الخميس، يناير 29، 2015

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة (6/ 11)


أوراق قديمة أنشرها لأول مرة
وموضوعها:
حوارات ومناقشات حول كتابات حسن خليل غريب
(المناقشة السادسة)
(6/ 11)
وهذه الحلقة السادسة، وجاءت تحت عنوان: (مناقشـة بـحث:  محمد عمارة مفكر إسلامي)، وهي عبارة عن مطالعتين: كتب الأولى مشكوراً الدكتور محمد مراد. وكتب الثانية المرحوم ظافر المقدم، ويعود تاريخها إلى العام 2002. وأرفقت مع المناقشة رداً على مطالعتيهما.
مناقشـة بـحث:  محمد عمارة مفكر إسلامي
(د. محمد مراد)
«محمد عمارة: مفكر إسلامي يشد لحاف التيار القومي نحو كامل الإسلام«(*)
I - ملاحظـات حول المنهج:
II - المآخذ على الكاتب:
III - نقـاط تُغني الحــوار:
IV - في المنهـج:
مساهمة في سبيل إغناء البحث (د. محمد مراد)
1-الإسلام دين السماء، كما اليهودية والمسيحية السابقتين عليه
2-لماذا هذه الرسالة؟
3-الرسالة السماوية كجوهر وكطقس:
4-أين تقع الإشكالية بين الجوهر والطقس؟
5-كيف تطورت نظرة ميشيل عفلق إلى الإسلام؟ إعلان إسلام عفلق بعد مماته: المعاني والأبعاد. الإسلام والقوميـة. لماذا لم تكن المسيحية والعروبة؟
مداخلـة أخرى لإغنـاء البحث: ومضات من حوار ومناقشات مع أفكار الدكتور عمارة، وحوار مع بحث حسن غريب حول معاني إسلام ميشيل عفلق (ظافر المقدم)
ملاحظات الباحث وتوضيحاته وردوده حول آراء المحاورين ومداخلاتهم
أولاً: في توضيح الغاية من نقد كتاب محمد عمارة «التيار القومي الإسلامي».
ثانيـاً: في توضيح الموقف من الإسلام كاملاً:
ثالثـاً: غموض الرد على عمارة وضعف الاستدلالات
رابعـاً: فيما حُسب تناقض بين موقعي عفلق: المفكر والسياسي
خامساً: وجوب إظهار خصوصية الإسلام العربية
سادساً: حول غياب رسم الخط البياني لتطور موقف عفلق من الإسلام
سابعاً: لماذا أعلن عفلق إسلامه؟
 
المداخلــة الأولى للدكتور محمد مراد
I - ملاحظـات حول المنهج:
أولاً: تنويه بالمناقشة العلمية المركَّزة للكاتب لجهة تناوله مقولات عمارة، ومن نتائج ردوده واستنتاجاته بشأنها. وقد غلب على منهجية النقاش ما يمكن تسميته: مناقشة المقولة بالمقولة. وهذا جانب مهم من جوانب المنهجية العلمية في الكتابة.
ثانياً: يجدر التنويه بمنهج الكاتب العام في تحليل الإشكاليات والفرضيات، والذي هو منهج التاريخ الاجتماعي الذي يقوم على رصد أسباب الظاهرة، أية ظاهرة، وملاحقة مسارها التطوري، وصولاً إلى النتائج التي تتركها أو تنتهي إليها. فهو يناقش ثلاثة مناهج:
-                 الديني كمنهج تسليمي ما ورائي.
-                 الماركسي، كمنهج مادي أحادي في حركة التاريخ.
-                 التاريخ الاجتماعي، كمنهج شمولي اقتصادي، اجتماعي ،ديني، ثقافي، سياسي ألخ.
 
II - المـآخذ على الكاتب:
ما يُؤخذ على الكاتب مسائل أربع:
الأولى: ارتباك في المنهج من حيث الشكل، مثلاً: رسم الخط البياني لتطور فكر عفلق تجاه الإسلام. فكان ينبغي اعتماد التسلسل الزمني (العلاقة بين الزمن والفكر).
الثانية: ما يوحي بالتناقض عندما يتناول الكاتب شخصية عفلق الفكرية والسياسية.
الثالثة: الاكتفاء بالردود على أفكار عمارة، بل كان ينبغي تقديم جديد إضافي لم يذكره عمارة، ولا حتى عفلق، القائد المؤسس لحزب البعث، ألا وهو: خصوصية الإسلام العربية؛ وهذا ما يمكن أن يخدم آراء الكاتب بتطور الإسلامي باتجاه القومي، وليس تطور القومي باتجاه الإسلامي، كما يريد أن يصوِّر عمارة.
الرابعة: عدم التوقف عند المعاني والأبعاد التي تعكسها أسلمة عفلق في ختام حياته. وهل كانت أسلمة بالمعنى الطقسي الديني، وخروجاً على المسيحية الأرثوذكسية؟ أم كانت تسجيل موقف للتاريخ العربي، وشهادة صادقة عن مكانة الإسلام العربي في الحراك الحضاري للأمة العربية، من حيث هو حركة نضالية نهضوية تركت بصماتها على حركة الثورة العربية منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمن؟
 
III - نقـاط تُغني الحــوار:
أما النقاط التي وجدت من الضرورة إثارتها في مجال إغناء النقاش، بشأن الموضوع المطروح: موضوع العلاقة بين الديني والقومي، فهي أربع:
الأولى: المركَّب الثنائي لشخصية عفلق: صص 1 - 2.
الثانية: الإسلام كجوهر وطقس: صص 3 - 4.
الثالثة: كيف تطورت نظرة ميشيل عفلق إلى الإسلام: صص 4 - 6. ولماذا قال عفلق عن الإسلام ولم يقل عن المسيحية، مثلاً؟: صص 7 - 8.
الرابعة: خصوصية الإسلام العربية: صص 11 - 17. لماذا برزت القومية العربية في التاريخ المعاصر كمحرك للأمة العربية، وسجَّلت سبقاً على الإسلام؟: صص 9 - 10. بمعنى آخر: ما هي التأثيرات العميقة التي تركها الإسلام في البنية العربية؟: صص 11 - 17.
 
IV - في المنهـج:
التنويه بالمناقشة العلمية للباحث في ردوده المركَّزة على آراء عمارة ومقولاته واستنتاجاته. لكن ينبغي التوقف عند أمور يطرحها الباحث حول فكر ميشيل عفلق:
1-أفكار عفلق هي «ملهمة وليست ملزمة«.
2-التمييز بين الموقع الفكري لعفلق والموقع الحزبي والسياسي.
3-الثنائية في شخصية عفلق: (مفكر ذو رؤية فكرية خاصة) و(حزبي سياسي ذو موقع عام).
4-إن لموقع المفكر داخل حزبه وتنظيمه استقلالية فكرية خاصة.
 
وهنا أطرح بعض التساؤلات:
أليس هناك من تلازم بين الفكري والسياسي الحزبي؟ أليس الفكري هو الذي أنتج الحزبي - السياسي؟ ألم يكن السياسي هو شرح لا بل ترجمة تطبيقية للفكري الذي هو بمثابة نظرية في الأصل؟ ألم يكن تعدد المواقع الفكرية، ذات الخصوصية والاستقلالية داخل الحزب، سبباً للتكتلات والانشقاقات الحزبية التي عرفها الحزب كثيراً في مسيرته؟
وجوب تلازم الفكري والسياسي، مثلاً: جاء في ص 48، في دعوة عفلق للمسيحيين للغرف من الثقافة الإسلامية، يصوغ الباحث، في الصفحة 57، المقولة التالية: اختلاف وتوافق داخل الحزب في آن واحد، أي اختلاف حول الحقائق الفكرية، وتوافق حول قضايا نضالية وسياسية واحدة!! ( من الأهمية قراءة النص). وأنا أعتقد أنه داخل الحزب ينبغي الحسم النهائي لكل القضايا التي لها علاقة بتشكل الحزب الفكري والسياسي، لأن عدم الحسم قد يؤدي، في بعض الأحيان، إلى ثغرات، وبالتالي إلى تغايرات واختلافات متعددة. وهذا ما يعود الباحث ليلقي الضوء عليه، في الصفحة 61، فيؤكد على تلازم الفكري والسياسي حين يقول: «والذي يستوقفنا هو أنه (أي عفلق) ليس مفكراً منعزلاً عن الحركة النضالية لحزبه، وعن حركة الصراع الدائم الذي تواجهه أمته العربية مع شتى القوى الداخلية والخارجية«.
 
مساهمة في سبيل إغناء البحث
1- الإسلام دين السماء، كما اليهودية والمسيحية السابقتين عليه: تلتقي الأديان السماوية حول محور عقيدي كبير وأساسي، وهو أن الدين السماوي ليس سوى رسالة من السماء إلى الأرض، وهي رسالة تصل إلى بني البشر في الأرض عبر الأنبياء والرسل عن طريق الوحي، أي «الوحي الإلهي«.
2- لماذا هذه الرسالة؟ من أجل الصلاح للإنسان من أجل أن يحقق الإنسان إنسانيته في عالم الأرض وإنسانية الإنسان تعني كل ما هو إيجابي وخير وصلاح له ولغيره من البشر الآخرين.
3- الرسالة السماوية كجوهر وكطقس: أراد الله الجوهر من الرسالة، أي بلوغ الإنسان مستوى الإنسانية كهدف أسمى. أما الطقوس فهي تبسيط لفهم الإنسان من أجل إقامة علاقة أو ربط بين الطقس والجوهر، أي بين المحسوس والمجرد الروحي. والجوهر هو حقيقة الخلق يسعون على مدى الزمن للتعبير عن هذه الحقيقة من خلال إنجازات متنوعة: نُظُم - علاقات - أنماط اقتصادية - أفكار - قيم - شرائع وقوانين - حضارات، ألخ
4- أين تقع الإشكالية بين الجوهر والطقس؟ تكمن الإشكالية في أن قلة من البشر تأخذ بأولوية الجوهر على الطقس، وهذه القلة تقوم على المفكرين والفلاسفة، مع العلم أن درجة المعرفة لهؤلاء تبقى نسبية وتختلف في ظروف الزمان والمكان بين الناس.
إلا أن كثرة الناس تأخذ بأولوية الطقس على الجوهر، لا بل يتحول الطقس معها إلى جوهر بحد ذاته. من هنا، ظهرت الإشكاليات في التاريخ وتنوعت بتنوع الطقوس وتحولاتها وما نشأ عنها من تأويلات وتفسيرات، لا بل من أفكار وأنماط حياة اختلفت باختلاف الطقوس البشرية وباختلاف ظروفها الزمانية والمكانية.
لقد قصدت من هذه المقدمة أن أقول: إن ميشيل عفلق هو مفكر متنور، بدأ رحلته الفكرية في الثلاثينات، ومطالع الأربعينات، ليشهد أول ثمرة لأفكاره من خلال تأسيس حزب البعث العربي في العام 1947م. وليتحول إلى الاشتراكي في العام 1952م (بعد الاندماج مع الحزب الاشتراكي العربي لأكرم الحوراني). وليشهد الثورة الناصرية في العام 1952م، التي اقتبست الكثير من أفكاره. وليشهد، أيضاً، قيام أول تجربة للوحدة العربية (الوحدة السورية - المصرية من 1958م - 1961م). وليشهد تسلم حزبه السلطة في سوريا (8 آذار / مارس 1963م). ومن ثم في العراق (8 شباط / فبراير 1963م، ومن بعدها في 17 - 30 تموز / يوليو 1968م). هذا بالإضافة إلى أنه شهد محطات مفصلية في تاريخ العرب المعاصر، ومنها: نكبة فلسطين 1948م، العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956م، وهزيمة حزيران / يونيو في العام 1967م، وتجربة الثورة الجزائرية خلال الخمسينات ومطلع الستينات، وتجربة الثورة الفلسطينية منذ العام 1965م، ليشهد أيضاً الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982م، وحرب الخليج الأولى (1980 - 1988م). لكنه لم يشهد _«أم المعارك«، وهنا أظن أنه كان يتوقعها قبل مماته، وهي انفتحت في آب / أغسطس من العام 1990م ولا تزال؛ وهي تلخص الحقد الإمبريالي، وامتداداته الصهيونية والرجعية والمذهبيات الدينية المختلفة، على أنموذج ميشيل عفلق الحضاري المتمثل بنهضة الأمة العربية لتأدية رسالتها الحضارية الإنسانية، والتي يشكل الإسلام، الإسلام الجوهر، أحد أهم ركائزها ومقوماتها.
نستطيع القول إن الفكر التنويري لميشيل عفلق كان يتعمَّق ويظهر أكثر تنويراً وعمقاً من خلال محطات التأثير المشار إليها، والتي عاشها في حياته. وهذه سمة أساسية للحراك الفكري لأي فكر، لأن الفكر الذي يتوقف عن الحركة يصاب بالسكونية والموت.
 
5- كيف تطورت نظرة ميشيل عفلق إلى الإسلام؟ في خلال الثلاثينات، ومطالع الأربعينات، أي في المرحلة التي انكبَّ فيها ميشيل عفلق على استقراء تاريخ الأمة العربية وتوقفه عند مواطن القوة والضعف التي عرفها هذا التاريخ الطويل، أدرك، لا بل اكتشف -كما يقول بنفسه- أن الإسلام كجوهر هو أحد أهم العوامل الحاملة (Elements porteurs ) لإنجاز مشروع نهضة الأمة العربية في التاريخ: في الماضي، في الحاضر وفي المستقبل.
إضافة إلى ذلك، فقد توصل عفلق، من خلال قراءته التاريخية المتعمقة لتاريخ العرب والعالم، أن هناك ثمة خصوصية في العلاقة بين الإسلام والعروبة: الإسلام كفعل تغييري ثوري نهضوي حضاري مستمر، والعروبة كحالة حضارية عربية فاعلة ومستمرة.
إنطلاقاً من هذا الاكتشاف لحرارة العلاقة بين الإسلام والعروبة، كان عفلق، كمفكر، يتمادى في توصيف جديد لخصوصية العلاقة بين الطرفين، وذلك في كل مرة يكتشف فيها جديداً، أو يخضع فيه لتحدٍّ جديد، سواء كان هذا التحدي خارجياً أم داخلياً.
وهذه صورة أولية لتطور الخط البياني لفكر عفلق تجاه الإسلام، معزَّزَةً بالتسلسل الزمني:
1-في العام 1943م، في محاضرته «في ذكرى الرسول العربي«، قال عفلق: «لا يفهمنا إلاَّ المؤمنون، المؤمنون بالله ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان، ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرثه إرثاً، ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا، لأنه ملكنا وثمرة أتعابنا«. فماذا اكتشف عفلق بعد جهد وألم؟
إكتشف سر العلاقة المتميزة بين العروبة والإسلام. إكتشف أن الإسلام، كجوهر، خصوصية عربية أخصَّ العرب بدور حضاري نهضوي في التاريخ، ولم يخص غيرهم من الشعوب أو الأمم الأخرى التي اعتنقت الإسلام وأخذت بتعاليمه.
لقد غاب عن عمارة، وعن الباحث غريب أيضاً، مقولة لميشيل عفلق أعلنها في المناسبة ذاتها، أي في العام 1943م، «في ذكرى الرسول العربي«، حيث قال: «كان محمد كل العرب، فليكن العرب اليوم كلهم محمد«.
تعكس هذه المقولة فكر عفلق وإدراكه لموقع الإسلام في إنجاز المشروع الحضاري النهضوي للأمة العربية، ذلك أنه، أي عفلق، يركز على النوعية في الإسلام، على القيادة النوعية المبدعة وليس على الكمية القابلة للاختزال والنقصان، فيما النوعية هي القوة الحية القادرة على توليد تراكم نوعي وخلق حوافز مستمرة.
2-في العـــام 1976م، أي بعد ثلث قرن من الزمن، عاد عفلق ليؤكد أكثر على اكتشافه لأهمية الإسلام كثورة في الحياة العربية، والتي ينبغي استلهامها دائماً في مواجهة تحديات الإعاقة لمشروع النهضة العربية، سواء كانت هذه التحديات خارجية أم داخلية.
3- في العـــام 1977م، ربط عفلق بين نشأة البعث، كحركة إحياء وتجديد لنهضة الأمة العربية، وبين اكتشاف الفعل المهم  والإنجاز التاريخي الذي أحدثه الإسلام في حياة الأمة، سواء مع الاستجابة العربية لمنطلقات الدعوة الإسلامية الأولى أم مع المحطات المضيئة التي عرفتها الأمة في تاريخها على الأصعدة السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية والثقافية (الفتوحات - تطور نظام الحكم - تعريب النقد وتوحيده - العلوم والترجمات والنقل - التفوق العسكري على الفرس والروم والصليبيين ). لكن الإسلام لم يستمر كفعل ثوري دائم في حياة الأمة؛ فقد تضافرت عوامل عديدة ومختلفة شوَّهت المعاني المضيئة في الإسلام، وراحت تأخذ بأولوية الشكل والاعتبارات السطحية لتحلها محل المضامين الجوهرية الحقيقية التي جاء الإسلام من أجلها. هنا، بدأت الأمة تتطور تطوراً مأزوماً على كل المستويات إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في التاريخ المعاصر من تجزئة وتفتت وانحطاط وتراجع. وهنا، في مسعى منه، يجعل الأمة تتجاوز أزمتها وتستعيد دورها كأمة ذات رسالة حضارية على مستوى العالم، راح عفلق يفكر بإنشاء الأداة القادرة على قيادة الأمة وتحقيق نهضتها، فكان البعث كنتيجة استلهام واكتشاف لدور الإسلام في ثورته العربية الأولى وفي الإنجازات النوعية التي أحدثها. ففي العام 1977م، وبع ثلث قرن على النشأة الرسمية لحزب البعث جاء ميشيل عفلق ليقول: «إن طريق البعث كان نتيجة اكتشاف الإسلام لقد كانت اللحظة التاريخية في حياة الثورة العربية المعاصرة هي سلامة الاختيار وقد كان الموقف من التراث القومي، أي من الإسلام معبراً عن أحد الاختيارات الكبرى لفكر البعث كان لا بُدَّ حرصاً على المستقبل وسلامة الاتجاه، من  الإشارة الصريحة إلى ذلك. والتتمة على الأجيال البعثية الصاعدة«.
 
إعلان إسلام عفلق بعد مماته: المعاني والأبعاد.
الإســـلام والقوميــــــــة
تعريف عفلق للإسـلام: الإسلام هو «حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، له مكانته الخاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها«([1]). والسؤال هو كيف؟  وأين يظهر ذلك؟
لقد وُجدت العروبة قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا. لقد وُلد الإسلام في أرض العروبة ولكنه أصبح هو أباها.  كيف؟ هل يمكن لنا ولغيرنا أن نتساءل:
-المسيحية دعوة روحية، سبقت الإسلام بحوالي 600 سنة، ووُلدت في الأرض العربية، وكانت العروبة موجودة كحالة حضارية معينة قبل ولادة المسيحية.
لماذا، إذاً، لم يقل ميشيل عفلق: المسيحية حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، ولها مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها؟؟
لماذا لم يقل: لقد وجدت العروبة قبل المسيحية، ولكن المسيحية هي التي أنضجت عروبتنا؟
لماذا لم يقل: لقد ولدت المسيحية في الأرض العربية ولكنها أصبحت هي أباها؟
والمسيحية هي دين أيضاً وسابقة على الإسلام. لماذا لم يكن لها تلك التأثيرات العميقة التي تركها الإسلام على الحراك التاريخي العربي؟
يقول الباحث غريب، في الصفحة 70، مقتبساً عن عفلق: «فالمسألة الدينية ليست عرضية في التاريخ العربي والديني ليس شيئاً ثانوياً مصطنعاً في حياة الأمم، فهو موجود في صميم القضية العربية، وفي ضمير المواطن العربي«.
 
لماذا لم تكن المسيحية والعروبة؟
1-حول إشكالية التجريد:
-إشكالية الهوية للمسيح بين: ناسوتيته  ولاهوتيته.
- قوة التجريد، لا بل حسم مسألة التجريد عند الإسلام: تأكيد الإسلام على وجود الله الواحد الأحد غير المنظور لا يدركه إلاَّ العقل.
2-إشكالية المخاطبة بين المسيحية والإسلام:
-المسيحية لم تخاطب العرب بصورة مباشرة.
-الإسلام خاطب العرب مباشرة من خلال: -لغة القرآن العربية. -لغة الرسول محمد العربي. -التأكيد على الدور المعنوي للعرب (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
3-لم تغير المسيحية بالملموس في الواقع العربي، بحيث لم تترجم المسيحية إلى تشريعات في الواقع العربي (لم تخرج عن التبشير بالوحي)، بينما تلازم في الإسلام الروحي بالاجتماعي بالاقتصادي بالسياسي في الواقع العربي.
4-تقبل العناصر العربية للدعوة الإسلامية بسرعة في بلاد الشام والعراق ومصر وأصقاع المغرب العربي: في تونس والجزائر ومراكش وليبيا وغيرها، بينما بقي انتشار المسيحية محدوداً في تلك الأصقاع.
يقول عفلق في العام 1946م: «لكل أمة، في مرحلة معينة من مراحل حياتها، محرك أساسي كان في وقت ظهور الإسلام هو الدين أما اليوم فإن المحرك الأساسي للعرب هو القومية وحدها والإيمان القومي وحده«. فهل انتهى هنا (في أواسط القرن العشرين) دور المؤثر الديني الإسلامي في مد الحركة القومية العربية بمقومات انبعاثها الأساسية؟
الجواب: كلا، فالإسلام هو روح العروبة، فلا يمكن للروح أن تموت. ولكن ماذا يقصد عفلق؟ فهو يقصد بالتالي:
1-إن القومية العربية وصلت، في أواسط القرن العشرين، بفعل الإسلام -كعامل تاريخي أساسي- وغيره من العوامل المؤثرة الأخرى، إلى مرحلة من النضج الفكري، الثقافي، الاقتصادي والسياسي، بحيث أن هذا النضج تحوَّل إلى قوة دفع أساسية للأمة العربية، قوة دفع تعادل قوة الدفع الدينية الإسلامية السابقة من دون أن تلغيها. فهي أبقت عليها كعنصر أساسي من عناصر تكونها التاريخي، وإنما سجلت عليها سبقاً في التاريخ الحديث والمعاصر بفعل التطور المهم الذي عرفه العالم، وعرفته معه الأمة العربية أيضاً.
2-إن الإسلام، بعد مرور طوال أربعة عشر قرناً على ظهوره، لحقت به تشويهات كثيرة على مستوى الممارسات الإسلامية في السياسة والسلطة والعلاقات التناحرية بين مذاهبه وفِرَقه والدول الحاكمة باسمه، وكذلك بفعل محاولات التشويه المستمرة التي قام بها الغرب منذ إرسال الحملات الصليبية، وصولاً إلى محاولات الاختراق الرأسمالي الاستعماري الحديث.
هنا، باتت الضرورة التاريخية تقضي بأن تتقدم القومية العربية، كعنصر حاسم في المعركة، سائر العناصر الأخرى، في مواجهات الحرب الشرسة التي تُشنُّ على العروبة والإسلام معاً من قبل الأعداء الكثر لهما معاً: دينياً، المشوهين لجوهر الدين ولحقيقة رسالته. وإلحادياً، قيادات الماركسية على اختلافها. واستعمارياً غربياً، ولسائر قوى التجزئة والتخلف من داخلية وخارجية، للحؤول دون نهضة الأمة العربية وتقدمها.
فسلاح القومية العربية، هنا، هو سلاح دفاع وتحصين وحماية، ليس فقط عن العروبة كحالة حضارية مستمرة، وإنما أيضاً عن الإسلام الأصالة والنقاء، وكحالة فاعلة حية في الحراك التاريخي العربي.
فكما كان الإسلام أباً للعروبة، والعروبة هي الإبن، فالآن أصبح الإبن رجلاً قادراً، تتوقف عليه مهمات الاحتضان للأب بدافع من الحنين والحرارة والعلاقة الروحية بينهما. وهذا ما يؤكد عليه عفلق بعد ثلاثين سنة، أي في العام 1976م، عندما يقول: «إن نجاح القضية العربية متوقف على امتزاج الأرض والسماء، أي على تكامل العلاقة بين العروبة، كحالة حضارية في الواقع الأرضي، والإسلام كحالة دينية سماوية«.
وتكمن، هنا، العلاقة التكاملية بين العروبة والإسلام، في التبادلية التاريخية (Reversibilite) التالية:
الإســـــلام
العروبـــــة
من هنا، كان البعد التاريخي للبعث يعني إحياءً مستمراً للتبادلية التاريخية بين العروبة والإسلام.
***
المداخلـة الثانيـة لإغنـاء البحث (ظافر المقدم)
ومضات من حوار ومناقشات مع أفكار الدكتور عمارة،
وحوار مع بحث حسن غريب حول معاني إسلام ميشيل عفلق
داعياً عمارة لتحديد قواعد للحوار، قال غريب، بما معناه، تعال بنا يا عزيزي نتفق على قواعد للحوار كل من مخزونه واجتهاده، على أساس التلازم بين موقع الانتماء المعتقدي وموجبات آلية التفكير باتجاه تطوير الاكتساب المعرفي بحثاً عن حقائق مضافة، وخدمة لثوابت أرستها مسيرة كلٍّ منا على مدى أكثر من عقد، تفكيراً وسلوكاً والتزاماً.
من وجهة نظري، علينا أن نحدد فواتيح توصلنا إلى نوافذ الاكتساب المعرفي المضاف من خلال:
1-حاجة الباحث بنتاجه، أو في رده على بحث آخر، إلى الإلمام التأملي مع مادة البحث، على أن تحكمها آلية عقل منفتح ولكنه ملتزم، وإلاَّ أصبح الباحث بدون هوية، أي ما يشبه الحالة الشمولية الأممية.
2-العمل على استنباط الحجة من خلال الاطلاع على مجمل الآراء المعنية بهذا البحث أو ذاك، على قاعدة التمكن من التقاط شبكة الخط البياني الذي يمثله الباحث في رده على باحث آخر في موقع آخر. وهنا يمكننا القول بأن البحث بحاجة إلى فواصل بحث، والنقد بحاجة إلى نقده (أي نقد النقد). وخلاصة النتاج تنضجها مبادرات فردية مؤهلة، وتخرجها، كفعل كلي أو مكتمل، جهود عقل مؤسساتية، لتصبح مؤهلة للاستقطاب التنافسي الهادف لخدمة موقف أو قضية.
3-على الباحث أن يكون طويل الباع واليقظة، متحفزاً دائماً لالتقاط نوعية التساؤلات وتوظيفها في خدمة سياقات المعرفة المحددة في خط بياني متماسك ومتناغم في تحديداته وموسيقاه البنيوية الواضحة والمقرؤة.
أكتفي الآن بما قدمته من ملاحظات لا أدري إذا كانت مفيدة في تحديد أطر ومداخيل تهدف إلى إرساء قواعد مساهمات حوارية داخلية، مؤكداً على أنني لا أعتبر نفسي منخرطاً في العمل البحثي. ولكنني سأسعى دائماً للاكتساب من خلال المطالعة والحوار وإبداء الرأي بموضوعية وبدون حرج.
وعليه قرأت نتاجك عبر أربعة كتب بحدود ما أمكنني من وقت واستيعاب، ومن ضمنها موضوع الدكتور عمارة وردودك عليه. وسوف أبدي بعضاً من الملاحظات حسب قدرتي الآن. وسوف أعمل على مزيد من المساهمة إذا أمكن.
أولاً: إن مجمل ردودك على الدكتور عمارة، يمكن توصيفه بأنه محاولة جادة ومفيدة ومحفزة، ولكنها لم تلامس أعماق الخط البياني البحثي، الذي انطلق منها عمارة، كخلفية ملتزمة مشبعة بتصويب عصبوي يدعي الانفتاح، ولكنها غير مؤهلة للتفتيش عن ركائز تجمع ما فرَّقته مفاعيل التطور الحدثي والفكري بكل أبعادها لعلاقة عضوية حتمية بين العروبة والإسلام، وبين العقيدة القومية والعقيدة الدينية الإسلامية. وإن جهدك يجب أن يتواصل بحثاً وحواراً وإنضاجاً لتكتمل شروط البحث والردود.
لقد انطلق عمارة من مقولة تقول بأن القومية، كمعتقد وآلية منظمة، احتوتها مقومات العقيدة الإسلامية لأنها هي نتاج لانطلاقة الإسلام الرحب وحاضن الفكر والإيمان والقانون، وهو أي الإسلام هو الرهان القادم لنهوض الأمة.
لقد تناسى عمارة أو نسي بأن العروبة قبل الإسلام كانت لها نظمها الاجتماعية والقانونية والفكرية وغيرها، و[ان الإسلام الصحيح قد شكَّل رافعة نهضوية، ولكنه أخذ أو ارتكز على العديد والعدة من محتويات حضارية وإنسانية معاشة في القوانين واللغة والعادات والمؤثرات التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل الإسلام. ولن أقول الجاهلية، لأنني أشك في أهداف إطلاق هذا المصطلح بشكل واسع في توصيفات مرحلة ما قبل الإسلام. وعلينا هنا أن نعود إلى كتابات الدكتور أحمد سوسة في بحثه عن المنطقة العربية قبل الإسلام بآلاف السنين. وهنا أود أن أتساءل عن الكيفية التي يفسر بها الدكتور عمارة إسلام الفرس، الذي في الوقت نفسه يتبنى محوراً فقهياً اجتهادياً داخل الإسلام، ويعمل على قواعد باطنية عصبوية يمكن على أساسها وصف إسلامية الفرس بأنها تأخذ من قوانين معتقدية يسميها الباحثون العقيدة الغنوصية التي أنتجت ما يسمى الإيمان المسترسل، والتي في مضامينها لا تعترف باطنياً بالنبوة، والتي استجد عليها، في أواخر السبعينات ما يسمى ولاية الفقيه لأسباب عصبوية سياسية فكرية لخدمة منطق باطني يقول، دون أن يعلن، إن إيران قوة إقليمية عظمى، ويتصرف ولي الفقيه على هذا الأساس، وهنا أود أن أحدد سؤالي:
هل يعتقد عمارة بأن الفرس حوَّلهم الإسلام إلى خارج هذه الباطنية، وحوَّلهم إلى عقيدية قانونية فكرية خارج انتمائهم القومي خاصة بالتعامل مع الأقليات الإسلامية داخل إيران، وغير الإسلامية؟ وهل يعتقد عمارة بأن الخلفية الإيديولوجية التي تتحكم بنظام ولاية الفقيه هي إيديولوجية إسلامية؟
ملاحظــة: لا أريد بتساؤلي هذا أن أستحضر عوامل الصراع المذهبي. ولكنها تساؤلات فكرية وعقلية. وأود، أيضاً، أن أقدم تساؤلاً آخر: هل أثَّر الإسلام، على مدى قرون طويلة، في الأتراك؟ وهل أخرجهم من انتمائهم القومي، بحيث أصبح الإسلام بديلاً عن التترك كخيار حضاري انتمائي؟
حول ادِّعاء عمارة بأنه اكتشف أن عفلق تدرَّج بخط بياني متصاعد نحو تبني الإسلام الكامل، مستنداً إلى ما كتبه عفلق بدءاً من محاضرته «في ذكرى الرسول العربي« مروراً بأن العروبة روحها الإسلام، وصولاً إلى الإضافات التصويبية في موضوع العروبة والإسلام في السبعينات، وحتى العام 1989م، لا تمثل معطى صحيحاً على اتجاه عفلق إلى الإسلام الكلي معتقداً إيديولوجياً وقانونياً وطقوسياً وسياسياً وتنظيمياً ورهاناً حضارياً كلياً، ونحن نملك تراثاً فكرياً وأدبياً يختزن كماً كبيراً من التفاصيل التي تضيء على الخيار الحضاري القومي، ونملك القدرة على توضيع مجمل المقومات، وتحديد خصوصياتها وأولوياتها في سياقات الزمن والحدث، فكراً وعادات وقوانين وتراكمات نتاج بحثي يؤكد التلازم العضوي بين العروبة والإسلام، كرافد حضاري روحاني لا كبديل عن الانتماء القومي.,عن مفتاح ردنا الأولي هو أننا لسنا بوارد القول أن على الإسلام أن يأكل العروبة، ولا على العروبة أن تأكل الإسلام أو أن تنكر حضوره التفعيلي الحضاري الروحي. وإن العروبة، بخصائصها الحيوية الإنسانية الحضارية وروحانيتها، هي المؤهلة لتقديم خط بياني مستقيم لارتقاء البشر إلى مستوى الأخوَّة الإنسانية، خارج متاريس الانتماء الديني والمذهبي، ولارتقاء الأمة إلى دائرة السلوك الوحدوي العادل والديموقراطي.
لم يعلن عفلق إسلاميته الكلية: لا طقوساً ولا نكراناً لأرثوذكسيته، بل أدرك أن أول شرط لوحدة الأمة يكمن في إعادة استحضار مكوناتها الحضارية، وإن الإسلام يشكِّل مساحة واسعة من هذه المكونات.
وهنا، لدينا ما يؤكد صدق عفلق بأولوية نضاله وقناعته وعقلانيته التأملية باتجاه الوحدة، انطلاقاً من موقعه الموروث كأرثوذكسي عربي اكتسب من معنى الكلمة أرثوذكس، أي المستقيم أو القويم. وهذا المعنى مخزون في شخصيته غير الفئوية، بدليل عقلانيته الصادقة الموصولة بانفعالاته الإيمانية الإسلامية، التي تعدُّ إحدى مقومات شخصية الأمة الحضارية الأساسية، وضرورة استحضارها كعامل تفعيلي وحدوي متنور ومنفتح على آفاق المعرفة في خدمة كل أفراد الأمة أياً تكن مواقعهم الإيمانية الربانية.
إن عمارة وضع عفلق في موقع المتراجع عن خطه البياني الذي انطلق منه إلى خيار خط بياني آخر هو خط الدكتور عمارة كباحث إسلامي. وهنا أود أن أتساءل: ألم يقع عمارة في بحثه في دائرة التناقض بين العروبة والإسلام عندما أعطى أحكاماً توصيفية حول مسيرة مفكر قومي عربي بأنه لو بقي حياً، لفترة لاحقة، لأصبح إسلامياً كلياً.
وهل عمارة يعتقد بأن الإسلام الكلي، في تكوينات الواقع الموضوعي، موجود من الناحية الفقهية الاجتهادية الطقوسية القانونية الشرائحية المذهبية وتكويناتها السياسية، أم أن الواقع يؤكد عكس ذلك؟
هل يعتقد عمارة بأن على العربي أن يترك عروبته إلى الإسلام، والإسلامي يترك إسلامه إلى العروبة، والمسيحي يترك عروبته إلى المسيحية إلخ؟
حول ما قدَّمه الباحث غريب:
لقد فكَّك غريب عفلق في بعض ما قدَّمه، باعتبار عفلق مفكر غير ما هو سياسي - صوفي غير ما هو عقائدي بعثي ملتزم. ووضع عفلق في مواقع متناقضة بعض الشيء، وكان قصده إيجاد عوامل تمايز في وصفه لعفلق عما قدمه عمارة، علماً بأن لدى غريب القدرة على تقديم تمايز متماسك وواقعي عبر بذله جهداً تأملياً في قراءة عفلق المفكر والعقائدي والسياسي.
إن وصف عفلق بخلفيته الصوفية، التي تمثل حالة من العزل عن كونه مفكراً قومياً تنظيمياً في الفكر والسياسة والممارسة، خطأ ارتكبه بعض المفكرين عندما وصفوا عفلق بأنه مفكر لتأملات نثرية رومانسية.
وفي اعتقادي إن ما بدا من تأملات فيها انحناءات صوفية عند عفلق لا تخرج عن كونها، في الشكل والمضمون، سمة من السمات التي تبدأ عند أي مفكر في نسيجه الفكري والمعرفي عندما يقدم نتاجه، بحيث تختلف نسبة معاييرها من حالة إلى أخرى في صياغة وجهات النظر.
وفي اعتقادي، أيضاً، أن عفلق نتيجة لقناعته الكاملة بأولوية القومية والوحدة ترك لتأملاته الهادفة استحضاراً لمكونات الأمة ومقوماتها ومنها الإسلام، فترك حيزاً متواصلاً في الحديث والتفكير مع ذاته ومع الآخرين حول أهمية الإسلام، لا كبديل، بل كإسناد حضاري في خدمة الأمة وقضاياها الحيوية.
وأخيراً، وعلى أساس أن للبحث صلة، أعتقد بأنه إذا كان الإسلام قد شكَّل، في مرحلة تاريخية، رافعة لانتظام السياق الحضاري للأمة، فإنه الآن غير قادر على استمرار هذا الدور، لا لأنه في مضامينه الإيمانية غير مؤهل، ويمكن تبيان وجهات النظر عبر سياق طويل من التفاصيل لاحقاً.
وإنني أعتقد، الآن، بأن الأمة بحاجة ماسة إلى حالة نهضوية عبر استحضار المسألة القومية الوحدوية بمفاعيل جديدة يجب العمل والنضال من أجلها ولها.
***
ملاحظات الباحث وتوضيحاته
وردوده حول آراء المحاورين ومداخلاتهم
 
أولاً: في توضيح الغاية من نقد كتاب محمد عمارة «التيار القومي الإسلامي«:
حسبت بعض المداخلات أن ردي على محتويات كتاب عمارة لم يكن تاماً وكاملاً، وإنني لم أشبع البحث. وإنني لم أناقش عمارة، كمفكر يدعو إلى الأخذ بالإسلام الحضارة والقانون والشريعة. بل اكتفيت بما هو موجود في كتابه. فهناك نقص في الرد.
منهجياً، لا يستدعي من الكاتب، الذي يضع مراجعة أو نقداً لكتاب كاتب آخر، أن يؤلف كتاباً جديداً. لأنه على الراد أو الناقد أن يراعي حجم البحث الناقد، وهو عادة محدود. فأن تنقد كتاباً هو أنك لا تقر نتائجه العامة التي توصَّل إليها كاتبه، فتناقشها كما جاءت عنده، وتدحضها ببراهين وأدلة منتَخَبة، وبما يكفي لتدعيم وجهة نظرك.
فإذا استطعت أن تُضعِف نتائج البحث المنقود، تأتي مرحلة أخرى، وهي صياغة نتائج جديدة. وإذا كنت كباحث قد قمت بصياغة نتائج جديدة حول الموضوع المنقود، خاصة إذا كانت منشورة، كما هو حاصل معي، فمن الخطأ التكرار خاصة إذا كانت الأدلة، التي سقتها في سبيل تلك النتائج، تصل إلى حجم بحثين مساحتهما ألف صفحة. ومن المعلوم لديكم أنني قمت بنشر كتابين كبيرين، وهما: في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام، أما الآخر فهو الردة في الإسلام. وقد حاولت فيهما أن أبرهن أن علاقة الإسلام بالعروبة لا تصل إلى حدود الاندماج الكامل، لكنهما لا يخضعان إلى حدود الابتعاد الكامل. وإنني أحسب أنني، من خلالهما، حاولت أن أدحض الفكرة الإسلاموية القائلة بأن على القوميين أن يعتمدوا الإسلام الصحيح، فالعروبة بدون الإسلام تكون بغير دليل فكري وروحي. لذا جئت في كتاب الردة لأبرهن أن شعار العودة إلى الإسلام الصحيح ليس سوى شعار تعبوي  وتبريري. وإنني أحسب أن مناقشتي التفصيلية المطلوبة حتى يكون ردي على عمارة كاملاً وتاماً هو غير منفصل عن مطالبتكم لي بالإتمام والكمال عن طريق توزيع كتابيَّ المنشورين ببحث من المفروض أن لا يتجاوز حجمه المنشور، وهذا مطلب عسير التنفيذ.
لذلك، كان من أهم أغراضي في نقد كتاب عمارة أن أفصل الشك باليقين حول مطالبته للقوميين عامة، وللبعثيين خاصة، بأن يتمموا ما كان عفلق يتجه إليه فيما لو بقي على قيد الحياة، وهو أن يأخذوا ليس بالإسلام الحضارة -كمثل ما دعا إليه عفلق- بل بالإسلام كاملاً.
إن هذه الدعوة تدعو إلى الاشتباك بين خيارين فكريين - سياسيين: هل نريد دولة إسلامية تحكم بما أنزل الله، حسبما يحسب الإسلاميون؛ أم نريد دولة قومية تحكم بقوانين وضعية، حسبما يحسب القوميون.
كان يكفيني من مراجعة كتاب عمارة أن أصل إلى نتيجة أن عفلق، من داخل دائرته الفكرية الخاصة، أو من داخل دائرته الحزبية العامة، لن يتوصل -فيما لو بقي حياً- إلى الأخذ بالإسلام كاملاً: أي الإسلام الحضارة والقانون والشريعة. فإذا نجحت بهذه المهمة فإنها تكفيني، أما التوسع بما أريد، كبعثي أو كباحث قومي، أو بما تريدون أن اتوسَّع فيه، فهذا موضوع آخر يمكن العودة إليه من خلال أبحاثي المنشورة. وهنا أنا جاهز للاستماع والحوار حول أية ثغرات يمكن أن تشوب البحثين المذكوريْن. وأنا شاكر لأية جهود يمكن أن تبذلونها في قراءتهما قراءة نقدية هادفة للوصول إلى أقرب ما يمكن للحقيقة.
إنني، بعد متابعة الخطاب السياسي لعشرات السنين، وجدت أن تبييض الصورة التاريخية عند العرب والمسلمين، يكاد يشكل طغياناً كبيراً على ثقافتنا. وانطلاقاً من سؤال وجهته إلى نفسي: إذا كنا نمتلك كل تلك الصفحات التاريخية الناصعة، فما هو السبب الذي جعلنا ننحدر إلى مصاف الدول المتخلفة؟
سيطر هذا السؤال على منهجي المعرفي، فأجبت نفسي: إذا كان هناك مئات الألوف حسبوا أنفسهم مسؤولين عن التعبير عن مظاهر الصحة في الأمة. وطالما أن في الأمة مظاهر كثيرة من مظاهر اعتلال صحتها، أرى نفسي ملزماً أن أختار طريق الكشف عن تلك المظاهر، لأنه لا يمكن أن نحضِّر علاجاً لمرض مجهول الأسباب. فاخترت درب النقد، والنقد هو أكره مهنة عندنا، بما نتميز به من قصور في الاتفاق حول أصول الديموقراطية، فإنك تجد مئات الآلاف الذين يهللون لمكتشفي الصفحات الناصعة، وبمقدار عددهم سوف تجد من الذين يصبون اللعنة على كل منتقد آثم. فاخترت أنا طريق الإثم، الذي هو طريق النقد، لأنني أحسب أن هذا الطريق، على الرغم من أنه ملتبس بالإثم فهو الطريق الأسلم للوصول إلى الدواء الناجع، فالطبيب لن يستطيع أن يصف الدواء من دون النتائج التي يظهرها المختبر. والى أن نصل إلى مستوى ندرك فيه أن للمختبر الذي يكشف الجراثيم في أجسادنا دور يعادل، إذا لم يتفوق على دور الطبيب، لا بأس من أن أتعرَّض إلى اللوم والتقريع كلما اكتشفت بثقافتي  النقدية جرثومة تنخر في جسمنا العربي والإسلامي، كما أنها تنهش في رؤانا المعرفية.
لم تكن هذه المقدمة معزولة عن التوضيح الذي أريد أن أبرر فيه من أنني وقعت في نقص عدم إشباع البحث، بمعنى أنني لم أوضح بشكل مفصَّل البديل بعد نقدي لكتاب عمارة. كان كل همي أن أبرهن على بطلان توقعاته وأمانيه في أن يتحول البعثيون إلى ما افترضه عمارة نفسه،  وليس إلى ما كان عفلق يتجه إليه.
إنني، من خلال اختياري طريق النقد الفكري، لا أؤسس لنظرية جديدة فورية، ولذلك -وكما هو واضح في شتى أبحاثي المنشورة- لم أقم باستنتاجات كافية تؤهلني الآن إلى وضع ما ينتظره القارئ. وإنني، ربما بعد أن أشبع تساؤلاتي وفضوليتي في نقد ما لا أراه صحيحاً، أكون كمن يعبد الطريق مع غيره، من ناقدي التراث، أمام شتى المفكرين والمهتمين بشؤون مجتمعنا وأمتنا بالإسهام في مثل تلك الورشة الإنتاجية. وإنني أحسب أن جلسة الحوار حول أحد أبحاثي وهو ما نقوم به الآن، قد زرع الحافز أمام أحد المشاركين معنا لوضع أنموذج لتفسير إسلام عفلق بطريقة فيها الكثير من العمق في فهم إسلام عفلق، وفيه الكثير من العمق في التحليل والاستنتاج. ألا يكفينا من جلستنا النقدية أنها قد بدأت تثمر، وتفسر العلاقة المهمة والضرورية بين النقد الفكري والإنتاج الفكري؟
 
ثانيــاً: في توضيح الموقف من الإسلام كاملاً:
     ·             جاء في أحد المداخلات: كان ردك على عمارة وكأنه جاء رداً على الإسلام وليس على الإسلاميين. وأخطر ما في الرد هو ما كان موجهاً ضد الإسلام. وإنك تتحدث عن الإسلام وكأنه ماضي، بينما هو المشروع الإلهي الأخير، وهو مشروع متكامل ولم ينته دوره حتى الآن. فالإسلام ليس هو تراث فقط، بل هو حالة متجددة دائمة. وهنا نتساءل: هل الإسلام هو مشروع فاشل؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نتساءل: هل المطلوب، كما تصل أنت، أن نعترف بكل تلك الفرق التي تدعو إلى أن يعترف بعضها بالبعض الآخر، وأين موقع الإسلام الصحيح إذا قمنا بمثل هذا الاعتراف بالفرق والمذاهب المتفرعة عنه؟
     ·             من خلال بعض النتائج والصياغات الجديدة، التي توصل إليها بعض الحاضرين، أحسب أننا قد بدأنا نقترب من ملامسة الأهداف التي من أجلها وضعت نقدي لكتاب الدكتور عمارة. ولمزيد من التوضيح، أصف الواقع الذي ساد في صفوف البعثيين بشكل خاص، والذي تحوَّل -بشكل عام- إلى الانفعال والاقتناع والتأثر بالنتائج التي توصل إليها عمارة، وظهر ذلك عندما أخذ البعض يدخل في ممارسات فكرية تتجه بهم إلى تغليب الإسلامي على القومي.
ولأنني كنت خائفاً من سلوك هذا الطريق، وأصابني الجزع من أن يتحوَّل البعثيون إلى فِرَقٍ متباعدة في الرؤى الفكرية، ومن أن يتحول البعثي، مثلاً، إلى بعثي سني أو بعثي شيعي أو بعثي مسلم وبعثي مسيحي وجدت أنه من الضروري تصويب النقد باتجاه النتائج التي توصل إليها عمارة، وكانت سبباً في انفعال البعض بها وتأثرهم بما جاء فيها.
من هنا، سواء كان النقد مكتملاً أو ناقصاً، كان من أهم أهدافي هو أن تسود المنهجية النقدية حتى لا نقع في محظور التقليد والانفعال بكل ما له علاقة بأحد العناوين الكبرى في حياتنا الفكرية من دون أن نمعن النظر بمدى قربه أو بعده من فكرنا القومي.  وكان من أهم المداخل لهذه المسألة أن نبدأ بورشة عمل فكرية ناقدة ومنقِّبة في ما كان يريد أن يصل إليه عفلق، كأحد المفكرين الكبار في حزب البعث العربي الاشتراكي حول علاقة العروبة بالإسلام.  وهذا لا يمكن الوصول إليه من خلال التفسير والتأويل، بل أن تعود إلى دستور الحزب ومقررات مؤتمراته، وهي التي تغنينا عن الولوج في متاهات التفسير والتأويل، و إلاَّ سوف نقع في المحذور الذي وقعت فيه الفرق الإسلامية فأغرقها تفسير النص وتأويله، فتاهت وتشرذمت وكفَّر بعضها البعض الآخر. أما علينا نحن أن لا نغرق في متاهة الكتاب (دستور الحزب ومقررات المؤتمرات) والسُـنَّة (سيرة المؤسس وكتاباته)، فهناك ميزة الخلق والابتكار عند البعثيين، لأنهم غير ملزمين بكل النصوص في كل زمان ومكان، فحياتنا وفكرنا في تجدد مستمر، وعطاؤنا وابتكاراتنا القائمة على حرية وتغيير النصوص إذا ما أثبتت التجربة قصورها أو فشلها. لكن وفي سبيل المقاربة التنظيمية في الفكر والسياسة علينا أن نستفيد من المنهج المعرفي الذي سلكه عفلق في تحديد العلاقة بين العروبة والإسلام، ولكن أن نعود إلى المنهج العلمي الذي كان، ولن نتجاوزه في المستقبل، الدليل لوضع دستور الحزب ومقرراته. فمن خلالهما: منهجية عفلق المعرفية الوجدانية  ومنهجية الدستور العلمية، متحدين أو منفرديْن، نستطيع أن نرى بوضوح أين يقع الإسلام في دائرة الحزب الفكرية.  وهل للحزب مصلحة أن يرى في الإسلام الحضارة والقانون والشريعة هدفاً رئيساً له؟
إذا كنت أرى في الجانب النقدي ضرورة ملحة، لا بُدَّ منها للوصول إلى أفضل الإجابات عن الأسئلة التي أطرحها، فعلينا جميعاً أن نناقش النقد الذي أمارسه. وإذا ما اتفقنا على العناوين الكبرى: حول الحدود التي علينا أن نصل فيها إلى فهم الإسلام فهماً جديداً من دون انفعال. وحول الحدود التي علينا أن نأخذ فيها من الإسلام، يبدأ دور كل من يستطيع أن يقدم صياغة جديدة لما نتفق عليه من نتائج. وهنا، لا بُدَّ من أن أؤكد أنه ليس دوري بمفردي، لأننا نحن مؤسسة يكمِّل بعضها البعض الآخر. فاتركوني أثير الإشكاليات وأتحمل وزر إثارتها، على شرط أن نتعاون حول صياغة بدائل لما نتفق حوله لأنه مهمتنا جميعاً. لكنني لن أتوانى، على الإطلاق، عن ممارسة دور الناقد لأنني أحسب أنه بدونه لن يكون لدينا الحافز للوصول إلى أقرب ما يكون من الحقيقة.
فالمزيد من النقد، ومن نقد النقد، هو المسار المهم الذي يساعدنا على تصويب الأمور، وإعادة اتجاهات عقارب البوصلة إلى مساراتها الصحيحة التي دعا إليها البعث في المادة /15/ من دستوره، والتي تقول: «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة«.
وهنا أتساءل: هل ما جاء في نص المادة /15/ هو موجَّه ضد الإسلام؟
يقول الإسلاميون، استناداً إلى النصوص، إن الإسلام هو الرابطة الوحيدة بين المسلمين، ومن يؤمن من المسلمين برابطة أخرى غير الإسلام يوجَّهون إليه التهمة التي تصل إلى حدود تكفيره.  ويقولون، أيضاً، لم توجد القومية إلاَّ لمحاربة الإسلام.
إن شعار «لا حاكمية إلاَّ لله«، وفتوى تكفير من يخضع لغير ولاية المسلم وهي نصوص مأخوذة من النص القرآني وليس من اجتهادات الفقهاء المسلمين أو الإسلاميين. ألا تتناقض مع المادة /15/ من دستور الحزب؟ فأيهما على البعثي أن يؤمن به؟  فهل نعتقد أن نص المادة /15/ هو ضد الإسلام؟
أنا لا أتكلم عن الإسلام وكأنه ماضٍ، بل أتكلم عنه وأراه في الحاضر، وألمس مدى تأثيراته -من خلال شتى فرقه.  ولذلك أنا لا أرى أن العمل بشرائعه وقوانينه هو الذي يشكل عاملاً توحيدياً بين أبناء القومية الواحدة المتعددة الأديان. ولا أراها توحيدية بين أبناء القومية الواحدة المتعددة المذاهب الإسلامية. وهنا أحيلكم إلى بحثي المنشور في كتاب نحو طاولة حوار، تحت عنوان «هل يحقق الفقه المذهبي الإسلامي وحدة الدولة والقانون؟«.
ورداً على القول «إن الإسلام هو المشروع الإلهي الأخير، وهو مشروع متكامل، ولم ينته دوره بعد وهو ليس تراث فقط، بل هو حالة متجددة دائمة«، ورداً على التساؤل: هل الإسلام مشروع فاشل؟ أقول: من موقعي الناقد، والنقد لن يتم أبداً، كما لن يكون سليماً، إذا كان العقل مقموعاً، بل من حق العقل أن يبدأ بالشك في أية حقيقة، أتساءل: إذا كان المؤمنون بهذا القول صادقين في إيمانهم به ومسلِّمون به، فما هو السبب الذي دفعهم إلى اختيار عقيدة البعث، إذاً؟ فإذا كان البعث هو الإسلام، أي إذا كانت العروبة هي ذاتها الإسلام، فلماذا بذلنا كل تلك الجهود لوضع نظرية في الفكر القومي ما دام الفكر الإسلامي لا يختلف عنه؟
فما دامت شرائع الإسلام هي مشروع إلهي؟ وما دامت متكاملة؟ وما دام الإسلام حالة متجددة، وما دام لم يثبت فشله، فلماذا نتركه وننادي بعقيدة وشرائع أخرى؟ أليس ما يفعله البعثيون هو نوع من العبث؟
فإذا كان الإسلام مشروع إلهي، فماذا يميزه عن المشاريع الإلهية الأخرى التي أُنزلت منذ عهد آدم وصولاً إلى الإسلام ذاته؟ وهل ليست كل تلك المشاريع السابقة عليه، بدءاً بالموسوية مروراً بالمسيحية، فاشلة؟ ولماذا الله تعالى يأتي بكل تلك المشاريع الفاشلة؟ أما كان يمكنه أن يأتي بمشروع واحد ناجح؟
لكي يتهرَّب فقهاء الإسلام ومفكروه من الإجابة على ذلك يلقون باللوم على السوء في التطبيق وليس على النظرية، فالوزر -كما يقولون- يقع على المسلمين وليس على الإسلام.
فإذا كان المشروع الوحيد الناجح هو الإسلام، للأسباب التي يذكرها الإسلاميون: أي أنه آخر مشروع إلهي أنزل بواسطة خير أمة أخرجت للناس، وإن التخلف الذي لحق بأمة الإسلام يعود وزره على المسلمين وليس على الشرائع الإسلامية، فهل ما زلنا نراهن على أن يأتي أفضل من صحابة الرسول العربي وأفضل من آلاف الفقهاء الأفذاذ الذين عرفتهم الدول الإسلامية المتعاقبة لكي يعملوا على فهم تلك الشرائع بشكل أفضل من سابقيهم، وأن نجد السلطة السياسية التي تستطيع تطبيقها بأفضل من السلطات التاريخية التي أساءت التطبيق؟
فإذا كانت تجربة طولها ألف وأربعماية سنة لم تكن كافية، فكم نطلب من الوقت الإضافي لكي نعيد تجربة أخرى نختبر فيها صلاحية الشرائع الإسلامية في التطبيق العملي؟
وهنا نتساءل أيضاً: هل الإسلاميون الذين يأتون بمثل هذا التبرير هم موحدو الاتجاهات والرؤى حول الإسلام الصحيح؟ وهل هم متفقون، فعلاً، حول نظام إسلامي واحد يستطيع أن يجمعهم  ويلتفون من حوله؟
لقد تشتت الإسلام إلى مئات الفرق والمذاهب، بحيث تحسب كل فرقة أو يحسب كل مذهب، أنه الوحيد الذي يعتنق الإسلام الصحيح. فأين هو الإسلام الصحيح يا ترى؟
قد يجيب مجيب على تساؤلنا بأنه في القرآن والسنة وكتب التراث، وهذا ما يلزمنا بأن نطرح التساؤل التالي: وهل هناك فرقة إسلامية، أو هل هناك مذهب إسلامي واحد يقر بأنه لا يتَّبع القرآن والسنة والتراث الإسلامي؟
فالسؤال هل الإسلام فاشل، هو غني عن الجواب. دعوني، هنا، أنطلق من شكي وحسي النقدي من دون أية اتهامات جاهزة، وهي الاتهامات التي يطلقها الإسلاميون فوراً استناداً إلى النص الإسلامي. وأنا سأدع السائلين ينطلقون من إيمانهم، لأقول: إذا كانت تجربة 1400 سنة غير كافية لاختبار فشل تجربة أو نجاحها، فكم تريدون من الوقت لاختبار إضافي؟ وهل نرى في الأفق، القريب أو البعيد، منقذاً إسلامياً يستطيع تفسير النص الإسلامي وتأويله بشكل يجمع كل المسلمين من حوله، ثم يضع آلية تطبيقية سليمة تحقق وحدة الإسلام والمسلمين؟
ولأن البحث طويل وطويل جداً، وقد استهلك بحثي النقدي حول هذه الإشكالية عدة سنوات، من قراءة عشرات المصادر والمراجع، ومن ضمنهما القرآن والسنة، وكتابة مئات الصفحات، أرجو ما يلي:
-  أدعوكم إلى قراءة كتاب الردة في الإسلام، وهو البحث الذي وضعته من أجل التفتيش عن الإسلام الصحيح. ومن بعد القراءة فلنتشارك ونتعاون في رسم صورة الإسلام الواحد الموحِّد.
- إنني، وحتى ينضج مشروعي النقدي، لن أضع أية صياغة نظرية جديدة ما لم أستكمله. وإنني بدون إنضاجه لن أستطيع أن أعطي جواباً متكاملاً، أو أقرب ما يكون من التكامل، عن حقيقة طالما بحثت عنها ولا أزال.  وطالما أن دوري هو أن ألعب الشق الشائك من المهمة فإنني أضع في الحساب أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المتحاورون معي لكي نتعاضد ونتعاون في سبيل اكتشاف الثغرات الحقيقية في مناهجنا الفكرية وأدائنا الثقافي، والتي سوف تساعدنا على اكتشاف الثغرات التي تشكل عوامل أساسية في تخلف أمتنا، كما هي الآن، والتي أحسب أنها تشكل السبب الأساسي في حالة التخلف التي نعاني منها.
إن لمشروع نقد الفكر الديني، ومنه الإسلام، أهمية قصوى في حسم إشكالية أي نظام سياسي يريده القوميون ويأتي على رأسهم البعثيون. ولأنه بدون نقد الفكر السياسي الديني لن نستطيع أن نؤمن بصحة الشعار الذي ندعو إليه، وهو أن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة التي تجمع بين أبناء القومية العربية، وإذا عجزنا عن هذا الإثبات فما علينا إلاَّ أن نعود إلى ما قاله ويقوله الإسلاميون، ومنهم الباحث عمارة، وهو أن على البعثيين أن يتابعوا البوابة المفتوحة التي تركها لنا مفكر الحزب وقائده  ومؤسسه، أي الخروج من الطريقة الانتقائية من الإسلام، وعدم الاكتفاء بالجانب الحضاري للإسلام، إلى الأخذ بالإسلام كاملاً: الحضارة والقانون والشريعة.
ولأننا متفقون على أن الحقيقة القومية هي الرابط الوحيد الذي نحسب أنه يحقق وحدتنا، دعونا نحفر بالحقيقة معاً، بعيداً عن العناوين الكبرى الموضوعة من أجل التعبئة والتحريض، وبعيداً عن الأسئلة المقصودة بالتشكيك في إيمان المسلم كطريقة لإخراجه عن طاولة الحوار باتهامه بالإلحاد، وهو أضعف طرق الحوار. ودعونا من دوائر التقليد التي يسجننا فيها الفقهاء المسلمون تحت وابل من التهديد بالعقوبات الدنيوية والأخروية، لأننا لن نصل إلى الحقيقة أو أن نسلك المنهج المعرفي الصالح للوصول إليها أو ملامستها ما دمنا نعيش هواجس ومخاوف اختراق ما نحسبه مقدسات إلهية.
وهنا لن يفوتني أن أقول إن مجرد الخروج عن أحد أركان الإسلام: في القانون والشريعة، يكفي للخروج عن الإسلام وعدم الاعتراف بأنه مشروع ألهي متكامل، وأنه صالح لكل زمان ومكان. فمن ينقص من إيمانه جانب من الجوانب العديدة فهو كمن ينقص من إيمانه أكثر من جانب. ولا يخفى، أيضاً، أن من يؤمن بأن هناك جامع للمسلمين غير الإسلام فهو خارج عن الإسلام، فيكفي أن تختار ولي أمر غير مسلم حتى تكون مخالفاً للشريعة الإسلامية. وهل نستطيع، كبعثيين وقوميين، أن نضع نصاً يُحْرِم العربي غير المسلم من هذا الحق؟
من هنا أرى أنه ليس لأحد أن يدَّعي أن معرفته بالإسلام هي ملك يديه، وأنه حريص على الإسلام أكثر من الآخرين. ولأن كل فرقة من الفرق الإسلامية ترى الإسلام مختلفاً، من زاويتها الخاصة، فتنظر إليه بغير العين التي تراه فيها الفرق الأخرى، يبقى من حق الأفراد،أيضاً، أن يروا إلى الإسلام من زواياهم، طالما أن أهم همومهم أن يروا الأمة في مستوى النهوض والتقدم. وقد يقول قائل إنه لا يستطيع أن يفتي حول تعاليم الإسلام إلاَّ من كان ضليعاً بالعلوم الفقهية، فإنني أتساءل: هل كانت المدارس الفقهية في بدايات الدعوة الإسلامية قائمة، وهل كان لها قواعد وحدود وأسوار؟
وإذا قيل من الممنوع على غير الفقيه أن يفتي، لأنه ضليع بتفسير النصوص وتأويلها، أتساءل: وهل اتفق الفقهاء من شتى المذاهب على تفسيرات وتأويلات واحدة لكي نأخذ بها. فما دام الفقه يستند إلى التفسير والتأويل يفقد، ساعتئذٍ، قدسيته، ومتى فقد النص قدسيته وأصبح من صنع بشري، فلكل مسلم الحق في أن يستخدم حقه بالاجتهاد والتأويل والتفسير.
 
ثالثـــاً: غموض الرد على عمارة وضعف الاستدلالات
     ·             وفي مداخلة أخرى جاء فيها أن عمارة قد جاء بمستندات استطاع من خلالها أن يبرهن على أن عفلق قد تبنى الإسلام. لكن الرد عليها لم يكن واضحاً، ولم تكن استدلالات الرد واضحة بشكل عام.
     ·              إنني لم أقف ضد ما قاله عمارة حول أن عفلق قد تبنَّى الإسلام الحضارة، ولم يستخدم أي جهد في البرهان عليها، والسبب أن عفلق كان واضحاً في نصوصه حول دعوته إلى بناء علاقة خاصة ومميزة بالإسلام. فلا عمارة بذل جهداً في البرهان، ولا أنا بذلت جهداً في نفي ذلك البرهان. فعفلق كان واضحاً في نصه، ولم أتناقض مع عمارة حول صدقية ذلك النص.
من هنا، يبدو من الضروري أن أوضح أنه بيني وبين عمارة نقاط اتفاق ونقاط اختلاف، وإذا قمنا بتوضيحها أحسب أن الالتباس قد يزول.
نقاط الاتفاق تتمحور حول ما يلي:
1-كلانا متفقان على أن عفلق قد أعطى خصوصية في علاقة الإسلام بالعروبة. ولم نبذل جهداً في البرهنة على ذلك لأن كتابات عفلق كانت أكثر من واضحة.
2-ونحن متفقان، أيضاً، حول أن عفلق قد أخذ من الإسلام جانبه الحضاري، لأسباب لها علاقة بمراحل التحرر القومي من جهة، ولقوة تأثيره الواسع في توحيد العرب  وبناء حضارتهم من جهة أخرى.
أما نقاط الخلاف، فقد تمركزت حول النتائج التي توصَّل إليها عمارة من خلال دراسته لاتجاهات عفلق الإسلامية، وهي التالية:
1-يستنتج عمارة، بما يشبه التنبؤ،أن عفلق كان لا شك واصل إلى تبنّي الإسلام كاملاً، أي أنه، من خلال الخط البياني التاريخي لتطور موقفه الفكري من الإسلام، كان سينتقل بقناعاته، لو بقي حياً، من الدعوة إلى الإسلام الحضارة والروح إلى الإسلام الحضارة والقانون والشريعة.
2-استناداً إلى استنتاجاته دعا عمارة البعثيين والقوميين إلى أن يخطو الخطوات نحو الإسلام الكامل، وذلك على قاعدة أن يجتازوا المسار الفكري الذي كان من المتوقع أن يسلكه عفلق، كأهم مفكر بعثي قومي، وكأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي.
3-وجدت، من جانبي، أن عمارة قد وقع في خطأين: الأول، في استنتاجات خاطئة عندما حسب أن عفلق سيصل إلى تبنّي الإسلام كاملاً، فاستندت إلى بعض النصوص التي نقَّب عمارة عنها لتدعيم استنتاجاته، والى نصوص أخرى، لم يتناولها عمارة أو أن يشير إليها. أما الخطأ الثاني، فهو أنه حسب أن عفلق كان فرداً متميزاً مما يخوله أن يؤثر أو أن يلزم رفاق دربه أو أترابه من أصحاب الانتماء الفكري القومي، إلى درجة قد يحسبهم من المقلدين. ولهذا أبدى استغرابه من أن كثيرين من رفاقه لم ينظروا باهتمام زائد عندما أُعلِن انتماؤه للإسلام.
فكان هدفي من نقد كتاب عمارة أن أبرهن النتائج التالية:
1-أنه ليس من الصحيح أن عفلق كان سيصل إلى تبنّي الإسلام كاملاً.
2-وإنه على افتراض أنه كان سيصل، فهو لن يلزم البعثيين بخياراته. لأن ما يوحِّد الاتجاهات الفكرية في داخل الحزب، ليس مفكر واحد أو أمين عام للحزب. فالذي يعمل على توحيدها هي قيادة الحزب الجماعية ومقررات مؤتمراته.
استناداً إلى نقاط الاتفاق ليس هناك ما يستوجب من الناقد أن يقوم بتكرار ما يتفق حوله مع المنقود، وربما تكون الملاحظة الموجهة إليَّ حول وجود نقص في المستندات أو ضعف فيها تصب في هذا الجانب. وكنت أتمنى أن يفصَّل من وجَّه هذه الملاحظة ما يجعل ملاحظته واضحة تغنيني عن التخمين والاستنتاج.
وعلى كل حال، سأقوم بسرد الأدلة التي سقتها، من أجل أن أبيِّن صعوبة أن يتحول عفلق إلى تبنّي الإسلام كاملاً، فكانت تستند إلى ما يلي:
1-يقدِّم عفلق العروبة، دائماً، على كل شيء آخر، وإنه أحبَّ الإسلام بدافع من حبه للعروبة (راجع ص 68).
2-إن حبَّه للإسلام ناتج عن أن الإسلام  وُلِد في الأرض العربية (ص 70).
3-كان الإسلام، في بداية الدعوة الإسلامية، محركاً أساسياً للعرب. وأصبحت القومية، في عصرنا الراهن، هي ذلك المحرك (راجع ص 71).
4-إن العروبة تمنع أية سلطة من ممارسة الضغط الديني على أية جماعة في الأمة (راجع ص 74).
5-إن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة في الدولة العربية (راجع ص 75).
6-إذا كان العرب أمة مؤمنة، فلا يعني إيمانها إنشاء الدولة الدينية (ص 77).
7-كل قول أو مسلَّمَة تبتعد عن القول بوحدة الأمة العربية هي خاطئة (79).
ولنحاول، هنا، أن نربط تلك النصوص مع بعضها البعض، لكي نرى ماذا كان يريد عفلق من خلال موقفه الفكري المتميز من الإسلام:
يحب عفلق الإسلام بدافع من حبه للعروبة، والسبب يعود إلى أن الإسلام لعب دوراً مهماً في توحيد العرب وكان دافعهم الأساسي في بناء الدولة العربية، فهو كان حافزاً روحياً دفع بالعرب إلى بناء إمبراطورية إسلامية - عربية كبرى. لكن حبَّه للإسلام لا ولن يلغي محبته للعروبة قبل كل شيء. فإذا كان الإسلام محركاً رئيساً للعرب في الماضي أصبحت العروبة، اليوم، هي ذلك المحرك. وأحبَّ العروبة التي تمنع الضغط الديني، لذلك عدَّها بأنها الرابطة الوحيدة بين العرب. وأعلن بوضوح لا لبس فيه بأن حبه للإسلام لا يعني على الإطلاق أنه يؤمن بإنشاء الدولة الدينية.
قمنا بهذا الربط، في صفحات متعددة من البحث، وأوجزناه هنا بعدة أسطر. ربما كانت طبيعة النقد تقتضي بعض التفصيلات والاستطرادات، مما قد لا يخفى  على القارئ الذي يتميز بصبر جميل في القراءة. وما يهمنا، هنا، أن نعيد سؤال السائل بسؤال آخر: هل تحسب أن عفلق، بعد هذا الوضوح في نصه، أنه كان سيتبنَّى الإسلام كاملاً؟
ويبقى الجزء الآخر من الإشكالية التي تفصل بين النتائج التي توصل إليها عمارة، ودعا فيها البعثيين والقوميين إلى أن يتابعوا تطوير مواقفهم الفكرية باتجاه أن يصلوا إلى ما كان سيصل إليه عفلق فيما لو بقي حياً، أي أن يتبنّوا الإسلام كاملاً: الحضارة والقانون والشريعة.
لا يكفي، كما أحسب، أن أثبت صعوبة أن يتحوَّل عفلق إلى تبني الإسلام كاملاً، بل لا بُدَّ أمامي من أن أُثير مسألة في غاية الأهمية، والتي يمكن لعمارة أو لغيره من المفكرين الإسلاميين من أن يقعوا في خطأ النظر إليها من خلال رؤيتهم إلى مسلَّمة فقهية، والتي يرون فيها أن الفقهاء وحدهم، أو أولي الأمر من المسلمين، هم وحدهم الذين يجتهدون عن عامة المسلمين، باعتبار أن ما يقوم به الفقهاء وأولي الأمر يعد فرض كفاية.
وهنا، ولأسباب منهجية أيضاً، كان من الواجب أن أميّز بين موقعين شغلهما عفلق: الأول، بوصفه مفكراً قومياً وبعثياً، والثاني، بوصفه شاغلاً لأمانة الحزب العامة. وهنا تجدر الإشارة إلى التباس وقع فيه بعض المتحاورين من أنني فصلت فصلاً تعسفياً بين الموقعين، وهنا أقول إن الفصل بين الموقعين لم يتم إلاَّ لأسباب منهجية في البحث، وإنني لا أخرج عن كوني مقتنعاً بخطورة الفصل بينهما وكأنهما موقعين متمايزان أو متناقضان، بل إنهما متكاملان. وأود أيضاً أن ألفت النظر إلى أن هناك قلائل جداً من المفكرين الذي تسنى لهم أن يجمعوا بين الموقع الفكري والموقع السياسي - التنظيمي الذي من خلاله يعملون مباشرة في الحقل التطبيقي. وإن الموقع السياسي - الحزبي لعفلق قد يقيده ببعض الضوابط التنظيمية، بمعنى أنه ليس نتاج المفكر لوحده هو الذي يفرض نفسه على اتجاهات الحزب الفكرية، بل هناك للمفكر مشاركون في اتخاذ القرار السياسي أو توحيد المناهج الفكرية للحزب. فهنا لن يكون تفكير المفكر هو فرض كفاية، كما هو معروف في المؤسسات الدينية هذا إذا وُجدت مؤسسات مرجعية تُلزم كل المسلمين، بل يكون فكر المفكر، في داخل المؤسسات الحزبية، موضوعاً في خدمة الجماعة التي تشكل مرجعية فكرية وسياسية تُلزم في كثير من جوانبها التنظيمية سائر الأعضاء. ومن هنا، وإذا كان عفلق مفكراً متميزاً في داخل الحزب ويشغل موقع أمانته العامة، فهذا لن يعطي له الصلاحيات المطلقة بأن تكون أفكاره أو منهجه المعرفي أو الفكري ملزمةً لحزبه بل تكون ملهمةً، لأن أفكاره لن تخضع للقبول أو الرفض إلاَّ إذا أقرتها مؤسسات الحزب بتراتبيتها التنظيمية: القيادة الجماعية والمؤتمرات الدورية.
راجياً أن يكون الالتباس الذي علق في أذهان المتحاورين حول ما حسبوه فصلاً تعسفياً بين موقعيْ عفلق قد زال، لكي أشير هنا إلى أن الأسباب المنهجية التي دعتني إلى الفصل بين الموقعين كان دافعها أن أعود، في خلال الدفاع عن وجهة نظري، إلى بعض النصوص التي أقرتها المؤتمرات الحزبية. فتصبح أمام الباحثين في فكر ميشيل عفلق واضحة في المستقبل. ومن خلال وضوح هذه المسألة المنهجية، أن يستندوا في أبحاثهم عن فكره إلى مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وأن يحذروا من الوقوع في خطأ منهجي عندما يفصلوا بين ما يمكن أن يصل فكره وبين ما يمكن أن يُسمَح لفكره بالوصول من خلال شتى مؤسسات الحزب المركزية.
إن ما لم يقله عفلق من خلال نصوصه المباشرة قاله من خلال نصوص ومقررات الحزب. لهذا السبب، واستناداً إلى بعض تلك النصوص والمقررات، توصلت إلى النتائج التي تقول بأن عفلق، لو بقي حياً، لم يكن ليصل إلى ما استنتجه عمارة من خلال استعراضه للخط البياني لتطور اتجاهاته الفكرية حول الإسلام. وتعود بعض أسباب الاستنتاجات إلى أن الحزب بقيادته الجماعية غير ملزم بأن يأخذ دائماً بالنتائج الفكرية التي يتوصل إليها الأفراد الحزبيون، سواء على مستوى التراتبية الدنيا للتنظيم أو التراتبية العليا، إلاَّ بعد أن تتبناها المؤتمرات الحزبية، وهي التعبير الديموقراطي الذي يمارسه الحزب في هياكله الداخلية وعلى شتى الصعد الفكرية أو السياسية أو التنظيمية. لكن هذه الضوابط لا تمنع الأفراد أو القادة من أن يختاروا المناهج المعرفية التي يريدون التعبير فيها عن إبداعاتهم، أو أن يعبروا عن تلك الاتجاهات بحرية لا تعيق عمل الجماعة الحزبية.
إن لعفلق منهجية معرفية خاصة بالإسلام، وقد عبَّر عنها بأسلوبه المعرفي الخاص، والذي يتميَّز بوجدانية صوفية، تعبِّر عن خياراته المنهجية المعرفية والتي تعتمد على مظاهر التعبير الوجداني / الحسي / الصوفي. وهو منهج قلما يستطيع التعبير بواسطته سوى قلائل من المفكرين، وهو أسلوب راقٍ في التعبير لأنه يعتمد على منهج ذاتي يستبطن الحقائق بناء على حدس داخلي، يقول عنه بعض الفلاسفة الحدسيين أنه يسمح لهم برؤية ما لا يستطيعون رؤيته بواسطة العقل البرهاني المجرد.
لا يعني أن الاختلاف بمناهج الوصول إلى المعرفة بين الأفراد اختلافاً بالأفكار. وعلينا أن نحذر الوقوع في إشكالية عدم التمييز بين المصطلحات التي نستخدمها. فعندما قال عفلق بأسلوبه الخاص «بدافع من الحب للأمة العربية أحببنا الإسلام«، قالت نصوص الحزب بأسلوب المنهج العلمي إن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة في الأمة«. لقد أعطى النصان السالفان أولوية للعروبة،فتوصّلا إلى نتيجة فكرية واحدة بأسلوبين مختلفين.
ماذا تعني هذه النتيجة؟ إن إعطاء الأفضلية المطلقة للعلاقة القومية كرابط بين أبناء الأمة، لهو تحديد واضح أن الإسلام لن يكون تلك الرابطة. وإذا استخدمنا هذه النتيجة فإن هذا يعني أن عفلق لن يصل إلى مرحلة يتبنى فيها الإسلام كاملاً و إلاَّ كان عليه أن يلغي النتيجة الفكرية الأساسية التي يقوم عليها البناء الفكري للحزب، فيعيد، بذلك، مرة أخرى صراعات الفرق والمذاهب إلى مراحلها الأولى، والتي تسابقت فيها تلك الفرق والمذاهب على تحديد شروطها في تعريف موقع الإسلام الصحيح. وبمثل هذا التسابق اختلفت أيما اختلاف وتشرذم الإسلام أي تشرذم، وكانت النتيجة الأساسية في كل تلك الاختلافات هي أن كل فرقة ومذهب حسبت نفسها أنها تعبّر عن الإسلام الصحيح وغيرها من الفرق والمذاهب انحرفت عنه.
وهنا لو استخدمنا المنهج الفرضي في بحثنا، ووضعنا احتمال أن يغيّر عفلق اتجاهاته عن تبنّي الإسلام الحضارة إلى الإسلام الكامل، فماذا تكون نتائج هذا التحول على بنيان الحزب الفكري والسياسي والتنظيمي؟
 
رابعـاً: في ما حُسب تناقض بين موقعي عفلق: المفكر والسياسي
     ·وفي مداخلة جاء فيها: هناك ما يوحي بوجود تناقض بين شخصيتيْ عفلق الفكرية والسياسية. أو ليس هناك تلازم بين الفكري والسياسي؟ ينبغي التوقف عند أمور يطرحها الباحث حول فكر ميشيل عفلق:
1-أفكار عفلق هي «ملهمة وليست ملزمة«.
2-التمييز بين الموقع الفكري لعفلق والموقع الحزبي والسياسي.
3-الثنائية في شخصية عفلق: (مفكر ذو رؤية فكرية خاصة) و(حزبي سياسي ذو موقع عام).
4-إن لموقع المفكر داخل حزبه وتنظيمه استقلالية فكرية خاصة.
     ·  وعلى هذه المداخلة أجيب: يظهر أن ما أحدث التباساً في فهم النص، هو غياب تعريفٍ للمصطلحات التالية: المنهج المعرفي والمنهج الفكري.  وقد التبس فهم المصطلحين عند القارئ بحيث حسب أن لهما تعريف واحد.
وهنا تتعدد مناهج الوصول إلى المعرفة، ومن أهمها: المنهج العلمي والمنهج الذاتي: فالمنهج العلمي هو خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية، بغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها. أما المنهج الذاتي، وينطبق على المنهج الصوفي / الحدسي، فيقوم على تفسير الظواهر في ضوء المشاعر والميول الداخلية، وأكثر ما يطبق في علم النفس، ويتلخص في تأمل باطني ينصب على ما يجري في عالم الشعور، ويسمى الاستبطان.
ونحن نستطيع أن نصل إلى معرفة العلاقة بين العروبة والإسلام بواسطة أحد هذين المنهجين / الطريقين. ولا ضير إذا اختلفت طرق وصولنا إلى معرفة ما، وإنما الخلل أن نصل إلى نتائج متناقضة. ونحن نستطيع أن نصل إلى معرفة العلاقة بين العروبة والإسلام، إما عن طريق المنهج العلمي أو عن طريق المنهج الذاتي. وقد يغلِّب أحدنا أرجحية تأثير العامل الديني الروحي على غيره من العوامل أو ترجيح عامل آخر على العامل الديني. وليس في هذه الترجيحات ما ينتقص من قيمة الجامع المشترك الذي هو أولوية الرابط القومي على ما غيره من الروابط الأخرى.
وهنا، أحسب أن الالتباس قد يزول، عندما نقول إن عفلق قد اختار طريق المنهج الصوفي الحدسي (الذاتي) في تعريف المسألة القومية، فتوصل إلى نتائج تضاهي ما توصل إليه آخرون عن غير  طريق المنهج الصوفي (المنهج العلمي). لقد طغت على منهج عفلق المعرفي مفردات صوفية واضحة، ويبدو الأمر جلياً أكثر إذا ما عدنا إلى بعض تصريحاته الواضحة والتي يصف بها معرفة البعث بالمسألة القومية أنها كانت ذات جوانب صوفية. وقياساً عليه فقد فهم عفلق علاقة العروبة بالإسلام عن طريق المنهج الصوفي، فأخذ منه الجانب الروحي الذي كان دافعاً مهماً يمتلك من الحرارة والحب ما جعله يؤثر على العرب في فتح أراضٍ واسعة وشاسعة مما أتاح لهم تأسيس أكبر إمبراطورية في العالم تضاهي الإمبراطوريات التي سبقتها قوة ومنعة. فهل هنا ما يوحي بالتناقض إذا ما توصَّل إثنان إلى معرفة فكرية واحدة موحَّدَة عن طريق منهجين معرفيين مختلفين؟
وهنا أريد أن أوضح أن المنهج الصوفي، ليس هو المنهج السطحي الذي تمارس على أساسه الطرق الصوفية الطقوس الدينية، بل هو ذلك المنهج الفلسفي الذي انتهجه أكبر الصوفيين في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. هو منهج راقٍ من مناهج الوصول إلى المعرفة واكتسابها. وليس عليه أية مواصفات سلبية كما يكون قد تبادر إلى بعض الأذهان. وهنا، أشير إلى أن تاريخ الفكر العربي الإسلامي قد عرف مفكرين أفذاذاً ومتميزين من أصحاب المنهج الصوفي بالمعرفة. وعلى صعيد الفلسفة الأوروبية الحديثة نشأ برغسون وهو من أكبر فلاسفة أوروبا في أوائل القرن العشرين، الذي أسس منهجاً معرفياً قائماً على الحدس الصوفي، الذي أثَّر ردحاً من الزمن على الفلسفة الأوروبية.
إذا ما كان هذا التوضيح كافٍ، فإنني أحسب أن الإجابة عن فروع الملاحظة الأم يعفيني من الاستطراد في التوضيح. وإنني لا شك من الذين يؤيدون الاستنتاجات التي تكلم حولها الدكتور مراد والتي تؤشر على وجود مخاطر تنتج على وحدة التنظيم إذا تعددت الرؤى المتنافرة. فالذي يؤسس للتناقضات الفكرية، ليس تعدد مناهج المعرفة، أي طرق الوصول إليها، وإنما التناقض في النتائج هي التي تشكل ذلك الخطر. والمثال الذي أريد أن أعطيه، والذي يجيب، أيضاً، حول تفسير ما جاء في بحثي حول أن أفكار عفلق هي ملهمة وليست ملزمة.
إن هذه النتيجة: أفكار عفلق ملهمة وليست ملزمة، هي نتيجة صادقة ولا دخل لها في إحداث تناقض بين الفكري والسياسي. فإذا أعطى عفلق للإسلام صفة العلاقة الحميمة بين الإسلام والعروبة، أو قل علاقة حب خاصة بينهما لا يعني أن ذلك يلزم المسيحي العربي أو المسلم العلماني، الذي لم يقتنع بأهمية تلك العلاقة لكنه اقتنع بإيجابية العلاقة القومية وآمن بإيجابية الروابط القومية، وهل إذا كانت درجة حماسهما للعلاقة الحميمة بين العروبة والإسلام أقل من حماس عفلق،  يشكل شرطاً لاستبعادهما ورفض انتسابهما إلى حزب البعث؟
إن ما يجمع عفلق، المتميز بنظرة خاصة حول علاقة العروبة بالإسلام، مع العربي الذي لا يؤيد عفلق حول  تلك النظرة، هو الإيمان بأوحدية الرابطة القومية بين أفراد الدولة العربية. إن الأساس هنا هو الاعتراف بأن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة بين أبناء الدولة التي يعمل حزب البعث على تأسيسها. والنظرة إلى العلاقة بين العروبة والإسلام هي العامل الثانوي، فليؤمن كل منهما بمستوى مختلف من العلاقة عن الآخر، لأن هذا لن يضير الشراكة النضالية بين الإثنين. واستناداً إلى هذا وصفت أن الطريق المعرفي لعفلق هو ملهم وغير ملزم.
 
خامساً: وجوب إظهار خصوصية الإسلام العربية
     ·          وجاء في مداخلة ما يلي: كان من الواجب تبيين خصوصية الإسلام العربية، وهذا ما يخدم أراءك بتطوير الإسلامي باتجاه القومي، وليس العكس.
        ·                    إذا كان التوضيح ضرورياً في بحث نقدي يتناول كتاباً لباحث آخر يستدعي وضع نظرية جديدة أو أفكاراً جديدة أكثر مما يستطيع أن يستوعبه بحث محدود، فإنني ألفت النظر، من جديد، إلى أنني وضعت بحثاً طويلاً لتبيين خصوصية الإسلام العربية، وهو كتاب منشور تحت عنوان: «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام«. وأنا أحيل القارئ إليه، وإنني إذا كنت أريد التكرار فهذا ما سوف يلزمني أن أعيد تكرار النتائج التي توصلت إليها في الكتاب المذكور، وهذا ما ليس من الصحة أن أقوم بممارسته في كل مرة أريد أن أتحدث فيها عن الإسلام والعروبة إلاَّ بما يخدم التوضيح السريع.
 
سادساً: حول غياب رسم الخط البياني لتطور موقف عفلق من الإسلام
        ·      حول المنهج وغياب رسم الخط البياني لعفلق تجاه الإسلام. فكان من الواجب اعتماد التسلسل الزمني لأفكاره.
     ·    يُعدُّ رسم الخط البياني لدراسة أية ظاهرة اجتماعية أو فكرية من الأسس المنهجية، خاصة في منهج البحث عن الظاهرة الاجتماعية أو الفكرية في داخل سياقها التاريخي، مسألة صحيحة ومطلوبة. ولكن، وبما أنني لم أجد من خلال مراجعة موقف عفلق من الإسلام طوال مراحل حياته الفكرية وفي شتى نصوصه ما يدل، كما استنتج عمارة من الخط البياني الذي رسمه لفكر عفلق الإسلامي، على أن هناك تبديلاً أو تغييراً في موقفه يتطلب المراجعة والرصد، فقد تجاوزت هذا الواجب المنهجي.
ومن خلال الرصد الذي قام به الدكتور مراد للخط البياني، والذي بذل فيه مجهوداً مشكوراً، لم يتوصل إلى أكثر من أن الخط البياني لموقف عفلق من الإسلام بقي مستقيماً دون أي تغيير. لقد تبدلت الظروف التاريخية لمسار حركة التحرر العربية، لكن اتجاهات عفلق من الإسلام لم يتغير، بل بقي الإسلام ملهماً روحياً وبقي محمد -الرسول العربي- شخصية فاردة متميزة في تاريخ العرب.
كان الإسلام حافزاً روحياً في بداية الدعوة الإسلامية، وبقي حافزاً روحياً في خطاب عفلق «ذكرى الرسول العربي«، في الأربعينات، وظل هو الحافز الأهم -في فكر عفلق- في السبعينات، وأصبح أباً للعروبة في أواخر حياته.
وبمراجعتنا لمثل تلك المواقف لا يوجد، على الإطلاق ما يوحي بأن هناك تحول نوعي في الموقف، بل ربما يكون هناك إضفاء بعض الحرارة الزائدة على الخطاب التعبوي. وللتأكد من ذلك يمكن للقارئ أن يعود إلى قراءة نص الوصية التي أُعلِنت بعد وفاته.
 
سابعـاً: لماذا أعلن عفلق إسلامــه؟
     ·    وفي مداخلة أخرى تُوِّجت بالتساؤل التالي: إذا كان عفلق يؤمن بالإسلام الحضارة فقط، فلماذا أعلن إسلامه؟ ولم تتوقف عند المعاني والأبعاد التي تعكسها أسلمة عفلق في ختام حياته.
     ·    لماذا أوصى عفلق أن تُعلن قيادة الحزب إسلامه بعد وفاته، ولماذا اتَّخذ هذا الخيار، لا يدل أبداً، كما أحسب، على أنه تخطى الإسلام الحضارة إلى الإسلام كاملاً. وإذا اختلفت الرؤى والتفسيرات والتأويلات حول هذه المسألة، علينا العودة إلى وصيته. فماذا جاء فيها؟
وهنا، سننتخب بعض فقرات الوصية، يقول عفلق: «بالنسبة لي شخصياً، الإسلام كان ملهماً استلهمه دون تصريح عاطفياً اعتبرت نفسي دوماً مسلماً هذا الكلام ليس له أي معنى ديني غيبي ولكن أنا كعربي كمناضل أنا مسلم أنا شخصياً متحرر من العقيدة من الدين -بمعناه الغيبي. من سن الخامسة عشرة، لست مسيحياً ولكني أؤمن بالله إيماناً معلَّلاً بأن المناضل الصادق لا يمكن أن يستغني عن الإيمان بالله هذا الإيمان لا يتعارض مع العلم ولكنه يصقل النفس ويهذبها ويعينها على الصبر والاحتمال وآمنت بمحمد العربي كرجل عظيم له تجربة تاريخية وأخلاقية عظيمة لا يمكن أن يفهمها إلاَّ الثوريون ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان وكسبناه بالمشقة ولم نرثه إرثاً ولا استلمناه تقليداً«.
وحيث إن عفلق، كما هو واضح من نص وصيته، يؤمن بالإسلام كدافع روحي، فهو يتميز عن ذوي العقلية الغيبية والرجعية. وما هو معنى هذا؟ هل له علاقة بفلسفة ما بعد الموت، أم له علاقة فقط بجانبه الثوري الدنيوي؟ لقد آمن عفلق بأن الأمة العربية التي تعاني من ذل الاستعمار تحتاج إلى ما يغذي فيها روح النضال، وليس في التاريخ العربي الإسلامي ما هو أكثر استثارة لروح النضال في الأمة من تجربة محمد العربي.
لكن إيمان عفلق بأن المناضل الصادق لا يمكن أن يستغني عن الإيمان بالله، أي الإيمان بالحق، ليس هو حقيقة مطلقة، بل هو منهج ملهم أكثر منه مُلزم، حتى بالنسبة للبعثيين. وإذا كان حقيقة مطلقة فيجب علينا أن نفسر سبب انتصار ثورة فيتنام الشيوعية الملحدة، وهي من أكبر نماذج النضال في العالم، على أكبر دولتين في العالم وهما فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ولن ننسى ثورة كوبا الشيوعية، والتجربة النضالية التي خاضها الشيوعي تشي غيفارا. نحن مع صلاحية الاستفادة من التجربة الملهمة للثورة الإسلامية على يد محمد العربي لأنها من تجاربنا الذاتية، ولكنها ليست بمستوى من التعميم الصالح لكل زمان ومكان.
لقد أتى فهم عفلق الخاص للإسلام متميزاً عن تيارين رئيسين: الماركسية بنظرتها المادية في تفسير التاريخ، والتي نفت دور الروح والعوامل الروحية. وعن الإسلاميين الذين فسروا التاريخ بشكل جامد، وعدّوا أن الإسلام هو نص إلهي يلم بالحقيقة كاملة، فقالوا بالإسلام الحضارة والقانون والشريعة. وجاء تميز عفلق في فهمه للإسلام مستنداً إلى عوامل الثورة التي أتى بها الإسلام ليغير كثيراً في بنية العرب السياسية والاجتماعية في زمن قياسي، وهو نسخ وإلغاء للتعددية الدينية والتعدديات الاجتماعية التي أفرزت قوانين وشرائع تتناسب مع حالة التمزق القبلي والعشائري، والتي كانت سبباً في صراعات قبلية متواصلة، كان لها التأثير البالغ على تمزق النسيج الروحي والاجتماعي والسياسي عند عرب شبه الجزيرة العربية.
كان توقف عفلق عند أهمية الثورة التي أحدثها الإسلام في تطوير كل تلك البنى، الدينية والسياسية والاجتماعية، هي ما يميزه عن غيره من الذين نظروا إلى الإسلام إما نظرات تقليدية تسليمية أو الذين عملوا على نسخ الإسلام وغيره من الأديان التي تعطي الروح دوراً في حياة البشر.
لو كان عفلق يريد، من خلال فهمه للإسلام، أو من خلال الخط البياني لموقفه منه، لو كان يريد بنا أن نصل إلى أن الإسلام هو الدين الذي يعبِّر عن الحقيقة المطلقة، والتي تقول بصلاحيته لكل زمان ومكان على شتى الصعد، لكان هذا مثار تساؤل واستغراب، ولحدا بنا إلى أن نتساءل: ما هو الجديد الذي يأتي  به عفلق إذا صحَّ هذا الافتراض؟ فإذا كان يريد أن يصل بنا إلى ما دعانا إليه محمد عمارة، لكان الأحرى بنا أن لا نكون قد أضعنا كل الأوقات التي انفصلنا فيها عن مذاهبنا الدينية السابقة، ولكان الأجدر بنا أن نتمسك بها، منذ البداية، وأن نأخذ عن فقهائنا الذين هم أقدر من أي شخص آخر على فهم الإسلام وتفهيمنا إياه.
لكن عفلق جاء بجديد بنظرته الجديدة: والجديد فيها أنها بعيدة عن الإلحاد، بمعنى نكران دور الروح  في حياة البشر عامة، وفي حياة العرب الذين يناضلون من أجل تحررهم واستقلالهم خاصة؛  وهي بعيدة أيضاً عن فهم الإسلام بشكل تقليدي وجامد وكحقيقة مطلقة وكشرائع خاصة بالمسلمين لوحدهم، لأن الإسلام لن يستطيع أن يجيب على الإشكاليات التي تعاني منها الشعوب التي تدين بغير الإسلام كطريق روحي لخلاصها في العالم الآخر، وهو لا يجيب أيضاً على الإشكاليات الفكرية والمذهبية والسياسية التي كانت سبباً في تشرذمه إلى مئات الفرق المتناحرة.  وهذا الجديد هو ما جعلنا نبتعد عن مفاهيم المذهبية والشرذمة، ومفاهيم الدين المغلقة، وإلا فلا معنى لغير ذلك.
حسن غريب


 



* المنشور في كتاب «نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي»: دار الطليعة: بيروت: 2000م.
([1]) ميشيل عفلق: في سبيل البعث - الكتابات السياسية الكاملة (ج5): بغداد: دار الحرية للطباعة: 1986- 1988: ط 1: ص 275.

ليست هناك تعليقات: