوننة الإلحاد لتعارضه مع ثقافة المجتمع العربي المُشبَعة بالتراث الديني، وتناقضه  مع ثنائية «الروح والجسد».
لم يتراجع صدام حسين، في ردَّه على سلاح الدين الذي رفعته القوى المعادية، عن ثوابته في النظر إلى علاقة الدين مع الحزب والدولة. لكنه للمزيد من التأكيد على واقعية موقف الحزب من ثنائية الإيمان والإلحاد، دعا إلى شعار «القومية المؤمنة«.

خامساً: الرابط القومي ثابت والإيمان متعدد الوجوه
على الرغم من اتجاهات صدام حسين الواضحة في علمانية الدولة القومية، وتلك مسألة أصبحت على غاية من الوضوح بعد تفكيك خطابه وتركيبه، نرى أن في شعار «القومية المؤمنة» ما يثير بعض الالتباسات  لا سيما إذا ما ربطها المتابع للخطاب السياسي وبعض الإجراءات الميدانية في العراق، بعد العدوان الثلاثيني عليه في العام 1991. إذ وردت في الخطاب تعابيرٌ ومصطلحاتٌ إسلامية، وكان للإجراءات المتخذة مضمون التشريع الإسلامي. ولما أطلق صدام حسين شعاره، في العام 1994، مترافقاً مع الخطاب والإجراءات، ربط المتابع لما يجري في العراق بين الإيمان، كصفة للقومية، والإيديولوجيا الإسلامية. وهذا ما يدفعنا لمناقشته.
من الواضح، عند صدام حسين، أن بين الصفة «الإيمان» والموصوف «القومية» رابط روحي إنساني عام وليس رابطاً دينياً أيديولوجياً، سواءٌ أكان إسلامياً أم كان غيره. ولأن المسألة الروحية منهج عام في حياة البشر، كل البشر. ولأن منهجها، على صعيد الإيديولوجيات الدينية متباينة ومتناقضة. يُخشى من جراء الجمع بين الصفة والموصوف على هذا الصعيد من سوء التفسير في مضامينه بحيث يتبادر إلى الذهن فوراً أن ل«الإيمان» هوية إيديولوجية دينية. وهذا السبب يدفعنا إلى التساؤل: هل هناك ضرورة لربط طرفيْ المعادلة؟
من وجهة نظرنا لا نرى أن هناك سبباً يدعو إلى ذلك.
نرى، هنا، أنه لا بُدَّ من تعريف للإيمان، على شرط أن لا يكون مشروعاً للتصادم مع تعاريف المذاهب الإسلامية، أو مشروعاً للتصادم مع الأديان السماوية. وعلى أن يكون تعريفاً يُوحِّد بين حقوق تلك الأديان والمذاهب، وواجباتها. فهل هذا ممكن؟ ولهذا سنحاول أن نضع أسساً للتعريف من خلال تحديد مُصطلَحَيْ: القومي والإيماني.
-المبدأ القومي هو المبدأ الذي ينظر إلى الإنسان في داخل مجموعة من البشر، يساوى بين جميع أفرادها في الحقوق والواجبات، ويُقيَّمون على أساس ما يصدر عنهم من خير أو شر على قاعدة عملهم وسلوكهم. فالخير والشر، بالمعنى الاجتماعي، هو ما يظهر من أعمال وممارسات وسلوكات ملموسة وخاضعة للمراقبة.
فأن تكون وطنياً، أو قومياً، هو أن تمارس وتسلك وتعمل بما يحقق مصلحة الجماعة الوطنية أو القومية التي تعيش في محيطها. وفي هذا السياق يقول الأمين العام للحزب يُقاس «الإنسان على أساس عمله» ([88]). فعمل الإنسان خاضع للمراقبة والتقييم والمساءلة.
-أما المبدأ الإيماني فيقوم لغةً على «التصديق بالقلب»، وفي الشرع على «التصديق بالقلب والإقرار باللسان»، أما موقعه من المنهج المعرفي فيقف «بين المعرفة والظن»، ومرتبته دون مرتبة المعرفة، ولكنه يأتي في «مرتبة تعلو الظن»، والظن يبقى مشوباً بالشك، أما الإيمان فيكون «ثابتاً ومتحرراً من كل تلك الترددات»، والفرق بين المعرفة والإيمان هو أن «موضوع المعرفة شيء مرئي بينما موضوع الإيمان هو اللامرئي. وهكذا فإننا نجد بعض حالات الإيمان لا يختص بمواضيع المعرفة العقلية لأن المعرفة تستبعد الإيمان» ([89]).
فالتصديق بالقلب لا مظاهر محسوسة له، فهو غير خاضع للمراقبة ولا التقييم الثابت، فهو، إذاً، غير خاضع للمساءلة. ولأن مصدر المعرفة الإيمانية هو القلب، فالصدق أو الكذب في الإيمان لهما علاقة بالفرد، لا يؤكدهما سوى الشخص نفسه، فهو، إذاً، اختيار ذاتي له علاقة بالنفس، وهو ليس مفهوماً اجتماعياً.
أما الإقرار باللسان، فهو ليس نظاماً اجتماعياً، أيضاً، لأنه قد يكون كاذباً أو صادقاً، والصدق والكذب على قاعدة الإقرار باللسان غير خاضعين لليقين. فإذا كان الإقرار صادقاً فهو يعبِّر عن صدق قناعات الفرد الشخصية والنفسية وحريته في الوصول إليها. أما إذا كان الإقرار كاذباً فيعود إلى نوع من التقية والهروب خوفاً من القصاص أو من العقاب، وهو غير خاضع، أيضاً، للمراقبة ولا للمساءلة. فالكذب، هنا،هو حماية للذات بحيث يُظهر الكاذب ما لا يُبطن، وهو، في مثل هذا الموقف، يكون منافقاً، حسب التعبير الديني.
فالإيمان، بكونه حالة تتعلَّق بالنفس والروح، لا يمكن أن يتمَّ فرضه بالإكراه، ولا يمكن أن يكون موضوعاً حسياً، لأن الهرب من نوع الإيمان المفروض يتم بوسائل كثيرة يمكن للفرد أن يمارسها أو يلجأ إليها لإخفاء ما يبطن، ويتم ذلك بيسر وسهولة. فالوصول إلى الإيمان السليم، إذاً، يتم بواسطة تربية اجتماعية وثقافية وأخلاقية تلامس قناعة الفرد أولاً، فهو التزام وليس إلزاماً. ولهذا جاءت نصوص دستور حزب البعث واضحة في هذا المجال، فدعت إلى احترام حرية الاعتقاد، التي هي حرية الإنسان في الإيمان. وعنه جاء في المبدأ الثاني من دستور الحزب (الفقرة 1)، ما يلي: «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها«([90]).  أما عن طريقته في اختيار المذهب الديني، وهو اختيار شخصي لطريق الإيمان كما يرى صدام حسين، فهو ليس بالأساس من اهتمام حزب البعث العربي الاشتراكي([91]).
لا يمكن تحديد هوية «الإيمان الفردي» بدقة ووضوح بسبب من تعددية الأنواع الإيمانية سواءٌ أكانت بتعدد الأديان والمذاهب وكثرتها، أم كانت مقتصرة على القيم العليا المشتركة بين البشر على مختلف انتماءاتهم الدينية. هذا السبب وحده يقود إلى عدم صلاحية الربط بين «القومية» و«الإيمان»، فالقومية يمكن تحديد هويتها، بينما يصعب تحديد هوية الإيمان.
وتصديقاً لوجهة نظرنا سندرس تعريف الإيمان في الأنظومة الدينية، والإيمان المطلق بمفهومه الفلسفي.

1-الإيمان من خلال الأنظومة الدينية:
هو أنظومة ثقافية «في عقائده، وعباداته، وقيمه الأخلاقية، ونُظُمه الاجتماعية، وسيطرة رجاله على حياة الناس الفردية والجماعية» ([92]). فالإيمان، من خلال الأنظومة الدينية، هو نسبي وغير مُتَّفقٍ على تعريف واحد له بين المذاهب والفرق في داخل الدين الواحد. ونسبيته تكمن في أنه قائم على فكرة التقديس، فله علاقته الخاصة بالمقدَّس، والمقدَّس يختلف من دين إلى دين، ومن مذهب إلى مذهب. فما هو مقدَّس عند دين أو مذهب ليس مقدساً عند دين أو مذهب آخر. ولأن المقدَّس الديني يملك وجوهاً عديدة، فالإيمان بمفهومه الديني العام هو نسبي. وما هو نسبي لا يمكن تعميمه في داخل المجتمع القومي الخاص.

2-الإيمان من خلال مفهومه المطلق والمجرَّد:
تعمل الأنظومة الدينية من أجل التعبير عن الإيمان وإشهاره في الظاهر. أما من خلال مفهومه المطلق فلا يعتني إلاَّ بصدقه في الباطن. والقصد منه وضع الإيمان في خدمة الناس([93]). ولهذا إذا صدر أي عمل يأتيه الإنسان «عن نية صافية، وجب اعتباره خطوة باتجاه التطابق بين واقع الإنسان ومعنى الإنسان، فهو إذن فعل إيمان» ([94]).

3-هل يمكن اعتبار شعار «القومية المؤمنة» شعاراً قومياً جامعاً؟
أ-على المستوى النظري: للقومية قوانين اجتماعية وسياسية واقتصادية، ولا يمكن لنظام الدولة القومية أن يُبنى بدونها. ولا يمكن لسياسة الدولة القومية أن تحظى بتأييد مواطنيها إذا لم تتحوَّل تشريعاتها وقوانينها إلى واقع ملموس، على أن تكون العدالة والمساواة حاضرين فيها. فإذا أثبتت التجربة صلاحيتها تصبح مُلزِمة لكل مواطني الدولة القومية. وإذا كشفت التجربة خللاً فيها كلها، أو في بعضها، يمكن إعادة النظر فيها وتعديلها.
على العموم، تحمل التشريعات القومية صفة الإلزام بما لها من علاقة أساسية في سياسة أمور البشر الدنيوية.
أما الجانب الإيماني من الشعار، فهو أمر مختلف:
فهو أولاً: غير خاضع للملموس والمحسوس، وبالتالي غير خاضع للتقييم والمراقبة، فهو لن يكون تشريعاً له صفة القانون. وقد لا يشكِّل تنوع الانتماءات الإيمانية وتعددها خطراً على وحدة المجتمع القومي إذا حُوصِر في دائرة الاهتمامات الذاتية والشخصية للأفراد. فيُصبح، ساعتئذٍ، غير خاضع لمبدأ الإلزام، بل هو يخضع لعامل الالتزام الواعي.
فالجانب الإيماني لا يخضع لقوانين، بل إلى تربية اجتماعية أخلاقية فلسفية، يمكن للدولة، إذا أرادت أن تكافح الإلحاد، أن تقوم بتعزيز نشر التربية المدنية والقومية، وأن تهتمَّ بتعزيز التربية الأخلاقية والاجتماعية. ولا بُدَّ، لتعزيز الجانبين، من تربية الأجيال على اكتساب مفاهيم القيم العليا ومعرفتها بدراية ووعي.
أما إذا كان للجانب الإيماني علاقة بخصوصيات الأديان والمذاهب، فسوف تتولَّد إشكاليات لن تنتهي.
ب-على المستوى العملي: لا يمكن الاطمئنان إلى صلاحية مضامين الفكر القومي الروحية، خاصة تلك التي لها علاقة بالجانب الإيماني، من دون اختبارها في بيئة اجتماعية تتميَّز بالتعددية الدينية والمذهبية.
إن خضوعها للاختبار في بيئة تعددية يُظهر سلبياتها وإيجابياتها. وفي سبيل التجديد في زوايا الفكر القومي لحزب البعث، وإغنائها، لا بُدَّ من العناية بإخضاعها إلى الاختبار. إن هذا المهمة ليست عسيرة على تنظيم له امتدادات قومية، فيمكنه متابعتها ودراسة الثغرات فيها وتقييمها ورفد الجهات الحزبية ذات الصلاحية بتقييم فكر الحزب بنتائج ملاحظات وتقييمات الفروع الحزبية. وبمثل هذه الطريقة يمكن الإسهام، فعلاً، في تطوير فكر الحزب القومي، وجعله يواكب مراحل التجديد والتطور في المجتمعات القطرية.




* صدام حسين: رئيس جمهورية العراق، منذ العام 1979 وإلى حين احتلاله، وانتُخِب أميناً عاماً للحزب في المؤتمر القومي الثاني عشر، الذي انعقد في أواخر العام 1992م.
([1]) صدام حسين: «حديث في اجتماع مكتب الإعلام القومي (في 19/ 9/ 1977م) » (81 - 89): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ): دار الشؤون الثقافية العامة: بغداد: 1988: ط1: ص 84.
([2]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام القومي (في 1/ 12/ 1977م)» (91- 97): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ): م. س: ص 93.
([3]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 87.
([4]) م. ن، ص 87.
([5]) م. ن، ص 85.
([6]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام القومي (في 11/ 8/ 1977م) » (9-23): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ): م. س: ص 9.
([7])«كلمة صدام حسين في افتتاح المؤتمر القومي الثاني عشر / أواخر العام 1992م»: م. س: ص 1128.
([8]) م. ن، ص 1129.
([9]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 88.
([10]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 1/ 12/ 1977م) »: م. س: ص 93.
([11])«كلمة صدام حسين في افتتاح المؤتمر القومي الثاني عشر / أواخر العام 1992م»: م. س: ص 1129.
([12]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام القومي (في 11/ 8/ 1977م) »:م. س: ص 10.
([13]) صدام حسين: جديث بتاريخ 30/ 11/ 1988م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 18): م. س: ص 68.
([14]) صدام حسين: « (في 11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 18.
([15]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 88.
([16]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 1/ 12/ 1977م) »: م. س: ص 96.
([17]) صدام حسين: من رسالة، بمناسبة عيد المولد النبوي، في 10/ 10/ 1988م:  الأعمال الكاملة (ج 18): م. س: ص 451.
([18]) صدام حسين: «حديث في 8/ 8/ 1994م» (157 - 174): أضواء على موقف البعث من الدين والظاهرة السياسية الدينية: م. س:: ص 163.
([19]) م. ن، ص 164.
([20]) م. ن، ص 165.
([21])«كلمة صدام حسين في افتتاح المؤتمر القومي الثاني عشر / أواخر العام 1992م» نضال البعث (ج 21): م. س: ص 1127.
([22]) صدام حسين: «حديث في الذكرى الثالثة لأم المعارك الخالدة (18/ 1/ 1994م»: م. س: ص 122.
([23]) م. ن، ص 123.
([24]) م. ن، ص 134.
([25]) صدام حسين: حديث صحفي بتاريخ 20/12/1979م: الأعمال الكاملة (ج 5): م. س: ص 263.
([26]) صدام حسين: «حديث في الاجتماع الموسَّع لمكتب الإعلام (في 19/ 9/ 1977م) »: م. س: ص 88.
([27]) المؤتمر القطري التاسع للحزب في العراق (1982م): نقلاً عن مقررات المؤتمر القومي الثاني عشر: «الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية الدينية» (1223 - 1237): نضال البعث (ج 21): م. س: ص 1229.
([28]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (في 11/ 8/ 1977م) »:م. س: ص 10.
([29])  صدام حسين: حديث صحفي بتاريخ 22/ 7/ 1981م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 7): م. س: ص 476.
([30])  صدام حسين: كلمة بتاريخ 29/ 9/ 1982م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 9): م. س: ص 324. 
([31]) صدام حسين: «حديث صحافي (في 10/ 1/ 1988م) » (53 - 77): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ):  م. س: ص 56.
([32]) صدام حسين: « مكتب الإعلام (11/ 8/ 1977م) » :م. س: ص 10 11.
([33]) م. ن، ص 21.
([34]) م. ن، ص 22.
([35]) صدام حسين: م. ن، ص 23.
([36]) صدام حسين:  م. ن، ص 14.
([37]) صدام حسين: حديث صحفي نُشر في جريدة الثورة العراقية بتاريخ 24/ 6/ 1987م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 15): م. س: ص 393 394.
([38]) صدام حسين: حديث  10/ 1/ 1988م:  الأعمال الكاملة (ج 16): م. س: ص 376.
([39]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 17.
([40])  صدام حسين:خطاب في  8/ 2/ 1980م: الأعمال الكاملة (ج 5): م. س: ص 333.
([41]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 18.
([42])«صدام حسين: المؤتمر القومي الثاني عشر / أواخر العام 1992م»: م. س: ص 1230.
([43]) صدام حسين: حديث صحفي نُشر في جريدة الثورة العراقية بتاريخ 10/6/1976م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 2): بغداد: ص 336.  يعطي أنموذجاً الحالة اللبنانية.
([44])«صدام حسين: المؤتمر القومي الثاني عشر / أواخر العام 1992م»: م. س: ص 1230.
([45])  صدام حسين: بتاريخ 25/ 3/ 1980م: الأعمال الكاملة (ج 5): م. س: ص 372.
([46])  صدام حسين 20/ 8/ 1980م: نقلاً عن الأعمال الكاملة (ج 6): م. س: ص 204.
([47])  صدام حسين: في 20/12/1979م: الأعمال الكاملة (ج 5): م. س: ص 200.
([48]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (في 11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 13.
([49]) م. ن، ص 17.
([50]) م. ن، ص 13.
([51]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (في 11/ 8/ 1977م)«: م. س: ص 14.
([52]) م. ن، ص 19.
([53]) م. ن، ص 12.
([54]) م. ن، ص 15.
([55]) م. ن، ص 15.
([56]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 16.
([57]) صدام حسين: «كلمة خلال مأدبة إفطار لرجال الدين (في 28/ 6/ 1983م) » (25 34): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ):  دار الشؤون الثقافية العامة: بغداد: 1988: ط1: ص 31.
([58]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 16.
([59]) صدام حسين: «كلمة خلال مأدبة إفطار لرجال الدين (في 28/ 6/ 1983م) » (25 34): م. س: ص 31.
([60]) صدام حسين: «خطاب في الجلسة الاستثنائية للمؤتمر القطري العاشر (5/ 10/ 1992م»: أضواء على موقف البعث من الدين والظاهرة السياسية الدينية: دار الحرية للطباعة: بغداد: د. ط: د. ت: ص 17.
([61]) م. ن، ص 65.
([62]) صدام حسين: «حديث في مكتب الإعلام (11/ 8/ 1977م) »: م. س: ص 16.
([63]) صدام حسين: «خطاب في الجلسة الاستثنائية للمؤتمر القطري العاشر»: م. س: ص 78.
([64]) صدام حسين: «حديث في الذكرى الثالثة لأم المعارك (18/ 1/ 1994م»: أضواء على موقف البعث من الدين والظاهرة السياسية الدينية: م. س: ص 135 136.
([65]) صدام حسين: «خطاب في الجلسة الاستثنائية للمؤتمر القطري العاشر »: م. س: ص 17. 
([66]) م. ن، ص 18.
([67]) م. ن، ص 19.
([68]) م. ن، ص 21.
([69]) م. ن، ص 18.
([70]) صدام حسين: «في الجلسة الاستثنائية للمؤتمر القطري العاشر (5/ 10/ 1992م»: م. س: ص 21.
([71]) م. ن، ص 22.
([72]) م. ن، ص 23.
([73]) م. ن، ص 25.
([74]) م. ن، ص 31.
([75]) صدام حسين: «حديث لدى استقباله جمعاً من المفكرين العرب (في 11/ 12/ 1992م) »  (73 - 86): أضواء على موقف البعث من الدين والظاهرة السياسية الدينية: م. س: ص 78 - 79.
([76]) م. ن، ص 80.
([77]) م. ن، ص 81- 82.
([78]) م. ن، ص 83 84.
([79]) م. ن، ص 86.
([80]) صدام حسين: «حديث في 8/ 8/ 1994م» (157 - 174): أضواء على موقف البعث من الدين والظاهرة السياسية الدينية: م. س: ص 161.
([81]) م. ن، ص 162.
([82]) م. ن، ص 163.
([83]) رواية لكاتبها: القلعـة الحصينـة: دار الحرية: بغداد: 2001م: ص 294 - 295.
([84]) صدام حسين: «حديث في 8/ 8/ 1994م«: أضواء على موقف البعث من الدين والظاهرة السياسية الدينية:م. س: ص 167.
([85]) م. ن، ص 168.
([86]) م. ن، ص 168.
([87]) م. ن، ص 169.
([88]) صدام حسين: «حديث صحافي (في 10/ 1/ 1988م) » (53 - 77): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ): م. س: ص 56.
([89]) زيادة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الأول: الاصطلاحات والمفاهيم): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986م: ط1: ص 168. (مصطلح: إيمان).
([90]) نضال البعث (الجزء الرابع): دار الطليعة: بيروت: 1976م: ط3: ص 25.
([91]) صدام حسين: «حديث صحافي (في 10/ 1/ 1988م) » (53 - 77): المختارات (ج9) (الدين والتراث والتاريخ): م. س: ص 56.
([92]) بولس الخوري: في سبيل أنسنة الإنسان: توزيع مختارات: بيروت: ط1: 1997م: ص 124.
([93]) م. ن، ص 125.
([94])  م. ن، ص 129.

ليست هناك تعليقات: