الأربعاء، فبراير 04، 2015

أوراق قديمة أنشرها لأول مرة (7/ 11)


أوراق قديمة أنشرها لأول مرة

وموضوعها:

حوارات ومناقشات حول كتابات حسن خليل غريب

(المناقشة السابعة)

(7/ 11)

وهذه الحلقة السابعة، وجاءت تحت عنوان: (طاولة حوار في 1 / 8 / 2001  - صور


حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي))، وهي عبارة عن مطالعة ومجموعة من التساؤلات. وأرفقت مع المناقشة رداً على المطالعة والتساؤلات.


 


طاولة حوار في 1 / 8 / 2001  - صور

حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي)

مداخلة مكتوبة من قبل  مروان:


للحوار حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي)، أقول لقد اكتشف البعث خيوط العلاقة بين العروبة والإسلام منذ تأسيسه، فنسج بينهما عقيدة البعث. فما هي مكانة الأمة من الإسلام، وما مكان الإسلام من الأمة؟ وما معنى الرسالة الخالدة؟ يقول المؤسس رحمه الله: لا يفهمنا إلاَّ المؤمنون، المؤمنون بالله، لأننا قد لا نُرى نصلّي مع المصلين، أو نصوم مع الصائمين، لكننا نؤمن بالله، لأننا في حاجة مُلحّة وفقر إليه عصيب. فعبئنا ثقيل وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة، ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان ولم نبدأ به. كسبناه بالمشقة والألم ولم نَرِثْه إرثاُ ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا لأنه مُلكنا وثمرة أتعابنا.


هل نحن حقاً مؤمنون؟ وما تعني القومية المؤمنة؟ وكيف نترجم هذا الإيمان؟


كيف امتزجت العروبة بالإسلام؟ وكيف تكاملا؟ هل نحن قوميون أم نحن إسلاميون، أم نحن النسيج الكامل بين القومية والإسلام؟ أي إسلام نؤمن ونريد؟ أإسلام الحضارة والتراث والتاريخ، أم إسلام الشريعة والقانون والطقوس؟ هل البعث يؤمن بالمادة قبل الروح أم بالروح قبل المادة؟ هل نحن حزب علماني أم ديني؟ وماذا تعني العلمانية؟ هل تعني فصل الدين عن الدولة، أم تعني المساواة أمام القانون والدستور، وتعني العدل بين الأديان بالحقوق والواجبات؟ كيف يصون دستور البعث حقوق الأديان والحريات؟

لقد ولد الإسلام على أرض العرب، وعالج قضاياهم ومشاكلهم وهمومهم، فكان دستور العرب، وكان الرسالة الإنسانية، وكان كل القِيَم والأخلاق، فأصبح أباً للعروبة. وأصبحت أمة العرب عظيمة حيث أعطاها معنى الحياة والخلود التي هي جهاد وفكر ومبدأ وعقيدة. فلا خوف على العروبة مقترنة بالإسلام، ولا خوف على الإسلام مع خير أمة أُخرِجت للناس، أمة العرب. فالبعث مزج الإيمان بالعقلانية.

لقد صدر حكم بالإعدام على المؤسس المرحوم ميشيل عفلق في حياته، وعلينا أن نناقش بموضوعية حتى لا نحكم عليه بالإعدام مرةً ثانية في مماته، ونتنكّر لعطاءاته وفكره ونضاله من أجل البعث والأمة العربية.

هذه المقدمة جزء لا يتجزّأ عن مداخلتي حول موضوع البحث.

أبدأ بالاستفسار عن عنوان كتاب الباحث (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي). فأقول: إن العروبة هوية وحدود طبيعية وتاريخية ولغة ومصير وشعب ومجتمع، والقومية مبعث النظريات، وهي التعبير المتطور للزمان والمكان. والإسلام مقوّم من مقومات القومية. فالإسلام، كتجربة ثورية وعقيدة وقضية، أمة بتصور إنساني ونضالي بأعلى مراحله، لما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف. فهو تجربة ثورية: السماء متداخلة مع الأرض. هو الذي يكوّن روحها وقيمها وأفقها الحضاري، إنه جوهر العروبة، وملهم ثورتها، وهو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم.

إن طاولة الحوار بين مشروعين لا يعني البعثيين لِما اكتشفوه من ترابط وتكامل وتلازم بين العروبة والإسلام، بل يعني تحديداً المتعصبين قومياً دون اكتشاف مضمون ونظرية القومية، بل يعني الإسلاميين الذين لم يكتشفوا جوهر الإسلام ومضمونه. أما البعثيون فيعتبرون أن القومية والعروبة هي حالة حضارية إنسانية عربية فاعلة، والإسلام فعلٌ تغييري وثوري ونهضوي وحضاري وعلمي. إننا دائماً حيث العروبة الصحيحة وحيث الإسلام الصحيح. فالبعثي قومي إسلامي بالانتماء والجوهر.

أما حول ما يقول به الباحث من أن أفكار ميشيل عفلق ملهمة وليست ملزمة، فنقول: وما هي وصية عفلق؟ إن المرحوم ميشيل عفلق هو من اكتشف النظرية القومية والعقيدة العربية، وهو الذي قال: إنني وضعت العناوين وعلى البعثيين البحث والتوسع. إن الفكر البعثي أصيل، لكنه بحاجة إلى توسيع وتفصيل وإلى صياغة علمية لنقله من الشكل العفوي الذي ظهر فيه. وفلسفته وفكره حدّدا الترابط القومي بالطبقي، و العروبة بالإسلام، وهو الذي تنبّأ بمعجزة الوحدة العربية إذا تحققت، ولم يتعارض أو يتناقض فكره وفلسفته ونظريات البعث منذ التأسيس وحتى وفاته. كانت أفكاره مترابطة، وتحليلاته وفلسفته بالنظرية والممارسة منسجمة، وقد تبنّاها البعثيون بكل تفاصيلها، ولم يلغ البعث أياً من أفكاره ونظرياته وفلسفته. والشيء الوحيد، أقول الوحيد، الذي مارسه دون إعلان عنه، وحتى لا يكون ملزماً للبعثيين هو اعتناقه الدين الإسلامي، ولم يكشف هذا السر إلاَّ بوصيته وبعد مماته. هذا ما أراده هو حتى لا يكون ملزماً للبعثيين، ولصون حرية المعتقد الديني في دستور البعث.

عن الخط البياني، الذي عبَّر عنه الدكتور عمارة، ملزم له، وهو استنتاج شخصي يعود تقديره الخاص إليه وحده. أما اعتناق ميشيل عفلق الدين الإسلامي فهذا ما يخص معتقده الديني وحرية المعتقد الديني. ولو عاش عفلق مئة عام لن يعلنه قبل مماته حتى لا يصبح هذا ملزماً للبعثيين.

يقول الباحث: حينما فضَّل عفلق أن يعتزل العمل السياسي والحزبي ليتفرّغ لعمله الفكري. ولقد تفاجأت بما قاله الباحث بأن عفلق اعتزل العمل الحزبي وتفرَّغ للعمل الفكري. إن المرحوم بقي يناضل في صفوف البعثيين وفي المواقع المتقدمة حيث كانت المعارك على الجبهة الشرقية وفي فلسطين وبمواجهة أعداء الأمة، وكان يطل علينا بالمناسبات والمنعطفات ليوجّه كلمة للبعثيين يحثهم فيها على التماسك والنضال ومقارعة الأعداء، وبقي أميناً عاماً للحزب يمارس دوره الحزبي والسياسي في القيادة القومية، وبقي أميناً عاماً حتى مماته. وهذا يعني، أيضاً، أنه أنتج فكرياً خلال فترة ممارسته المهمات الحزبية.

يقول الباحث: إنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثرة بالرؤية الصوفية.

هنا أقول: لقد أراد الشيوعيون أن يضعوا عفلق في صفوف الرومانسيين والمتصوفين لإفراغ المضمون من فكره وفلسفته، المضمون الجدلي، وحيث كان الصراع على أوجه بين فكره وفلسفة الإلحاد، بأن المادة قبل الروح، وان المادة هي الأساس، حيث قال عفلق: إننا نرفض أن تحل المادة محل الروح والإلحاد محل الإيمان لإنقاذ الشباب من أفكار العقلية المادية التي تهددنا في حرية أفكارنا. القول الوحيد الذي ذكر فيه عفلق الصوفية، بمعرض ردّه على الشيوعيين، حيث قال: إنني أصف مراحل البعث الأولى بكل الإيمان وكل التواضع وكل الزهد (أكاد) أصفها في بعض الأحيان بالروح الصوفية، ولا أحد يستطيع أن ينكر علينا واقعيتنا وعلميتنا، فنعود إلى الروح لنحييها ونجددها. وقال، أيضاً، أذكركم بأن الروح أقوى من المادة، هي قوة الإيمان، قوة التصميم، هذا الذي يخلق المادة، وهي نابعة من الروح؛ فالروح لا يعني بها الغيبي الماورائي، بل هو تعبير عن نزوع الإنسان إلى الأخلاق  والحياة،  والإيمان يعطيها الصبر والنفس الطويل، ويقيها من التخاذل والنفعية؛ فالبعث وُلد من الإيمان والعقلانية. إن تصنيفه متصوفاً بعيد عن الحقيقة، وإن الدراسة النفسية لميشيل عفلق، هي أولاً الصورة التي ورثها عن آبائه، وما تأثر به في التربية والبيئة، فأحب البعثيين على صورة محمد (ص) في سلوكه وخُلقه وشجاعته وثقافته ليسمو بالإنسان البعثي نحو المجد، وإنقاذه من حالة التخلف والسكون إلى حالة التضحية والتجرد والنضال. والقول إنه انطوائي وخجول، فهذه طبائع موروثة نتيجة الموروثات الجينية والتربية والبيئة. إن المرحوم عفلق، بأبحاثه وأفكاره، علمي عقلاني جدلي، وقد أثبت العلم موروثات الحب والصدق والوفاء، وهذا ما يعنيه بأن القومية هي حب قبل كل شيء، وهي قدر محبب، وإن الروح في الفكر والإحساس تنمي الإيمان والخلق والانتماء، وتحرك العقل والفكر ليكتمل بالتطور العلمي. وإن الإنسان بدون الروح لا يرقى إلى المستوى الإنساني، بل يصبح آلة للإنتاج.

وقد نظر عفلق إلى الدين بأنه رؤية فلسفية وتاريخية (بصورة جدلية). فالأولى لها علاقة بتفسير الكون، والثانية تتعلق بتطور الإنسان والمجتمع وعلاقة البشر ببعضهم البعض، فهو حاجة فلسفية روحية، وهو حالة ثقافية اجتماعية وتاريخية. فالروح لا تعني الغيبي، إنما الإرادة التي أثمرها الدين في الحضارة الإسلامية، فهي تتجاوز بسماتها السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون. إن التصوف هو حالة انفرادية إنطوائية، حالة مرضية ونفسية، ينعزل فيها الإنسان عن المجتمع، ولا يشارك، ولا يتفاعل مع محيطه، هي إلحاد أكثر منها إيمان. عفلق أسس بعثاً علمانياً مؤمناً مقتحماً على أسس أخلاقية وإنسانية.

يقول عمارة إن عفلق لا يؤمن بضرورة الإسلام شريعة وقانوناً إطاراً حاكماً للدولة القومية، وإنما يتبنى علمانية الدولة بتحررها من قانون الإسلام، وهو يرفض علمانية القومية التي تحررها من الإسلام.

فالبعث يعتبر أن العلمانية لا تعني ترك المعتقد الديني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عزل للتاريخ والتراث واللغة والحضارة، فالعلمانية هي عدم تمييز مذهب على مذهب، أو طائفة عن طائفة بالوظائف، وهي تعني تقديس حرية الاعتقاد والأديان بنظرة، وهي مساواة واحترام، فلا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون الحقيقيون.

لن أدخل بتفاصيل العرض التاريخي للردة في الإسلام، ولا بالتفسيرات والتأويلات والخلافات الدموية بين الفرق والمذاهب. بل إنني أتساءل: ما هي مصلحة الأمة في الإضاءة على الجوانب السلبية في هذه المرحلة. وهل الغوص بتفاصيل التكفير والتفكك بين المذاهب الإسلامية يوقف تدهور الأمة وحالة الاجتهاد والتفسير والتأويلات. وهل ستنتهي الصراعات المذهبية الحديثة؟ هل تتحمل هذه الفرق تأخر الأمة وتفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا؟

لماذا لا نضيء على إيجابيات الدولة العربية: عن العلم والعمران والدولة المترامية الأطراف من علم المأمون وعدل هارون الرشيد والرسالة الإنسانية الحضارية وعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والطب، حيث كانت هذه الفرق المذهبية أعلى مراحل الصراع والتقاتل.

وأشير هنا إلى أن باب الاجتهاد والتفسير والتأويل والخلافات بين المراجع الدينية هي صحة طبيعية للتعددية وللتطور، وإن إقفال هذا الباب هو تجميد للتطور، وتجميد لنصوص القرآن الكريم، مع أن الآيات التي نزلت على الرسول (ص) هي لتغيير عادات وتقاليد العرب بحيث كانت على مراحل وبشكل متطور؛ والخلافات بين الفرق والمذاهب موجودة في كل عصر وفي كل زمان، وهي بين الأحزاب العلمانية والأحزاب القومية والوطنية وغيرها وإذا حاولنا اكتشاف مسببات تدهور الأمة وانحدارها علينا أن نبحث عن منشأ هذه الفرق والمذاهب، وكيف كانت تنخر جسم الأمة لإضعافه، ولمصلحة من؟ وكيف كانت هذه الطوائف والمذاهب والفرق تأخذ الدين غطاء لسياساتها وطموحاتها السياسية للوصول إلى السلطة. ولم تضعف الدولة العربية إلاَّ بعد دخول الفرس والأتراك على مفاصل الدولة والحكم بأجهزة الأمن والجيش والإدارة، مستغلين ضعف الحكام العرب.

فتسيس الدين ودخول الشعوبية إلى الدولة العربية كانت المحطات المظلمة من تاريخ أمتنا العربية وانهيارها. وأخيراً إن الدين الإسلامي دخله الفرس والأتراك والأفغان وغيرهم، ولم يغيروا قوميتهم أو يضعفوها، بل كان تعصبهم لقوميتهم أقوى من الإسلام.

وشكراً لكم       مروان

***

مدخل إلى الردود على بعض المداخلات


من تقاليدنا الثقافية الشعبية الموروثة، القومية والإسلامية، الخضوع لأوامر رئيس القبيلة أو الخضوع لتعاليم أولي الأمر منا تحت طائلة العقوبة بالنبذ من القبيلة أو مخالفة الأوامر الإلهية بعقوبات إلهية لأن أولي الأمر استمدوا سلطتهم من أنهم ينفذون تعاليم الله.

وإنني أخشى من أن نكون كطليعة ثورية نذرت نفسها للتغيير أن نكون قد اكتسبنا الكثير أو القليل من هذا الموروث. ولكي نؤهّل أنفسنا من أجل الخروج من معرفة التقليد إلى معرفة التجديد لا بُدَّ من أن نكتسب صفات العقل الناقد. ولمثل هذا الاكتساب شروط ومراحل علينا أن نستوعبها من جهة وأن نؤهل أنفسنا للمرور عبرها من جهة أخرى.

أول شروط اكتساب العقل الناقد هي تأسيس الأرضية الثقافية الواسعة. ولكن على أي أسس تقوم تلك الأرضية؟

لتكتسب عقلاً ناقداً عليك أن تلم بشتى ثقافات واتجاهات الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه. واكتساب تلك الثقافات يجعلك في موقع المقارن بينها بحيث تساعدك معرفتك بها على اكتشاف مواطن الثغرات والإيجابيات فيها. ولا يمكن أن ننمي عقلنا النقدي بدون ثقافة واسعة.

في كل مجتمع تعدديات ثقافية على شتى الصعد، وتحمل كل شريحة اجتماعية ثقافتها الخاصة. وإذا تعددت الثقافات في داخل مجتمع واحد من دون أن تكتسب مرجعية فكرية وسياسية واحدة تتشرذم الولاءات وتتصادم، وفي مثل هذه الحالة تؤدي إلى تهديد وحدة المجتمع الفكرية والسياسية، وهذا كثيراً ما يؤدي إلى تهديد المجتمع بالانهيار والاندثار. لكن إذا كانت التعدديات تمتلك إرادة الحوار لتوحيد نسيج المجتمع من خلال قواعد عامة تؤمن للجميع حرية الانتماء والتفكير تصبح مصدر غنىً وطريقاً صالحاً للتجديد باستمرار، والتجديد هو من أكثر سمات التعدديات الفكرية والثقافة صحة.

هذا الواقع يفرض على الذين نذروا أنفسهم للتغيير الدائم أن يعملوا بكل دأب وجهد لمتابعة واستيعاب شتى التعدديات الفكرية والاتجاهات السياسية، لأنهم بدون القيام بمثل هذه المهمة لن يستطيعوا أن يؤدوا دور الداعي إلى الحوار وإدارته بينها وسوف ينحازون إلى الفكر الفئوي الذي حصروا أنفسهم باستيعابه وتعصبوا له.

فالذي نذر نفسه للتغيير لا يمكن أن يؤدي دوره إذا تقوقع داخل اتجاه واحد ووحيد من دون تطويره وإلغائه، لأنه يصبح ساعتئذٍ بحاجة إلى من يدير الحوار معه ويمسك بيده ليجمعه إلى طاولة حوار مع الاتجاهات الأخرى، فهو بمثل هذا الوضع يكون قد تخلّى عن دوره في التغيير، ولن يكون من الطلائع.

 

كيف نكتب التاريخ وكيف نقرأه أيضاً؟


من المجمع عليه أن من يكتب التاريخ هم الحكام وأصحاب النفوذ السياسي. وهذه قاعدة بدأها الأقدمون وتابعها كل الذين أتوا من بعدهم، ولا نزال -في عصرنا الراهن- نتَّبع هذه الخطى. أما بالنسبة لتاريخنا فلا يوجد بين أيدينا إلاَّ ما كتبه أولئك على طريقتهم الخاصة والتي تخدمهم بشكل مباشر؛ ولم يبقَ إلاَّ بعض التراث الذي كتبته أقلام بعض المعارضة للأنظمة السياسية من الذي عاصروهم. وإلى أن نستطيع أن نفرض قاعدة أخرى، نكتب فيها تاريخ الشعوب والحكام، ليس أمامنا إلاَّ أن نحكم على التاريخ من خلال ما تركته لنا المكتبة التراثية.

ولكن من المهم أننا كيف نقرأ التاريخ: هل بعقلية الماضي، أم بعقلية الحاضر؟

التاريخ هو تراث الأمة الماضي، أي التراث الذي أسهم في تكوين شخصيتها وخصوصياتها. لكن التراث فيه السلبي والإيجابي، وعلى أساس هذه الحقيقة علينا أن نقرأ التاريخ.

ولا يمكن قراءة التاريخ على قاعدة أنَّ الظروف السابقة التي نحاكمها اليوم كانت مختلفة جداً عن ظروف الحاضر، فعلينا أن نقرأها بعيون الماضي. لكن إذا أردنا أن نمارس هذا الأسلوب في القراءة فإننا لن نخرج إلاَّ بالنتائج التي توصَّل إليها السابقون، أي بتبرير النتائج والتوفيق بينها حتى لو كانت متناقضة. فإذا قمنا بمثل هذه الممارسة، فأين تكمن الفائدة، إذاً؟

إذا لم تكن قراءة التاريخ تستهدف الوصول إلى نتائج تساعدنا على الدخول لحل إشكاليات الحاضر فلا فائدة تُرجى من هذه القراءة. وتزداد قراءة التاريخ أهمية، وتصبح أكثر إلحاحاً إذا كان التاريخ لا يزال يعيش في الحاضر. فهل قراءة التاريخ العربي - الإسلامي ذات أهمية في الحاضر؟ وهل تنفصل مشكلاتنا الفكرية والسياسية الراهنة عن مشكلاتنا في الماضي؟

إذا كانت الإشكاليات الفكرية السياسية الاجتماعية الدينية التي نعاني منها اليوم كثيرة ومتشعبة، وإذا كان الواقع العربي - الإسلامي يعاني من الكثير من تلك الإشكاليات، ويعاني من كثير من التخلف، فما هي طبيعة الاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة والتي يعمل أنصارها من أجل إيجاد حلول لإشكاليات الحاضر؟

لا يمكن العمل من أجل إيجاد حلول للإشكاليات السياسية والاجتماعية إلاَّ من خلال رؤية فكرية. ومن المعلوم أن الثقافة الفكرية السائدة في المجتمع العربي - الإسلامي هي الثقافة الإسلامية. وتسود اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، اتجاهات فكرية تعمل على أساس القواعد الفكرية السياسية الاقتصادية التي كانت سائدة في الماضي، والتي تعمل على استنباط أسسها من الاتجاهات الإسلامية الماضوية. وهل يمكن أن نُنكر أن الاتجاهات الإسلامية السياسية وغيرها تدعو إلى تقليد السلف؟ وأي سلف يريدون؟ وهل يمكن أن نُنكر أن تلك الاتجاهات تدعو إلى العودة إلى الكتاب والسُنَّة، أي إلى الإسلام الصحيح، في إيجاد تلك الحلول؟ وأي إسلام صحيح يريدون؟

نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، وبعض الاتجاهات الفكرية تدعونا لاعتماد الحلول التي وضعها الإسلام لإشكاليات القرن السادس. وبما أننا نعاني من مشاكل شبيهة بمشاكل الماضي، وتطرح فيه بعض الاتجاهات الإسلامية حلولاً من الماضي لمعالجة مشاكل الحاضر، فهل علينا، هنا، أن نقرأ التاريخ بعين الظروف التي كانت سائدة في القرن السادس أم بعين ظروف الحاضر السائدة؟

عندما يدعونا أولو الأمر إلى استنباط حلول تعود إلى أكثر من أربعة عشر قرناً فهل علينا أن نقرأ تاريخ ما قبل الأربعة عشر قرناً بعين الماضي أم بعين الحاضر؟ وهل علينا أن نقرأه بعين الذي كان يعيش الظروف السابقة أم بعين الذي يعيش في الظروف الراهنة؟ عندما يحسب أولو الأمر أن الحاضر لم يتغيّر عن الماضي أي أن حلول الماضي صالحة للحاضر، يعني هذا أن الماضي والحاضر أصبحا ا شيئاً واحداً، وهذا ما يحصل بالفعل، أننسى مقولة فقهاء الإصلاح المسلمين التي تقول «لا يصلح الخلف إلاَّ بما صلح به السلف«؟ وبناء على مقولتهم لا يمكن حل إشكالياتنا -كما يرون- إلاَّ بتقليد أنموذج العهد الراشدي كأنموذج مثالي، أي العهد الذي تلا وفاة الرسول مباشرة.

فإذا كان أنموذج العصر الراشدي مطروحاً كحل لإشكالياتنا الراهنة، فعلينا أن نناقشه مرغمين بعيون الظروف الراهنة وليس بعيون الظروف الماضية. لأن ذلك الأنموذج لم يكن بالفعل الأنموذج الذي أمَّن العدالة والمساواة والرخاء والاطمئنان للمسلمين، لأنهم  دفعوا من خلال الفتن التي وقعت فيه، مئات الألوف من الضحايا بينهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين من أصل أربعة.

قد يقول البعض إن وزر الفتن التي حصلت لا تتحمّلها العقيدة الإسلامية، بل إن من يتحملها هو الطمع في السلطة، وهذا -كما نحسب- عذر أقبح من ذنب، فلماذا؟

لقد حصلت الفتن في عهد أكبر صحابة الرسول، وهم أفضل من آمن بالعقيدة الإسلامية، وهم أفضل من فقه تشريعاتها، وعلى الرغم من ذلك لم يستطيعوا أن يطبقوها، فهم إما أن يكونوا قد أخطأوا في التطبيق أو يكونوا قد طبَّقوها بالفعل فظهرت صورتها على ما ظهرت عليه. وإن كلا الاحتمالين لا يسمح لنا بأن نقول إن العصر الراشدي كان أفضل العصور الإسلامية، وهو الأنموذج الذي يدعونا إليه المسلمون الإصلاحيون لكي نعود إليه فنجد فيه حلول العصر الحاضر.

لكل تلك الأسباب، ويأتي على رأسها اعتقاد البعض بصلاحية حلول الماضي لإيجاد حلول للحاضر، دفعنا إلى القول بأن قراءة التاريخ المرتبط بالحاضر، يجب أن تتم بمنهجية نقدية تأخذ ظروف الحاضر أساساً لتقييمها لا لتبريرها تحت حجة أن ما يحصل اليوم من ظلم ولا عدالة ولا مساواة ليس بأقل مما كان يحصل في الماضي. إن اللا عدالة الراهنة تدفعنا إلى نقدها، وهو الذي دفعنا إلى نقد النماذج التي يحسب فيها فقهاء الإصلاح الإسلامي أنها صالحة للتطبيق في عصرنا الراهن، وقد بيَّنا فيها أنها كانت غير عادلة أيضاً. فكانت لا عدالتها محط اهتمامنا، بل يجب أن تكون محط اهتمام أبحاثنا النقدية، لأنها مطروحة كحلول في الحاضر ضد لا عدالة الحاضر. ولو لم تكن مطروحة كحلول لكان اهتمامنا بها من قبيل الترف الفكري الذي يُكتب لكي يوضع في خزائن التاريخ ليُقفَل عليها لأنها أصبحت بغير فائدة لوقتنا الراهن.

مناقشة بعض التفاصيل التي وردت في المداخلات


جاء في مداخلة مروان ما يلي: «لقد صدر حكماً بالإعدام على المؤسس المرحوم ميشيل عفلق في حياته، وعلينا أن نناقش بموضوعية حتى لا نحكم عليه بالإعدام مرةً ثانية في مماته، ونتنكّر لعطاءاته وفكره ونضاله من أجل البعث والأمة العربية«.

من المستغرب جداً أن تأتي مثل هذه العبارة على لسان من يدعو إلى النقاش بموضوعية، لأنه وجَّه التهمة فوراً بحق مجهول قبل أن يقوم بالتحقيق اللازم. بصراحة لم أعرف لمن يوجه مروان تهمة الحكم بالإعدام من جديد على مؤسس حزب البعث.  هل يوجهها للدكتور عمارة أم للباحث الذي ردَّ على الدكتور عمارة؟

من الموضوعية أن تعيَّن المتهم بوضوح لأن الالتباس ليس من الموضوعية بشيء. وكان من المفروض، موضوعياً، أن تكون أسباب هذا الاتهام واضحة. ولأنها لم تكن واضحة فهي ليست موضوعية. والكرة الآن في ملعبك لكي تجيب بوضوح على تلك المعميات التي وردت في عبارته. فعلى نتائج إيضاحاته يترتب حقوقاً لكل من الدكتور عمارة إذا كان هو المقصود، أو لناقد الدكتور عمارة إذا كان هو المقصود بذلك. وهنا أعرض بالتفصيل لما جاء في نقد مروان للنقد الموجَّه إلى كتاب الدكتور عمارة:

في الدائرة العامة: لم أتبيَّن من خلال نقد مروان للناقد أي موقف واضح. إن أمامنا كتاب وضعه مفكر إسلامي يتعرَّض فيه لأحد أهم جوانب فكر حزب البعث ممثلاً بمؤسسه المرحوم ميشيل عفلق. وما كان من حسن غريب أحد البعثيين إلاَّ أن تناول ذلك الكتاب بالنقد لأنه توصًّل إلى استنتاجات تجافي حقيقة فكر حزب البعث بالنسبة لعلاقة العروبة والإسلام، وقد توصّل الباحث غريب، من خلال نقده، إلى نقض استنتاجات عمارة، ودلَّل على أن البعث ليس حزباً إسلامياً ولن يكون. وكان من واجب بعثي آخر، وهو مروان، أن يراجع نقد رفيق له لكتاب من لا علاقة له بحزب البعث، بل حاول أن يدعو البعثيين إلى التنكر لحزبهم وفكره ليتحولوا إلى حزب إسلامي يدين بالإسلام الحضارة والشريعة والقانون. ومروان لم يوضح هل هو مع استنتاجات عمارة أم ضدها. وبدلاً من مساعدة رفيقه أصبح عمارة محيَّداً وكأنه لم يرتكب هفوات في استنتاجاته وأصبح الجدير بالنقد هو الذي توجَّه، من منطلقات بعثية قومية، لمواجهة منطلقات إسلامية جامدة.

وهنا أتمنى على مروان أن لا يمر على استنتاجات عمارة بلامبالاة تحت حجة أنها تخص عمارة لوحده، وإنما تخص البعثيين قاطبة، فهي شأن البعثيين وحدهم وليس شأن عمارة. وهنا كان من واجب مروان -كناقد للنقد، وليس للمنقود- أن يوضح بعيداً عن الغموض موقفه من استنتاجات عمارة: هل هو ضدها أم هو معها. فإذا كان معها فعليه كبعثي أن يبرهن صحة استنتاجاته، وإذا كان ضدها فمن واجبه أن ينقد نقد غريب لجهة قصورها -إذا كان فيها من قصور- عن الرد على عمارة، وعلى مروان أن يساعد غريب في التفتيش عن البراهين الأكثر إقناعاُ. لكن ما فعله مروان هو أنه حيَّد عمارة، لأن ردوده لا علاقة لها باستنتاجات عمارة، بل كانت موجَّهَة إلى نقد الباحث غريب بشكل خاص وواضح. ولهذا وقع مروان، في ردّه على ناقد كتاب عمارة،  بهفوات موضوعية كثيرة، ومن أهمها:

1- يقول مروان: وكان الإسلام «كل القِيَم والأخلاق، فأصبح أباً للعروبة. وأصبحت أمة العرب عظيمة حيث أعطاها معنى الحياة والخلود التي هي جهاد وفكر ومبدأ وعقيدة. فلا خوف على العروبة مقترنة بالإسلام، ولا خوف على الإسلام مع خير أمة أُخرِجت للناس، أمة العرب«. ويقول أيضاً: «القومية مبعث النظريات، وهي التعبير المتطور للزمان والمكان. والإسلام مقوّم من مقومات القومية. فالإسلام، كتجربة ثورية وعقيدة وقضية أمة بتصور إنساني ونضالي بأعلى مراحله، لما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف. فهو تجربة ثورية: السماء متداخلة مع الأرض. هو الذي يكوّن روحها وقيمها وأفقها الحضاري، إنه جوهر العروبة، وملهم ثورتها، وهو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«.

آن الأوان بنا لكي ننزل من برج العبارات الفخمة والضخمة، التي لا تصلح إلاَّ آيات للتعبئة  وليس للتوعية. فعبارات التوعية تكون قريبة لقاموس الواقع والمنطق، والتي يمكننا أن نشرح مضمونها بسهولة وواقعية للآخرين.

من العلمية أن تستطيع أن تبرهن على ما تقول. فكيف تستطيع أن تبرهن، بشكل علمي واضح وواقعي ومنطقي، عن العبارات الفخمة - الضخمة التالية؟:

«الإسلام هو كل القيم والأخلاق«، «أصبح الإسلام أباً للعروبة«،«أعطى الإسلام العروبة معنى الحياة والخلود«،«لا خوف على العروبة مقترنة بالإسلام«،«لا خوف على الإسلام مقترناً بالعروبة«،العرب - الإسلام هم «خير أمة أُخرِجت للناس«،«القومية مبعث النظريات«،«الإسلام تجربة ثورية إنسانية ونضالية بأعلى مراحلها«،في الإسلام «تنظيم دقيق وتثقيف«،«الإسلام تجربة ثورية: السماء متداخلة مع الأرض«،«يُكوِّن الإسلام روح العروبة وأفقها الحضاري«،«الإسلام مقوِّم من مقومات القومية«، وتأتي هذه العبارة مترافقة مع نقيض لها، وهي«الإسلام جوهر العروبة وملهم ثورتها« فقد جمعت بين الإسلام كمقوم والإسلام كجوهر،«الإسلام هو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«.

توضيح في الشكل: لاحظ يا عزيزي، هنا فقرة خطابية واحدة تتألف من تسعة أسطر تقريباُ، وقعت فيها في إشكالية لتعريف أربعة عشرة عبارة عامة فخمة وضخمة.

فإذا كان الإسلام يتَّصف بكل تلك المواصفات، وإذا كانت الثقافة الإسلامية هي السائدة في مجتمعاتنا بدون منازع، علينا أن نتساءل:

أ- لماذا يلحق كل هذا التخلف بالأمة الإسلامية، ومعها الأمة العربية التي تثقفت قومياً من الإسلام؟

ب- لماذا اخترت طريقاً غير طريق الإسلام في العمل السياسي. ولماذا تؤمن بدستور حزب غير مستند إلى الثقافة الإسلامية، بل فيه الكثير مما يتعارض معها؟

توضيح في مضمون العبارات: لأن مناقشة كل عبارة بمفردها ستستهلك عدة صفحات، سأكتفي، من أجل الاختصار، بالردود الإجمالية، وعلى بعض العبارات الأكثر إلحاحاً في التوضيح:

أ-إذا كان المقصود بـ«القومية هي مبعث النظريات«، الشعور القومي، بوصفه تعبير عن الإحساس بالانتماء إلى جماعة معينة كان من الممكن الإفصاح عن ذلك مباشرة، فيكون الإحساس ساعتئذٍ سابق للنظرية، ودافع لصياغتها. لهذا كان من الواجب أن نكون واضحين في تحديد المصطلح. فالشعور بالانتماء إلى الأمة العربية يسبق النظرية التي تحدد عناصر تكوين النظرية القومية العربية. فهنا، وحتى نكون واضحين علينا أن نميز بين الشعور القومي وبين النظرية القومية، أي أيهما يسبق الآخر؟ وإن الشعور القومي مكمل للنظرية القومية، ولكنه لن يكتمل لمصلحة بناء الأمة إلاَّ إذا كان مرتبطاً بمحتوى نظري محدد تحديداً علمياً يرسم عوامل تكوين القومية، كخطوة لا بُدَّ منها لتقوية تلك العوامل وتعزيزها وتعميقها لحماية الكيان القومي وتطويره ليواكب الظروف الجديدة ويتفاعل معها.

وإذا لم يحصل هذا التحديد يقع الالتباس بين الكلام الملهم والكلام الملزم. فالقومية  نظرية وضعها الإنسان، ولأنها ظاهرة اجتماعية وضع الفكر الإنساني أسساً وقواعد لها. وقد تختلف تلك الأسس من أمة إلى أخرى. وليست هي التعبير المتطور للزمان والمكان، بل هي متغيَّر بتغيرهما، فالتغيير الذي يلحق بهما يلحق بالمحتوى النظري للمفهوم القومي. وهنا لا بُدَّ من أن نوضح ما نقول عن مراحل تكوين القومية العربية. كانت القومية العربية، في مراحلها البدائية، محصورة بين سكان شبه الجزيرة العربية، وكانت قوميات متعددة بتعدد القبائل، ولم يكن محتواها ومضمونها وتعريفها الماضي هو التعريف ذاته الذي نفهمه اليوم. وبتوسع الفتوحات العربية - الإسلامية إلى شتى أصقاع الأرض التي وصلت إليها، لعب الإسلام، بشكل عام واللغة العربية بشكل خاص،  دوراً في تعريب الشعوب غير العربية. وأصبحت شعوب كثيرة تنتمي إلى القومية العربية بعد أن كانت غير عربية. فمن هنا نتساءل كيف كانت القومية مبعث النظريات بينما نحن نرى أن القومية العربية كانت نتيجة لتكاثف وتعاضد عدة عوامل لعبت دوراً في تكوينها؟

دعنا يا صديقي من استخدام العبارات التعبوية التي لا تصمد أمام منطق تعريف المصطلحات بواقعية وعلمية بعيداً عن الإنشائية من خلال استخدام التعابير الفضفاضة.

وعلى هذا الأساس سنتابع مناقشة الفقرة الإنشائية ذاتها، ونتابع المناقشة من خلال استكمال ما ورد عندك في الفقرة ذاتها وهي مليئة بالتعابير الإنشائية مثل: «نضالي بأعلى مراحله - تنظيم دقيق وتثقيف - جوهر العروبة - ملهم ثورتها - هو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«.

فإذا كان الإسلام جوهراً للعروبة، فالتعريفات العلمية تقول: «إن الجوهر يدل على الواقع العميق للكائن. فهو ما يكوِّن طبيعته الثابتة ويأذن بتحديده«. فاستناداً إلى عبارتك (الإسلام هو جوهر العروبة) يعني أن الإسلام هو ثابت أما العروبة فهي متغير، ولن تكتسب معناها إلاَّ من خلال جوهرها، أي الإسلام. وفي مثل تلك الحالة على العروبة أن لا تتعارض مع الإسلام على الإطلاق بكل تفاصيل تعاليمه وشرائعه وقوانينه. وهي إن تعارضت معه فهو لن يكون جوهراً لها. وعلى البعثيين الذين يؤمنون بهذا أن يعودوا إلى الإسلام الكامل وأن يكونوا مع الدكتور عمارة بالنتائج التي توصَّل إليها، ومن الخطأ أن يستندوا إلى دستور لا يلتزم بالقرآن والسنة.

أما أن يكون الإسلام هو «الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«، فهو حكم فيه الكثير والكثير من التعسف والخطابية. أنت تقول إن «الإسلام مقوِّم من مقومات القومية«، فالإسلام، إذاً، جزءٌ من الثقافة القومية. فلماذا تجعله -تارة- جزءًا، وتارة أخرى كلاً؟ إن هذا لتناقض واضح وصريح. فنحن، إذاً، بحاجة إلى أن نكون علميين في استخدام مصطلحاتنا وأحكامنا وليس خطابيين.

 لقد أسهم الإسلام في بناء الحضارة العربية، وهذه حقيقة لا ينكرها إلاَّ مكابر. ولكنه لم يكن العامل الوحيد، بل رفدته عوامل أخرى كثيرة، فهو عامل رئيس ولكنه ليس الوحيد. بل كانت العقيدة الإسلامية، في أحيان كثيرة، من المعوقات في سبيل تطوير الفكر العربي والإسلامي، وهنا لن نعطي أمثلة كثيرة بل ما يفيد في تدعيم حكمنا: هل كان الفقه الإسلامي على وفاق مع الفكر الفلسفي؟ هل كان الأصوليون الإسلاميون من الذين شجعوا حرية التفكير الفلسفي أم كانوا من الذين حاكموا الفلاسفة، ومن الذين حاكموا حرية العقل، ومن الذين حكموا على كل المسلمين والعرب من الذين انفتحوا على الفكر القادم من اليونان بالتكفير، ولا ننسى أنهم قد حاكموهم على أساس مبادئ الشريعة الإسلامية وأصدروا بحقهم أحكاماً تعسفية وجائرة؟  قد تقول إن أهواء الحكام ومصالحهم السياسية هي التي كانت السبب في ذلك. نقول هذا كلام صحيح، ولكن الأحكام التي أصدرها السياسيون كانت تستند إلى النص الإسلامي وليس إلى غيره من النصوص، والذين اجتهدوا فيها هم من فقهاء الإسلام وليسوا من فقهاء دين آخر غير الدين الإسلامي.

لم تكن الثقافة الإسلامية هي الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم لأن المسلمين، بشتى فرقهم، قد اختلفوا حول تعريف الثقافة الإسلامية ومصادرها واختلفوا بنتائج اجتهاداتهم حول ما سيأخذون منها وممن يأخذونه فكيف سيأخذ غير المسلمين من الثقافة الإسلامية ما اختلف المسلمون حول مصادره، وحول تفسيره وتأويله؟

فإذا كانت الثقافة الإسلامية تحتمل الوحدة، فهل لك أن تدلنا على العوامل التي فرَّخت مئات الفرق الدينية الإسلامية، وكان لكل فرقة ثقافتها المختلفة عن ثقافة المذاهب الأخرى؟ وإنني -انتظاراً لتوضيحك- سوف يكون لنا جولة أخرى من الحوار.

2- يقول مروان «إن طاولة الحوار بين مشروعين لا يعني البعثيين لِما اكتشفوه من ترابط وتكامل وتلازم بين العروبة والإسلام، بل يعني تحديداً المتعصبين قومياً دون اكتشاف مضمون ونظرية القومية، بل يعني الإسلاميين الذين لم يكتشفوا جوهر الإسلام ومضمونه. أما البعثيون فيعتبرون أن القومية والعروبة هي حالة حضارية إنسانية عربية فاعلة، والإسلام فعلٌ تغييري وثوري ونهضوي وحضاري وعلمي. إننا دائماً حيث العروبة الصحيحة وحيث الإسلام الصحيح. فالبعثي قومي إسلامي بالانتماء والجوهر».

من حيث الشكل: لا حوار من دون وجود طرفين يختلفان حول رؤية إشكالية ما. وأنت تقول إن طاولة الحوار لا تعني البعثيين، بل تعني غيرهم من المتعصبين قومياً ومن الإسلاميين الذين لم يكتشفوا جوهر الإسلام. وهل هناك خطأ إذا ما وجَّهت الدعوة إلى المتعصبين قومياً والى الإسلاميين الجاهلين جوهر الإسلام؟ وهنا أريد أن أسمع جواباً واضحاً منك: هل أنت مع الدعوة إلى الحوار أم لا؟ لأنني فهمت منك أنت لست مع هذه الدعوة لأن البعثيين قد فهموا تماماً المشكلة منذ الآن و إلى أبد الآبدين. ولهذا علينا أن نقفل دائرة الحقيقة وننزلق كما انزلق الآخرون من التيارات السياسية والدينية إلى متاهات النرجسية والغرور؟ وهذا المنزلق لم ينحدر إليه مؤسس الحزب لأنه دعا كل التيارات إلى وضع تصور مستقبلي لعمل عربي، ولكن ليس على قاعدة أن البعثيين قد أمسكوا بالحقيقة كاملة. و إلاَّ إذا كان الأمر مقصوداً عنده، كما هو مقصود عندك يا مروان، فلا معنى لدعوته لأنها ستكون مقرونة ومترافقة مع «كلبشتين وقفص من ذهب«، ليقود بهما كل تلك التيارات إليهما. وسوف يكون مؤسس البعث، كما تحسب أنت من خلال نفي أي نقص عن فكره، كمن يدعو الآخرين لكي يلقي عليهم محاضرة، بصفته أستاذاً أمسك بالحقيقة كاملة، لكي يبشِّر بدعوة ذات نصوص مقدَّسة لأنها كاملة مكتملة.

إننا مع العروبة فعلاً، ولكن أحكامك، كمثل ما جاء في مداخلتك «إننا دائماً حيث العروبة الصحيحة وحيث الإسلام الصحيح«، نرجسية خطابية لم يسمح بها كل القادة الذين تعاقبوا على قيادة الحزب سياسياً وحزبياً وفكرياً، لأن القوميين هم فرق أيضاً كل منها يحسب أنه يمتلك رقاب العروبة الصحيحة، وكل التيارات الإسلامية والمذاهب يحسبون أنهم يمثلون الإسلام الصحيح. فالعروبة الصحيحة والإسلام الصحيح هما مسألتان نسبيتان وليستا مطلقتان.

أما قولك «البعثي قومي إسلامي بالانتماء والجوهر«. فهذا ما يثير الاستهجان ويدفعنا إلى التساؤل: لماذا تستخدم هذه الأحكام التي لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق؟

هل نحن ننتمي إلى حزبين متناقضين؟

إنني لا أجيز لنفسي أن أستخدم هذه الخطابية ، لأنها لن تلقى تأييداً يُذكَر.  ولكن أين هو مكان مثل هذه الأحكام الإنشائية في جلسة حوار داخلي يحضرها كل من قلَّع أضراسه في نضال حزبي  ونضال فكري وثقافي؟

هل تدري أن هناك حديثاً للرسول يحسب فيه أن الإسلام هو دين الفطرة، بمعنى أن الله تعالى يخلق المسلم مسلماً؟ وهل تريد أن تقول أن البعث هو دين الفطرة بحيث يُولد البعثي قومياً إسلامياً بالانتماء والجوهر. أتدري أن هناك العدد الوفير من المسلمين الذين انتسبوا إلى حزب البعث ليست لديهم القناعة بأن يأخذوا من الإسلام إلاَّ ما يصب فعلاً في خدمة الوحدة القومية العربية؟ وهل تدري أن المسيحيين العرب الذين انتسبوا إلى حزب البعث هم غير ملزمين أن ينتسبوا إلى الإسلام كما فعل القائد المؤسس؟ وهل على البعثي أن يكون إسلامياً رغماً عنه، وليس هناك من سبب إلاَّ لأن في جوهره فطرة إسلامية شاء أم أبى؟

3- يقول مروان: «أما حول ما يقول به الباحث من أن أفكار ميشيل عفلق ملهمة وليست ملزمة، فنقول: وما هي وصية عفلق؟ إن المرحوم ميشيل عفلق هو من اكتشف النظرية القومية والعقيدة العربية  وهو الذي تنبّأ بمعجزة الوحدة العربية إذا تحققت، ولم يتعارض أو يتناقض فكره وفلسفته ونظريات البعث منذ التأسيس وحتى وفاته. كانت أفكاره مترابطة،  وقد تبنّاها البعثيون بكل تفاصيلها والشيء الوحيد الذي مارسه دون إعلان عنه، وحتى لا يكون ملزماً للبعثيين هو اعتناقه الدين الإسلامي«.

كنت بغنىً يا صديقي عن تلاوة كل تلك الأسباب التي سقتها للدلالة على أن البعث والبعثيين أخذوا عن مؤسس حزبهم  كل شيء. لأنني لم أقصد بأن فكر عفلق هو ملهم وليس ملزم أن هناك تناقضاً بين فكر المؤسس وفكر الحزب. وإنما من حقي، كبعثي، أن لا اعتقد أن فكر المؤسس هو كتاب منزل آخر. وهل من الجائز أن ندخل في حوار مع إسلامي يعتقد أنه مُلزَمٌ بالنص الإسلامي، أن أدخل معه في حوار أكون فيه مُلزَمُ بنص مؤسس الحزب؟

إذا كان الإسلامي مُلزَم بنصّه، والبعثي مُلزَمٌ، أيضاً، بنصِّه، فحول ماذا سوف يدور الحوار؟ ففي مثل هذه الحالة التي تدافع بها أنت لا تخرج عن كونك متعصباً لنص، فما هو الذي يميزك عن الإسلامي، إذاً؟

أي حوار تريد أيها الصديق مروان أن يدور بين بعثي أصولي قد جمَّد نصه، وبين إسلامي أصولي قد جمَّد نصه منذ ألف وأربعماية سنة؟ وهل يجوز الحوار بين نصوص مقدَّسة مُلزِمة؟ أم سيكون الحوار بين نصوص ملهمة؟

ما هي قيمة دعوة عفلق للحوار مع كل التيارات الفكرية والسياسية العربية؟ هل كان يعتقد أن فكره مُلزِم؟ فإذا صحَّ ما تقول يدفعنا إلى التساؤل حول الجدوى من دعوته التي وجهها إلى الجميع؟ وهل قال عفلق إن أفكاره أصبحت مطلقَة، وهي ليست بحاجة إلى تطوير وتعميق وتجديد؟

لقد دعا، هو بالذات، إلى التطوير لأنه لا يُجيز لنفسه، وبالتالي لا يجيز للبعثيين، أن تتَّصِف أفكاره بصفة الإلزام بل أن تكون تلك الأفكار مُلهِمَةً ملهمة ملهمة

فإذا كنت من المتعصبين لنصوص، تحت ذريعة أنها لم تتعارض مع قناعات البعثيين، وأنها كانت منسجمة ومنطقية وخلاّقة وتحمل الكثير من الإبداع، ولأن البعثيين قد أخذوا بكل تفاصيلها، تعمل على رفض ما قلته أنا من «أن أفكار عفلق ملهمة للبعثيين وليست ملزمة«، فهذا شيء والحوار مع غير البعثيين شيء آخر. وهل تنوي أن تحجر على أفكار حزب البعث وتحتفظ بها، كأثمن وأغلى ما لدى البعثيين، وتطلب من البعثيين، إذا واجهوا تيارات سياسية وفكرية عربية أخرى، أن ينأوا بعقيدتهم عنهم لأنهم سوف يمارسون النقد بحقها، ويدلون بحججهم الخاصة؟  فحفاظاً على إلزامية نصوص البعث، سواء أتت من المؤسس أم من مؤتمرات الحزب، هل تطلب من البعثيين أن يرفضوا الحوار مع الآخرين؟ وهل تطلب منهم أن لا يحيدوا عن أفكارهم قيد أنملة تحت ذريعة الإلزام لا الإلهام؟

إن بوابة الحوار لن تنفتح أمام التيارات إلاَّ إذا كانت لديهم قناعة بأن يستمع الواحد منهم للآخر، ويدلي ببراهينه وأدلته، ولكن ليس على قاعدة أن كل حزب بما لديهم فرحون. بل على قاعدة أن أفكار كل حزب تكون ملهمة له في الحوار وليست ملزمة للطرف المحاور إذا ما تبيَّن عدم صلاحيتها في مكان ما أو زمان ما.

وهنا سوف أعطي أنموذجاً حول إشكالية أن يكون فكر عفلق ملهم أو ملزم، وقد جاء في متن البحث المذكور ما يلي:

لكن إذا حسبنا، نحن، أن المعرفة تسبق الحب لا يضير نظرة عفلق شيئاً، فهناك قطاع من الناس يفهم القومية كما يفهمها عفلق، وآخرون يتعارضون معه. فإذا كانت النتائج واحدة، وهي حب القومية، سواء أتى حب القومية أولاً أو أتى ثانياً، فماذا يضير القومية والقوميين؟!

إن الفرق بين من يرى أن يسبق حب القومية تعريفها، أو أن يسبق تعريف القومية حبها، هو الفارق في زاوية الرؤية. وهنا تظهر دائماً زاوية الرؤية عند عفلق متعلِّقة بالمنهج الصوفي، فالمتصوفون يؤمنون بأن المعرفة الحقيقية هي ما يقذفه الله في القلب، ويُبصِر المؤمنون الصوفيون حينئذٍ- ما لا يبصره غيرهم من الذين يلجأون إلى المعرفة من زوايا أخرى. وهنا ننقل نصاً لعفلق يؤكد ما نقول عن أنه يرى من زاويته الخاصة بشكل جلي وواضح. فهو، بمناسبة تكريم وفد سوداني شقيق، يعلن أنه لا يتصوَّر قوميته العربية تصوراً واضحاً وقوياً إلا عندما يتصل بأبناء الأقطار العربية أو يشارك في العمل من أجل قضية قطر عربي. وفي مثل هذه الحالات، تتجسَّم في نفسه «هذه الصلة القومية العميقة التي تفوق الوصف«، ويمتلئ طريق العمل أمامه بالنور، وتبدو أهدافه واضحة جليَّة([1]). [راجع الصفحة 59 من الكتاب].

4- جاء في مداخلة مروان: «ولقد تفاجأت بما قاله الباحث بأن عفلق اعتزل العمل الحزبي وتفرَّغ للعمل الفكري. إن المرحوم بقي يناضل في صفوف البعثيين وفي المواقع المتقدمة«.

لو كنت قد قرأت يا صديقي كتاب عمارة، وإنني متأكد أنك قد قرأته أكثر من مرة، لكنت عرفت أن من قال عن اعتزال عفلق العمل السياسي والحزبي للتفرغ للعمل الفكري، هو الدكتور عمارة وليس أنا. وعمارة لم يؤكد أن عفلق قد اعتزل، ولكنه -استناداً إلى مقابلة جرت مع عفلق- كان يفكر بالاعتزال. ولقد نقلت أنا هذه النية المفاجئة وليس الاعتزال المفاجئ  لكي أؤكد أهمية الجانب الفكري في حياة عفلق، وليس أكثر من ذلك. لذلك أتمنى من الصديق العزيز مروان أن يتحلّى أثناء قراءاته بقليل من الصبر الجميل حتى لا يقع في استنتاجات متسرِّعة تأخذ منه الوقت الثمين الذي عليه أن يوفره في سبيل قراءات أخرى.

وهنا أرجو أن تعيد قراءة ما كتبت حول أن عفلق كان في القلب من نضال الحزب، «والذي يستوقفنا هو أنه ليس مفكراً منعزلاً عن الحركة النضالية لحزبه، وعن حركة الصراع الدائم التي تواجهها أمته العربية مع شتى القوى الداخلية والخارجية«. [راجع الصفحة 61 من الكتاب] ألا ترى، هنا، أنني أؤكد أن عفلق لم يعتزل النضال؟

 

5- يقول مروان: «يقول الباحث: إنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثرة بالرؤية الصوفية». وهنا أقول (أي مروان): «لقد أراد الشيوعيون أن يضعوا عفلق في صفوف الرومانسيين والمتصوفين لإفراغ المضمون من فكره وفلسفته«. «إن تصنيفه متصوفاً بعيد عن الحقيقة«. «إن التصوف هو حالة انفرادية إنطوائية، حالة مرضية ونفسية، ينعزل فيها الإنسان عن المجتمع، ولا يشارك، ولا يتفاعل مع محيطه، هي إلحاد أكثر منها إيمان«.

في الشكل: ولماذا الربط بين تحليل يقوم به بعثي وبين اتهام الشيوعيين بأنهم أرادوا إفراغ مضمون فكر عفلق؟ وهل يريد البعثي، الذي هو أنا، أن يفرغ فكر عفلق من مضمونه الجدلي من خلال تشخيص منهجه المعرفي؟

ولكن هل الرومانسية والمنهج الصوفي هما تهمة دفعت بمروان لأن ينفيها عن مؤسس حزب البعث؟ وهل مروان أشد حرصاً منه حول نفي تلك التهمة؟

إن عفلق لم ينفِ أن فكر الحزب قد أغرق، في حقبة طويلة من تاريخه، في العاطفة. وهل يكفينا أن ننقل ما قاله هو بالذات؟ فإليك ما قاله عفلق: «هل ستبقى قوميتنا العربية بهذا الشكل العام المجرد، الذي يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر.. أم أن خطورة المعركة التي نخوضها تتطلَّب أن ننظِّم عملنا، ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي مكتمل الجوانب«([2]).

وقال، أيضاً، «إنني أصف مراحل البعث الأولى بكل الإيمان وكل التواضع وكل الزهد (أكاد) أصفها، في بعض الأحيان، بالروح الصوفية«.

يوجز د. جوزيف الياس تطور الفكر القومي عند عفلق، قائلاً: «بدأ الأستاذ عفلق كتابة النص القومي منذ 1940م، وقوميته هي، في مراحلها الأولى، قومية وجدانية عاطفية، ضعيفة الأركان إلى حد ما، فهي: حب قبل كل شيء، وهي قَدَرٌ محبَّب، وتذكُّر حي، والإيمان بها يسبق أي تعريف... وتُعدُّ المرحلة الثانية الأغنى والأخصب في كتابة النص القومي، والأنضج في تعريف القومية وتطور مفاهيمها«([3]).

إن الصوفية ليست مسبَّة أو تهمة لكي تدفع مروان إلى الدفاع ضدها بكل تلك الحرارة. وللمعلومات والتذكير أعيد ما كتبته، أنا البعثي وليس الشيوعي، عن العلامات الصوفية في فكر عفلق. لقد جاء في الصفحة 52 من الكتاب ما يلي:

إن المنهج الصوفي ليس تهمة، بل هو منهج راقٍ من مناهج المعرفة. وهذا المنهج كان قد احتلَّ حيزاً واسعاً من تاريخ الفكر العربي والإسلامي.

إلى أن يقوم أحد المهتمين بدراسة فكر ميشيل عفلق، بما له علاقة بتحديد رؤيته الفكرية بدقة وعلمية، فإنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثِّرة بالرؤية الصوفية. أَوَ لم يقل إن «المشكلة هي في الفرق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، لأن له حقيقة وله ظاهرا«؟([4]).

فما جاء من تعريفات حول التصوف يؤكد وجهة النظر تلك. وننقل بعض ما جاء حولها: «لا شك في أن التصوف  كعلم- حاول أن يحل محل الفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه، بل حاول أن يحل محل الفقه نفسه؛ وذلك باعتبار أن الفقه يختص بالعلم الظاهر، أما التصوف فهو يختص بالعلم الباطن دون إغفال للجانب الظاهر في الشريعة. وحاول الصوفية المسلمون أن يقوم علم التصوف على أسس علمية أخلاقية. فهو يقوم على دراسة النفس.. كما يمتاز التصوف أيضاً بنوع خاص من المعرفة لا نجدها في الأنواع الأخرى من الفكر الإنساني والإسلامي«([5]).

ولقد «ظهر التصوف كعلم أخروي يعطي المفهومات الفقهية الجامدة من تحليل وتحريم، روحاً جديدة، ويمزجها بالعاطفة الدينية المؤسَّسَة على أعمال القلب من مقامات وأحوال. وتنحصر هذه الأعمال في التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة والتوكل والمحبة والشوق والوجد..«([6]). [راجع الصفحة 52]

وجاء في الصفحة 62 ما يلي: لقد اجتمعت لدى عفلق السمات النفسية الخاصة إلى حقل ثقافته: فتعاون الاستعداد النفسي مع محتوى ثقافته لكي يُثبِّتا عنده قاعدة خوض تجربة فريدة من نوعها، قلَّما تتيسر لآخرين، فلم تكن سوى التجربة الصوفية التي لاقت أعلى مستوى من النضج في الفلسفة الإسلامية. وإذا عرفنا أن التجربة الصوفية عند المتصوفين العرب كانت ذات علاقة وثيقة مع الدين الإسلامي، فهو كان ملهمها؛ وأن الإسلام وُلِد في الأرض العربية وأُنزل باللغة العربية وبلِّغ للعرب بواسطة رسول عربي، وكلها عناصر لها علاقة بالقومية العربية، التي كانت ملهمة لعفلق، لاستطعنا أن نعرف لماذا تميّز ما سماه عمارة بـ«إسلام ميشيل عفلق«.

كانت تجربة عفلق في معرفة الإسلام من خلال معاناته الصوفية هي التي شكَّلت الولادة الأولى لمنهجه المعرفي. فهو عرف تجربته الصوفية في الإسلام أولاً، وانعكس هذا المنهج على تجربته في الفكر القومي، ولهذا وجدنا أنه في تلك التجربة الأولى، وفي مرحلة صفائه الصوفي، قد جرَّد عفلق القومية من كل ما هو مادي حتى من أكثر حقوقها العلمية ليضعها في مصاف الروح والمعرفة الروحية. [راجع الصفحة 63 من الكتاب ].

وإنني اتمنى على الصديق مروان أن يرشدني إلى المرجع الذي نقل عنه ما يقول فيه أن الصوفية هي حالة انفرادية، حالة مرضية ونفسية، ينعزل فيها الإنسان عن المجتمع، ولا يشارك، ولا يتفاعل مع محيطه. وأنا أكون له من الشاكرين.

6- يقول مروان: «فالبعث يعتبر أن العلمانية لا تعني ترك المعتقد الديني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عزل للتاريخ والتراث واللغة والحضارة، فالعلمانية هي عدم تمييز مذهب على مذهب، أو طائفة عن طائفة بالوظائف، وهي تعني تقديس حرية الاعتقاد والأديان بنظرة، وهي مساواة واحترام، فلا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون الحقيقيون«.

لم يحدد البعث تعريفاً نهائياً وكاملاً  للعلمانية، وهنا يقع على عاتق البعثيين أن يقوموا بمثل هذا العبء. وهم يستطيعون أن يستندوا إلى بعض المحطات الفكرية لعفلق والى بعض ما جاء من نصوص في دستور الحزب و إلى بعض ما جاء في مقررات مؤتمرات الحزب القومية. وبالإضافة إلى تلك المصادر الثلاثة، وحيث يكتشف البعثيون إشكاليات قد تواجه الدولة القومية، عليهم أن يلجأوا إلى صياغة ما يسد الثغرات فيها. و إلى أن تتم هذه المهمة، نرى أنه لا بُدَّ من أن نعقِّب على ما جاء في التحديدات التي أوردها مروان.

ما هو المقصود بمنع فصل الدين عن الدولة، كما يحسب مروان؟ أو بالأحرى ما هو المقصود من فصل الدين عن الدولة؟

لقد أسس الفكر الأوروبي لبعض القواعد العلمانية، وقد تأثَّر ذلك الفكر بما جرَّته الكنيسة من مظالم محاكم التفتيش على الفكر الفلسفي والعلمي تحت ذريعة تعارضه أو تناقضه مع التعاليم المسيحية. ولأن الكنيسة كانت تتمسَّك بحقها الإلهي بالسلطتين الزمنية والأخروية، ولأنها ألحقت كل تلك المظالم باسم سلطة الله على الأرض التي حصرها البابا بين يديه، أثارت ردود فعل غاضبة عليها من قبل المفكرين والفلاسفة والعلماء في أوروبا، فكانت العلمانية رداً ضد سلطة رجال الدين، وكان من أهم أسسها مبدأ فصل الدين عن الدولة، أي منع رجال الدين من التدخل في السياسة تحت حجة حقهم الإلهي بها. وبذلك فصلوا الجانب الروحي، بما هو أخلاق مصدرها ديني، وبما هو طريق للوصول إلى الجنة.

وهنا نتساءل عن المقصود من وراء ما يريده مروان من القول بأن حزب البعث «يعتبر أن العلمانية لا تعني ترك المعتقد الديني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عزل للتاريخ والتراث واللغة والحضارة«؟

عندما فصل الفكر الأوروبي بين الدين والدولة، أي حصر السلطة السياسية بين أيدي رجال السياسة، وحصر السلطات الروحية بين أيدي رجال الدين، لم يلغٍ ولم يعزل التاريخ الأوروبي ولا التراث الأوروبي ولا اللغة الأوروبية ولا الحضارة الأوروبية!!!

فإذا طبَّق الأوروبيون هذا الفصل، وإذا استراح الساسة الأوروبيون ورجال الدين المسيحيون الأوروبيون بمثل هذا الفصل الذي نزع عن رجال الدين ما حسبوه سلطة إلهية من بين أيديهم في الوقت الذي بقيت فيه الكنائس تقرع أجراسها، وبقي المواطن الأوروبي مرتبطاً بتعاليم دينه، ويمارس طقوسه الدينية بكل حرية، ولم يتأثر تاريخه ولا تراثه ولا لغته ولا حضارته بمثل هذا الفصل، فما هو السبب الذي يدفعنا إلى القول بأن فصل الدين عن الدولة هو إلغاء لكل تلك المظاهر، التي عدَّدها مروان، ووضعها في لائحة الإلغاء؟

يقول البعض بأن الدين لم يكن أصيلاً في المجتمعات الأوروبية لأنها استوردته من الشرق، لذلك لم تكن حريصة عليه. ويقول البعض الآخر إن الدين المسيحي هو دين له علاقة بالآخرة فقط لأنه لم يحدد شرائع دنيوية، وهذا على العكس من الدين الإسلامي الذي هو دين ودنيا. فما يجوز تطبيقه هناك لا يجوز تطبيقه هنا، و إلاَّ فنحن ننقل بذاراً من بيئة تستنبته بسهولة إلى بيئة لا يمكن له أن ينبت فيها لاختلاف الظروف والأزمنة. وبعض آخر يقول بأن الفكر الأوروبي هو فكر مادي نزع عن الروح أهميتها فغرق في كثير من المشاكل النفسية والروحية من جراء هذا النزع التعسفي.

وهنا نجيب، لا يحدد مكان نزول الأديان السماوية شرطاً لتمييز شعب عن آخر بما له علاقة بالروح، لأن الشعوب التي لم تطل -حتى الآن- على حضارة الأديان السماوية لديها تساؤلات واهتمامات بدور الروح، فمن الجائز أن تكون اهتمامات بدائية وساذجة، لكنها تهتم بهذا الجانب على مقدار وعيها. وصحيح أن الأوروبيين والغربيين قد أغرقوا بالمظاهر المادية حتى الأذنين وأخذوا يعانون من إشكالية الفراغ الروحي، ولكن هل يوجد في الشرق ذي التراث الديني السماوي من لا يهتم بمظاهر الحضارة المادية، ولا نستثني من ذلك رجال الدين؟ وهل لا يعاني الشرقي المتدين، الذي نبتت الأديان السماوية على أرضه بالفراغ الروحي؟ وهل الأزمات الروحية في الغرب هي أكثر منها في الشرق؟

وقد نلجأ إلى تبرير حججنا بترديد بعض الشعارات الجاهزة والخالية من الوصفة العملية الشافية، وهي تأتي كأنموذج كما يلي: لأننا لم نفهم الدين الصحيح، أو لقد تهنا عن مفهوم الإسلام الصحيح. ..

لكن إذا ما جلسنا إلى طاولة لنحدد فيه تعريف الدين الصحيح أو الإسلام الصحيح لخرجنا بخفيْ حُنين وتمزقنا فرقاً ومذاهب، يدّعي فيها كل مذهب أنه يمثل الدين الصحيح أو الإسلام الصحيح أو المسيحية الصحيحة.

وهنا نتساءل، أيضاً، كيف على حزب البعث أن يتمكن من بناء دولة قومية من دون أن يفصل الدين عن الدولة؟ هذا شعار عام، نحن بحاجة إلى ترجمته إلى نصوص وقوانين. وهنا علينا أن نُذكِّر مروان بها:

ماذا يريد أن يقول عفلق عندما يؤمن بالدين من دون أن يعني هذا أنه يريد أن يبني دولة دينية؟

إلى ماذا يريد أن يصل حزب البعث عندما يحدد القومية بأنها الرابطة الوحيدة بين أبناء الشعب العربي؟

إلى أين يريد حزب البعث أن يصل عندما ينادي بدستور يحفظ حرية المعتقد الديني لكل العرب؟

إلى أين يريد أن يصل حزب البعث عندما يساوي كل المواطنين العرب من دون تمييز بينهم على أساس المعتقد الديني،  وخاصة عندما يعطي للمسيحي العربي الحق بأن يتولى رئاسة الدولة؟

لن نستطرد أكثر، لأن هناك الكثير الذي علينا أن ننبشه من دستور الحزب ومقررات مؤتمراته القومية، والكثير مما ورد على لسان قادته وعلى رأسهم مؤسس الحزب. نقف عند هذه الأمثلة لنتساءل: وهل في هذه الدلائل القليلة ما لا يتضمن فصلاً للدين عن الدولة؟

قد نجد من يرد علينا بأن المقصود بالدين هو الجانب الروحي، وهنا نجيب بأنه ليس من المفترض أن يمثل الدين لوحده الجانب الروحي ويحتكره. أوَ لم يوجد من الفلاسفة من الذين أكدوا على أهمية الجانب الروحي في الإنسان من دون أن يستندوا إلى تعاليم دينية؟ ونضيف إلى كل هذا أن حزب البعث لم يحصر تمثيل الجانب الروحي في الإنسان بالدين. ولم يحصره بالإسلام وحده، لأنه بمجرد اعترافه بحرية الاعتقاد الديني فهو قد منع هذا الحصر منعاً مطلقاً. وهنا لا يُلزم حزب البعث أي من المنتسبين إليه بأن يكون مسلماً أو أن يكون مسيحياً أو أن يعتنق الفلسفة الروحية التي يريد. لقد برهن عفلق والحزب على سلبية الإلحاد وأكَّدا على إيجابية الإيمان الديني، ولكنهما لم يضعاه شرطاً للعضوية في حزب البعث.

ومن هنا نؤكد على ما قلناه سابقاً أن فكر عفلق، خاصة في هذا الجانب، هو ملهم وليس ملزماً. ولا يضير عفلق كما لا يضير حزب البعث أن يكون البعثي مسلماً أو مسيحياً أو أن يكون منتمياً إلى أي معتقد ديني آخر يطمئن  ويرتاح نفسياً إليه.

أما أنه لا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون الحقيقيون، كما قال عفلق، فهذا ليس حكماً نهائياً على الإطلاق، ولا يعبِّر عن حقيقة مطلقة. فهل ليس هناك ثوريون مسيحيون وبعثيون، أيضاً، لا يرون الإسلام كما يراه عفلق؟

نحن هنا نؤكد على مسألة مهمة، هي أن الإسلام عامل أساسي من عوامل تكوين القومية العربية، لكنه ليس جوهرها، كما أثبتنا ذلك في مواقع سابقة من هذا الرد. وإن كون الإسلام عامل  من تلك العوامل، على الرغم من أنه أساسي، وهو يشكل جزءًا مهماً من التراث، إلاَّ أنه من غير الممنوع على البعثيين وغيرهم أن ينقدوا الجوانب السلبية فيه. وهنا تُطرح علينا إشكالية الطريقة في النظر إلى التراث.

فمفهوم البعث للدين، عامة، وللإسلام خاصة، هو غير المفهوم السلفي له؛ ففي الإسلام  كتراث، في مفهوم البعث، محطات مضيئة يجب أن تُقرأ من جديد.

 

ولكن ماذا نعني بالتراث وكيف ننظر إليه؟

على كل مشكك في نوايا التيارات القومية تجاه الإسلام أن يخرج من شكوكه ويلغيها، لأن كل التيارات القومية لن تقف أي موقف عدائي من الإسلام لأنه يمثِّل تراثاً كبيراً ومؤثِّراً في بنيان القومية العربية. وكان هذا التأثير واضحاً، بشكل خاص، بعد أن تجاوزت الفتوحات الإسلامية حدود شبه الجزيرة العربية مسقط رأس الإسلام- إلى حدود جغرافية وفكرية واجتماعية جديدة كانت تنتسب إلى قوميات غير عربية، فتعرَّبت بفضل الإسلام الذي كان أحد الدوافع الرئيسة للشعوب العربية أن تعمل على اكتساب اللغة العربية.

لكن هل أصبح التراث، الذي أكسبنا إياه الإسلام، مُسلَّمات لا يمكن نقدها أو القفز من فوقها؟ وهل أصبحت كل جوانب التراث الإيجابي منها والسلبي- قانوناً مقدَّساً لا يمكن نقده وتطويره؟ وهل هناك من قاعدة تقول: إما أن نأخذ التراث كله أو أن نرفضه كله؟ فكيف نفهم التراث؟ وما هي جوانبه، ومظاهره؟

- هل نعدُّ مئات المذاهب الإسلامية، وما أفرزته من إنتاج فكري وفقهي غزير، بعضها مقبول وبعضها مرفوض، خارج التراث وخارج النقد؟

- هل نعدُّ محاربة الفقهاء المسلمين للفلاسفة والمتصوفين خارج التراث وخارج النقد أيضاً؟

- هل نعدُّ الظلم الاجتماعي، الذي مُورِس بحق الطبقات المسلمة الفقيرة والمسحوقة، بواسطة الخلفاء  والسلاطين المسلمين، خارج التراث، ومن غير الجائز أن ننقدها؟

-.. .. .. .. .. [راجع الصفحة 76 من الكتاب ]

 

7- يقول مروان: «إنني أتساءل: ما هي مصلحة الأمة في الإضاءة على الجوانب السلبية في هذه المرحلة. وهل الغوص بتفاصيل التكفير والتفكك بين المذاهب الإسلامية يوقف تدهور الأمة وحالة الاجتهاد والتفسير والتأويلات. وهل ستنتهي الصراعات المذهبية الحديثة؟ هل تتحمل هذه الفرق تأخر الأمة وتفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا؟«. ويستطرد مروان: «وأشير هنا إلى أن باب الاجتهاد والتفسير والتأويل والخلافات بين المراجع الدينية هي صحة طبيعية للتعددية وللتطور، وإن إقفال هذا الباب هو تجميد للتطور، وتجميد لنصوص القرآن الكريم«.

ونحن نتساءل: ما هي مصلحة الأمة، أيضاً، في الإضاءة على الجوانب السلبية، في هذه المرحلة، في البناء الرجعي والعشائري والبورجوازي. وما هي المصلحة من الإضاءة على الصراع الطبقي بين العمال والفلاحين والبورجوازية والإقطاعية؟ وما هي المصلحة في الإضاءة على السلبيات القطرية والقطريين؟ وما هي المصلحة في الإضاءة على المستغلين والمحتكرين؟ وما هي المصلحة في الإضاءة على الظلم والظالمين؟

فإذا كان دورنا أن نخبّئ رأسنا في الرمال خوفاً من أن تتفكك الصفوف في مرحلة التحرر الوطني والقومي إذا ما قمنا بممارسة النقد حول فكر المذاهب، يدفعنا إلى التساؤل: وهل المذاهب هي مُوحَّدة الصفوف وغير مصابة بالتفكك؟  وإذا لم نمارس النقد، فهل هناك من غاية تبرر عملنا السياسي والفكري والنضالي؟ وما هي الغاية من أننا رسمنا دورنا في قلب معركة التغيير، وخضنا النضالات ودفعنا الأثمان الباهظة؟ وإذا دعونا إلى التغيير، فهل هناك لائحة جاهزة وثابتة علينا أن نلتزم بمحتوياتها وعلينا أن لا نتجاوز حدودها؟

قد نسمع جواباً:  إن المسائل التي أثرتها لها علاقة بوضعنا الراهن، كمثل الرجعية، وعملاء الاستعمار، والقطريين التجزيئيين، والبورجوازيين المستغلين، والإقطاعية التي تستعبد الناس فنحن نراهم اليوم ونعاني منهم، ونرى أعمالهم وتأثيراتهم السلبية على مجتمعاتنا.

ومن قال إننا لا  نتفتت  ونتفسخ وتحترق أصابعنا ويزداد تخلفنا من الصراعات المذهبية؟ فهل انتهت الصراعات بين المذاهب في هذا العصر؟ وهل انتهت الاتهامات بالتكفير بين المذاهب الإسلامية؟ وعلى أي أساس تقوم تلك الصراعات والاتهامات بالتكفير، وهل هي بعيدة عن الاختلاف بالتفسيرات والتأويلات؟

إننا، من خلال استمرار تأثيرات المذهبية الدينية، لم نزل نعيش أتون التكفير والتكفير المضاد بين تلك المذاهب. إننا نعيش اليوم من خلال وجود تلك المذاهب وكأننا نعيش في اللحظة ذاتها التي رافقت وفاة الرسول. إننا نعيش الآن حرب الجمل وحرب صفين والصراع الأموي - العباسي، ونعيش، أيضاً، في صراع بين الشعوبية الحديثة التي يقودها إسلاميون من شتى المذاهب [فهل هذا يكفي أم نتابع؟ فإننا على استعداد إلى أن نستكمل كل السلسلة وسترى كم هي طويلة].

ليس من الواقعية أن ندرس ونثير ما أصبح في ذمة التاريخ وأصبح دوره منتهياً في هذه المرحلة. لكن الخلافات الدموية والفقهية والتفسيرات والتأويلات ما زالت تلعب دوراً مؤثراً في حياتنا المعاصرة، فنحن نعيشها اليوم كما عاشها المسلمون منذ مئات السنين. ولهذا السبب، فنحن حينما نعالجها اليوم، فكأننا نعالج مشكلة لها تأثير كبير في حياتنا المعاصرة. وإذا كان لا بُدَّ من أن نأتي بحجج حية، نقول: أليس من الإشكاليات المطروحة اليوم هو أننا أمام تيارات إسلامية من كل المذاهب تدعو إلى تأسيس  دولة إسلامية؟

من هم الداعون إلى تأسيس دولة إسلامية؟ وما هو فكرهم؟ وما هي مصادر القوانين التي عليهم أن يضعوها لتسيير أمورها؟

بما أن شعار الدولة الإسلامية قائم على قدم وساق، ويخوض الداعون إليها صراعات دموية حيناً، وصراعات فقهية تقوم على التكفير حيناً آخر. يتنازع فيها إسلاميون من كل المذاهب ضد بعضهم البعض. ويقودها جميع هؤلاء ضد الداعين إلى بناء أنظمة علمانية وضعية. فإذا كانوا هم بالذات ناشطين في دعوتهم، ونحن من الذين يرون استحالة أن تحقق الدولة الإسلامية حقوق كل مواطنيها بعدل ومساواة، هل علينا أن لا نثير ما يؤكد استحالة قيام حلمهم؟  وهل هناك طريق آخر غير طريق نقد فكرهم كإحدى الوسائل للبرهان على استحالة تطبيقه ؟

إنني أتمنى على مروان أو على غيره ممن يرون خطأً في إثارتنا لأسباب تلك الصراعات أن يقنعوا أصحاب تلك التيارات من الترويج لأفكارهم، التي ليست قائمة إلاَّ على التحريض والتعبئة والتكفير، فإننا ساعتئذٍ نرى أن صوتنا هو الصوت الشاذ في هذه المرحلة لأننا نكون كمن ينبش الفتنة من أوكارها. وما دامت الفتنة مشتعلة، بشكل أو بآخر، فمن الخطأ أن لا نقول إن هذه فتنة تحدث التمزيق والتفتت في جسد أمتنا، ومن الخطأ، أيضاً، أن لا نحدد أسبابها القائمة على الخلاف في تفسيرات النص الإسلامي وتأويلاتهم.

وهل يخرج عن هذا الإطار في الصراع المذهبي كل من الوهابيين والدعاة الباكستانيين والإخوان المسلمون وحزب التحرير الإسلامي والأحباش وتيار ابن لاذن وهل يمكن أن ننسى التيارات الإيرانية التي تقول بولاية الفقيه، والتي يعمل حزب الله في لبنان على هديها وهل هم لا يكفِّرون بعضهم بعضاً. وهل كانت دعواتهم نائمة ولم يكن ينقصهم إلاَّ أن يقوم البعض من أمثالي ليتوجهوا بالنقد إليهم حتى تستفيق بهم غرائز المذهبية؟

 ومن المستغرَب أن يقول مروان: (وهل ستنتهي الصراعات المذهبية الحديثة؟ هل تتحمل هذه الفرق تأخر الأمة وتفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا؟).

وإننا نتساءل بدورنا: وهل يشك مروان بأن الفرق والمذاهب هي التي تتحمل وحدها وزر تفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية؟  قد يرد البعض هذا التفكك إلى عوامل سياسية. ولكن تلك العوامل كانت تجد من يحميها من الفرق الإسلامية ومن يسوِّغ شرعيتها استناداً إلى نصوص إسلامية مأخوذة من الكتاب والسنة.

إننا لن نستطيع إلغاء المذاهب الإسلامية، وعبثاً حاول البعض أن يدعو إلى إسلام بلا مذاهب وكان الفشل نصيبه. لكن إذا عجزنا عن إلغاء المذاهب، وسوف نعجز حتماً، أرى من جانبي أن استحالة إلغائها لا يبرِّر لنا أن نمتنع عن نقد أسسها الفكرية السلبية، خاصة منها تلك القائمة على تكفير المذاهب الأخرى، التكفير القائم على أنها تخالف أوامر الله. وإنني أحسب أنها إذا ألغت مبدأ التكفير فإنها ستتحول، ساعتئذٍ، إلى دائرة التعددية الصحية.

كانت  استنتاجاتنا في كتاب الردة متواضعة جداً في طموحاتها، وهي ما أشرنا إليه في نتائج  البحث، وتنص على ما يلي: إن «التعددية المزعومة في المذاهب هي مجرد سراب ما دام سيف الردة مسلط على كل كبيرة أو صغيرة. ولكي تصبح تعددية موضوعية، فلا بد أمامها إلاَّ أن تسلك طريق الحوار، أي الاعتراف بالآخر، والاعتراف بحريته في الاختيار بعيداً عن تكفيره بحجة البعد عن النص. وإذا كنا نرفض المذهبية، كواقع للتفتيت، فإننا نرحّب بالتعددية كطريق للإغناء وليس للإلغاء«. [راجع الصفحة الرقم 476 من كتاب الردة في الإسلام ].

 

8- يتابع مروان قائلاً: «لماذا لا نضيء على إيجابيات الدولة العربية: عن العلم والعمران والدولة المترامية الأطراف من علم المأمون وعدل هارون الرشيد والرسالة الإنسانية الحضارية وعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والطب، حيث كانت هذه الفرق المذهبية أعلى مراحل الصراع والتقاتل».

وهل لا تكفينا يا عزيزي كل خطابات السياسة والمقالات الإيديولوجية، وكتب التاريخ التي تربينا عليها ونحن على مقاعد الدراسة الابتدائية، والتي لم نعرف، من خلالها، أن في تاريخنا محطة سوداء واحدة؟

وهل لا تكفينا مئات ألوف الكتب التي أشارت بأكثر مما هو لازم إلى الدور العربي والإسلامي الباهر في رفد الحضارة الإنسانية في شتى حقول المعرفة التي كانت سائدة في تلك العصور؟

أنا فخور بما حققته أمتي في بعض مراحلها التاريخية من الإنجازات الحضارية والفكرية. ومن التكرار الممل أن أرددها لأننا حفظناها عن ظهر قلب. ولكن في عصرنا الراهن وجدنا أن امتنا التي رفدت الحضارة الإنسانية بسيل واسع من المعارف، أصبحت أمة تعاني من التخلف والجهل والأمية. ولأنها مصابة اليوم بالتخلف فهناك أسباب كامنة وراءه، فهل  من الخطأ أن نعمل في سبيل تحديد الأسباب؟ ولأن الأمة مصابة بالتخلف، فهي إذاً مصابة بعدد من الأمراض، فهل من الخطأ أن نقوم بتشيخصها لمعرفتها؟ وهل يتم هذا التشخيص إلاَّ من خلال النقد الموضوعي والهادف؟

إذا ذهبت إلى الطبيب عندما أشعر بعلة ما قد أصابتني، فإنني سأطلب منه أن يشخِّص مصدر علتي. أما إذا طلبت منه أن يدلني على الأجزاء غير المصابة في جسدي، فإنني كمن يذهب إلى الطبيب لا لكي يعالجه، بل لكي يهنئه على أنه ما زال فيه أعضاء غير عليلة.

إن مهمة الثوري هي كمهمة الطبيب الذي عليه أن يعرف أسباب المرض لكي يستطيع أن يصف له الدواء الذي يساعده على العلاج. وإذا أخفى الثوري عيوب أمته وعللها فهو ليس ثورياً بل مساعداً على استفحال المرض في جسد أمته. وأنا، بدوري، وشعوراً مني بأنني يجب أن أكون الثوري الذي عليه أن يعرف أمراض أمته كخطوة على طريق الإسهام في علاجها اخترت طريق النقد الموضوعي، وهو أن أعمل على تأسيس مختبر علمي كفيل بأن يحدد كل الجراثيم التي تنخر في جسد أمته من دون أن يخاف من أن تكون الجراثيم معششة هنا أو هناك. ولهذا السبب، ولأن المطلوب مني أن أسهم في العلاج، وأن أدفع ثمناً له، عليَّ، لكي أقصر فترة العلاج، أن أحدد مصدر العلة التي أصابت جسد الأمة العربية. ومن الخطأ في مثل موقعنا أن نحاول التخفيف من وطأة المرض تحت حجة أننا يجب أن نتغنى بالأعضاء السليمة فيها تحت ذريعة أن نقد المذهبية لا يحمل فائدة، بل يعزز الشرخ بين المذاهب.

لقد تغنينا كثيراً بماضي أمتنا المجيد، وحفظنا أشعاراً ونصوص مقالات وكل عبارات الاستنهاض والبطولة والإباء والدفاع عن الكرامة، وحرقنا الكثير الكثير من أعلام الأعداء ودسناها بأقدامنا، وتوجهنا بالكثير من اللعنات على الاستعمار وغيره ممن يساعدونه، ولكننا كنا نخشى أن نتعرَّف على أمراضنا الذاتية التي كانت أشد وطأة من الاستعمار وأذنابه في إحداث التخلف الذي نعاني منه.

وعلى العموم، إسمح لي بأن أوضح مسألة تفصيلية جاءت في ردّك، وهي تدور حول التغني بعلم المأمون وعدل هارون الرشيد وتتابع لتقول بأن السبب الأساسي الذي أسهم في إضعاف الدولة العربية كانت المرحلة التي دخل فيها الفرس والأتراك على مفاصل الدولة لكن يا عزيزي أتدري أن هارون الرشيد العادل هو أحد الذين أسهموا في تمكين الفرس من دخول حرم الدولة العربية واستولوا عليها فيما بعد؟ أوَ تدري يا عزيزي أن الأتراك الذين تحملهم مسؤولية التخلف الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية، وأنا معك في حكمك، أن الذي فتح لهم أبواب الدولة هو الصراع الذي كان يتحكم بالخلفاء العرب المسلمين؟

لقد ألقيت التهمة على الفرس وأصدرت صك البراءة بحق هارون الرشيد، الذي لم يكن عادلاً بالفعل، وأعفيت أترابه من المسؤولية بدون أي مسوغ قانوني.

إن دخول الفرس والأتراك إلى مفاصل الدولة العربية ليس  هو السبب الوحيد الذي أضعف الدولة العربية، بل لأن الدولة العربية أصبحت ضعيفة كانت سبباً لتسلل الفرس والأتراك إلى داخلها والسيطرة عليها. وهنا أليس من حقنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل الدولة العربية ضعيفة؟

ثم ألا يقول المسلمون بأن الإسلام عالمي، وهو رسالة الله للناس جميعاً؟ وهل في هذا الاعتقاد ما يؤكد حق الفرس، وغيرهم من الشعوب التي انتمت إلى الإسلام، بالحكم؟ فهم حكموا الدولة الإسلامية لمراحل متفاوتة، وكان حكمهم مبني على الشرائع الإسلامية أيضاً، فهل في حكمهم  ما يتناقض مع تعاليم الإسلام؟ وتالياً، فهل لا يتساوى العربي بالفارسي والتركي من وجهة النظر الإسلامية؟

لقد كان الغطاء الشرعي لاستقرار غير العرب  في الحكم غطاءً إسلامياً، فهل من غير حقنا أن نتساءل من أين جاء هذا الغطاء، وعن مصدر النصوص التي استند إليها الفقهاء لإضفاء الصفة الشرعية على أن يحكم الدولة الإسلامية غير عربي؟ ولهذه الوقائع نقول: كما كان الإسلام يشكل أهم الدوافع لبناء الدولة العربية الإسلامية المترامية الأطراف، كان، أيضاً، يشكل أهم الأغطية الشرعية لأن يحكمها غير العرب.

وهل تعلم أن سبب التخلف الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية بعد أن عرفت عصرها الحضاري الذهبي، كان مرده إلى عاملين إثنين، وليس إلى عامل واحد -كما تحسب أنت- وهما: سقوط الدولة العربية في أيدي غير العرب أولاً، وانتصار تيار النقل الإسلامي على تيار العقل ثانياً، والذي شهد آخر فصوله بعد محاكمة الفيلسوف العربي ابن رشد. وهو الذي استندت إلى أعماله وإنتاجاته الفكرية حركة الفلسفة الأوروبية؟ وهنا علينا أن لا ننسى أن أكثر مصادر الفكر إغناء للحضارة الأوروبية كانت تلك الاتجاهات الفكرية التي وقف ضدها فقهاء النص الإسلامي، وهي  التي أصدر الفقهاء أحكام التكفير بحق أصحابها.

فهل يحق لي أن أتغنى بعدالة هذا أو علم ذاك، ولا يحق لي أن أمارس النقد بحقهم إذا أخطأوا؟

لكن، حتى في ظلال الدولة العربية في عصرها الذهبي، نتساءل: هل كانت العدالة والمساواة سائدتين؟ هل زال الفقر والتخلف والاستغلال والأمية؟ هل كانت نسبة الأمية متدنية بين صفوف المسلمين العرب؟ وهل ذابت القبلية والعشائرية والمذهبية في تلك العصور الذهبية؟

إن قراءة سريعة لكتابي «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام«، تُظهر كم كانت الثورات: القبلية والطبقية والمذهبية مستفحلة في أرجاء الدولة العربية. أوَ هل من المشروع والواقعية أن أتغنى بالأمجاد وأغض الطرف عن الآفات التي كانت مستفحلة في تلك العهود؟ وإذا كانت الآفات لا تلغي الانتصارات والحضارة، فإن على الوجه المشرق أن لا يطمس أبداً الوجه المظلم تحت أية ذريعة كانت.

أما بالنسبة إلى المذهبية، فحدِّث عن آفاتها بلا حرج، وهنا أرجو قراءة كتاب «الردة في الإسلام«، لترى كم كانت المذهبية تلعب دوراً مؤلماً في أثناء العصر الذهبي للدولة العربية. أنسيت من هو الذي كان يكتب التاريخ؟

إنه انطلاقاً من هذه النقطة والتي علينا أن نتفق فيها حول من كان يكتب التاريخ، أن نتفق، أيضاً، حول كيف نقرأ التاريخ [وهنا أرجو قراءة رأيي الموجود في مكان آخر من هذا الرد].

 

9- وتقول في نهاية مداخلتك: «فتسييس الدين ودخول الشعوبية إلى الدولة العربية كانت المحطات المظلمة من تاريخ أمتنا العربية وانهيارها«.

ولماذا نهرب دائماً إلى التعميم الغامض ياصديقي؟ أنت تبرّئ الدين والمذاهب، وتضع كل الجرائم برقبة «تسييس الدين«. ومتى لم يتم تسييس الدين؟ وهل الذي سيَّسه هو من أعدائه؟ وهل الدين هو غير السياسة؟ وهل الدين هو غير الاقتصاد والاجتماع؟

فإذا استثنينا الجانب الروحي - الغيبي، والروحي - الأخلاقي، في الدين بشكل عام، لوجدنا أن السياسة كانت، دائماً، تلعب الدور الأول والأخير في شتى العصور الإسلامية، بدءًا من مرحلة النبوَّة.

أوَ لم يختلف مضمون الآيات المكية عن الآيات المدنية؟ ففي لهجة الآيات المكية ما يدعو إلى الحوار وعدم الإكراه والجدال بالتي هي أحسن أما في الآيات المدنية ففيها ما يدعو إلى القتال والجهاد والغزو وإجبار المشركين على اعتناق الإسلام بحد السيف، وكانت أسس الدعوة تقوم على ما يلي: إما الإسلام وإما السيف، (والخير كل الخير بالسيف)، بعد أن كانت تقوم على ما يلي: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34).

في بداية الدعوة الإسلامية، وبعد هجرة الرسول إلى المدينة،  وقبلها بقليل، عقد الرسول مع المشركين العديد من المعاهدات السياسية السلمية، [ويمكنك العودة إلى التاريخ الإسلامي لكي تتابعها وتفقه مضمونها] وبعد أن اشتدَّ عود الدعوة وأصبحت مرهوبة الجانب، تغيَّرت استراتيجية الرسول السياسية مع مشركي مكة، ومع أصحاب الكتاب

قد يقول قائل بأن هذا التحول، الذي أصابته استراتيجية الرسول، كان بأوامر إلهية، وبوحي من الله تعالى، لكن هل يعني ذلك أنها لم تكن سياسة ذكية وحكيمة وواقعية؟ وهل تنفي عنها صفتها الإلهية أن تكون ذات أبعاد وأهداف سياسية مرحلية؟

وإذا عدنا إلى المرحلة التي أعقبت وفاة الرسول مباشرة: اختيار أبي بكر الصديق -بعد خلاف بين المهاجرين والأنصار- كأول خليفة للمسلمين، ثم عمر بن الخطاب، ومن بعده عثمان بن عفان، انتهاء بعلي بن أبي طالب، كآخر خليفة راشدي، وانتقال الخلافة إلى الأمويين فالعباسيين، هل كانت كل تلك التطورات ذات مضامين دينية أم أنها كانت ذات أهداف سياسية؟

هل كانت أسباب مقتل عثمان بن عفان سياسية أم دينية؟ وأسباب بيعة علي بن أبي طالب، هل كانت ذات أغراض سياسية أم دينية؟ ثم الحوادث الدامية - الفتن، في خلال مواجهته لخصومه في حرب الجمل، ومواجهة معاوية بن أبي سفيان في حرب صفين، واقتتاله مع الخوارج، هل كانت بعيدة عن السياسة أم كانت تصب في قلب الأغراض السياسية؟

لقد كان الإسلام ذا أهداف سياسية منذ بداية الدعوة حتى نهايتها.

إن استطرادي، من خلال الشواهد التاريخية، لا تخرج عن إطار النصيحة لكي تبتعد ثقافتنا عن استخدام الأحكام العامة الغائمة التي لا تقوم على إسنادات واقعية ومنطقية

لا يعني هذا أنني أرفض أن يكون للدين دور في السياسة، لأن الدين، في أكثر جوانبه، يستند إلى السياسة؛ كما يستند، في جوانبه القليلة الأخرى، إلى الأخلاق وأحكام العلاقات الاجتماعية بين الناس، وأحكام العلاقات الغيبية بين الله والبشر. وتأتي، هنا، أحكام الأخلاق الاجتماعية وأحكام العلاقات الغيبية لكي تكون عنصر إقناع للناس باختيار هذا الدين أو ذاك، الذي يعمل من أجل هدف أساسي في هذه الحياة الدنيا، وهو بناء دولة دينية - سياسية. لأنها -بنظر المتدينين- هي الدولة التي تسوس أمور الناس في الدنيا على قواعد العدالة والمساواة السياسية والاجتماعية والمعيشية وهل هدف بناء دولة دينية هو زهد في السياسة، أو لا علاقة له بالسياسة، وإنما هو لوجه الله تعالى فقط؟

ما هي مشكلتنا مع الدين؟

نؤكد أن للدين جوانب سياسية وأخلاقية، فنحن نعمل -سواء كنا منتسبين لهذا الدين أو ذاك- في سبيل بناء أخلاق اجتماعية تبني علاقات البشر على أسس متينة من التعاون والتعاضد. أما موقفنا من الجانب السياسي في أية دعوة دينية فقائم على أن التعاليم الدينية تعطي للنخبة من البشر، المنتسبين لهذا الدين أو ذاك، الحق في استلام مقاليد السلطات السياسية تحت حجة أنها أوامر إلهية، فتعطي النخبة لنفسها -بصيغة تعاليم الله- حق حكم الناس باسم الله، فتصبح النخبة حاكمة للبشر تحت ظل مبادئ كمثل (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم)، وبهذا تتساوى -على الرغم من أن المبادئ هي إلهية- سلطات الله مع سلطات الرسول مع سلطات أولي الأمر، وتصبح المعادلة المنطقية أن من يعصى أوامر أولي الأمر كأنه يعصى أوامر الله.

هنا، واستطراداً، أرجو أن تعود إلى كتاب (الردة في الإسلام) لترى أن الدعوة الإسلامية لم تكن لتنفصل عن السياسة على الإطلاق، وتتأكد من هذه الحقيقة بالواقعة التاريخية والنص الإسلامي العام والنص المذهبي الخاص. لقد أخذت على كتاب الردة أنه ينبش مثالب المسلمين ومذاهبهم عبر التاريخ، وأنه ينبش ويسجل تاريخ الفتن والصراعات، ولم تقف عند الهدف الأساسي من وضع هذا الكتاب. فهدفه الأساسي كان أن يبرهن على أن الدعوة الإسلامية كانت ذات أغراض سياسية، وكانت الفرق والمذاهب تستند إلى أغراض سياسية أيضاً. وهذا ليس محل استنكار من جانبي بل  هي أغراض واقعية، لأن تصارع التيارات حول استلام السلطة السياسية، ومنها التيارات الدينية، هو أمر طبيعي لأن كل تيار يريد أن يحكم ليبرهن أن اتجاهاته الفكرية وأهدافه، الدينية أو السياسية، هي الأفضل والأصلح لمصالح البشر. لكن ما أثار انتقادي، طوال فصول البحث، هو أن كل فرقة أو كل مذهب كان يضفي على أسسه الفكرية الصفات والأوامر الإلهية، وإنني أردت أن أنفي صفة الألوهية عن تلك الادعاءات وأبرهن على أنها صفات سياسية بشرية. ولم أخرج في بحثي عن أهداف البرهنة على أن المذاهب والأديان أيضاً لم تُعط حق الحكم باسم الله.

وهنا أنهي هذا التوضيح بإعادة التأكيد على أن مصطلحك «تسييس الدين« الذي حمَّلته وزر المحطات المظلمة في التاريخ العربي - الإسلامي، ليس مصطلحاً دقيقاً لأن السياسة هي من أهم أهداف الدين وغاياته، ولكي يثبت العكس فعلى التيارات الدينية أن تمتنع عن الدعوة إلى قيام دولة دينية تحكم فيه النخبة رقاب البشر باسم الشرائع الإلهية. وإذا استطعت أن تثبت أن تلك التيارات، مستندة إلى النص الديني، لا تعمل في سبيل هذه الغاية فإنني، منذ تلك اللحظة- سوف  أحمَّل وزر ما حصل في التاريخ الإسلامي للسياسة وليس للتعاليم الدينية.

 

مداخلات شفهيـة، جاء في مضمونها:

م. ي: نحن بحاجة إلى تشريح تاريخنا، لقد أبدعت الأمة العربية بالحضارة. لكن     المشروع البعثي لم يكن متكاملاً، ونحن بالفعل رومانسيون. لقد شكَّل الإسلام القاعدة الثقافية للعرب، ولكن هل من غير الجائز أن تتغيّر هذه القاعدة؟ وإذا قمنا بالاستمرار في المنهج النقدي نستطيع أن نطوِّر فكرنا. وهناك بعض الملاحظات ذات العلاقة بتعميق وتطوير فكرنا حول فهمنا للإسلام  فالمطلوب هو توحيد مواقفنا المختلفة حوله. ويغيب عندنا الوضوح في العلاقة بين العروبة والإسلام. فأين هو موقع الفكر البعثي من الإسلام؟ هل هو فهم سياسي، أم ديني؟ هل نحن مع الإسلام كاملاً لكن بدون الالتزام بالنص الإسلامي؟

م. ق: اكتسبنا عادة التقليد للأفراد، ومن الواجب أن يكون لدينا مؤسسة تُعنى بالفكر والثقافة.

-من غير الواضح موقفنا من المقدَّس، فهل يجوز لنا أن ننقده؟ أم هناك حواجز تمنعنا من الاقتراب منه؟ لأننا نرى أن هناك إغراقاً في الإلحاد وإغراقاً في الإيمان.

-لم يُكتَب عن مرحلة ما قبل الإسلام، وهي ما يُطلق عليها تعسفاً المرحلة الجاهلية.

-لم يأخذ الحزب خطاً ثابتاً بالنسبة للإسلام، مثلاً: أي إسلام نريد؟ هل هو استحضار للروح، للعقائد؟ للتاريخ؟ وأي تاريخ نريد؟ فنحن لم نجد في كتاب الردة أية محطة مضيئة.

 

م. ب: هل استندت إلى القرآن الكريم، خاصة وأن فيه آيات تقارب ما بين العروبة والإسلام؟ وفيه، أيضاً، آيات تفيد كل عصر؟

-ما هو الحد الفاصل بين العروبة والإسلام؟ وعلينا، كبعثيين، أن لا نفرِّق بين مشروع قومي ومشروع إسلامي. لأنه لو لم يكن الإسلام لم يكن ليُوجَد البعث.

-هل المادة التي تكتبها، كباحث، للبعثيين بشكل خاص؟ أم هي موجَّهة، عموماً، للأمة العربية؟ وهل تصلح الكتابات النقدية لتثقيف الجهاز الحزبي؟

- هل تغلَّب عندنا الجانب الروحي على الجانب المادي؟

- نرى من المناسب أن يُكتَب تاريخ الحزب في لبنان.

م. ح: علينا أن نأخذ بعين الاعتبار دعوة ميشيل عفلق لمواجهة الإخوان المسلمين. وهل هناك شك بإسلامه؟ يعني هل هناك وصية له بالفعل؟

- نظرية البعث ليست نهائية لأن النظرية تتطور مع الزمن.

-قوميتنا واضحة: إنسانية، تأخذ من معاني الإسلام اللاسياسي.

 

أ.ط: العناوين كثيرة، أما الأساسي منها، فهو:

-فكر البعث ليس جامداً، ونحن غير مضطرين للتوقف عند المعاني الرومانسية.

-نحن نسعى إلى الكمال، نحو أفضل تجربة إنسانية، والبعث جزء من هذه التجارب. وتجربتنا الآن شبيهة ببداية تجربة الدعوة الإسلامية. لقد جاء الإسلام ليعزِّز القيم الصحيحة، ودورنا الآن أن نعزِّز قيم الإسلام ونرفض الشوائب. كمثل إلغاء الرق في الإسلام

-على مستوى الفكر علينا أن نبتعد ضد الإغراق في التقليد أو الإغراق في استيراد الفكر. أن نناضل ضد المادية ومع تعزيز دور الروح، أي أن المطلوب هو إعادة التوازن. فكيف نتعاطى مع دور الروح؟ وكيف نوازن بين الروح البعيد عن الجمود الديني والمادية؟

-ليس المطلوب منا أن نغوص في خلافات المذاهب، وإن مهمة الوحي، عبر الديانات، جاءت لتنقل العقل البشري بين مرحلة ومرحلة، ونحن لسنا ملزمين أن نأخذ بها في هذا الزمن.

-الرومانسية والسياسة ليستا حالة واحدة فلكل منهما حقله.

-الإنسان بحاجة إلى قوة أكبر من المادة لتحقق له التوازن في حياته.

 

؟. ش: كان اختيار الموضوعات الإسلامية والقومية ذا أهمية في هذه المرحلة. لذا يجب البحث عن عوامل التوحد بين العروبة والإسلام لنصل إلى مقاربة صحيحة بينهما على قاعدة (العروبة روحها الإسلام).

-هل البحث يهدف إلى الربط الموضوعي بين العروبة والإسلام، أم هدفه اكتشاف عوامل التنافر بينهما؟

 

إ. أ: الحالة الثقافية من أهم الأسس التي علينا أن نُعنى بها، لأنها تعطي للوحدة الحزبية حقيقتها. لقد ترك الأستاذ شعارات عامة في القومية والإسلام. والحضارة الإسلامية توَّجت الحضارات التي سبقتها. ولذلك نجد أن الجانب الروحي متأصل في مجتمعاتنا، فالإيمان عندنا يعطي حرارة أكثر للنضال.

-إن اعتبار الإسلام أباً للعروبة هو خطأ لأن الإسلام جاء بعد العروبة. ووجود الرسالات على أرضنا يحمل الجذور الأساسية للحضارات.

***

ردود حول أسئلـة / مواضيع متفرقـة

     · من غير الواضح موقفنا من المقدَّس، فهل يجوز لنا أن ننقده؟ أم هناك حواجز تمنعنا من الاقتراب منه؟ لأننا نرى أن هناك إغراقاً في الإلحاد وإغراقاً في الإيمان.

إن المقدس مسألة نسبية، وليس له مفهوم فكري ديني متَّفقاً عليه. فالمقدس عند المسلم هو غيره عند المسيحي، والمقدس عند أهل الأديان السماوية هو غيره عند الأديان الوثنية. والمقدس عند مذهب إسلامي هو غيره عند مذهب إسلامي آخر فالمقدس الذي يزرع الرهبة أو الخوف عند فرد أو جماعة أو مجتمع لا يزرعها عند فرد آخر أو جماعة أخرى أو مجتمع آخر. لذلك، ما لم يكن المقدس يمثل حقيقة واحدة عند شتى الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات فهو نسبي ولا يكتسب صفة القيمة العليا الإنسانية المطلقة، كمثل قيم العدالة والحرية والمساواة

وإذا كنا نقصد، هنا، بالمقدس تلك القضايا والمسائل التي لها علاقة بالدين -سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية- علينا أن نعي بأن ما هو مقدَّس عند المسلم ليس بالضرورة أن يكون مقدساً عند المسيحي أو اليهودي، والعكس بالعكس. من جراء هذا التعريف لا بُدَّ من أن نجد المسلم ينقد المقدَّس عند المسيحي بدون خوف، وهكذا يفعل المسيحي لكن ما لا يجرؤ كل منهما على نقده من المقدس هو ما يعتقد بأنه مقدساً في التعاليم الدينية التي يؤمن بها.

فنقد المقدس، إذاً، ميسور للآخر وليس ميسوراً للذات. وإذا كنا نريد أن نحصر المقدس في دائرة الدين الواحد فسنجد أن تعريف المقدَّسات تختلف من مذهب إلى آخر، فنقد مذهب ما لمقدسات المذهب الآخر ميسورة، ويمارسها المتمذهبون بكل حرية، ومن دون خوف.

لكننا على الرغم من كل هذا، يتابع المحافظون على مقدساتهم النسبية خطى تخويف أتباعهم من نقد مقدَّساتهم الخاصة خوفاً من أن يتعرضوا إلى عقوبات إلهية في الوقت الذي يمارس فيه الآخرون انتقاداتهم لتلك المقدسات من دون أن تلحق بهم تلك العقوبات.

ولأن المقدس نسبي، ولأنه يتعرَّض إلى النقد من الآخر، على أولي الأمر من أصحاب الأديان والمذاهب أن يُخرجوا رؤوسهم من الرمال لكي يعترفوا بالحقيقة الواقعية، فالنقد الذي يخوِّفون أتباعهم من ممارسته، نرى الآخر يمارسه بالنيابة عنهم. وهذا ما يدفع بنا إلى دعوة الخائفين من النقد أن يفتحوا أبواب الحرية أمام أتباعهم لينقدوا ما يشاءون، وعليهم -أي أولي الأمر- أن يردوا ويوضحوا ويبرهنوا دفاعاً عن مقدَّساتهم لكي يكون الاعتقاد بالمقدس قائماً على قناعة تامة من قبل أتباعهم لا أن يمارسوا عليهم أساليب الترهيب والترغيب، لأن القناعة بالمقدس إذا لم تكن قناعة عقلية وذاتية، ستكون حصونها هشَّة وفاقدة للمناعة.

أما حول الرهبة من نقد المقدس فتعود إلى عوامل نفسية وتربوية متأصِّلة، وهنا سنتخذ شهادة حول دور تلك العوامل من تجربة خاضها أحد الباحثين. ولنرى نتائج ومضمون تجربته.

لقد بذل الباحث المذكور جهداً لكي يكتسب الجرأة الكافية التي تؤهله للخروج عن التقليد في تفسير الأفكار والوقائع التي لها علاقة بالحضارة العربية الإسلامية. وهنا يقول إن ثقته قد تبدَّدت في وجود تفسير مجرد لها، وتبيَّن له أن كل معالم الثقافة العربية الإسلامية (السُنَّة والفقه وعلم الكلام) لم تكن معطى «إلهياً«، بل تضافر العديد من العوامل المعرفية «وإن الضمير الديني الجمعي هو الذي أضفى عليها، فيما بعد، هالة من القداسة والإطلاق«. وكان مما ساعده على الخروج من معاناته هو اطلاعه المتواصل على ما تمور به الساحة الثقافية العربية من مراجعات نقدية للتاريخ الإسلامي والمشاكل المتعلقة به([7]).

  1. لم نجد في كتاب «الردة في الإسلام» أية محطة مضيئة.

لقد أوضحت في مقدمات بعض أبحاثي أنني اخترت طريق نقد مساوئنا، وليس تبيان محاسن حضارتنا، لأن المحاسن قد عملت على تبيانها عشرات الآلاف من الأبحات، بينما القلائل هم الذين تجرَّأوا على نقد المساوئ. أما أنا فاخترت طريق النقد، على أن هذا لا يعني إلغاءً لإيماني الشديد واعتزازي بفضل حضارتنا على الإنسانية. وإن من قرأ أبحاثي سيجد ما أشرت إليه من إيجابيات قدَّمتها تلك الحضارة. واختياري طريق النقد هو لقناعتي التامة أنه لا يمكن أن نسهم في تطوير حضارتنا والتغيير في بُنى مجتمعاتنا الفكرية إلاَّ بممارسة النقد الجمعي الذاتي.

  1. هل المادة التي تكتبها، كباحث، للبعثيين بشكل خاص؟ أم هي موجَّهة، عموماً، للأمة العربية؟ وهل تصلح الكتابات النقدية لتثقيف الجهاز الحزبي؟

ولماذا نخشى أن نثقِّف البعثيين بكتابات نقدية؟ إن القاعدة أن نؤهِّل كل ملتزم بقضايا أمته بثقافة نقدية تستند إلى عقل ناقد، أليست الحركة الحزبية هي الدعوة إلى الانقلاب على الواقع؟ وكيف تنقلب على الواقع، ولماذا؟ وهل تنقلب إلاَّ على الواقع الفاسد؟ وكيف تعرف أن الواقع فاسد إذا لم تنقده؟

إن الواقع الفاسد هو عبارة عن نهج فكري واجتماعي وسياسي واقتصاد لا يلبِّي حاجة المجتمع في التقدم. فعليك، إذاً، أن تبيَّن طبيعة الفساد. وهل تستطيع أن تبيِّن طبيعة الفساد من دون نقدها؟

من هنا، لن يكون المستغرَب أن تثقِّف الحزبيين بالدراسات النقدية، لكن المستغرَب أن لا تثقفهم بتلك الدراسات. فدراساتي وأبحاثي النقدية هي مُوجَّهة لكل العرب بشكل عام، وإلى الملتزمين من البعثيين وغيرهم بشكل خاص. وإذا كان من أصول نشر الثقافة أن لا تُلزِم العربي بقراءة ثقافة نقدية، فمن باب الإلزام أن يكون الملتزم ذا حسٍّ نقدي وعقل ناقد وثقافة مبنيّة على النقد.

  1. هل استندت إلى القرآن الكريم، خاصة وأن فيه آيات تقارب ما بين العروبة والإسلام؟ وفيه، أيضاً، آيات تفيد كل عصر؟
    أرجو السائل أن يعود إلى قراءة بحثي المنشور تحت عنوان: في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام. ففي الفصل الأول أعطيت الجانب الذي يشير إليه السائل كل اهتمام.

  1. علينا، كبعثيين، أن لا نفرِّق بين مشروع قومي ومشروع إسلامي. لأنه لو لم يكن الإسلام لم يكن ليُوجَد البعث.

أما أنه علينا أن لا نفرِّق بين مشروع قومي ومشروع إسلامي -كما يعتقد السائل- فهو يبعدنا أشواطاً كبيرة عن الحقيقة، لأن المشروعين -القومي والإسلامي- يتنافران بعدد من الجوانب. وإنني، منعاً للتكرار، أرجو العودة إلى ما حاولت أن أقوم بتوضيحه حول جوانب التنافر في مضامين هذا الرد.

وإنني أستغرب القول: «لو لم يكن الإسلام لم يكن ليُوجَد البعث». فإذا كانت هذه هي الحقيقة، فإنني أجيب بتساؤل آخر: إذا كان ذلك كذلك، فما هو المبرر لتأسيس حزب البعث؟

فإذا كان المشروع الإسلامي يمثِّل الحقيقة التي نفتِّش عنها فلا نرى مبرراً لتأسيس حزب له مشروع سياسي قد جاءت بمثله التجارب السياسية والفكرية السابقة عليه. ويكون الانتساب إليه هو عبث فكري وسياسي. ويكون ممن ينسب الحقيقة إلى نفسه في الوقت الذي يكون على المؤسس وعلى المنتسب عبء الادعاء بأنه أتى بمشروع فكري وسياسي جديد، بينما يكون آخرون قد سبقوه إليه.

  1. ليس المطلوب منا أن نغوص في خلافات المذاهب.
    هناك فرق بين أن نكون مذهبيين وبين أن لا نغوص في خلافات المذاهب. لأننا نرفض المذهبية فنحن لسنا مذهبيين. لكن وبما أن الثقافات الدينية السائدة مغرقة في تثقيف منتسبيها بالفكر الديني المذهبي، نحسب أنه من أولويات مهماتنا أن نغوص في أبحاث نقدية للفكر المذهبي، وإلا كيف نستطيع أن نبرِّر رفضنا للمذهبية؟
    ففي نقدنا للمذاهب تبيان لمساوئ المذهبية، وفي تبيان مساوئها نكون قد برَّرنا أسباب رفضنا لها. ولن يقف الأمر عند هذه الحدود، ففي نقدنا الواعي والموضوعي للمذهبية هدف آخر يتناول توعية المذهبيين بأخطار المذهبية. لأنه من أهم واجباتنا أن نبرهن للمشبعين بثقافة تعمل على التفتيت  على مخاطر التفتيت المذهبي، خاصة إذا استطعنا أن ننفي صفة القداسة عن الفكر المذهبي، لأنه تحت الادعاء بإعطاء صفة القداسة للتعاليم المذهبية يمارس الحاقنون بنارها وسائل الترهيب والترغيب عند البسطاء من الناس.

***



([1]) نقلاً عن د. جوزيف الياس: عفلق والبعث: م. س:  ص 307.
([2]) نقلاً عن د. جوزيف الياس: عفلق والبعث: دار النضال: بيروت: 1991: ط1: ص 310.
([3]) د. جوزيف الياس: عفلق والبعث: م. س: ص ص 317-318.
([4]) نقلاً عن د. جوزيف الياس: عفلق والبعث: ص 119. 
([5]) د. محمد جلال شرف: دراسات في التصوف الإسلامي: دار النهضة العربية: بيروت: 1984م: ص 9.
([6]) م. ن: ص 17.
([7]) راجع، محمد الرحموني: الجهــاد: دار الطليعة: بيروت: 2002م: ط1.
-راجع، أيضاً، بحثنا المنشور تحت عنوان «وجهة نظر ودعوة إلى الحوار» المنشور في كتاب: نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي: دار الطليعة: بيروت: 2000م: ط 1: ص 87.

ليست هناك تعليقات: