السبت، يناير 17، 2015

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة (4/ 11)


أوراق قديمة أنشرها لأول مرة

وموضوعها:

حوارات ومناقشات حول كتابات حسن خليل غريب

(المناقشة الرابعة)

(4/ 11)

وهذه الحلقة الرابعة، وجاءت تحت عنوان: (نقد كتاب «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام»)، وهي عبارة عن مطالعتين كتبهما مشكوراً الدكتور علي الموسوي. ويعود تاريخهما إلى العام 2002. وقد أرفقتهما بالتوضيح الذي كتبته رداً عليهما.



نقد كتاب «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام»

د. علي الموسوي

عندما نتكلم عن العلاقة، مجرد العلاقة، إذاً هي بين طرفين مستقلين. إن ساءت هذه العلاقة أم حسنت، ففي الوقت الذي يشعر فيه الطرفان بمصلحة في العلاقة تتطور هذه العلاقة وتكون جيدة، وعندما يفقد أحد الطرفين أو كلاهما المصلحة في العلاقة فتسوء.

هل هذا ما ينطبق على العروبة والإسلام؟

هل العروبة شيء مستقل بذاته، والإسلام شيء آخر مستقل بذاته أيضاً؟

هل الإسلام هو تجربة عربية؟

أي هل لكلٍ من العروبة والإسلام شخصيته، وبنيته التاريخية والاجتماعية المستقلة؟

هل علاقة الإسلام، كفكر، بالعروبة كعلاقة الماركسية بقومية ماركس وإنجلز، أو بإحدى القوميات العالمية، أو قومية منظري الرأسمالية، أو كعلاقة أي نظام اجتماعي عرفته البشرية كنتاج لقومية ما، أو كعلاقة دين من الأديان السماوية بالقومية التي بشّرت به، أو بنصوصه، بين البشر؟

أسئلة لا بُدَّ من الإجابة عليها:

وهنا رأي خاص في هذا المجال: إن أي فكر اجتماعي أو سياسي، أو أية نظرية اجتماعية أو سياسية أو علمية، عرفتها البشرية عندما خرجت من حاضنتها، أي عندما تجاوزت حدود الزمان والمكان، اللذين أوجداها، خضعت هذه الفكرة للنقاش والإضافات والتصحيح، أي اشتركت في صياغة هذه الفكرة عناصر جديدة لم تكن قد عرفتها من قبل.

أما الإسلام، هذا الفكر الذي صيغ في حقبة عشرين عاماً، بكتاب اسمه القرآن، فتعاطت معه الأمم الأخرى إما بالرفض الكلي وإما بالإيمان الكلي، أي لم تشترك أية أمة لا بشكل جماعي أو فردي في صياغة أي عنصر من عناصر هذا الفكر. فكان إذاَ صياغة أمة استطاعت ضمن عبقريتها الخاصة أن تفصح عن ذاتها بهذا الفكر الرسالي، وهو الإسلام. فالإسلام أفصح عن شخصية الأمة العربية ضمن المنظور التاريخي لهذه الأمة. وخير معبِّر عن هذا ما قاله الأستاذ عفلق: »العروبة جسد روحه الإسلام».

من هنا لا يمكنني أن أتعامل مع العروبة كشيء، والإسلام كشيء آخر مستقل، بيحث تكون العلاقة بينهما خاضعة للتجاذب. ولا يمكنني أن أفهم الإسلام إلاَّ كفكر عربي يعبر عن تاريخ وحاضر ومستقبل الأمة العربية بمنظور إنساني رسالي: من هنا، أيضاً، أقترح أن يكون عنوان الكتاب: هل العروبة شيء والإسلام شيء آخر؟

د. علي الموسوي

توضيحات الباحث غريب

إن الإسلام، كدعوة سماوية، دعوة عالمية موجَّهة إلى كل البشر. وهو بالتالي -حسب دعاته- يعمل على تأسيس نظام سياسي - إسلامي يحكم على أساس شرائعه.

والدعوة إلى القومية، كدعوة وضعية، موجهة إلى قطاع محدود من البشر. وهي بالتالي -حسب دعاتها- تعمل لتأسيس نظام سياسي يحكم على أساس قوانين وضعية.

فالإسلام، حسب مفاهيمه السياسية، والقومية حسب مفاهيمها السياسية، هما، إذاً، طرفان. لأنهما على الأقل يفترقان بمصادر تشريعاتهما: الإسلام يحكم بتعاليم سماوية، والقومية تحكم بتعاليم وضعية.

أما إذا لم يكونا كذلك، فهذا يعني أن القومية والعروبة يدعوان إلى إقامة نظام سياسي متفقان حول مصادره التشريعية. فهل هذا الواقع حاصل بالفعل بين العروبة والإسلام؟

إذا كان الجواب نعم، وبما أن للإسلام شرائع يسبغ عليها المسلمون صبغة الألوهية، أي هي أوامر إلهية، وبما أن النظام القومي العربي يقوم على أساس شرائع وضعية، يقودنا هذا إلى النتيجة التالية: من اللغو أن نضع الأوامر الإلهية في كفة ميزان واحدة مع الأوامر / القوانين الوضعية. فما علينا، في مثل هذه الحالة، إلاَّ أن نقول بأن الدعوة إلى قيام نظام قومي، بمصادره التشريعية الوضعية، إلاَّ لغو من الكلام. وعلى النظام القومي العربي أن يأخذ الشرائع الإسلامية دستوراً له. وهنا لا يفيد، أبداً، التفريق بين الإسلام والعروبة، بل يصبحا شيئاً واحداً، ويصح أن نقول بأن علينا أن نبني نظام الدولة الإسلامية العربية.

وإذا كان الجواب، أنه على النظام السياسي القومي أن يستفيد من بعض الشرائع الإسلامية دون بعضها الآخر، فهنا نقوم بتجزئة تلك الشرائع: بعضها مقبول وهو الجزء الذي يقبل به النظام السياسي القومي، ويكون الجزء الذي لا يأخذ منه غير مقبول، أي مرفوض. وهنا يكفينا هذا المثال دليلاً على وجود طرفين: لأنهما غير متماثلين تماماً استناداً إلى عدم الأخذ بكل الشرائع الإسلامية. ولا يغير من صدق هذه النتيجة أن يكون الجزء المرفوض من الشريعة الإسلامية واحداً من المليون أو واحداً من عشرة.

فالإسلام، إذاً، طرف في معادلة العلاقة بين العروبة والإسلام، والعروبة هي الطرف الآخر. لكننا لا نعدم السبيل في إيجاد معادلة متوازنة بين الطرفين: هما غير متدامجين تماماً، لكنهما غير متمايزين تماماً. فبينهما جوامع مشتركة، كما بينهما جوانب يتمايز كل منهما بها عن الآخر.

حتى لا تضيع العلاقة بين الطرفين في متاهات الجدال اللفظي والخطاب السياسي أو الديني التعبوي، ونضيع في متاهات اللاعلمية، ، ولأن الإسلام وُلِد على أرض العروبة، وباللغة العربية، ونُشر في أرجاء العالم الذي كان معروفاً في الأجيال التي رافقت بداية الدعوة الإسلامية، بسواعد عربية. لكل تلك الأسباب كان، وما زال، من الواجب على أصحاب الفكر القومي العربي أن يحددوا تلك العلاقة موضوعياً وبوضوح، بعيداً عن العبارات التي توحي بأكثر من تأويل وأكثر من تفسير. وإننا لن نعدم وسيلة للوصول إلى نتائج علمية واضحة.

من حيث المنهج المعرفي عند عفلق كان يضمَّن آراءه الكثير من العاطفة على حساب الفكر، سواء في رؤيته للمسألة القومية، أو في رؤيته للعلاقة بين العروبة والإسلام. فهو، تعقيباً على مواقفه العاطفية من المسألة القومية، التي تتمظهر من خلال الكثير من تعابيره، كمثل »القومية حب قبل كل شيء»، و»القومية قدر محبب»، و»الإيمان بالقومية يسبق أي تعريف»، و»القومية تذكر حي» إلخ  دفعه إلى التساؤل: »هل ستبقى قوميتنا بهذا الشكل العام المجرد، الذي يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر أم أن خطورة المعركة التي نخوضها تتطلب أن ننظم عملنا، ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي مكتمل الجوانب؟». 

ولا شك بأن في تعابير عفلق عن علاقة العروبة والإسلام الكثير من العاطفة، بحيث جاءت على حساب التعمق في علمية تلك العلاقة. وإلاَّ إذا كان الأمر غير ذلك، فكيف نستطيع تفسير الكثير من تلك التعابير؟ كمثل: »العروبة جسد روحه الإسلام»، و»ولقد ولد الإسلام في أرض العروبة ولكنه أصبح أباها»إلخ.

وإذا كان عفلق هو الذي وصف مفهوم القومية عند البعث بأنه يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر، فهل نكون ملومين إذا دعينا إلى إنشاء ورشة فكرية مؤسساتية في داخل الحزب لتحديد مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي؟

وإذا كان هناك في فكر الحزب ودستوره ما يجعل التفريق بين الإسلام والعروبة مباحاً، فهل يكون إصرارنا على منع التفريق / التمييز بينهما عملاً مُستغرباً ومستهجناً؟ وتكون حجتنا ليست أكثر من القول، تقليداً لما قال به ميشيل عفلق، بأن خير معبر عن حقيقة العلاقة بين العروبة والإسلام هو أن »العروبة جسد روحه الإسلام». فلو طلبنا من أي بعثي أن يضع تفسيراً لما قاله الأستاذ، فهل يستطيع أن يضع تفسيراً يصمد أمام المنطق العلمي؟

وهنا، أطالب كل المهتمين بالشأن الثقافي أن يطلبوا من عدد من البعثيين، لكي يكتبوا موضوعاً حول ما يوحي لهم هذا القول، وأن يحددوا علاقة العروبة بالإسلام على أساسه، ومن بعد ذلك علينا أن نطلع على ما كتبوه، وإنني واثق من أن التفسيرات لن تكون أكثر من مقالات في التعبئة والتحريض.

فلو حاولنا أن نناقش »العروبة جسد روحه الإسلام»، فماذا نجد؟ من المعروف أن الروح عندما تترك الجسد لا بُدَّ من أنه سيفنى. وهذا يفرض علينا أن نتساءل: إذا افترضنا أن العرب امتنعوا عن اعتناق الإسلام، فهل تزول العروبة وتفنى؟ وبالتالي، نحن نعرف أن الجسد وروحه يُولدان معاً منذ أن تبدأ النطفة بالتكون في رحم الأم. وهنا نتساءل: هل العروبة والإسلام تكونا معاً وفي وقت واحد في رحم الجزيرة العربية؟ أم أن العروبة كانت سابقة للإسلام؟ فإذا كانت العروبة قد سبقته، فمن غير المنطقي أن ينمو الجسد ثم ينتظر روحه لكي تأتي بعد مئات السنين إذا لم يكن بالآلاف منها.

وإذا حاولنا أن نفسّر »ولقد ولد الإسلام في أرض العروبة ولكنه أصبح أباها»، نرى أنه لا بُدَّ من أن نتساءل: كيف يولد مخلوق في رحم أم ثم يصبح أماً للأم. وكيف يولد مخلوق من نطفة رجل ثم يصبح أباً للأب؟ إن هذين المثلين كافيان ليدفعان بنا إلى أن نرتقي، كما طلب عفلق نفسه، بمفاهيمنا إلى مستوى الفكر والعلمية، وأن نخفف من العاطفة التي تطغى على تلك المفاهيم.

فكيف نرى العلاقة بين طرفي المعادلة؟

حاولت أن أنخرط في محاولة أبتغي من ورائها أن أنتقل بمفهوم القومية، وبمفهوم العلاقة بين العروبة والإسلام، من العاطفة إلى العمل العلمي الواضح، فقمت، خلال سنوات من البحث والتقييم والتحليل، بوضع كتاب »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام».

وإنني قد غيَّرت عنوان الكتاب أكثر من مرة، فمحوت كثيراً، ووضعت عناوين أكثر. وكنت كلما انتقلت من مرحلة إلى أخرى، خلال البحث في التاريخ العربي - الإسلامي، أجد أن العنوان الذي كنت قد وضعته أصبح غير متوازن مع النتائج التي كنت قد توصلت إليها. فكان العنوان الذي تقترح تغييره إلى عنوان آخر، وهو»هل العروبة شيء والإسلام شيء آخر؟»، لم يكن جاهزاً قبل البدء بالبحث، وإنما نتائج البحث هي التي فرضته، لذا جاء معبِّراً عن النتائج الفعلية التي توصلت إليها. فتغيير عنوان الكتاب يتطلب جهداً بحثياً آخر، أتوصل فيه إلى نتائج مختلفة عن التي توصلت إليها من البحث السابق.

ماذا وجدت خلال البحث الذي لم أنجزه إلاَّ بعد سنوات من مشقات التفكير والبحث والتقميش والكتابة؟ كنت أحياناً أتلف بلحظات ما كنت قد تعبت لأجله أسابيع. وكانت غايتي أن أسهم برفد فكر الحزب بإطلالات علمية، وقد قمت أنت يا صديقي باختزال كل عملي الشائك بنتيجة قصيرة من خلال جملة قصيرة قالها ميشيل عفلق »العروبة جسد روحه الإسلام»، مما جعلني أندم على قيامي بكل ذلك الجهد لكي أكتشف نتائج غير حقيقية، في الوقت الذي توصل فيه تراثنا الحزبي إلى حقيقة أخرى بجملة واحدة.

إن المسألة القومية ليست شيئاً ثابتاً، يولد وينشأ ويكبر على وتيرة واحدة، بل هي مسألة لها علاقة بالتطور التاريخي في شتى جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية. إنها تاريخ متكامل: تتغير أرضاً وشعباً ومناهج فكرية. وهكذا كانت العروبة، نشأت نشأتها الأولى في الجزيرة العربية، ومرَّت عليها حضارات كثيرة ومتعددة، بعضها اندثر بفعل التطور التاريخي، وبعضها استمر بفاعلية ضرورتها وصلاحيتها وكان الإسلام، بإيجاز، أحد تلك التطورات التي طرأت على حياة العروبة، ولعب دوراً مؤثراً وإيجابياً في تكوينها على الصورة التي هي عليها اليوم. وإذا كان الإسلام هو روح العروبة بمفرده، يعني ذلك أنه هو العامل الوحيد الذي أسهم في تكوينها، وإذا صحَّت هذه النتيجة، يعني أن كل ما جاء به من فكر وتشريعات وتقاليد وجهاد وبطولة كان جديداً كل الجدة على الحياة العربية. وبما أن الدراسات التاريخية قد أثبتت أن في الإسلام: الشريعة والتقاليد والعادات وحتى الكثير من العبادات، نقلها الإسلام عن العصر الجاهلي. فللعصر الجاهلي فضل في توليد كل ما أخذه الإسلام عنه. وحيث أن للإسلام شريك في بناء الحضارة العربية، الروحية والمادية، فالإسلام هو جزء من الروح العروبة وليس الروح كله.

كنت أتمنى أن تقرأ البحث الذي قمت بإنجازه »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام». ومن ثمَّ تقوم بنقد قراءتي للتاريخ العربي - الإسلامي حيثما تجد إلى ذلك برهاناً. لأن نقد النتائج يتطلب نقد المقدمات التي سبقتها. فإذا كانت المقدمات خاطئة ستكون النتائج خاطئة، أما إذا كانت المقدمات صحيحة لا بُدَّ من أن تكون النتائج سليمة. أتمنى أن أكون مخطئاً في تقديري أنك لم تناقش مضمون البحث، بقدر ما قمت بمناقشة العنوان. والعنوان، كما أوضحت، كان نتيجة لنتائج البحث الذي قمت به، وليس هو موديلاً  يناسب ما جاء به ميشيل عفلق من أن «العروبة جسد روحه الإسلام»، أو لا يناسبه، بل هو من نتائج بحث علمي، كان عفلق هو الذي دعا الأجيال البعثية الجديدة لكي تقوم به.

لا تقلق يا صديقي مما أقول، لأنه إذا لم نكن من أوائل الجريئين على رؤية أنفسنا بعلمية ونقد ذاتي هادف، فإن الزمن لن ينتظرنا طويلاً ونحن نضيعه في تفسير هنا وتأويل هناك. فلا الحزب يريد، ولا مؤسسه يريد، أيضاً، أن نجمّد النصوص لنختلف في تأويلها وتفسيرها. فلننخرط في ورشة ثقافية فاعلة تُنتج وتنتج وتتفاعل مع معطيات الفكر الذي يواكب حركة المتغيرات على صعيد التاريخ بشتى جوانبه الحضارية: الفكرية والسياسية والاجتماعية.

يكفينا، نحن القوميين، والبعثيين بشكل خاص، أننا وجدنا القومية طريقاً أساسياً لبناء حضارتنا القومية التي تعبّر عن حقيقة العصر كنظام اجتماعي - سياسي - اقتصادي، تستطيع فيه أمتنا العربية أن تجد طريقها الصحيح لبناء ذاتها قوة فاعلة في جسم إنساني واسع متعدد على طول الكرة الأرضية وعرضها. وإذا كان من فضل لتراثنا القومي بشكل عام، ولتراث حزب البعث بشكل خاص، أنه حفظ للروح دوراً أساسياً في بناء الإنسان العربي، وأعطى للقومية استقلاليتها عن تقليدية الأديان وجمود نصوصها وجعلها جامعاً لما فرَّقته الأديان والمذاهب التي طالما افتقدت روحية التوحيد، والتي افتقدت جرأة الاعتراف بالآخر، فجاء الفكر القومي لكي يعترف بها جميعها.

يكفينا يا صديقي أن البعث قد ارتقى بفكره القومي من مرحلة عدم التمييز بين العروبة والإسلام عندما كان يقال فلاناً مسلماً يعني أنه عربي، وعندما كان يقال أن فلاناً عربياً يعني أنه مسلم. فإذا عدنا إلى مرحلة عدم التمييز بين العروبة والإسلام فما هو الجديد الذي أتى به حزب البعث، إذاً؟ هذا يعني أننا لم نأت بجديد بل كان علينا أن نعود إلى فكر سابق أصبح بائداً، وها نحن نعود لنحييه بعد أن رفضه المفكرون القوميون السابقون لتأسيس حزب البعث. فهل هذا ما تريد أن نصل إليه؟

وانتظاراً لقراءتك كتابي من جديد قراءة منهجية ناقدة، وتسهيلاً لقراءة البحث أمامك، على الرغم من أنني سأطيل الرد، سأضع في خدمتك ما جاء في تعريف البحث في أحد وسائل الإعلام، التي قامت بتعريف القراء بمضامين بحثي المنشور:

 

مراجعة كتاب (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)([1])

محتويــات الكتـــاب


البـاب الأول: القومية العربية ومرحلة التراكم التاريخي، السياسي والاجتماعي


- الفصل الأول: مرحلة الصفاء العربي: منذ الجاهلية حتى العصر الأموي.

- الفصل الثاني: العصر العباسي: تمهيد للانتقال من الدولة القومية إلى الدولة الأممية.

- الفصل الثالث: العصران المملوكي والعثماني: مرحلة الإسلام الأممي.


الباب الثاني: مرحلة التكوين والتأسيس للفكر القومي العربي (العقائدي والسياسي).

- الفصل الرابع: بين الثوابت السياسية الأمبريالية والحضارة الغربية، مساحة للتمييز بين الرفض والتفاعل.

- الفصل الخامس: مظاهر تأسيس الفكر القومي العربي (العقائدي والسياسي).

- الفصل السادس: مظاهر البناء السياسي وقضايا الصراع القومي العربي.

يؤسِّس الباحث في مقدمة كتابه لتوضيح ضرورة حسم إشكالية الصراع الدائر حول العلاقة بين العروبة والإسلام، فيقول: «للموضوع أهمية مُلِحَّة؛ والفصل بين طَرَفيْ الإشكالية التي يطرحها بنجاح أو فشل، يترتَّب عليه نتائج مصيرية على وضع الأمة العربية». والسبب في ذلك أن هذه الإشكالية استنزفت الكثير من الطاقات الفكرية والسياسية والتنظيمية والإعلامية... وانخرط في معارك الاستنزاف تيارات عديدة، من أهمها طرفان:

-أحدهما ينفي العلاقة بين القومية والدين، ويضعهما في موقع الطرفين المتناقضين، وفيه تساوى كل من الرافضين للدين بحجة رجعيته، والأصوليون الرافضون للقومية بحجة استنكارهم إحلال أية رابطة غير الرابطة الدينية بين أفراد المجتمع الإسلامي.

- أما الثاني، فهو الموقف التوفيقي، الذي يحسب أنصاره أنه لا تعارض بين الإسلام والعروبة.

ولأن كلاً من التيارين لم يلاق أي قبول عند الباحث، أدلى بدلوه في بئر هذه الإشكالية العميق؛ فاستخدم، للوصول إلى نتائج يحسب أنه يتجاوز بها مواقف التيارات المذكورة، منهج البحث التاريخي-الاجتماعي، أي دراسة الحالة (العلاقة بين العروبة والإسلام) كما حصلت في التاريخ فعلاً، وما هي النتائج التي انعكست على وضع المجتمع العربي بفعل تلك العلاقة. فكيف توصَّل الباحث إلى ما عدَّه صحيحاً؟

قسَّم حسن غريب بحثه إلى بابين: يتناول في الأول منهما أُسُسَ العلاقة بين العروبة والإسلام قبل تمظهر الفكر القومي في نظريات. وفي الباب الثاني مرحلة التكوين والتأسيس للفكر القومي العربي.

ففي الباب الأول، بحث غريب، وعلى مدى ثلاثة فصول، التاريخ العربي-الإسلامي منذ عصر الجاهلية، والدعوة الإسلامية، مروراً بالعصر الأموي، وانتهاء بالعصر العباسي، الذي أورث للمماليك والأتراك العثمانيين دولة إسلامية أممية بمصادر تشريعها وتركيبها السلطوي، وقد تُوِّجت بخلافة غير عربية، فاكتمل عقد دولة إسلامية أممية برئاسة أممية غير عربية.

ففي الفصل الأول: توصَّل الباحث إلى أن الدولة الإسلامية دولة المدينة المنوَّرَة- التي فرضت سلطتها بالكامل على قبائل شبه الجزيرة العربية، أحدثت مُتغيِّريْن أساسيين: توحيد القبائل تحت سلطة سياسية واحدة، ونشرت الدعوة للإسلام، الدين الذي وحَّد العرب وخلَّصهم من تعددية الأصنام.

 لكن تلك المرحلة، وإن كانت قد وحَّدت القبائل فهي لم تستطع أن تلغ العصبية العشائرية، التي استمرت حتى القرن العشرين. وإن كانت قد وحَّدت العرب تحت لواء دعوة دينية واحدة، لكنها لم تصل بهم إلى وحدة فكرية عميقة. فما أن توفي الرسول المُوَحِّد حتى أخذ الإسلام يتفتت إلى مذاهب وفرق دينية مُسلَّحَة بالنص الديني الإسلامي؛ وإلى العودة للعصبيات العشائرية والقبلية في صراع سياسي متواصل على السلطة، وتمظهرت في سلسلة طويلة من الفتن والصراعات الدموية.

ثم جاءت الفتوحات الإسلامية، التي أُنْجِز معظمها في العصر الأموي، لتشكِّل الجامع الأكبر للعرب، لعبت عدة من العوامل العسكرية والاقتصادية والسياسية دوراً كبيراً فيه، لكنها كانت تسير كلها تحت ذريعة نشر الإسلام، فجاءت لتُلبِّي طموحات الطبقات الحاكمة في السيطرة والتوسع.

ولما جاء العصر العباسي، كان مجتمع الدولة الإسلامية، التي تأسست بواسطة السيف العربي، يضم إليه الكثير من التناقضات على غير صعيد، ومنها: الإثنيات القومية، والتعدديات الدينية، والطبقية، والحضارية.

وإن كان هذا المزيج الكبير من الإشكاليات قد أسهم في تأسيس حضارة عربية إسلامية ذات شأن، فقد حمل، في الوقت ذاته بذور التفتيت والتجزئة، التي تمظهرت في سلسلة طويلة من الصراعات السياسية والمذهبية والقومية والطبقية... كان من أهم نتائجها أن العصر العباسي أسَّس لقيام دولة إسلامية أممية بتعددية شعوبها وحضاراتها، وتوَّجتها بقياد إسلامية غير عربية في عهد كل من المماليك والأتراك العثمانيين.

لم تستطع الدولة الأممية الإسلامية أن تحقق العدالة والمساواة بين رعاياها من المسلمين. وكانت اللاعدالة واضحة أكثر بحق رعاياها من غير المسلمين. ولذا تعددت الصراعات بين الدولة المركزية وبين كل تلك الإثنيات والتعدديات بأشكال مختلفة وعلى أكثر من صعيد.

كان من نتائج تلك المرحلة، موضوع الباب الأول، تعريب معظم المجتمعات الخاضعة للدولة الإسلامية، وكان للإسلام فضل في تعريبها لأن فهم تعاليم الإسلام وقراءة القرآن لن تتم إلا بمعرفة المسلم للغة العربية. وعندما تعرَّبت تلك الشعوب أخذت تتوحَّد: بتقاليدها وعاداتها وثقافتها. وانعكست وحدة اللغة على نوع من التكامل الاجتماعي والمصالح الاقتصادية والسياسية، وأخذت تشعر بالحاجة إلى وحدة سياسية عسكرية تحميها من الأطماع الخارجية، وهذا لم يكن يخفي توقها إلى نوع من القطرية / الانفصالية للمحافظة على استقلاليتها السياسية والاقتصادية وهذا ما كان يترافق مع خضوعها لمركزية الدولة في وقت واحد. ولكن بقيت عدة شعوب أسلمت ولكنها لم تتعرَّب لا باللغة ولا بالعلاقات الاجتماعية والفكرية ولا بالانتماء القومي، ولم تشعر بأي انشداد وحدوي مع الدولة المركزية إلا بحكم الخضوع لقوَّتها وسطوتها...

هذه هي الحال التي رست عليها الدولة الإسلامية الأممية عندما لحقت الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وهنا ، وفي نهاية الباب الأول، نتلمَّس أن الباحث يرى أن للإسلام فضل في تكوين ما يُعرَف اليوم بالأمة العربية، لكن هذا لا يعني على الإطلاق- أن هذا الفضل يُرتِّب على الأمة أن تخضع لنظام إسلامي يحكم على أسس الشريعة الإسلامية بشكل كلي وكامل. إن التجربة السابقة، وعمرها مئات السنين، أثبتت فشلها وعدم صلاحيتها لأكثر من دليل تفصيلي في التاريخ عمل الباحث كل ما في وسعه للبحث عنها وأثبتها في الباب الأول من بحثه.

لم يحل النظام الإسلامي، كما أثبتت وقائع التاريخ، مشكلات رعاياه، على الرغم من أنه كان يحكم على أساس ما نصَّت عليه قواعد الشريعة الإسلامية، التي كان يفتي بها فقهاء مسلمون. ولا يغيِّر من نتائج الحكم السلبية للدولة الإسلامية الواحدة، شيئاً ما كان يدَّعيه فقهاء مسلمون من مذاهب إسلامية كانت في صف المعارضة، من أن تلك الدولة لم تكن تحكم فعلاً على أسس الشريعة الإسلامية.

فهل تصلح الشريعة، إذاً، بعد تجربة مئات السنين لإقامة دولة تحقق العدالة والمساواة لكل رعاياها؟ وهذا ما حاول الباحث أن يفتِّش عن جواب عليه في الباب الثاني. ففي الباب الثاني يثبت الباحث أن العرب لم يُظهِروا أسفاً كبيراً على انهيار الدولة العثمانية باستثناء ما له علاقة بالخوف على الإسلام من الطغيان المسيحي الديني. وعندما تبيَّن أن البديل لن يكون نظاماً دينياً مسيحياً أخذت النُخب العربية تفتِّش عن هوية وحدوية تعيد تجميعهم.

كيف واجهت الشعوب، التي كانت تخضع لحكم الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، زلازل انهيار الرأس القائد للدولة الإسلامية الأممية؟

لم يحصل انهيار تلك التجربة، التي بنتها مئات السنين، بفعل التآمر الخارجي فحسب، بل ساعد على ذلك العديد من الإشكاليات السياسية والدينية والعرقية والطبقية، حيث كانت الشعوب الخاضعة لنفوذ الدولة تعمل في سبيل التحرر من هيمنتها، ومن تلك الشعوب كان الناطقون باللغة العربية، والذين أصبحوا من المحسوبين في دائرة العروبة، يعملون للتخلُّص من نير الحكم العثماني الإسلامي أيضاً.

واللافت في الأمر، كما يحسب الباحث، أن كل الشعوب التي لم تتعرَّب، عادت مطمئنة إلى أحضان قومياتها من دون اتهامات ضدها من قبل الإسلاميين أو من الأمميين العلمانيين، ولكن بقي الاتهام موجَّهاً إلى العرب الذين يعملون في سبيل لم شمل الأجزاء الناطقة باللغة العربية، والتي بقيت من دون هوية مُتَّفَق عليها.

ويتابع الباحث في الباب الثاني، فيرسم صورة شاملة للوضع الذي رست عليه ما أصبحت تُعرَف بالأمة العربية؛ فنرى، من خلال بحثه، أنه قد تساوى في الهجوم على الداعين لوحدتها كل من: واضعي إتفاقية سايكس-بيكو، والأمميين الماركسيين والأصوليين الإسلاميين. فهل هذه الاتفاقية ترضي الماركسيين، وهل ترضي الأصوليين الإسلاميين؟ إنه سؤال يرفعه الباحث بحدة ووضوح، ويطالب كل من يدعو إلى رفض الفكر القومي أن يتحمَّلوا مسؤولياتهم في الإجابة عليه.

يصبح من الواضح أن الصورة البانورامية الشاملة، التي رسمها الباحث، للوضع الذي رست عليه الأوضاع الجغراسية للأمة العربية، في أعقاب انهيار تجربة الدولة الإسلامية الأممية، أن عدة تيارات سياسية تتمزقها: منها القادم من الغرب الاستعماري، ومنها ما هو موجود في رحمها. والموجود في رحمها هو ما يجب أن يُحْسَم أولاً، لأنه لا يمكن لأمة أن تقاوم الغزو القادم من الخارج في الوقت الذي يتصارع فيه أبناؤها في الداخل. ويأتي على رأس تلك الأمراض الخلاف الكبير حول تحديد الهوية، بحيث أنه ما لم يتم الاتفاق حولها  يصبح من غير الممكن أن نحدِّد أي نظام سياسي نريد أن يحكمها.

بعد اتفاقية سايكس- بيكو أصبحت الصورة على الشكل التالي:

- الماركسيون: وقفوا موقفاً سلبياً من القومية والوحدة العربية، ولم تشفع لهم مواقفهم المستجدة منذ الربع الأخير للقرن العشرين لأنهم لم يبلوروا، حتى الآن، أي مشروع نظري قومي جدي.

- الأصوليون الإسلاميون: الذين ما زالوا يضعون العوائق في وجه أي توجه عربي قومي وحدوي، وهم ما زالوا يحلمون ببناء دولة إسلامية مُوَحَّدَة، ويحسبون أن العمل في سبيل قيام دولة قومية عائقاً جدياً في سبيل مشروعهم، ولذلك ما زالوا يحسبون أن القومية ما خُلِقَت إلا لمحاربة الإسلام. وهم بذلك يرفضون قيام وحدوية قومية عربية، بينما أثبت التاريخ استحالة نجاح المشروع، الذي يحلمون فيه، مرة أخرى.

- القطريون: الذين يدعون للتقوقع في داخل أسوارهم القطرية، وهم على الرغم من تراجع تأثيرهم فإنهم غير متضررين من إدامة الصراع بين القوى والتيارات الرئيسة: الإسلاميون، الماركسيون، القوميون.

فهل كل هؤلاء إلا من الذين يتوافقون، بشكل واعٍ أم بشكل مُضَلَّل، مع ما فرضته اتفاقية سايكس-بيكو وما زالت تفرضه، من أهداف ومشاريع تقسيمية تطال الأمة العربية وحدها؟

ولأن تجربة الدولة الإسلامية الأممية لاقت فشلاً في تطبيق العدالة بين كل رعاياها، على شتى انتماءاتهم الدينية والعرقية، دعا الباحث للاستفادة من تراث الحضارة الإنسانية، ومنها الحضارة الغربية، فوجد أن من أهم المبادئ السياسية التي يمكن للعرب أن يستفيدوا منها هي تلك المبادئ السياسية الحديثة كالديموقراطية والعلمانية. وإن الاستفادة من نتائج الحضارة العالمية يجب أن يتمَّ من دون خوف أو تخويف، ففي الحضارة الإنسانية ما يمكن أن يُسهم في معالجة أمراضنا، ومن الممكن أن نُجري على الأدوية القادمة من الخارج أية تعديلات نراها مناسبة لمعالجة أمراضنا التي نتميَّز بها. وليس العلاج أن نرفض الدواء لأنه مصنوع في مختبرات الغرب.

ثم يخلص في نهاية بحثه إلى دعوة للحوار الجاد والجدي في سبيل الخلاص من مرحلة الصراع حول الهوية.

حسن غريب

***

مجموعـة من التساؤلات حول الأمـة والإسلام

(د. علي الموسوي)

-هل جاء الإنتاج النصي في الإسلام على ضوء استيعاب وفهم الإطار الاجتماعي، المكاني والزماني؟ هل يمكن أن يُؤوّل النص خارج هذا الإطار؟ هل للنص معنى واحد أم معانٍ متوالية مواكبة لتطور الحياة؟

-إن كانت الآيات القرآنية قد أُنزِلت على محمد بناءً لما كانت تتفتّح عنه عبقرية بعض الصحابة، وفي مقدمتهم عمر، كما ورد في بعض النصوص؛ فهل عبقرية الأمة انتهت عند عمر أو غير عمر، وفي مرحلة تاريخية واحدة؟

-ما رأيكم بالناسخ والمنسوخ؟

-هل الإسلام ثقافة عالمية؟ وما هي الثقافة العالمية؟

-هل باستطاعة الأمة العربية، أو أية أمة من الأمم التاريخية، أن تكرر ذاتها من جديد؟

إن أي فكر أو أية رسالة لا يمكنهما أن ينتجا ويظهرا إلى العلن إلاَّ إذا توفرت لهما قاعدة بشرية ليس لها من الحياة مجرد الحياة في مجتمع ما، بل تكون هذه القاعدة البشرية قد أنتجت المجتمع لتعيش فيه من خلال هذا الفكر وهذه الرسالة.

والحقيقة أنه لم يكن للإسلام أن يظهر لولا أن أنتج العرب المجتمع البشري الوحيد القادر على حمل الإسلام كرسالة بشرية، وحمل قيم ومفاهيم تلك القاعدة البشرية التي أنتجها المجتمع العربي ما قبل الإسلام، وليحيا هذا المجتمع عبر الإسلام؟

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أية قاعدة بشرية منتجة من مجتمع بشري ما قادرة على أن تتخلّق وتحمل في وجدانها فكر أية قاعدة بشرية منتجة من قبل مجتمع بشري آخرين؟ وهل هذا الفكر قادر على أن يسهم في تطور هذه الأمة؟

-هل القاعدة البشرية المنتجة من المجتمع العربي في العصر الحديث بحاجة لأن تنتج فكرة جديدة تكون فيه هذه الفكرة مساهمة إسهاماً فعلياً في إنتاج هذا المجتمع؟

-وهل استطاعت أمة من الأمم، عبر التاريخ، أن تتصدّر التاريخ البشري، كقوة وحضارة وعلم، بفترتين زمنيتين منفصلتين؟ أي هل الأمة تكرر ذاتها؟ وهل الأمة قادرة على أن تفصح عن عبقرية ما في أكثر من مرحلة زمنية؟

الدكتور علي الموسوي

***

 

نحـو صياغـة قواعد فقهيـة متجـددة حـول الناسخ والمنسوخ (للكاتب)

قد يقول قائل بأنه ليس من حق أيٍّ كان أن يزج نفسه في سلك المفسرين والمجتهدين. فمن يريد أن يزج نفسه في هذا المضمار من دون أن يكون من أهله، كمن يفتري على استخدام سلطة ليست من حقه. بل لا يجوز أن يتنكَّب هذه المهمة إلاَّ من حاز على شروط الأهلية التي حددها السلف، وبذلك عليه أن يكون من الفقهاء الذين درسوا في كليات الشريعة. ولا يسعنا هنا إلاَّ أن نلفت النظر إلى أن كليات الشريعة ليست موحدَّة، بل يمكن أن ينفي بعضها صلاحية بعضها الآخر. نقول هذا في الوقت الذي لا بُدَّ لنا من أن نُذكِّر بأن المسلمين الأوائل لم يتخرجوا من أية كليَّة بل اعتمدوا على كفاءاتهم العقلية والنقلية.

على الرغم من ذلك كيف أرى هذه المسألة من منظار معاصر؟

يرى الفقه التقليدي قواعد الناسخ والمنسوخ، كما حددها النيسابوري، على ثلاثة أنواع، وهي: ما نُسِخ خطه وحكمه.  ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه.  ومنه ما نُسِخ حكمه وبقي خطه. وهنا لا بُدَّ من التساؤل:

-ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط أو الحكم؟ وهل لدى الله غرض من إغفال حكمة ما نسخ خطه وحكمه؟

-لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمها؟

- ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟ وما فائدة بقاء الخط بغير الحكم؟ وهل الغاية هي الخط أم الحكم؟ فإذا كانت الغاية هي الخط، فلماذا نسخ الخط في بعض الأحكام؟ وإذا كانت الغاية هي الحكم فلماذا أبقى على خطوط أحكام كان قد نسخها؟

ونتساءل أيضاً: هل لا يجوز لنا أن نناقش النيسابوري أو غيره من فقهاء المسلمين الذين وضعوا قواعد لفهم القرآن والسنة أم أن ما جاؤا به أصبح من النصوص المقدَّسة؟ وهل لنا أن نقول غير ما قاله الإمام محمد عبده: هم رجال ونحن رجال. وهل نغض الطرف عما قاله محمد عبده لأنه خريج أحد كليات الشريعة، ولا نغض الطرف عن غيره؟

أما حول موضوع الناسخ والمنسوخ، فنرى أنه من الموضوعات التي لم تأت لتغيَّر حكماً بحكم، أو آية بآية أحسن منها([2])، في خلال حياة الرسول فحسب، بل إن ما جاء في القرآن هو تدليل على أنه لا يمكن للأحكام الزمنية أن تبقى ثابتة، بل إنها تتغير بتغير الظروف، أيضاً، في كل زمان ومكان. فعندما يريد الله أن يُنسي آيةً أو ينسخها، فهو يفعل ذلك لأنه يعلم أنها لم تعد تواكب روح العصر. وهذا دليل على أن أسلوب النسخ جاء لا لكي يضع أحكاماً ثابتة لأعمال هي من المتغيرات، بل ليدل على أن الشريعة ليست ثابتة بل وُضِعت لتحاكي ظروف البشر ومصالحهم، فإذا أصبح الحكم لا يلبي مصلحة البشر، في زمان ما أو مكان ما، فلا ضير ولا خوف من تعديله بأحسن منه.

يرى الفقه أن قواعد الناسخ والمنسوخ لا يمكن أن تتجاوز ما حصل في أثناء حياة الرسول، أي أن الله نسخ في حياته ما نسخ، وأنسى ما أنسى، أما بعد وفاته فقد أقفل باب النسخ. ولهذا السبب يرى الفقه التقليدي أن شرائع الإسلام أصبحت ثابتة لا يمكن لأحد أن يقوم بتغييرها، أبداً، بعد وفاة الرسول.

وهنا، سنفرد بحثاً موجزاً عن الناسخ والمنسوخ، بهدف المساعدة على صياغة قواعد فقهية متجددة حولهما. وسنتَّخذ شرائع الحرب في الإسلام أنموذجاً يساعدنا على الصياغة. وسنفتتح البحث بآيات من القرآن جاء فيها:

)-فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا( (محمد:4).

)-فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً( (لأنفال:69).

)-وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ( (الأنفال:41)



غنـائم الحرب في الإســلام

I- الجزيــــة


)قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ( (التوبة:29). وقد حدَّد الغزالي خمسة أركان للجزية([3])، وهي:

1-نفس العقـد: «هو أن يقول نائب الإمام أقررتكم بشرط الجزية والاستسلام، ويذكر مقداره، فيقول الذمي قبلت وعقد الجزية غير لازم من جانب الكفار، بل لهم الالتحاق بدارهم إذا شاؤوا»([4]).

2-العاقـــد: هو الإمام.

3-فيمن يعقد له: «كل كتابي عاقل بالغ حرٌّ ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية»([5]).

4-في البقــاع: «يقرّون في سائر البلاد إلاَّ الحجاز، وهي مكة والمدينة واليمامة ونجد ومخاليفها والطائف وخيبر»([6]).

5-في مقدار ما يجب عليهم: ويرى أن واجباتهم خمسة:

أ-الجزيــة: يستوي فيها الغني والفقير. وللإمام أن يماكس بالزيادة ما شاء([7]).

ب-الضيافـة: للإمام أن يوظف عليهم ضيافة الطارقين من المسلمين بشرط أن يذكر عدد الضيوف ومقدار طعامه وأدمه وجنسه وقدر علفه ومنزله ومدة مقامه([8]).

ج-الإهانـة: أي «أن يطأطئ الذمي رأسه عند التسليم، فيأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهازمه وهو واجب لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة بتضعيف الصدقة»([9]).

د-«يجوز أخذ العشر من بضاعة تجار الحرب. ويجوز الزيادة. ويجوز النقصان إلى نصف العشر عن الميرة ترغيباً لهم في التكثير وكل ما يحتاج إليه المسلمون»([10]).

هـ: الخراج: لا يسقط الخراج عنهم إلاَّ بالإسلام([11]).

 

ملاحظـات حول أحكـام الجزيــة([12]).

-إن الكيفية التي تعامل بها الإسلام مع أهل الذمة تنبني على اعتبارات دينية: )إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام( (آل عمران: 19)، وسياسية (الاعتراف بسلطة الإسلام السياسية)، واجتماعية (اعتبار أهل الذمة أقل قيمة من المسلمين والعرب)، واقتصادية (استفادة الأمة مما يدفعه أهل الذمة من جزية وخراج).

-إن أحكام أهل الذمة تعود في مجملها إلى ما عرف في التاريخ الإسلامي بالعهد العمري (عهد عمر بن الخطاب لنصارى الشام).

لا تخرج أبعاد هذه الطريقة في معاملة أهل الذمة عن ما يلي:

أ-الإحساس القوي، الذي صاحب الفاتحين الأوائل بتفوقهم الحضاري والثقافي، باعتبارهم مسلمين وعرباً (الجزية لا تُفرض على العرب باتفاق كثير من الفقهاء). وقد تدعَّم هذا الإحساس عندما واجه الفاتحون شعوباً عريقة في الحضارة معتزَّة بتراثها وماضيها.

ب-الهاجس الأمني: ذلك أن وجود غير المسلمين في صلب المجتمع الإسلامي مقبول إذا لم يهددوا مصالح الإسلام. لذلك يُطلب منهم التميز عن المسلمين لكي تسهل مراقبتهم.

 

II- الغنيمــة

تقسم الغنائم إلى أربعة أصناف أساسية:

1-السلب: هو ما كان على المقتول الكافر من لباس وسلاح وفرس وأموال([13]).

2-الغنيمة: كل ما يفتكُّ بقوة السيف، ويشمل الممتلكات والأشخاص([14]). )فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ( (الأنفال:69). )وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السبيل( (الأنفال:41).

بعد عودته من الطائف،  قام الرسول بتوزيع غنائم حنين،  ومعه من هوازن سبي كثير: ستة آلاف من الذراري والنساء؛ ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدّته.طلب منه وفد من هوازن، كان قد أسلم،  أن يردَّ عليهم الأهل من دون الأموال،  ففعل الرسول وكذلك بعض المسلمين ،  فردّوا عليهم الأهل من دون الأموال .أما الذين امتنعوا عن التنازل عن حقّهم، فقال لهم الرسول: «أما من تمسّك منكم بحقِّه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض ( إبل) من أول سبي أصيبه»، فاستجاب الممتنعون لما قال الرسول فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم([15]).

3-الفيء: هو كل ما وصل من المشركين عفواً من غير قتال، ويشمل بالأساس الأرض([16]). )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك( (الأحزاب: من الآية50). )مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ( (الحشر:7).

4-النفل (جمع أنفال): هو ما يتمتع به بعض المجاهدين زيادة على نصيبهم من الغنيمة([17]). )يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ( (الأنفال:1).

وتُقسَم الغنائم إلى أربعة أقسام: الأموال والأراضي والسبي والأسرى.

 


مشروعيـة الغنيمـة


تحدَّث معظم الفقهاء عن مشروعية الغنيمة من الكفار([18]). ومشروعيتها تعني أن الأرض وما عليها ملك لله، وإن الإنسان مستخلف في (ملك الله)، وإذا هو لم يوظف ما يمتلكه لعبادة الله وتقواه يُحرَّم عليه. وبما أن الكفار يستغلّون ممتلكاتهم في الكفر، فالمؤمن أولى بها من الكافر. فالغنيمة، إذاً، تؤخذ من الكفار انتقاماً منهم([19]). كما أن الغنائم تعتبر مكافأة من الله للمجاهد لمجهوده في سبيل نشر دينه.

 

مناقشـة حول إمكانيـة نسخ أحكام الردة وأحكام الغنيمـة([20])

أعطى النص الإسلامي أحكام الردة وأحكام الغنيمة مشروعية إلهية، فأسبغ المسلمون عليها صفة القدسية، وهذا يعني أنه لا يمكن لأحد أن ينسخها إلاَّ الله. وهناك، خاصة من الإسلاميين، من يريد أن يثبت أن المستحيل ممكناً عندما يحسبون أن الشرائع  الإسلامية ليست عرضة لأي تغيير لأنها تمثِّل أحكاماً وشرائع إلهية؛ ويؤمنون أنها صالحة لكل زمان ومكان. يقول بعضهم: «إن شريعة الإسلام عامة خالدة، هذا من القطعيات الضرورية»، و«إن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء، حتى ينسخها الله بذاته بشرع آخر، إذ لا يملك بشر سلطة فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه. ولا شرع لله بعد محمد(ص)»([21]). وتتمثل شرائع الإسلام القطعية «في شؤون الزواج، والطلاق، والميراث، والحدود، والقصاص، ونحوها من نُظُم الإسلام، التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة»([22]).

بناءً عليه لا يمكن لفقهاء المسلمين أن ينسخوا أحكام معاقبة المرتد عن الإسلام وأحكام الغنيمة، أو بعضها لأن نسخها ليس من بأمر منهم بل هو من إرادة الله. فأحكام قتل المرتد وأحكام الغنيمة هي أحكام إلهية قطعية.

لكن ظروف المرحلة المعاصرة قد بدَّلت كثيراً من العلاقات السياسية والاجتماعية بين الدول. وأوجب التبديل في العلاقات تبديلاً في كثير من شرائع شتى المجتمعات، وأخذت بعض الشرائع طريقها نحو العولمة، مما أفسح في المجال للشرائع الدولية / العالمية أن تحلَّ مكان كثير من الشرائع الخاصة لتلك المجتمعات.

لقد أقرَّت الاتفاقيات الدولية، الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، والتي وافقت عليه معظم الدول الإسلامية نصوصاً تنسخ -ضمناً- أحكام الشريعة الإسلامية حول حرية الاعتقاد وأحكام غنائم الحرب. وجاء فيها:

-نصَّت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما يلي: «لكل إنسان الحق في ممارسة الديانة التي يعتنقها. وهذا الحق يشمل حرية تغيير العقيدة وحرية نشرها وتدريسها وممارسة شعائرها».

-ونصَّت الفقرة 2 من المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية، على ما يلي: «لا يجوز إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يعطِّل [حرية الإنسان] في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها».

-أعلنت الفقرة الأولى، من المادة 45 من اتفاقية جنيف الثالثة، حمايتها لأسرى الحرب. وحدَّدت المادة 75، من البروتوكول الملحق بالاتفاقية، ضمانات الحماية الأساسية، التي تؤكد على ما يلي: «يُعامَل معاملة إنسانية، في كافة الأحوال، الأشخاص الذين في قبضة أحد أطراف النزاع». وحضَّرت اعتماد الأفعال التالية بحق الأسرى: «ممارسة العنف إزاء حياة الأشخاص أو صحتهم أو سلامتهم البدنية أو العقلية، وبوجه خاص: القتل - التعذيب - التشويه - انتهاك الكرامة الشخصية».

-دعت المادة الرابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من أنه «لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما».

لقد شرَّع الإسلام، كما فعلت غيره من الأديان السماوية، قتل المرتد عن دينه؛ وشرَّعت الغنيمة، أي الاستيلاء على أموال العدو وممتلكاته، وسبي النساء والأطفال، وقتل الأسير أو العفو عنه أو قبول فدية لتحريره.

وإذا قمنا بمقارنة بين التشريعين: الدولي والإسلامي، فماذا نجد؟

أ-فرض الإسلام الجزية على أهل الكتاب.

ب-وشرَّع الإسلام قتل المرتد عن الإسلام. أما القانون الدولي فقد ضمن حماية حرية الاعتقاد، بما فيها حرية تغيير الدين.

ج-وشرَّع الإسلام سبي النساء والأطفال واسترقاقهم. أما التشريع الدولي فقد فرض حمايتهم ومنع استرقاقهم.

د-من أحد خيارات معاملة أسير الحرب، في الإسلام، هو قتله. أما التشريع الدولي فقد حدّد شروطاً واضحة تُلزِم المتحاربين بحماية الأسير.

وبعد المقارنة نتساءل: أي التشريعين يواكب روح العصر من جهة، وأيهما يؤمن حماية الإنسان وحريته: أهو التشريع الإسلامي، أم التشريع الوضعي (كأنموذج التشريعات الدولية)؟

طبعاً سيقول الإسلاميون أنهم لن يختاروا غير التشريع الإسلامي. وإليهم نتوجه بالأسئلة التالية:

-هل تستطيع الدول الإسلامية الحاضرة، أو التي يمكن أن تنشأ في المستقبل، أن تقتل مرتداً عن الإسلام؟

-وهل تستطيع، في حالة قيام حرب بين دولة إسلامية ودولة مسيحية، أن تفرض الدولة الإسلامية الجزية على المسيحيين؟

-وهل تستطيع أن تحكم علناً بقتل أسير حرب؟ وهل تستطيع -في السر أو العلن- أن تسبي النساء والأطفال؟ وهل تستطيع مصادرة أملاك الخصم وأمواله كغنائم حرب؟

إن جوابنا هو: كلا لا تستطيع أية دولة تحكم حسب الشرائع الإسلامية، ولن تستطيع، أن تشرِّع أحكام قتل المرتد عن الإسلام، أو أن تشرِّع أحكام الجزية على أهل الكتاب، أو أن تشرِّع أحكام غنائم الحرب. فما هو موقفها من النص المقدَّس في مثل هذه الحالة؟

هي تلتزم بالأحكام الإسلامية نظرياً، ولكنها مرغمة على نسخها عملياً. وقال بعض الفقهاء، حول هذه المسألة «إن الحديث عن الإماء وأحكامهن أصبح بلا جدوى بعد إلغاء الرق»([23]).

لقد نسخ الأمر الواقع لروح العصر وظروفه نصوصاً إسلامية. فهي قد أصبحت تساوي، كما جاء عند النيسابوري: ما نُسخ حكمه وبقي خطه. وهنا، نتساءل: ما هي أهمية أن يُنسَخ الحكم ويبقى الخط؟ وماذا يترتَّب على فقهاء المسلمين أن يفعلوه في حالات مشابهة، ونحن نرى أن روح العصور القادمة سوف تتغيَّر، وسوف تنسخ معها أحكاماً إسلامية أخرى؟

وإذا عدنا إلى قواعد الفقه الإسلامي، في الناسخ والمنسوخ، لوجدنا أن روح العصر، والعلاقات الدولية المعاصرة، تقتضي من الفقهاء أن يقرّوا بجواز نسخ أحكام ظلَّلوها بالقدسية الإلهية وكفَّروا من يجرؤ على نسخها. إن إعطائهم الجواز بنسخها يأتي كبديل منطقي وواقعي لعوامل الإرغام التي يخضعهم لها القانون الدولي. فالنسخ هو نسخ سواء تمَّ بالرضى أم تمَّ بفعل الأمر الواقع.

فإذا رضخ الفقهاء للأمر الواقع، وعدّوا أن أحكام حرية الاعتقاد والجزية والغنيمة، أصبحت بلا جدوى بعد أن ألغتها مواثيق العلاقات الدولية وشرائعها، أفلا نحسب أن في هذا الاعتراف نسخاً لعدد من أحكام شرائع الإسلام؟

بلى هو نسخ، سواء كان هذا النسخ إرادياً أو إرغامياً. وإذا جاز نسخ حكم واحد من الأحكام الإسلامية القطعية، يجوز نسخ كل حكم يثبت العصر ابتعاده عن تأمين مصالح الإنسان. فمن داخل هذه النتيجة نعود إلى إعطاء رأي حول تعريف الناسخ والمنسوخ، على الشكل التالي:

-إن قواعد الناسخ والمنسوخ ما هي إلاَّ قواعد دائمة وثابتة. وهي تعني إمكانية تغيير الشرائع أو تجديدها كلما اقتضت ظروف المجتمعات ذلك. سواء حصل النسخ والتغيير في حياة الرسول أم بعد مماته.

إذا اتفقنا على أن تنزيل عدد من آيات القرآن قد تبدَّلت / نُسِخت مع تبدل الظروف والأحداث فهذا شيء مهم، بل وفي غاية الأهمية. وهذا ما لا يجعلني مصراً على معرفة لماذا بقي من الأحكام ما نُسخ خطه، ولا على معرفة ما نسخ من الأحكام وبقي خطه. بل ما يعنيني هو أن جوهر مسألة النسخ أن لا تقتصر على ما نُسخ في السابق دون أن نلتفت إلى تبدل الظروف في عصرنا الراهن. وهذا مما له علاقة بموضوع حرية العقل.

صدر عن هيئة الأمم المتحدة، المنظمة الدولية التي تعمل على عولمة القوانين والتشريعات، في ما له علاقة بحقوق الإنسان، إعلاناً عالمياً تقرُّ في مادته الثامنة عشرة، والتي جاء في نصها ما يلي: »لكل إنسان الحق في ممارسة الديانة التي يعتنقها. وهذا الحق يشمل حرية تغيير العقيدة وحرية نشرها وتدريسها وممارسة شعائرها«. وعندما توافق عليه كل الدول أو أكثريتها، ومنها الدول العربية والإسلامية، فهل تستطيع أية دولة أن تسمح لفقهاء المسلمين أن يطبقوا قانون الردة على المسلمين؟ بمعنى أن يصدروا فتوى بقتل المرتد وأن ينفذّوها استناداً إلى شرائع الإسلام، تطبيقاً لحديث الرسول: »من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه«.

من المستحيل أن يُعطى الفقهاء المسلمون صلاحية إصدار مثل ذلك الحكم. فقوانين الدول، حتى الإسلامية منها، لن تسمح بقتل المرتد لأنها بذلك تخرق التشريعات الدولية. ماذا تكون النتيجة في مثل هذه الحال؟

إن النتيجة هي أن حكم قتل المرتد عن الإسلام قد نُسخ. وما هو حكم من يقبل بنسخ حكم قد شرَّعه الله؟

فالذي يقبل النسخ يكون كمن يتمرّد على الإرادة الإلهية. ومن يسكت عن النسخ يكون كالشيطان الأخرس. وفي كلتي الحالتين يكون النسخ قد حصل بالفعل، وما هي فائدة قواعد الفقه التي وُضِعت عن الناسخ والمنسوخ؟ فهل وضع الله أحكاماً ثابتة ونهائية لا يجوز نسخها لكي تُنسخ؟

 

هل الإسلام ثقافة عالميـة؟ وما هي الثقافة العالميـة؟

أولاً: ما هي الثقافـة؟

جاء في تعريف الثقافة ما يلي: هي كل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد، والحكم لدى الفرد أو في المجتمع، وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه. ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية.

 

ثانيـاً: كيف نكتسب الثقافـة؟

يقول ميشيل عفلق، في حديث له تحت عنوان (قضية الدين في البعث العربي) في العام 1956م، عن الثقافة ما يلي: «يهمنا أن يكوّن هذا الجيل لنفسه ثقافة حقيقية متميزة تميزاً واضحاً عن العامية المسيطرة على مجتمعنا. وباختصار، يتساءل عفلق، كيف نفهم الثقافة؟ فيجيب: هي أولاً مشاركة في الجهد، وليست انفعالاً وتكيفاً، أي أن الذين عليهم أن يتثقفوا يتوجب عليهم أن يتعبوا، وان يتقاسموا الجهد مع مثقِّفيهم، وأن يمشوا بأنفسهم خطوات جديدة في طريق المعرفة والتثقف، إذ لا يجدي قضيتنا شيئاً أن نجمع شباباً لا يعملون أكثر من حفظ بعض الشعارات والكليشيهات والأجوبة العامة الموجزة التي يمكن أن تُفهَم على أي شكل، أي أن لا تُفهَم مطلقاً. على الشعب العربي أن يفهم أن الثقافة هي نوع من أنواع النضال، النضال مع النفس، النضال مع الفكر، لكي يتعب في تحصيل المعرفة، ولكي يجرؤ على تبديل الأسس السطحية في التفكير الشائع التي هي في داخله لكونه ابن وسطه، لكي يعيد النظر في كل الأمور الأساسية حتى يصل إلى النظرة الجديدة، النظرة الانقلابية التي أوجدها الحزب في المجتمع العربي الجديد فكل شيء يمكن أن يُستعار، وأن يُقلَّد إلاَّ الفكر»[انتهى].

 

ثالثـاً: تعريف الثقافـة العالميـة:

فالثقافة العالمية غير موجودة إلاَّ في القيم الإنسانية السامية، أي تلك التي تستجيب لوضع حلول لمشاكل مختلف المجتمعات البشرية. وحيث أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة ولكل أمة ثقافتها المتميزة نقول: الثقافة العربية، أو الثقافة الفرنسية ونرى أن ما له علاقة بخصوصيات مجتمع أو آخر، يكتسب ثقافته الخاصة التي على أساسها يقوم بإيجاد حلول لمشاكله الخاصة. فللمشكلات الخاصة ثقافة خاصة.

 

رابعـاً: هل الإسلام هو ثقافـة عالميـة؟

ما نستطيع أن نقوله إن في الإسلام مجموعة من القيم الأخلاقية والروحية التي تصح أن تكون قيماً إنسانية، وبهذا تصح أن تصبح ثقافة إنسانية. والثقافة الإنسانية هي التي تعدُّ جامعاً مشتركاً بين ثقافات العالم، أي الثقافة التي تستجيب لظروف ومصالح أكثر المجتمعات البشرية؛ وفي هذا السياق يُعدُّ الفعل العلمي التكنولوجي فعلاً علمياً حضارياً يكتسب هويته العالمية؛ أما الفعل الثقافي الفكري، الذي يستند إلى القيم الإنسانية المطلقة، فيشكِّل أساساً لثقافة إنسانية عالمية، وعندما يختلف، ببعض تفصيلاته من مجتمع إلى آخر، فلن يصبح خاصاً بل يحافظ على عالميته. وهنا نرى أن كل ما ترفضه الشعوب الأخرى من الإسلام لن يكون مشروعاً لثقافة عالمية. وهنا، نسترشد بمسألة - إشكالية، وهي: يعدُّ الإسلام غنائم الغزو / الحرب حقاً من حقوق المسلمين المنتصرين على أعدائهم؛ وتشمل الغنائم الأملاك والأموال والنساء والأطفال، بينما الرجال يُقتلون أو يُسترجعون بالفدية. أما في المرحلة المعاصرة فقامت هيئة الأمم المتحدة لتحدد مفاهيم وشرائع أخرى حول هذه المسألة، وفيها تلغي حق المنتصر في أموال العدو وأملاكه ونسائه وأطفاله

فهل نحسب أن التشريع الإسلامي -في هذا الجانب- عالمي؟ أم أن شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، التي تعترف بحقوق أسرى الحرب -من الأطفال والنساء والرجال المدنيين- هي التي تكتسب صفتها العالمية؟

لا شك بأن ما صدر عن هيئة الأمم المتحدة، أي الشرائع الصادرة عنها، هي التي اكتسبت صفة العالمية، لأنها حازت على إجماع العالم، وعلى أقل تقدير، حازت على موافقة الأكثرية المطلقة من دول العالم. وهنا، هل يمكننا -في المرحلة الراهنة- أن نعمم الثقافة الإسلامية المتعلقة بهذا الجانب، أم علينا أن نعمم ثقافة شرائع هيئة الأمم المتحدة؟

إن ما يصح أن نقوله حول الثقافة الإسلامية، يصح حول ثقافات المذاهب الإسلامية، فثقافة المسلم السني هي غير ثقافة المسلم الشيعي. فهناك الثقافة الشيعية الإثني عشرية هي غير ثقافة الشيعية الزيدية أو الشيعية الإسماعيلية وثقافة المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين هي غير ثقافة المنتمي إلى حركات إسلامية سنية أخرى

فالثقافة المشتركة، بين أفراد مجتمع ما، هي تلك التي تنبع من اعتناق لعاداته وتقاليده على المستوى الاجتماعي، أو تستند إلى ممارسة لعبادات الدين المنتسب إليه وطرقه الخاصة في المعرفة على المستوى الديني. أو تنبع من ممارسته لأساليب اقتصادية معينة في معرفة المعاملات الاقتصادية على المستوى الاقتصادي

فهل تمثل الثقافة الإسلامية جوامع مشتركة مع الثقافة البوذية أو الكونفوشية أو المسيحية؟

 تعمل كل دعوة دينية على الانتشار على المستوى العالمي. كل ديانة تعمل على عولمة نفسها. فهل تحقق طموحاتها أو لا تحققها؟ هنا يختلف الأمر. لكن كل دين من الأديان، المعروفة حالياً، ليس بدين عالمي حتى لو اعتنقه مليارات من البشر. والسبب -كما نحسب- هو أنه إذا استجابت شرائع دين لمصالح معتنقيه الروحية، فإنها لا تستجيب لمصالح المؤمنين بالأديان الأخرى. أما لو دعونا إلى القيم الإنسانية المطلقة، بمفاهيمها الفلسفية، لكانت ثقافة عالمية. ولكن عندما نراجع مفاهيمها الثقافية الخاصة بكل مجتمع مدني أو ديني، لوجدنا أن الخلاف حولها سوف يبرز إلى الواجهة، لأن كل مجتمع يحاول أن يطبِّق طرق الوصول إليها تبعاً لثقافته الدينية أو المدنية الخاصة. أما لو جرى الاتفاق -كما تدل مواثيق هيئة الأمم المتحدة وشرائعها- على تطبيقات متجانسة في كل المجتمعات، ستتحول القيم الإنسانية، بمفاهيمها الفلسفية والسياسية، إلى ثقافة عالمية.

لكن هل تبقى كل ثقافة، تحت ذريعة خصوصياتها الاجتماعية أو الدينية، جامدة لا يطالها التغيير؟

إن الثقافة ليست ظاهرة جامدة بل هي متغيرة بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتغير نمط علاقات الأفراد بين بعضهم البعض. وقد تتبدل الظروف في داخل مجتمع ما نتيجة لحركة تطوره الحضاري، وهذا ما يستدعي تغيراً في النمط الثقافي على مستوى الفرد والمجتمع. وحتى داخل المجتمع الواحد أو الجماعة الواحدة تتغير المستويات الثقافية وأنماط التفكير والسلوك

  • وهل استطاعت أمة من الأمم، عبر التاريخ، أن تتصدّر التاريخ البشري، كقوة وحضارة وعلم، بفترتين زمنيتين منفصلتين؟ أي هل الأمة تكرر ذاتها؟ وهل الأمة قادرة على أن تفصح عن عبقرية ما في أكثر من مرحلة زمنية؟
    إن لكل أمة عبقريتها الخاصة بها. فليس هناك أمة عبقرية أو أمة غبية بالمطلق. ومقياس تقدم العبقرية ليس في الانتماء إلى عرق معين. وإلا لكنا نؤمن بالنازية التي تدَّعي أن العرق الجرماني هو أصفى الأعراق وأكثرها رقياً. وعبقرية أمتنا ليس مرتبطاً بالجنس العربي، بل هو مرتبط بفعلنا الحضاري التاريخي، لكن انتماءنا الحضاري التاريخي لن يكسبنا عبقرية متميزة مستمرة في تميُّزها. ورفدنا الحضارة الإنسانية بتراثنا الحضاري، منذ عدة قرون، لا يعطينا الأفضلية في التميُّز والاعتداد بالنفس، إلاَّ أننا أثبتنا من خلال التاريخ أنه يمكن أن يكون لنا دور حضاري، أي أن اختبار التاريخ قد أعطانا البرهان على أنه يمكن أن يكون لنا دور في الحاضر، هذا إذا عملنا على أن يكون لنا مثل هذا الدور، وليس لأننا أحفاد من كانت عبقريتهم في التاريخ قد أثبتوا جدارة، وعلينا أن نعمل على إعادة الاعتبار إلى عبقريتنا كعرب.
    ماذا نعني بالعبقرية؟ إن العبقرية هي، بالأساس، صفة فردية. وهي «جملة من المواهب الطبيعية السامية التي تمكن صاحبها من التفوق. وهي إلهام سريع، أو حدس قوي، أو صبر طويل، أو قوة خلق وإبداع، أو قدرة عجيبة على التحليل والتركيب». وإذا أُضيفت العبقرية إلى الفرد، تدل «على ما يتَّصف به من استعدادات طبيعية خاصة. وإذا أُضيفت إلى آثار الجماعات دلَّت على ما تتَّصف به هذه الآثار من أصالة». والعبقرية، سواء كانت على مستوى الفرد أو الجماعة، فهي الابتكار على الصعيدين العقلي والعملي. ومن تلك الابتكارات ينشأ الفعل الحضاري، على صعيد التقدم العقلي والمادي. أي كل ما تعطيه الأمة على صعيد تقدم العقل والفعل عند أفرادها. فلا فعل حضاري من دون وجود أفراد أو جماعات من الأفراد يتَّصفون بالعبقرية. فعبقرية الأمة، هنا، هي عبارة عن عبقرية أفرادها. فإذا غاب وجود أفراد عباقرة في الأمة تبتعد الأمة عن وصفها بالعبقرية.
    فالعبقرية لها وجهان: على الصعيد الثقافي الفكري، وعلى الصعيد العملي المادي. ولن تكون الأمة عبقرية إذا كانت ثقافتها متقدمة من دون أن ينعكس التقدم الثقافي على تطوير الجانب العملي المادي لها. لأنها تتلهَّى بالثقافة من دون أن تترجمها لصالح المجتمع.
    وهنا، لا بُدَّ من أن نتساءل: وهل تبقى الثقافة جامدة؟ وهل إذا بقيت الثقافة من دون تجديد تظلَّ صالحة لكل زمان ومكان؟ وهل ثقافة صالحة لمجتمع معيَّن وزمان معيَّن تصلح لكل المجتمعات وكل الأزمنة؟
    وهنا، أيضاً، علينا التمييز بين أمة وأخرى: الأمة التي كانت تمتلك فعلاً حضارياً تاريخياً، وبين أمة لا تمتلك ذلك الفعل. وعلينا أن نميِّز، أيضاً، بين أمة تخلَّفت عن ركب الحضارة الإنسانية، بعد أن كانت من المساهمين في صناعتها، وبين الأمة التي أسهمت في رفد الحضارة ولا تزال تسهم.
    فحول هذه المسألة لا بُدَّ من أن نستنتج بأن الأمة التي أسهمت، في مرحلة ما من تاريخها، في رفد الحضارة الإنسانية ولكنها تخلَّفت عن الفعل الحضاري في مراحل أخرى، فهي تتمايز عن الأمم الناشئة، في أنها تمتلك تراثاً يساعدها على أن لا تبتدئ من الصفر كالأمم الناشئة. فهي، في مثل هذه الحالة، تمتلك قابلية واستعداداً للدخول بسهولة وبسرعة في ركب الحضارة الحديثة، ولكن ليس على أساس أن تراثها الذي كان صالحاً في زمن محدد ومكان محدد هو صالح لكل الأزمنة وكل الأمكنة. و لا بُدَّ لها من أن تتواصل مع مضامين الحضارات المعاصرة وإنتاجاتها. فالأمة لن تكرر ذاتها، أي إذا أرادت أن تكون نسخة طبق الأصل عن تجاربها الحضارية السابقة.
    فالحضارة الإنسانية هي كمٌّ متراكم تعطي التجارب الأخرى وتأخذ منها. فلهذا السبب، ومن الواقعي، أن لا تقلِّد الأمة تجاربها السابقة وإنما عليها أن تبتكر ما يتناسب مع روح العصر الذي تعيش فيه. أما موقع تجاربها السابقة فسوف تستفيد منها بما يتناسب مع تطور الحضارة على الصعيد الإنساني بشكل عام.
    ماذا نعني، هنا، بالفترتين الزمنيتين المنفصلتين؟ هل يعني ذلك أنها تكرر ذاتها، أي تكرر فعلها الحضاري على الأسس ذاتها التي أبدعته في مرحلة سابقة؟
    هنا، علينا التمييز بين الثقافة والحضارة، ولتحديد معنى كل من هذين اللفظين، جاء ما يلي: نطلق لفظ «الثقافة على مظاهر التقدم العقلي وحده، وهي ذات طابع فردي»، ونطلق لفظ «الحضارة على مظاهر التقدم العقلي والمادي معاً، وهي ذات طابع اجتماعي».
    إن الفعل الحضاري هو نتيجة لعوامل عديدة، ومن أهمها: التراكم الثقافي والعلمي، وجود سلطة سياسية تضع الخطط للتراكم الثقافي وتقوم بتشجيع البحوث والدراسات العلمية، وتقوم بوضع خطط تسهم في تفعيل العلوم والابتكارات وترجمتها إلى واقع، أي العمل على الإنتاج.
    حسن غريب

 



([1]) حسن خليل غريب: في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: دار الطليعة: بيروت: تشرين الأول/أكتوبر 1999: ط1. يقع الكتاب في 474 صفحة من الحجم الكبير.
([2]) )مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( (البقرة:106).
([3]) راجع،  د. محمد الرحموني: الجهــاد: دار الطليعة: بيروت: 2002م: ط1.
([4]) الغزالي: الوجيز في فقه الإمام الشافعي: مصر: مطبعة الراجي: 1318 هـ: 2 / 119.
([5]) م. ن: 2 / 102.
([6]) م. ن: 2 / 121.
([7]) م. ن: 2 / 121.
([8]) م. ن: 2 / 121.
([9]) م. ن: 2/ 121.
([10]) م. ن: 2 / 121.
([11]) م. ن: 2 / 122.
([12]) راجع، د. محمد الرحموني: الجهــاد: دار الطليعة: بيروت: 2002م: صص 96 - 97.
([13]) الأحكام السلطانية: ص 133.
([14]) الأحكام السلطانية: ص 121.
([15]) إبن هشـام : مختصر السيرة النبويـة: ص ص 251 - 256 .
([16]) الأحكام السلطانية: ص 121.
([17]) المحلّى: 7 / 340.
([18]) الأحكام السلطانية: ص 121.
([19]) الغزالي: الوجيز: 2 / 116.
([20]) راجع بحثنا : الردة في الإسـلام: دار الكنوز الأدبية: بيروت: 2000م: ط 2: صص 456 - 475.
([21]) القرضاوي، يوسف: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه: مؤسسة الرسالة: بيروت: 1992م: ط 3: ص 146.
([22]) م. ن: ص 154.
([23]) مغنية، محمد جواد: التفسير الكاشف (ج 2): ص 300.

ليست هناك تعليقات: