الثلاثاء، أغسطس 19، 2014

قضية الأقليات الدينية دخان لحجب التدخل العسكري الأجنبي في الموصل

قضية الأقليات الدينية  في العراق
دخان لحجب التدخل العسكري الأجنبي في الموصل

  في 19/ 8/ 2014
في محاولة لتجميع تسلسل الأحداث التي سبقت إثارة قضية تهجير المسيحيين من الموصل، وتلتها إثارة قضية الإيزيديين في جبال سنجار، لاستطعنا أن نشكل صورة شبه متكاملة عن مشروع يتلخص بتبرير التدخل الأجنبي في العراق. وهذا المشروع شبيه، ولو على شكل مصغَّر للسيناريو، الذي سبق احتلال العراق.
منذ أواخر العام 2013، أعلنت الإدارة الأميركية أنها ستقدم كل أسباب الدعم لحكومة المالكي من أجل محاربة الإرهاب، وهي كانت تقصد حركة الاحتجاجات التي صمدت لعام كامل في المحافظات الستة. ولم تكن الثورة العراقية المسلحة قد ابتدأت. وتصاعدت وتيرة التهديدات الأميركية للمساعدة مع تصاعد وتيرة الإنجازات العسكرية التي كانت تحققها الثورة على الأرض. وبلغت شدة التصريحات الأميركية مستواها الأعلى بعد ثورة الموصل. ولهذا تصاعدت وتيرة الإعلام الأميركي، ووكلائه على مساحة الكرة الدولية، فكان عنوانها (داعش تقتلع مسيحيي الموصل) وتدمر كنائسهم، وتخيرهم بين إشهار الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتل. ولتزيد منسوب التحريض ضد الثورة فقد أدخلت قضية الإيزيديين إلى المشهد. وعندما كُشِف القناع عن حقيقة ما جرى حول ذلك، فقد نشرت وسائل الإعلام أن من فعلها كانت مجموعة من مجاميع مخابرات (العملية السياسية)، والتي لا شكَّ بأنها مرتبطة بالمخابرات الأجنبية، التي كانت تعمل على إنضاج سيناريو البدء بمعركة الموصل من أجل استعادتها من أيدي الثوار.
وكانت شدة التحريض الإعلامي على ما جرى شبيهة بشدة التحريض الإعلامي التي سبقت العدوان على العراق في العام 2003. حينذاك نشرت جريدة القدس العربي، في أواسط تموز 2003، ما يلي:
(أولى أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد«، ومن أهمهم: (تشيني، رامسفيلد، ريتشارد بيرل، بول ولفووتيز، وليم كريستول)، الإعلام اهتماماً كبيراً في العدوان على العراق، وقد جاء في إحدى توصيات أصحاب المشروع كما أوردته جريدة القدس العربي (أواسط تموز / يوليو 2003م)- ما يلي: من الضروري أن تركز أجهزة الإعلام، وخاصة الفضائيات وكُتّاب المقالات والتعليقات، على الموبقات والجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين، بشكل يومي، وتكرار التعليق على المقابر الجماعية وضحايا الأسلحة الكيماوية، وعلى أحداث القتل والاعدامات والتحكم الفردي بمقدرات العراق، دون نسيان الحديث عن القصور الفخمة والبذخ والإسراف، وذلك من أجل صرف النظر عن الاحتلال الأميركي).
وهل ما حصل في حملة التحريض التي سيقت في قضية الموصل إلاَّ صورة طبق الأصل عما حصل في العام 2003؟
إنها حملة أولت فيها الإدارة الأميركية، ووسائل إعلام النظام الإيراني، اهتماماً شديداً كادت لشدة الوقائع المزوَّرة التي كانت تنشرها وسائل الإعلام يومياً، تُقنع حتى الذين يملكون حصانة ضد كذب تلك الوسائل، وهم صدقوا أن ما يجري في الموصل ضد المسيحيين هو حقيقة أكيدة، فبنوا مواقفهم الشاجبة لما يحصل وكأن دموع من بكى لهول مأساة المسيحيين في الموصل ليست دموع التماسيح. وكان المشهد المؤسف أن دموع بابا روما انهمرت على مأساة المسيحيين، وهي الدموع التي لم تقطر دمعة واحدة، إذا ما علمنا أن عدد المسيحيين في العراق كان يبلغ المليون ونصف المليون قبل الاحتلال. وقد بلغ عددهم قبل ما زعموا أنه تهجيرهم من الموصل، الثلاثماية ألف نسمة. وأما المليون والمائتا ألف نسمة، الذين تهجروا بفعل الاحتلال، وممارسة عملاء الاحتلال، فقد بخلوا عليهم بدمعة واحدة، وخاصة من ماتوا في تفجير (كنيسة النجاة) في بغداد، وفي غيرها وغيرها...
وأما الحقيقة، التي نملك أسباب الدفاع عنها، فإن تلك الحملة كانت إخراجاً مسرحياً كمقدمة لتنفيذ مخطط إجهاض ما حققته الثورة العراقية بواسطة التدخل العسكري الأميركي المسلح. ذلك المخطط الذي قرَّره البيت الأبيض، وقبل تنفيذه كان لا بدَّ من تبرير أسبابه أمام الشعب الأميركي بشكل خاص، ولا يقتنع الشعب الأميركي بأسباب أخرى أكثر من سبب (اضطهاد المسيحيين)، وخاصة على أيدي المتشددين الإسلاميين. وبالإضافة ألى ذلك، كانت الإدارة الأميركية تعمل وراء المشهد لاستقطاب أكثر ما يمكن من الحلفاء للمشاركة بالعدوان على الموصل.
كان المخطط المرسوم إحباط ما أحرزته الثورة في الموصل. ولأنها، بعد إنجازه، تهاوت المناطق الأخرى كأحجار الشطرنج. ولأن في الموصل عوامل كثيرة تساعد على إنجاح مخطط استعادة الموصل، ولعلَّ من أهمها، ومما كشفه تسلسل الأحداث من عوامل داخلية عراقية، وعوامل خارجية، وإقليمية، وهي:

1-العوامل العراقية الداخلية:
أ-الحدود المشتركة بين (إقليم كردستان العراق) وبين حدود الموصل، وهذا ما يوفر نقطة جغرافية ثابتة، تنطلق منه العمليات العسكرية. بالإضافة إلى أن قيادة الإقليم لا تستطيع أن ترفض طلباً للولايات المتحدة الأميركية لأكثر من سبب. وإذا كانت الغارات الجوية الأميركية عاجزة عن الإمساك بالأرض فهناك مراهنة على قوات (البشمركة) للإمساك بها. وهذه بدورها ستكون عاجزة عن ذلك، لأنه لم يتم تأهيلها أكثر من أن تقوم بدور قوات أمن داخلي. وعلى افتراض استقدام قوات من (المرتزقة) كمثل تلك التي استخدمها الاحتلال الأميركي قبل هزيمته في العراق، وعقيدة هذه الارتزاق وليس الموت، ولذلك ستقوم باستخدام كل ما ليس بأخلاقي مع السكان.
بـ-بما لا يدع مجالاً للشك فإن حكم (آل النجيفي) للموصل، أسامة النجيفي (رئيس مجلس النواب  السابق)، وأخوه أثيل النجيفي، حاكم الموصل قبل تحريرها، قد أسس لطبقة طفيلية من نخب العشائر والنخب الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية. وتلك قاعدة يستند إليها مخططو مشروع استعادة مدينة الموصل. وهذا بالإضافة إلى من يحيط بهم ممن يستفيدون من الرواتب الشهرية لقاء القيام بخدماتهم.

2-العوامل الإقليمية:
أ-العامل الإيراني: وهو غني عن القول بأن إعادة السيطرة على الموصل هي من أهم عوامل حماية بغداد، وبالتالي من عوامل حماية (إقليم الجنوب). وهو وإن لن تتم مشاركته بشكل ظاهر في تنفيذ المشروع لحساسية العلاقة مع قادة (إقليم كردستان)، ولحساسية مواقف المكون السني على الصعيدين الرسمي العربي والشعبي العراقي، فإنه لن يتوانى عن تقديم كل الإمكانيات من أجل استعادة الموصل إلى تحت خيمة (العملية السياسية).
بـ-العامل التركي: للنظام التركي مصالح في العراق، واستعادة الموصل خاصة أنها تكون بـ(قيادة سنية) تضمن مصالح تركيا في العراق. وباستثناء الخوف الذي يبديه النظام من (الإقليم الكردي) لأسباب أمنية داخلية تركية، فليس من المستبعد أن يكون النظام التركي مشاركاً في تنفيذ المشروع.
إن لتركيا مصلحة بقيام (إقليم الموصل) تحت قيادة سنية، ففيها ضمانة واطمئنان بسبب التماثل والتلاقي المذهبي، وفيها ضمانة اقتصادية وأمنية أيضاً. ففي الاقتصاد هناك مشاريع مشتركة خطط لها (أثيل النجيفي) محافظ الموصل سابقاً من النظام التركي. وفي الأمن هناك اطمئنان بوجود مكون سني سيكون لاجماً لأي تفكير كردستاني للعبث بالأمن التركي.

3-العوامل الدولية:
العوامل الدولية، الأميركية والأوروبية، مقترنة بالعامل الصهيوني، هي عوامل متجانسة ومترابطة لا يفصل بينها أو يعكر صفوها جوانب التنافس التفصيلي بالمصالح. إن أطراف هذا الحلف لا يستطيعوا أن يتجاوزوا السقف الأميركي، فمصالحهم في العراق مرتبطة في الوقت الراهن بالقرار الأميركي، ولذلك فهم لا يستطيعوا أن يغردوا خارج سربه. ومن أجل هذا السبب الرئيسي، كان من الملاحظ أن تبادر بريطانيا وفرنسا إلى إعلان تقديم خدماتهما لأي عمل عسكري أميركا. وإن كانتا قد غلَّفتا إعلانهما بتقديم الخدمات الإنسانية للأقليات المضطهدة.

4-في قراءة المشهد الراهن:
لقد كانت إثارة قضية الأقليات الدينية في العراق دخاناً يحجب تحته الإعداد لمخطط إجهاض الثورة العراقية، إذ أن طرفيها، المسيحيون المضطهدون و(إرهاب) الإسلاميين المتشددين، هما الأكثر إثارة للرأي العام العربي والدولي. ولذلك تمَّ التمهيد بها لتنفيذ مخطط إعادة الموصل لحضانة (العملية السياسية). وتلك مسألة كانت من حسابات الثورة العراقية منذ بداية الإعلان عنها. وكما كانت حسابات الربح ماثلة في ذهنها، فقد كان احتمال وضع عوائق في مواجهتها ماثلاً أيضاً. ومن أهم تلك العوائق هو رفع سقف المساعدات والمشاركات العسكرية الأميركية والإيرانية أولاً، وثانياً فقد استنهضا من أحبطوا من عملائهما العراقيين طوال الأشهر الماضية.
لقد بلغ سقف المشاركات الإيرانية حدوداً عالية من خلال الدفع بقوات مقاتلة إلى أرض المعركة، والنظام الإيراني في مثل هذه الحالة لا يكترث بكمية من يُقتلون من جنوده، لأنه عبَّأ الرأي العام بأن من أرسلهم للعراق فإنما سيموتون شهداء حماية العتبات المقدسة.
وأما الإدارة الأميركية فقد رفعت سقف مساعدتها من تقديم أسلحة نوعية لحكومة المالكي إلى القيام بطلعات جوية فقط خوفاً من الرأي العام الأميركي الذي اكتوى من نار المقاومة العراقية. وهي لن تزج بجنودها مرة ثانية إلى (نار جهنم العراق). وأما البديل فهي أنها دفعت بالأكراد ليكونوا كبش المحرقة، وليكونوا فداء لجنود الجيش الأميركي.
ونتيجة لكل ذلك، فقد انقلب بعض من كان يخدع الثورة من داخلها على الثورة ذاتها. وتبيَّن أن البعض منهم، من الحديثين عليها، ومن الذين تظاهروا أنهم لجانبها بعد أن حققت ما حققته من انتصارات، قد خُدعوا مرة ثانية عندما ابتدأت بوادر المخطط الأميركي بالتنفيذ في الموصل. ولذلك ارتدوا على أعقابهم وهم يراهنون على استعادة أمجاد لهم في عصر (العملية السياسية)، وما دروا أنهم يعوِّلون على سراب مرة أخرى، وتجاهلوا أن الإدارة الأميركية تدفع بهم إلى محرقة توفيراً لدم جنودها.
لا شك بأن عوامل التعقيد قد تكاثرت في وجه الثورة العراقية، ولكن تلك العوامل لن تزداد أكثر من ذلك، فقد دفع طرفا التحالف الأميركي الإيراني بأقصى ما يمكنهما تقديمه. وقد كشفا القناع عن أحصنتهما الطروادية. ولكن الثورة الآن بدلاً من استكمال خطتها باتجاه إدامة الزخم نحو بغداد، فعليها أن تملأ الفراغات التي تركتها تلك الندوب الداخلية منها بشكل خاص. ولكن تلك الندوب لم تؤثر على مسار الثورة الاستراتيجي، وهي مستمرة كما تؤكد ذلك العمليات العسكرية في مقتربات بغداد.

النتائج المرتقبة في المستقبل القريب، كما نتوقع أن تكون عليها، هي التالية:
-تتواصل جثامين الجنود الإيرانيين بالوصول إلى مدن إيران وقراها. بينما المقاومة تقفل الطرقات في وجه تسللهم، طريقاً بعد آخر، سواءٌ من ناحية ديالى، ممرهم الأساسي، أم من ناحية بابل وجرف الصخر. هذا مع العلم أن المأزق الإيراني في العراق قد بدأ يتعمَّق، وإن كانت آثاره لم تظهر حتى الآن في الداخل الإيراني، فإنه يظهر الآن في ملف علاقاته مع أميركا التي تراهن أنها ستقبض ثمناً أكثر من حصتها في العراق بعد مشاركتها العسكرية، وهي لن تبقى مرتهنة للحماية الإيرانية في العراق.
-إن الإدارة الأميركية باتخاذها قرار التدخل المباشر في العراق، مقتنعة أن الغطاء الجوي لن يؤدي إلى إعادة احتلاله، بل عليها أن تراهن على قوة تمسك بالأرض، وغير ذلك ستكون نتائج تدخلها عبثية ومن دون نتيجة.
-فهل من تراهن عليهم، من قوات بشمركة وأحصنتها الداخلية في الموصل ممن حاولوا خداع الثورة، لديهم المقدرة بالإمساك بالأرض في الموصل؟ إن الجواب يؤكد بأنه من الصعب جداً أن يفي بالغرض من تم إعداده لمهمات أمنية داخلية كقوات البشمركة، أو من انقلبوا ضد وعودهم للثورة بأن يبنوا من جديد قوى عسكرية وأمنية تمسك بالأرض.
وإذا كانت التجربة التي خاضتها الثورة العراقية مع بعض أدعياء الثورة لم تكن ناجحة، إلاَّ أنها بعد انكشاف أمرهم، تكون قد تخلَّصت من أدرانهم ومنهم أيضاً. فسوف تسير وهي مطمئنة إلى أنها لن تُطعن بالظهر.

ليست هناك تعليقات: