الخط البياني للثورة العراقية المسلحة في شهرين
يتصاعد بحركية نوعية لافتة:
الثورة العراقية خطوات إلى الأمام، و(العملية السياسية) خطوات إلى الوراء
لم
تدخل المقاومة العراقية من البوابة العسكرية لإسقاط حكومة المالكي إلاَّ بعدما
أنجزت قيادتها المرحلة التمهيدية التي تضمن نجاحها، وأنجزت ما يتطلبه التمهيد من
إعداد وتدريب وإمكانيات وتهيئة شعبية وسياسية. وكانت التهيئة الشعبية من أهم تلك
العوامل بحيث استهلك إعدادها سنة من الزمن تصلَّبت فيها أعصاب الجماهير المنتفضة،
وأثبتت صمودها في مواجهة كل آلات ترهيب حكومة المالكي وترغيبه. وبذلك شكلت حاضنة
شعبية للثورة العراقية كعامل أساسي من عوامل نجاح الثورات. فالثورة لا تكتمل إلاَّ
بخلق حاضنة شعبية تشترك فيها كل أطياف الشعب العراقي وطوائفه وشرائحه الاجتماعية.
لقد
كانت مرحلة الاعتصامات مرحلة إعداد نفسي لجماهير المحافظات الست اجتازتها الثورة
بنجاح، خاصة عندما صمدت في مواجهة إجرام حكومة المالكي التي كانت مجزرة الحويجة في
العام الماضي من أهم مظاهرها. تلك المجزرة التي كانت من أكثر مظاهر إرهاب حكومة
المالكي إجراماً، لأنه كان يُخيَّل إليه أن نتائجها ستزرع الرعب في نفوس خيم
الاعتصامات الأخرى في المدن الأخرى، بعد أن تنتشر صور مجزرة الحويجة الإجرامية.
لقد
صمدت الحويجة على الرغم من بشاعة المجزرة، كما لم تستطع تلك البشاعة أن ترهب المدن
الأخرى. وربما راهن المالكي، بارتكابه تلك المجزرة على كسر طوق الحاضنة الشعبية من
حول المقاومة العراقية، لكنها زادت الجماهير المنتفضة أينما كانت بوقود ثوري جديد،
خاصة أن المقاومة أعلنت أنها ستقوم بحماية الجماهير العراقية المنتفضة.
وعلى
الرغم من إعلان المقاومة عن قرارها بالحماية، فقد خُيِّل للمالكي أن ذلك الإعلان
لن يكون أكثر من (فقاعة) لا تظهر على السطح إلاَّ لكي تتبخر. فقام بتجربة أخرى، في
أواخر العام 2013، لارتكاب مجزرة في الرمادي، على قاعدة أن ترتجف قلوب الجماهير
المنتفضة في المدن الأخرى، وما درى أن المقاومة ستنفذ وعدها.
عاملان
ثوريان جديدان، في هذه اللحظة، برزا منذ اتخذ المالكي قراره بإطفاء ما زعم أنه
(فقاعات)، وهما:
-الأول:
إصرار جماهير المحافظات الستة على الاستمرار في حركتها السلمية التي بدأت بها.
-الثاني: ظهور سلاح المقاومة بالفعل لمنع قوات
المالكي من ارتكاب مجزرة أخرى في الرمادي. وبذلك تكون المقاومة قد أوفت بوعدها
بحماية (الحراك الشعبي السلمي).
وبرزت
مظاهر هذين العاملين في أواخر العام 2013، إذ ما كادت القوات الحكومية تبدأ بتنفيذ
مخططها الإجرامي في الرمادي، حتى كان سلاح المقاومة لها بالمرصاد للدفاع عن
الجماهير الشعبية المنتفضة. فوجدت معارك الرمادي صداها في الفلوجة بسرعة البرق
فانتصبت المتاريس وشُنَّت العمليات العسكرية ضد القوات الحكومية. وراحت الأصداء
تتوسع بانفجارات شعبية عسكرية في مدن أخرى وصلت إلى مدينة الموصل مروراً
بالمحافظات التي تفصل بينها وبين الأنبار.
ولم تتوقف حالة الحراك الشعبي العسكري عند حدود تلك المحافظات بل انتشرت حتى وصلت
إلى عمق محافظة ديالى، بما تمثله من مخاطر أمنية على الحدود الفاصلة بين العراق
وإيران. كما وصلت إلى أبو غريب والمدائن بما تمثله من خطوط حمراء تطال عمق العاصمة
بغداد. هذا دون أن نغفل ما تحققه حالة الغليان الثوري التي أخذت تظهر في بابل،
وأهميتها أنها تمثل الطوق الجغرافي الجنوبي الذي يلف العاصمة بغداد.
لا
شك بأن فترة أقل من شهرين على انطلاقة الثورة الشعبية المسلحة تُعتبر مسافة زمنية
قصيرة وقياسية في عمر الثورات الشعبية. وإذا اعتبرنا أن المعركة الأساسية ستكون
ساحتها العاصمة العراقية، فيعني أن الثورة اخترقت حدود المرحلة السلمية التي كانت
منتشرة في شمال بغداد وغربها، فإذا بها تحقق نقلة عسكرية نوعية فتنتقل إلى شرق
بغداد انطلاقاً من ديالى، وإلى جنوبها انطلاقاً من بابل.
لقد
أنجزت المقاومة العراقية في تلك الفترة القصيرة مجموعة من النقلات النوعية على
الصعد: العسكرية، والشعبية، والسياسية والإعلامية، داخل العراق، وأخذت تنتشر
أخبارها إلى أن بدأت تؤثر في الرأي العام الدولي.
فهناك
في المشهد العراقي عدة نقلات نوعية أخذت تبرز على واجهة الأحداث في العراق الآن،
وهي نقلات استطاعت المقاومة العراقية أن تفرضها على المشهد الراهن.
وإذا
أخذنا بعين الاعتبار أن العمل المسلح هو الذي يخلق الظروف الأخرى المساعدة
للمقاومة، فسنبدأ بالكلام بإيجاز عن النقلة النوعية العسكرية:
أولاً: ماذا تعني هذه النقلة النوعية في خريطة انتشار المقاومة جغرافياً؟
تعني
بالمفهوم العسكري أن الهدف الأساسي من خطط المقاومة العسكرية أنها تحقق هدفين
مهمين، أحدهما تكتيكي، والآخر استراتيجي:
-وأما الهدف التكتيكي، فهو تقطيع أوصال انتشار
الجيش الحكومي من الموصل حتى بابل. وتبقى كل قطعة عسكرية مقطوعة الأوصال عن
الأخرى، وهذا ما يحرمها من ميزة التواصل والتنسيق في ما بينها، فتفقد عامل القرار
العسكري الموحد، وهذا يعني أن أفعى القوات الحكومية التي كانت متمددة بكامل حريتها
وحركتها قد أصبحت متقطعة الأوصال الأمر الذي يؤدي إلى إرباكها، وسهولة القضاء
عليها.
-وأما الهدف الاستراتيجي، فيتحقق بتحرير العاصمة
بغداد، بما تمثل رأساً لأفعى (العملية السياسية). وما الهدف التكتيكي العسكري
إلاَّ استئصال الرئة العسكرية التي تتنفس منها حكومة المالكي. وكل ذلك يعني أن
بغداد أصبحت معزولة عن رئتها الأمنية والعسكرية في المحافظات التي يسيطر عليها
الثوار، وهذا سيمنعها من استقدام قوات من خارجها، وإن أرادت أن تفعلها بوسائل جوية
فهي معرَّضة لخطر دفاعات المقاومة الجوية، خاصة أن المقاومة أسقطت العديد من
طائرات الجيش الحكومي العامودية والحربية.
ثانياً: وأما النقلة التنظيمية للمقاومة فتمثلت بعاملين رئيسين وثالث
مساعد، وهي:
1-تشكيل المجلس العسكري العام، وهو يمثل المركزية
في القيادة العسكرية، ويضم عشرات المجالس العسكرية التي تم الإعلان عنها في كل
المحافظات والمدن والعشائر.
2-تشكيل المجلس السياسي العام، ومن أهم مهماته أن
يملأ الفراغ الأمني والسياسي الذي ستتركه عملية انهيار (العملية السياسية) بكل
مؤسساتها السياسية والإدارية والعسكرية والأمنية. وتأتي أهمية هذا المجلس من أنه
يتشكل على قاعدة جبهوية تحفظ مقعداً لكل من أسهم أو يسهم في تحرير العراق.
3-وأما العامل الثالث المساند لهما، فهو العامل
الإعلامي الذي يكمِّل مهمات المجلسين السياسي والعسكري، ويساعدهما على إتمام
مهماتهما سواء بكشف حقيقة جرائم (العملية السياسية) أم كان بالإفصاح عن حقيقة
أهداف الثورة الشعبية العراقية ونشر أخبارها.
ومما
لا شك فيه، وعلى الرغم من كل أنواع التعتيم الإعلامي على الثورة، وعلى الرغم من
محدوية الوسائل الإعلامية التي تمتلكها، فقد أنجز التنظيم الإعلامي العديد من
النجاحات سواء في داخل العراق أم على منابر الرأي العام العربي والدولي، خاصة
الدور المؤثر الذي تقوم به اللجان الإعلامية في الدول الغربية. والدليل على ذلك التأثير
يظهر من خلال أخبار الثورة التي بدأت تستأثر باهتمام دولي.
ثالثاً: النقلة النوعية على
صعيد مواقف القوى الشعبية العراقية وحتى القوى المشاركة في (العملية السياسية):
وإذا
كنا نشاهد تصاعداً شعبياً في تأييد الثورة العراقية، بل ومشاركة فيها، ففي المقابل
نشهد انحساراً شعبياً عن تأييد حكومة المالكي. والأكثر أهمية هو دخول (العملية
السياسية) مرحلة التفكك ومرحلة الخلافات داخل تياراتها وشخوصها.
فمنهم
من فقد الأمل في أن تحقق تلك العملية أية إصلاحات تساعدها على تمديد عمرها، فانسحب
منها كما فعل مقتدى الصدر.
ومنهم
من يراهن حتى الآن يائساً، ولا شك بأن هؤلاء لن يطول بهم البقاء في دائرة مراهنات
خاسرة، فهم إما سينتقلون إلى اتخاذ موقف شبيه بموقف الصدر، أو أنهم سيحملون ما
جمعوه من سرقات ليقضوا ما تبقى من عمرهم في الخارج.
وأما
على المستوى الشعبي، فنعتقد أن كل خطوة جديدة ستنجزها الثورة الشعبية في المحافظات
الثائرة ستجد صداها في المحافظات الأخرى.
رابعاً: النقلة النوعية المرتقبة على صعيد مواقف الدول من الثورة العراقية
وهنا
لا يفوتنا أن نعالج موضوع الموقف الدولي والعربي من القضية العراقية، وما هي
احتمالات دعم الثورة العراقية ومساندتها على صعيد الاعتراف بها.
بداية
نفهم أساساً أن هذا الدعم يستند إلى اعتبار حكومة المالكي حكومة للاحتلال حتى ولو
تم تجميلها بمساحيق ديموقراطية، وهذا الاعتبار يؤدي إلى أن من يعترف بشرعة حق
الشعوب بمقاومة الاحتلال، فعليه أن يعترف بشرعية حق مقاومة من جاء مع الاحتلال.
وحيث إن حكومة المالكي جاءت مع الاحتلال وتشكلت تحت حمايته، فمقاومتها بشتى
الوسائل حتى إسقاطها تعتبر مقاومة شرعية، وحقاً من حقوق الشعب العراقي.
مرَّت
عشر سنين من عمر الاحتلال، وتعاملت كل الدول مع قضية احتلال العراق، ومع كل
إفرازاته، كأمر واقع على الرغم من تناقضه مع شرعة الضمير العالمي والإنساني. وكانت
المصالح الاقتصادية السبب الذي دفع بتلك الدول الى الاعتراف بـ (العملية السياسية)
التي أسسها الاحتلال، وحكومة المالكي هي آخر إفرازات تلك العملية.
وبناء
على مفهومنا لهذا الواقع، أي ارتباط مواقف الدول السياسية بمصالحها الاقتصادية،
يدفعنا إلى التساؤل عما ستؤول إليه مواقف تلك الدول تجاه القضية العراقية بعد أن
تلتقط حاسةُ شم مخابراتها أن الثورة العراقية أصبحت على شفا إسقاط الحكومة العميلة
للاحتلال؟
وسواء
من الدول الصامتة على ما يجري أو من تلك التي تقوم بمساعدة حكومة المالكي بالدعم
بالسلاح أو بالموقف السياسي، فإن ما نتوقعه هو أن تحصل متغيرات على مواقف تلك
الدول. فالصامتة منها سوف تخرج عن صمتها، والداعمة لحكومة المالكي باستثناء أميركا
وإيران، ستنحسر عن دعمها. وأما السبب بإيجاز فهو التالي:
إن
تلك الدول، بشتى أشكالها ومواقفها تنتظر لتتأكد مدى فعالية الثورة العراقية
وتأثيرها، فبالمقدار التي ستحقق فيها إنجازات عسكرية على الأرض ستفرض نفسها على
مواقف تلك الدول. وسيحصل التحول الأكبر في مواقف الدول الأجنبية عندما تصبح الثورة
الشعبية على شفا الانتصار.
إن
هذا ليس مستغرباً، فالدول الصامتة، وكذلك الدول الداعمة، لا تنظر إلاّ من بوابة مصالحها،
فهي لا تؤيد المالكي لحُسْنٍ فيه كما لا ترفضه لقبح فيه، بل تؤيده لأنه يمثل
كياناً حكومياً يملك قرار العراق بما يعنيه من إغراء تلك الدول بمعاهدة اقتصادية
هنا، أو اتفاق عسكري أو أمني هناك، ولكنها عندما تؤكد لها أجهزة مخابراتها أن وضع
حكومة المالكي آخذ طريقه نحو الاهتزاز، فهي ستواكب بموقفها القوى السياسية التي
تمتلك إمكانيات حكم العراق. وحيث إن الثورة العراقية تحقق إنجازات سريعة على أرض
الميدان فلا شك بأن أنظار تلك الدول ستتجه نحو فتح علاقات معها استباقاً لضمان
حصتها في الحظوة لدى النظام الجديد القادم.
ونتيجة
لكل تلك الأسباب مجتمعة، فنحن لم نتفاجأ أن تحرز الثورة العراقية قصب السبق في
سرعة تحقيق أهدافها، لأنها مرَّت في حركة تراكمية ثورية امتدت منذ احتلال بغداد،
ومرَّت بتجارب عُمِّدت بالروح والدم والراحة الشخصية، وهذا يؤكد أنها ليست فورة
تنطفئ عند هبة ريح إجرامية تنفخها حكومة المالكي، بل هي الثورة الوحيدة المتكاملة
الأركان والعوامل: منهج سياسي واضح الأهداف، وقيادة عركتها تجارب الثورة، وشعب ثار
ولن تخمد ثورته لأنه ليس لديه بعد ما يخسره.
ومعادلة:
(الثورة العراقية تتقدم خطوات إلى الأمام في كل يوم يمر عليها، بينما العملية السياسية تتأخر خطوات إلى الوراء
في الوقت نفسه)، ستكون نتيجتها النهائية تحقيق هدف المقاومة المركزي في تحرير
العراق تحريراً كاملاً وناجزاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق