السبت، أبريل 02، 2016

(معركة الحسم ضد الفرسنة) (الحلقة السابعة قبل الأخيرة)


المقاومة الوطنية العراقية
(معركة الحسم ضد الفرسنة)

(الحلقة السابعة)

(7/ 7)



حسن خليل غريب

المرحلة الرابعة

الاستنفار الأميركي الإيراني لإنقاذ العملية السياسية



(حزيران 2014 حتى أوائل العام 2015)



-المقاومة على أبواب بغداد:

بانسحاب القوات الحكومية من الموصل، في أواسط شهر حزيران من العام 2014،  تكون المقاومة العراقية قد بسطت نفوذها على ستين بالمئة من الأراضي العراقية. وهذا يعني جغرافياً أن المقاومة قد أصبحت على أبواب بغداد. وكانت حرة طليقة في تلك المناطق، وبدأ الإعداد لمعركة دخول بغداد، عندما برز فجأة (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) ليملأ الفراغ الذي تركته حكومة المالكي. وهذا ما أخذ ينعكس سلباً على خطط المقاومة العراقية.

عن تلك التطورات، وفي رسالته إلى الإعلاميين العرب، في شهر أيلول 2015، كشف عزة ابراهيم الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، عن الأسرار التي أحاطت بدخول تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إلى الموصل في حزيران من العام 2014، وفيها جاء ما يلي:

قبل دخول الدولة الاسلامية الى نينوى واحتلالها بشهر وصلت المقاومة في محور نينوى صلاح الدين بغداد الى قضاء الدجيل وبعض المجاميع الى محيط بغداد ( الطارمية والمشاهدة والتاجي ).

وفي محور ديالى بغداد وصلت المقاومة الى الوجيهية والراشدية والفحامة وعلى طول طريق بغداد بعقوبة القديم.

وفي محور الانبار بغداد وصلت المقاومة الى مشارف مطار بغداد الدولي والتحمت وتواصلت مع محور الحلة بغداد. وكان لدى المقاومة زخمٌ عالي من الامكانات والمعنويات (فقررنا دخول بغداد يوم (ي) والانطلاق في ساعة (س) ليلاً) وذلك بعد ان قررت جميع الصحوات وشيوخ العشائر المؤيدين للعملية السياسية ولحكومة العملاء الالتحاق مع المقاومة .

يتابع الأمين العام، في خضم تلك الوقائع، كما قال: بعث بعض رؤوساء العشائر إليَّ رسائل مكتوبة ومحفوظة لدينا أنهم قرروا الانضمام الى المقاومة وتسليم اسلحتهم لها او ابقائها لدى الصحوات والعشائر لكي تقاتل تحت امرة القيادة العامة للقوات المسلحة الوطنية .

فأمرت بتحقيق اجتماع معهم من قبل رفاقنا العسكر في الأنبار لكي يتفقوا معهم على صيغة معينة فحققوا اللقاء واتفقوا على أن تقاتل الصحوات والقبائل مع المقاومة وتحت إمرة جيشهم الوطني.

يتابع الأمين العام: لقد وضعت القيادة العامة للقوات المسلحة خطة تحرير بغداد موضع التنفيذ وعُين اليوم والساعة ، وفي اليوم الثالث من اللقاء وإذا بالدولة الاسلامية تظهر بقوة جديدة وكبيرة وأسلحة متطورة خفيفة ومتوسطة وفي كل مناطق الأنبار المهمة والتي تسيطر عليها المقاومة واتصلوا برفاقنا وطلبوا منهم تسليم شيوخ العشائر وقادة الصحوات لمحاكمتهم، واما أفراد الصحوات فيكونون تحت إشرافهم لكي يؤدوا القسم والتوبة في الجوامع، ولكي يقتصوا من بعض افراد الصحوات الذين سموهم بالمجرمين وإلا ستضرب داعش المقاومة أين ما تتواجد في المحافظة ( فأوقفنا مشروع انضمام العشائر الموالية للعملية السياسية والصحوات الى المقاومة ورفضنا الصدام مع داعش لأن الصدام معها يخدم المشروع الصفوي) ولأن هدف إدخالها بالأساس هو لقتال المقاومة وإنهائها. ولهذا أوقفنا خطة الدخول إلى بغداد.



-دخول داعش المفاجئ كان لإغراق المقاومة في معارك جانبية لاستنزافها:

وعن مخطط إحباط مؤامرة استنزاف المقاومة العراقية وإلهائها عن مهماتها الأساسية، كان بافتعال صدام مسلح مع (داعش)، كشف الأمين العام في مقابلته الصحفية مع جريدة الوطن المصرية، في شهر شباط من العام 2016،  عن ذلك المخطط كما يلي:

أُريد للمقاومة العراقية يوم دخول «داعش» إلى العراق أن تنزلق إلى معارك طاحنة معها لكى يسهل قتلها بعد ذلك وإنهاؤها، فأحبطنا هذا المخطط الخبيث وتجنبنا الاصطدام مع «الدولة الإسلامية» لكى نحتفظ بكامل عدتنا وعددنا لساعة الصفر المقبلة بإذن الله لتحرير العراق من المشروع الإيرانى الفارسى الصفوى.



-من وسائل التحالف الأميركي - الإيراني لإنهاء المقاومة العراقية، إفتعال قضية الأقليات الدينية  احتيال لتدخلهما العسكري

بعد عرقلة معركة بغداد أتيحت للتحالف الأميركي الإيراني فرصة الإعداد لمواجهة المقاومة العراقية. ومن أجل ذلك، ضخَّمت وسائل إعلامها دور داعش، لتشويه صورة المقاومة، باعتبار الإعلام الموجَّه قد صوَّر كأن المقاومة وداعش وجهين لعملة واحدة. ولكي يظهر التحالف في أي عمل عسكري، كأنه يقاتل الإرهاب، أثيرت مسألة الأقليات الدينية التي تعرَّض بعضها لجرائم فعلية أثبتت التقارير لاحقاً أن مخابرات حكومة العملية السياسية كانت ضالعة فيها. وكان الهدف من التركيز على الأقليات الدينية إضفاء الطابع الإنساني على العمليات التي سيقوم بها التحالف المذكور ضد المقاومة العراقية. وبهذا كان تضخيم دور داعش يقضى أن تتوَّسع رقعة أخطائها وجرائمها وتتعمَّق لكي تلقى أية خطوة أميركية إيرانية لاحقة تأييداً عالمياً وعربياً وعراقياً. وفي هذا السياق كانت إثارة قضية المسيحيين في الموصل، وقضية الأيزيديين في جبال سنجار من أهم معالمها.

في محاولة لتجميع تسلسل الأحداث التي سبقت إثارة قضية تهجير المسيحيين من الموصل، وتلتها إثارة قضية الإيزيديين في جبال سنجار، لاستطعنا أن نشكل صورة شبه متكاملة عن مشروع يتلخص بتبرير التدخل الأجنبي في العراق. وهذا المشروع شبيه، ولو على شكل مصغَّر للسيناريو، الذي سبق احتلال العراق.

منذ أواخر العام 2013، أعلنت الإدارة الأميركية أنها ستقدم كل أسباب الدعم لحكومة المالكي من أجل محاربة الإرهاب، وهي كانت تقصد حركة الاحتجاجات التي صمدت لعام كامل في المحافظات الستة. وتصاعدت وتيرة التهديدات الأميركية مع تصاعد وتيرة الإنجازات العسكرية التي كانت تحققها الثورة العراقية على الأرض. ولهذا تصاعدت وتيرة الإعلام الأميركي، ووكلائه على مساحة الكرة الدولية، فكان عنوانها (داعش تقتلع مسيحيي الموصل). ولتزيد منسوب التحريض ضد الثورة فقد أدخلت قضية الأيزيديين إلى المشهد.

عن هذا الجانب، كُشِف القناع عن حقيقة ما جرى، فقد نشرت وسائل الإعلام أن من فعلها كانت مجموعة من مجاميع مخابرات (العملية السياسية)، والتي لا شكَّ بأنها مرتبطة بالمخابرات الأجنبية.

وكانت شدة التحريض الإعلامي على ما جرى شبيهة بشدة التحريض الإعلامي التي سبقت العدوان على العراق في العام 2003. حينذاك (أولى أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد«، ومن أهمهم: (تشيني، رامسفيلد، ريتشارد بيرل، بول ولفووتيز، وليم كريستول)، الإعلام اهتماماً كبيراً في العدوان على العراق، إذ أمرت المجموعة الحاكمة في أميركا، حينذاك، بتركيز أجهزة الإعلام، على ما زعموا زوراً أنها الموبقات والجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين.

وإن في حملة التحريض التي سيقت في قضية الموصل إلاَّ صورة طبق الأصل عما حصل في العام 2003؟

إنها حملة أولت فيها الإدارة الأميركية، ووسائل إعلام النظام الإيراني، اهتماماً شديداً إلى الدرجة التي نالت الحملة تأييداً عالمياً واسعاً، واستوفت أغراضها. وما بقي على التحالف الأميركي الإيراني سوى استثمار ذلك التأييد، لتبدأ الإدارة الأميركية الانتقال إلى الخطوة التالية.

ومن الواقعي أن نصف تلك الحملة بأنها كانت إخراجاً مسرحياً كمقدمة لتنفيذ مخطط إجهاض ما حققته الثورة العراقية. وكان من الواضح أن هياكل العملية السياسية ينهار واحد تلو الآخر، ولن يستطيع إيقاف الانهيار سوى التدخل العسكري الأميركي المسلح، ولما أبدت بريطانيا وفرنسا استعدادهما للمشاركة، أخذت الإدارة الأميركية تحضر خطة من أجل البدء بعملية الإنقاذ.

 وأما النظام الإيراني فقد بلغ سقف مشاركاته حدوداً عالية بحيث دفع بقوات مقاتلة إلى أرض المعركة، خاصة أنه عبَّأ الرأي العام الإيراني بأن العتبات الشيعية المقدسة أصبحت في خطر.

وأما الإدارة الأميركية فقد رفعت سقف مساعدتها من تقديم أسلحة نوعية لحكومة المالكي وحصرت دورها بالقيام بطلعات جوية  فقط لكي تطمئن الرأي العام الأميركي الذي اكتوى من نار المقاومة العراقية.



-المقاومة العراقية تحبط أهداف التحالف الأميركي الإيراني بقرارات مرحلية

لا شك بأن عوامل التعقيد قد تكاثرت في وجه الثورة العراقية، وبدلاً من استكمال خطتها باتجاه إدامة الزخم نحو بغداد، كان عليها أن تواجه مؤامرة استنزاف طاقاتها بوسائل مرحلية. ولأن أهداف تنظيم الدولة الإسلامية كانت واضحة من أجل تأسيس دولة إسلامية في منطقتيْ شمال سورية ووسط العراق، وهو الهدف الذي يصب في مصلحة مشروع التقسيم استناداً لمرجعية مشروع الشرق الأوسط الجديد المتفق عليه أميركياً وإيرانياً، فإن المقاومة العراقية رفضت الانجرار إلى معارك جانبية مع داعش أولاً، كما رفضت مشروع إقامة إقليم سني في وسط العراق. فما هي المتغيرات التي حصلت وشكَّلت عوامل في ترسيم المشهد العراقي بعد حزيران من العام 2014؟



-العوامل المتغيرات في المشهد العراقي لمواجهة المقاومة العراقية

الثابت الأكثر حضوراً في العراق في تلك المرحلة، كان تقسيم الأدوار بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني، والهدف الرئيسي كان دائماً استهداف الثورة الشعبية العراقية بقيادة المقاومة العراقية. وإذا كان مشهد المقاومة على ما وصفناه أعلاه، يعني ذلك أن حركة التآمر عليها كان الديدن الدائم للتحالف المذكور، ولهذا كانت الحملة الإعلامية التي شنتها أجهزة إعلام الطرفين المتحالفين، مقدمة لسلسلة من الخطوات المنسَّقة بينهما، بحيث يؤدي كل منهما دوره في سبيل تحقيق أهدافهما المرحلية. فما هي الخطوات التي قام بها كل منهما؟

1-الخطوة المشتركة سياسية:

وكانت تقضي بتشكيل حكومة جديدة برئاسة حيدر العبادي لتجميل وجه العملية السياسية. ولهذا، وفي 11 آب 2014 كُلِّف، حيدر العبادي رئيساً لحكومة العملية السياسية، كخلف لنوري المالكي، تحت مزاعم القيام بإصلاحات تصب في مصلحة الشعب العراقي. وكان ذلك التغيير مقصوداً لتجميل وجه العملية السياسية بعد أن احترقت صورة المالكي التي نخرها الفساد والجريمة. إلاَّ أن هذا التغيير لم يسهم في تحسين صورتها إذ تأكد الشعب العراقي لاحقاً أن تكليف العبادي لم يكن أكثر من تجميل لوجه قبيح. والأدلة أكثر من كثيرة أمام من كان يتابع سيرة تلك الحكومة.



2-الخطوات الأميركية: تشكيل التحالف الدولي تحت زعم مكافحة الإرهاب:

تشكيل التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، الذي تأسس في اجتماع جدة بتاريخ 10/ 9/ 2014، الذي دعا إليه جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، وعل إثر تشكيله، أصبح من الواضح أن الحملة الإعلامية الواسعة التي شنَّتها وسائل الإعلام الأميركية والإيرانية ضد الخطر الأصولي الإسلامي بالمصطلح الأميركي، والخطر التكفيري بالمصطلح الإيراني، كانت تمهيداً لعمل عدواني جديد تعدُّ له الولايات المتحدة الأميركية والنظام الإيراني ضد المقاومة العراقية، وليس ضد غيرها على الإطلاق. وإلاَّ لو كانت الغاية شنَّ الحرب على (الخطر الأصولي)، لكان ذلك يوجب على الولايات المتحدة الأميركية أن تشنَّها منذ أن استفحل دور تلك التنظيمات على الساحة السورية بعد بدء الحراك الشعبي بفترة قصيرة. ولأنها لم تفعل ذلك، بل شجعته، لكان من المنطقي أن نضع الكثير من علامات الاستفهام التي تفتش عن جواب عن حقيقة تلك المخاوف.

لقد استهلك الإعلام الأميركي والإيراني استخدام مصطلح (القاعدة)، إلى الحد الذي مجَّه الرأي العام ولم يعد يصدقه، فلجأ الإعلام المذكور إلى ابتكار مصطلح (التخويف من خطر داعش). ولكن هذا لا يعني أن التنظيم المذكور لا وجود له، بل هو موجود، ولكن ما يُنسب إليه يفوق حجمه الفعلي أضعافاً على أضعاف. وهذا ما يطرح التساؤلات التالية: لماذا استخدم الإعلام الأميركي وسائل تضخيم دور التنظيم المذكور؟ ولماذا تم حصره في الموصل وجبل سنجار، أي المناطق القريبة جداً من إقليم كردستان؟ ولماذا أغفل الإعلام أيضاً الدور الإجرامي الذي تقوم به تنظيمات الحشد الشعبي، والميليشيات التابعة لحزب الدعوة، تلك الميليشيات أُسِّست لحماية القوى التي تتشكل منها (العملية السياسية)؟

 أن يبدأ الإعلان بشكل واسع عن المخاوف، بعد أن أنجزت الثورة العراقية أهم مراحلها بتحرير الموصل يعني أن هناك ترابطاً وثيقاً بين المسألتين: الشعور بخطر الثورة العراقية على العملية السياسية في العراق، ومسألة دق ناقوس الخطر من الزحف الأصولي. لذلك لم يضخِّم الإعلام الأميركي والإيراني حجم الإرهاب (الأصولي) (التكفيري) قبل تحرير الموصل، بل كانت الإشارة إليه تتم لتبرير حملات القمع الدموي التي أعلنتها (حكومة المالكي) ضد مدن الأنبار المنتفضة سلمياً. في تلك المرحلة لم يكن في حسابات الثنائي الأميركي الإيراني، أن الثورة الشعبية المسلحة ستندلع في أنحاء محافظات الأنبار ونينوى، لذلك لم يعدوا لحملة القمع أكثر من الإعلان عن تقديم الدعم السياسي وتوفير الأسلحة والعتاد للجيش الحكومي وميليشياته، وكانت غايتهما من وراء ذلك هو التعتيم على ثورة شعبية عارمة. ولكن بعد أن جاءت نتائج الحملة الدموية بالعكس من حساباتهم، لأن الثورة العراقية راحت تلحق الهزيمة تلو الأخرى بالقوات الحكومية، فراح الطرفان المتحالفان يعيدان حساباتهما من أجل رفع وتيرة الدعم ونوعيته.

لقد شكل تحرير الموصل، بالطريقة والسرعة التي حصل فيها،  المفاجأة الكبرى لهم جميعاً. فكان لا بدَّ من الإعداد لمواجهة الموقف بطرق ووسائل أخرى، وأظهرت نتائج الوقائع أن قرار التدخل العسكري المباشر أصبح أمراً لابد منه من أجل إنقاذ العملية السياسية التي أخذت تتهاوى بسرعة، خاصة أن قوى الثورة العراقية أصبحت على أبواب بغداد بعد تحرير ما يشكل الستين بالمائة من مساحة العراق.

بعد تلك اللحظة، وإذا كان التدخل الإيراني يحتاج إلى قرار المرشد الأعلى فقط، فإن للتدخل الأميركي ملابسات وإشكاليات لا يمكن للإدارة الأميركية أن تقرره إلاَّ بعد مروره بعدد من الأقنية، يأتي في المقدمة منها إقناع الرأي العام الأميركي أولاً. وتعبئة الرأي العام الدولي ثانياً. ودفع القوى الدولية والعربية والإقليمية للمشاركة بتنفيذ القرار ثالثاً.

وتسلسل المراحل التي تسبق اتخاذ قرار، كما هو وارد أعلاه، تم تكراره للمرة الثالثة ضد العراق. فكانت تجربة العدوان الثلاثيني في العام 1991 هي التجربة الأولى، وتجربة العدوان على العراق واحتلاله في العام 2003 كانت الثانية، وما يجري الإعداد له بعد تحرير الموصل يُعتبر عدواناً أربعينياً جمهر فيه جون كيري أكثر من أربعين دولة تحت هدف خادع هو هدف (محاربة الإرهاب). لذا كان الإعلان غطاءً لهدف مستتر هو القضاء على الثورة الشعبية العراقية.

إن جميع تلك التجارب كانت تسبقها وسيلة التعبئة والتحريض. وفي كل مرة كانت الإدارة الأميركية تبتكر قضية محورية لها جاذبية وتأثير على عواطف الرأي العام لتشكل مادة لوسائل إعلامها تقوم بتكرارها حتى تترسَّخ في أذهان الرأي العام، ويصبح مقتنعاً بتنفيذ المخطط الحقيقي دون أي رد فعل سلبي. وإذا كان استغلال دخول القوات العراقية للكويت شكَّل محوراً للتعبئة، وشكَّلت الديكتاتورية وأسلحة الدمار الشامل والتعاون مع القاعدة محورها في العام 2003، فإن محاربة الإرهاب الأصولي المتمثل بـ(بالدولة الإسلامية في العراق والشام) كانت محور التعبئة الإعلامية في هذه المرحلة.

ولكي تحصل الإدارة الأميركية على تعاطف وتأييد من قبل الرأي العام الأميركي خاصة، والرأي العام الدولي عامة، كان لا بد من إثارة قضية اضطهاد الأقلية المسيحية في الموصل، والأقلية الأيزيدية في سنجار. هذا مع العلم أن (حماية الأقليات) تستدر عطف الرأي العام، انبرت وسائل الإعلام الأميركية على النسج حولهما من حكايات وقصص تثير النقمة والعطف. وبعد أن استوفت الإدارة الأميركية الغرض من استغلال القضيتين المذكورتين، بدأت بمرحلة استقطاب التأييد الدولي والإقليمي والعربي من أجل تشكيل تحالف واسع، يقدم الغطاء السياسي لعدوان أميركي جديد أولاً، والدعم المادي ثانياً، وإذا تطلب الأمر العمل على زج قوات متعددة الجنسيات للتدخل البري في العراق ثالثاً.

إذن، بعد التاسع من حزيران، أي اليوم الذي تم فيه تحرير الموصل، أثيرت قضيتين: قضية إرهاب المسيحيين وقضية إرهاب الأيزيديين. ومن بعد أن استوفى التضليل الإعلامي غرضه من تضخيم القضيتين، تناسى العالم والإعلام القضيتين الرمزيتين، بينما كان من الواجب استكمال البحث عن مصير الطائفتين المضطهدتين. وهذا ما يؤكد أيضاً أن الاضطهاد لم يكن السبب، بل كان مدخلاً وغطاء لتمرير مخطط العدوان الكبير الذي تعده إدارة أوباما ضد الثورة الشعبية العراقية المسلحة من أجل إنقاذ (العملية السياسية) في العراق. وتثبيت قواعدها للاستمرار بنهب ثروات العراق والهيمنة على موقفه السياسي واستثمار موقعه العسكري الاستراتيجي، وبالتالي لكي يستكملوا مخطط تقسيمه إلى أقاليم ثلاث، يكون مقدمة ضرورية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

وتواصلت جولات جون كيري المكوكية، فوجدت استجابة من قبل أنظمة العرب الرسمية. ونُقل عن أوساط مقرَّبة من مؤتمر جدة، الذي عُقد في أوائل شهر أيلول 2014 برعاية أميركية، أنه عندما سُئل أحد كبار الضباط الأميركيين المشاركين بالمؤتمر عن (داعش) أجاب: لقد انتهى دور داعش، وجاء دورنا.

إن هذا التصريح جاء ليؤكد أن التضخيم الإعلامي الذي سبق المؤتمر، كانت مسرحية وضع فيها فصل لداعش، وقد انتهى الدور المفتعل لها ليبدأ الدور الحقيقي للكاوبوي الأميركي.

وأما هل ينجح أوباما بإتمام هذا الدور، فنقول: تلك مسألة أخرى جوابها عند الثورة الشعبية العراقية المسلحة. وهي كما أتقنت الرد على مزاعم جورج بوش ومخططاته وعدوانه واحتلاله، ستتقن الرد على أوباما بالطريقة التي لن تعجبه.



3-الخطوات الإيرانية: استصدار فتوى تشكيل الحشد الشعبي والزج بعشرات الألوف من الجنود والضباط الإيرانيين في العراق:

وخلافاً لموقفه الرافض لإصدار فتوى بوجوب الجهاد في وجه الاحتلال الأميركي في العام 2003، على الرغم من أن العراق تعرَّض لاحتلال من قبل قوى أجنبية وسقط بأيديها بشكل كامل، فقد أصدر السيستاني فتوى الجهاد الكفائي بتاريخ 14 حزيران من العام 2014، عندما اقتربت المقاومة العراقية من تخوم بغداد. فعلها لأنها تهدد بإسقاط حكومة العملاء والفاسدين واللصوص التي يقودها حزب الدعوة.

لا شك بأن هناك بين فتوى الرفض، وفتوى القبول مساحة من المعايير التي تتناقض مع روح الشرائع الدينية والإنسانية والأممية.

في بداية الاحتلال الأميركي، متذرعاً بقاعدة فقهية تنص على وجوب درء المعسور بالميسور، أي أنه لا يمكن مواجهة الاحتلال. حينذاك أعلن ممثل السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في النجف، معارضته المقاومة المسلحة، معتبراً أن ذلك »يلحق الضرر بمصالح الشعب«. فالسيستاني يرى أن تكون المقاومة »سلمية«. بينما رفض أن تكون سلمية بين حكومة ارتكبت كل المفاسد ومقاومة تعمل من أجل تحرير العراق من الاحتلال وكل ما ترتَّب على الاحتلال. ومن المفيد الإشارة هنا، إلى أن النظام الإيراني، بهمنته على المرجعية الشيعية في العراق، كانت من وراء إصدارهما، لسببين رئيسين، وهما: الامتناع عن مقاومة حليفه الأميركي المحتل، والثاني إسناد العملية السياسية لأنها واقعة تحت نفوذه.

مستفيدة من تلك الفتوى، شكَّلت حكومة الاحتلال ما يُسمى بـ(الحَشد الشعبيّ)، وزعمت أن الحشد سيكون تابعاً  للمؤسسة الأمنية العراقية وداعمة للجيش العراقي من أجل حماية (العتبات الشيعية المقدسة). بينما كانت قوات الحشد تابعة بالفعل لرؤوساء ميليشيات حزب الدعوة، أي أنها كانت تحت إمرة مباشرة للنظام الإيراني، يقودها قاسم سليماني، المندوب السامي الإيراني في العراق. ولمعرفة حقيقة الحشد الشعبي، سنتَّخذ أدلة وبراهين من مؤسسات وقوى تقف في موقف العداء للمقاومة العراقية. فما هي حقيقة الحشد الشعبي؟

-ذكر مقتدى الصدر أن ميليشيات وصفها بالوقحة تعمل بمعية الحشد الشعبي تقوم بعمليات ذبح واعتداء بغير حق ضد مواطنين عراقيين لا ينتمون لتنظيم داعش. ودعا الصدر إلى عزلها.

-وذكرت هيومن رايتس ووتش أن المناطق السنية تتعرض لانتهاكات قد يرقى بعضها إلى جرائم الحرب. لأن بعض المناطق تعرضت إلى هجمات تبدو وكأنها جزء من حملة تشنها المليشيات لتهجير السكان من المناطق السنية والمختلطة.

-وفي سياق متصل صرح ديفيد بترايوس، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، لصحيفة واشنطن بوست، وقال إن ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران سوف تشكل خطراً على العراق لأنها "تقوم بفظاعات ضد المدنيين السنة.

-لقد اعترف نوري المالكي، رئيس حكومة العملية السياسية السابق، بأن الدعم الإيراني منع سقوط بغداد.

-أعلن رئيس بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بتاريخ (2015/7/22) اعترافه بالحشد الشعبي، وقد جاء هذا الاعتراف، فيما يواجه الحشد إنتقادات من بعض الجهات السياسية العراقية وبعض الدول، وهنا لا يجوز فصل ذلك الاعتراف عن إرادة الولايات المتحدة الأميركية التي تنسِّق علانية مع النظام الإيراني على قاعدة تعميق الشرخ بين مكونات المجتمع العراقي الدينية والمذهبية.

هذه كانت مشهدية الإعدادات الأميركية الإيرانية لمواجهة الثورة العراقية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، فكيف كانت نتائجه في أواخر العام 2014؟ وكيف كانت مشهدية الثورة العراقية في مواجهة الإعدادات المذكورة أعلاه؟



 -التدخل العسكري الأجنبي لمنع انهيار العملية السياسية، يزيد الثورة العراقية التصاقاً بأهدافها:

إن الزخم العسكري والسياسي الذي أعدَّته الولايات المتحدة الأميركية عندما احتلت العراق، في العام 2003،  لن يتكرر مرة أخرى لا بالكمية ولا بالنوعية.

ومن هذا القبيل أيضاً نرى أن أطماع دول الجوار الإقليمي في العراق لم تنزل تحت سقف مصالحها الاستراتيجية الذي رسمته. ولكن ما هو من المتغيرات أن النظام الإيراني الذي كان يدفع من دم الجنود الأميركيين وأموالهم ثمناً لتمسكه بالهيمنة على العراق،  زجَّ بنفسه في لهيب المعركة بشكل مباشر، وراح بعد اندلاع الثورة الشعبية المسلحة يشارك بجنوده وضباطه في المعركة. وفي هذا المتغير ما سوف تظهر نتائجه السلبية على مستوى الشارع الإيراني، ولو بعد حين، وكانت مشاهد قوافل توابيت القتلى الإيرانيين تتسرَّب لوسائل الإعلام. وهذا إن كان يدل على شيء في تلك المرحلة، فإنه يؤكد أن النظام الإيراني قد وقع في شرك حرب استنزاف لن يستطيع الصمود فيها لوقت طويل، إلاَّ أن ما كان يخفف الوطأة عنه هو غرق الملتحقين بـ(الحشد الشعبي) من العراقيين في المعارك، التي كانوا في خوضها يدفعون الآلاف من القتلى، مما كان يوفِّر على نظام الملالي دفع خسائر أكثر بين جنوده وضباطه الذين زجَّهم في ما زعم أنها معركة الدفاع عن العتبات الشيعية المقدسة. ولكن هذا بحد ذاته سيشكل عامل احتقان عند أهالي القتلى العراقيين وعشائرهم.

وكما أن الخطة السرية في جرَّ المقاومة إلى الصدام مع داعش كانت فاشلة لأن المقاومة قامت بإحباطها، لم يكن التدخل الجديد أيضاً فاعلاً وسريعاً ليس في القضاء على المقاومة العراقية بل على إضعافها، كما كان التحالف يأمل، لأن الزخم الذي ميَّز انطلاقة المقاومة العراقية، في العام 2003، لم ينزل إلى ما دونه، بل إنه ازداد وتصاعد في مرحلة الثورة الشعبية المسلحة التي تواجه بقايا الاحتلال.



-فكيف نقرأ نتائج ما كان يجري في تلك المرحلة؟

مستندة إلى ما وفرته الإدارتان الأميركية والإيرانية من إمكانيات عسكرية ودعم سياسي بعد حزيران من العام 2014، راحت حكومة حيدر العبادي تنفِّذ خطة ما أسمته استعادة السيطرة على المناطق التي أصبحت في عهدة الثوار العراقيين. ولهذ انتخبت مجموعة من الأهداف التي أعطتها أولوية استراتيجية، وكان من أهمها:

-إعادة العافية لمصفاة بيجي لأهميتها الاقتصادية الكبرى. وذلك بفك حصار الثوار من حولها.

-استعادة منطقة الكرمة التي تفصل الفلوجة عن بغداد وهدف الحملة عليها إبعاد الثوار من الاقتراب من بوابات بغداد الشمالية.

-إستعادة منطقة جرف الصخر التي تفصل بغداد عن الجنوب العراقي، والهدف منها منع الثوار من الاقتراب من بوابات بغداد الجنوبية.

-إستعادة السيطرة على الأجزاء الواسعة التي حررها الثوار في الرمادي.



-ولكن كيف كانت النتائج التي حصلت من تطبيق خطة العبادي؟

وكأنَّ المالكي فشل في الحملات العسكرية التي أشرف عليها لعورة في أدائه، وأداء القيادات العسكرية التي كان يثق بها لقلة في الخبرة، جاء العبادي ليجرب حظه بعد أن قام بتغييرات في القيادات الرأسية للجيش الحكومي. وتابع معركته العسكرية ضد الثوار خاصة وأن الدخول الجزئي لذلك الجيش إلى جرف الصخر أغراه باستكمالها في مناطق أخرى. فعلقت القوات الحكومية في معارك استنزاف طويلة ومكلفة تنفِّذها المقاومة حسب استراتيجية الأفخاخ الخادعة. وإذا بالانتصارات الوهمية راحت تتآكل واحدة تلو الأخرى. فتبخَّر حلم حكومة العبادي، وحلم النظام الإيراني وأحلام التحالف الدولي الذي شكلته إدارة أوباما. خاصة بعد أن خسرت الميليشيات الحكومية مدينة الرمادي في شهر أيار من العام 2015.

لقد لاقت المخططات الأميركية الإيرانية فشلاً ذريعاً، لأنه إذا كان التهويل من قصف طائرات التحالف هو استراتيجية لدعم حكومة الاحتلال، أصبح من الواضح أن الطائرات لن تتمكن من احتلال الأماكن التي يتم قصفها.

وإذا كانت إيران قد راهنت على قدرتها في تنفيذ المهام التي يعجز طيران التحالف عن تحقيقه، فإنها زجَّت بآلاف الجنود النظاميين الإيرانيين وهماً منها بأنها ستسد النقص في العديد الميليشياوي الحكومي وكفاءاته، فهي أيضاً تعرضت لحرب استزاف. والدليل على ذلك، أنها ومنذ اتخذت قرارها بالتدخل القتالي المباشر، أنجزت الثورة العديد من أهدافها، وتوسعت في أجزاء كبيرة من مناطق عملياتها، مُلحقة الخسائر البشرية بالقوات النظامية الإيرانية.

لم يكن أسلوب حرب الاستنزاف يصب في مصلحة التحالف الإميركي الإيراني، بل ما كان من الممكن أن يصب في مصلحتها هي حرب الحسم. وعلى العكس من ذلك، كانت حرب الاستنزاف تصب في مصلحة المقاومة كسباً للوقت بانتظار متغيرات قد تحصل على الصعيد العربي، وهذا ما كان متوقعاً. كما أن بوادره بدأت تتصاعد دخاناً في أفق الخليج العربي. وهذا ما كان يؤسس للمرحلة الخامسة في تاريخ المقاومة العراقية.



ليست هناك تعليقات: