الخميس، مارس 16، 2017

الحرية والديموقراطية مفهومان متكاملان ومتلازمان

دراسة عن المسألتين الديموقراطية والعلمانية
(الحلقة الثانية)
أولاً: الحرية والديموقراطية مفهومان متكاملان ومتلازمان


لغوياً: عن التكامل والتلازم:
تكاملتِ الأشياءُ : كمَّل بعضُها بعضاً بحيث لم تحتج إلى مايُكمِّلها من خارجها. وتلازم الشَّيئان تَعلَّقا تعلُّقًاً لا انفكاك فيه.
ولماذا أطلقنا مصطلح التكامل والتلازم بين مفهوميْ الحرية والديموقراطية؟
إن الحرية قيمة إنسانية مطلقة، وهي تعبير فلسفي قديم قائم بذاته، أطلق لتأكيد حق الإنسان في أن لا يكون مقيَّداً من أية سلطة أخرى. وهي تعني حرية التفكير من دون قيد أو شرط. وحرية الاعتقاد من دون إكراه. وحرية الانتماء بقناعة ذاتية من دون إلزام. إذن الحرية حقيقة مطلقة ما دام الإنسان يعيش بمفرده بعيداً عن الآخر.
وأما الديموقراطية، فهي تعبير سياسي حديث، وهو الجانب التنفيذي لقيمة الحرية في الحالات التي تجمع أكثر من إنسان فرد واحد. ولأنه جاء لينظم العلاقات بين فردين أو أكثر، كان من أهم وظائفه أن يوفِّق بين حريات مختلفة. لذا جاء ليعترف بحق كل فرد بالتفكير والاعتقاد واتخاذ القرار، ولكن على شرط أن يعترف الفرد بحق الآخر في التفكير والاعتقاد واتخاذ القرار. ولأن الفرد ملزم بمشاركة الآخر بالحقوق ذاتها، ولكي لا تصل ممارسة الحقوق إلى حدود التناقض الذي يؤدي إلى انفصال الواحد عن الآخر، جاء مصطلح الديموقراطية لكي يلزم كل فرد بالتنازل عن حقه في القرار لمصلحة قرار الجماعة، فساعتئذٍ تبدأ مرحلة الإلزام، أن تفقد الحرية صفتها المطلقة لتصبح حرية نسبية، وتخضع حرية الفرد للقيود لأنها أصبحت مرتبطة بحرية الآخرين. وهذا ما يصح القول فيه: (تنتهي حريتي عند حدود حرية الأخرين).
بناء عليه يتكامل مفهوم الحرية مع مفهوم الديموقراطية ويتلازمان.

الحرية والديموقراطية من المفهوم الفلسفي إلى المفهوم السياسي
من أكثر المفاهيم المعاصرة إشكالية هي العلاقة بين الحرية والديموقراطية، سواءٌ أكان الأمر متعلقاً بحياة الأفراد كخصوصيات شخصية، أم كان داخل المجتمعات الإنسانية التي تتطلب مفاهيم خاصة تواكب حالة التوازن القيمي بين الفرد والآخر. وهذا ما يُلفت النظر إلى ضرورة الاهتمام بعلاقات الدول فيما بينها وصولاً إلى توحيد مفاهيم الحرية كناظم إنساني وقيمي بين الدول المعاصرة كحاجة وضرورة في بناء علاقات متوازنة لا تطغى عليها عوامل القوة والمصالح الضيقة.
من استعراض العناوين أعلاه، يظهر مدى تعقيد هذه المسألة، ومدى اتساع إشكالية البحث عن وضع حلول تضمن حرية الفرد من دون المساس بحريات الآخرين، كما تضمن حقوق المجتمع الواحد من دون المساس بحرية المجتمعات الأخرى. وتضمن أيضاً حريات الدول من دون المساس بحريات الدول الأخرى.
يبدو مما ذُكر أعلاه أن مدى أهمية الحرية كمفهوم إنساني قيمي عام، يكشف مدى أهمية البحث عن الديموقراطية كوجه تطبيقي يضع الحلول السليمة لشتى أنواع العلاقات الإنسانية انطلاقاً من علاقة فردين اثنين وصولاً إلى علاقة سليمة بين شتى أنواع المجتمعات الإنسانية. وهذا بدوره يكشف عن مدى اتساع هذه الإشكالية، وعظم المهمة الموكولة إلى كل من يتجرأ ويدخل في البحث عنها.
وعلى الرغم من كل ذلك، ولكي لا يكون السؤال مهمة أساسية لوحده، يمكن أن يشكل البحث عن جواب مهمة أخرى لا تقل أهمية عن السؤال. واستناداً إلى ذلك سنتقدم ببعض ما يفرضه علينا عبء التفكير والتنظير. ولذلك سننطلق بداية من محاولة تكثيف لتعريف الحرية والديموقراطية، على أن تكون فاتحة لمواكبة مجموعة أخرى من الأسئلة التي تتعلق بتطبيق مبدأ إنساني يتعلق بالحرية التي شغلت بال كل من انخرط في هموم الفكر ومشاكله ومشاغله وما جرَّ إليه من نكبات شخصية تعرَّض لها معظم المفكرين على مدى التاريخ الفكري السحيق.

أولاً: الحرية مفهوم فلسفي والديموقراطية مفهوم سياسي
1-الأبعاد الفلسفية والسياسية للحرية.
موضوع الحرية هاجس دائم، يبحث عنه الإنسان، أياً كان عمره، وأياً كان مستواه وموقعه. هذا الموضوع لا يكتسب معناه، ولا يرتسم مشكلة في ذهن الفرد وتساؤلاته سوى في الوقت الذي يلتقى فيه، هذا الفرد، مع الآخرين، وفي الوقت الذي تظهر فيه قضية ما في دائرة التعارض أو التناقض بين حدين: الأنا والآخر.
الفرد المنعزل، عن غيره من الأفراد، في أفكاره وطموحاته وحاجاته، لا يشعر أنه بحاجة إلى أن يطرح السؤال: إلى أي حد يُسمح لي بأن افكر كما يحلو لي، وأن امارس، دون عوائق أو حواجز، ما أعتقد أنه صحيحاً.
الفرد/ الإنسان، يتعلم ويكتسب خبرات وعادات وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه ومعه، ويتلقاها بطريقة تفاعلية بينه وبين الآخرين. فالمجتمع يشبع الفرد بثقافته وعاداته الاجتماعية، كما أنه يعلمه الخبرات والمهارات. هذا الاكتساب الذي يناله الفرد من مجتمعه، أو الثقافة التي يتلقاها منه تحمل، في حد ذاتها، قيوداً وحواجز وممنوعات. عندما يصل الفرد/ الإنسان إلى مرحلة من النضج الاجتماعي والثقافي -والنضج هو مسألة نسبية لا تنفصل عن مستوى الثقافة الخاصة بالمجتمع الذي يعيش فيه- يقوم بدور فاعل، مستنداً إلى كفاءاته الذاتية، حينئذ قد يمتلك المقدرة على تطوير هذه الثقافة. وفيما يضخه الفرد من ابتكاراته الفكرية والثقافية إنما يصبح ملكاً لهذا المجتمع، إذا حاز قناعة لديه.
فالفرد مكبل بالثقافة السائدة في مجتمعه، لأنها في غالب الاحيان تكون ملزمة له، هذا الأمر يضع قيوداً على حريته الشخصية إذا لم تشكل لديه القناعة الكافيه بها. لكن هذه القيود قد تولِّد عند الفرد/ الإنسان حافزاً له لكي يضخ في مجتمعه أفكاراً جديدة تعبِّر عن حريته الشخصية وتفسح له المجال للإسهام في بناء ثقافة هذا المجتمع. لكن قد لا تلقى هذه الإضافات الفكرية قبولاً لدى أفراد المجتمع الآخرين، لكنه إلى الحين الذي يقتنع بها المجتمع ويهضمها ساعتئذ تصبح إضافات جديدة في ثقافة المجتمع العامة.
تحمل الثقافة العامة لأي مجتمع من المجتمعاًت قيوداً للأفراد، وكلما أزدادت الوظائف الاجتماعية أو السياسية أو التقنية لمجتمع ما تزداد هذه القيود لأن هذه الوظائف تحتاج إلى مزيدٍ من الأدوار والتقسيمات والتنظيمات.
لأن الفرد/ الإنسان إجتماعي بمتطلباته وحاجاته ورغباته، ولأن المجتمع هو الوسط الضروري لكي يمارس الإنسان فيه إنسانيته، ينبع السؤال - الهاجس: أين نحدد موقع الحرية في دائرة الفرد، وأين نحدد موقعها في دائرة المجتمع؟
عندما يبقى الفرد فرداً، أي عندما لا يعيش في داخل مجتمع ما، تكتسب الحرية بُعداً فلسفياً خالصاً ومفهوماً مجرداً لأن الفرد يمارس نشاطاته دون ضغط أو إكراه، ولأن غيابهما مرتبط بغياب الإنسان الآخر، وكأن قيود الأنا مرتبط بوجود الغير.
فهل نستطيع القول، إذن، وفي سبيل الحصول على الحرية الكلية المجردة، أن الغاء الآخر شرط ضروري لممارسة الحرية، بينما هذا الإلغاء، بحد ذاته، هو عملٌ ضد الحرية. فوجود الآخر هو واقع حتمي وضرورة ماسة:
فأما الوجود هو واقع حتمي، فلأن الإنسان يولد من إنسان آخر.
وأما هو ضرورة ماسة، فلأن الإنسان المولود هو بحاجة إلى مساعدة الوالد.
لذلك فالفرد، كجزء من مجتمع، له رغباته وحاجاته وأفكاره وهذه حقوق شخصية، ولكل فرد آخر له مثل هذه الحقوق. لكن الرغبات والحاجات والأفكار عند الأنا والآخر ليست متجانسة، ولأن الإنسان لا يمكنه تحقيق كل رغباته وحاجاته بنفسه فهو بحاجة إلى الآخرين، فإنه يعمل للاندماج مع الآخرين لتأمين هذه الحاجة بإختيار حر، فالحاجة الاجتماعية للإنسان هي حاجة أساسية: الأنا والغير هما ركيزتها، فكيف يتم التوافق والتوفيق بين حرية الأنا وحرية الغير؟
لهذا السبب وُضعت معايير ومقاييس، أو ما نستطيع تسميته حدوداً وحواجز بين حقوق الأفراد لكي يمنع عليها التصادم، وهذا ما نُطلق عليه مفهوم الحقوق العامة، هذه الحقوق لا يمكن أن تستقيم إلا بوجود طرف المعادلة التسووي وهو مفهوم الواجبات.
فالتصادم بين حقوق الأفراد تم ضبطه بوضع مجموعة من القيم القانونية والسياسية والأخلاقية لتقوم بوظائفها في تنظيم حركة التبادل العلائقي بين الأفراد، وأصبحت معادلة التسوية قائمة على نظرية الحقوق والواجبات العامة.
لكن الحقوق الفردية قد تتجاوز الحدود المرسومة لها، أو لأن الحدود ليست مرسومة بدقه، فتطغى حينئذ على الحريات العامة، أو قد يحصل العكس، عندئذ تُطرح الإشكالية التالية : كيف نؤمِّن التوازن بين الحقوق والواجبات لكي نمنع طغيان حد على الحد الآخر؟
إن مناقشة هذه الإشكالية تتطلب، باعتقادنا، معالجة مسألتين هما: البُعدان الفلسفي والسياسي للحرية.
2-البعد الفلسفي للحريـة
جاء في القاموس الفلسفي، للدكتور جميل صليبا - صادر عن دار الكتاب اللبناني، عن الحرية ما يلي:
للحرية معانٍ ثلاث:
-الأول: المعنى العام: الحرية خاصة الموجود، الخالص من القيود، العامل بارادته أو طبيعته.
-الثاني: المعنى السياسي والاجتماعي: وهو قسمان:
أ- الحرية النسبية: فهي الخلوص من القسر والإكراه الاجتماعي، والحر هو الذي يأتمر بما أمر به القانون، ويمتنع عما نهى عنه.
ب- الحرية المطلقة: فهي حق الفرد في الاستقلال عن الجماعة التي انخرط في سلكها. وليس المقصود حصول الاستقلال بالفعل، بل المقصود منها الاقرار بالاستقلال واستحسانه، وتقديره، واعتباره قيمة خلقية مطلقة.
- الثالث: المعنى النفسي والخلقي: فالحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة، العالمة بذاتها، المدركة لغايتها، وإذا كانت الحرية مضادة للهوى والغريزة، دلت على حالة إنسان يحقق بفعله ذاته من جهة ما هي عاقلة وفاضلة. لذلك قال (ليبنيز): إن الله وحده هو الحر الكامل«.
يعتقد المثاليون، كما جاء في الموسوعة الفلسفية (روزنتال + بودين الصادرة عن دار الطليعة في بيروت) إن الحرية والضرورة مفهومان يستبعد كل منهما الآخر بالتبادل، ويعتبرون أن الحرية هي تقرير الروح لمصيرها، وحرية الإرادة وإمكانية التصرف وفق إرادة لا تحددها الظروف الخارجية.
لكن، كما جاء في الموسوعة ذاتها، إن التفسير العلمي للحرية والضرورة يقوم على أساس تفاعلهما وتداخلهما الجدلي، وقد قدم هيغل تصوراً دقيقاً للوحدة الجدلية بينهما إنطلاقاً من مواقف مثالية. يعتقد هيغل أن الضرورة الموضوعية هي أولية بالمعنى المعرفي وأن ارادة الإنسان ووعيه ثانويان مشتقان من الضرورة.
فالضرورة، كما جاء عند هيغل، توجد في الطبيعة والمجتمع على شكل قوانين موضوعية. فالقوانين غير المدركة تكون «عمياء». ففي بداية تاريخ الإنسان، وكان غير قادر على استكناه أسرار الطبيعة، ظل عبداً للضرورة غير المدرَكَة وكأنه غير حر. وكلما ازداد الإنسان عمقاً في إدراك القوانين الموضوعية سواء كانت طبيعية أم اجتماعية أم سياسية كلما ازداد نشاطه حرية ووعياً.
جاء تعريف الحرية في الموسوعة السياسية (د. عبد الوهاب الكيالي الصادرة عن مؤسسة الدراسات العربية- بيروت) كما حدده الفكر الليبرالي الفردي الأوروبي، كما يلي:
الحرية هي أساساً غياب الإكراه والقيود التي يفرضها طرف آخر، فالإنسان حر عندما يكون قادراً على اختيار هدفه وطريقه، وأن يكون في وضع يستطيع معه الاختيار بين احتمالين، وأن لا يكون مرغماً على اختيار ما لا يريد أن يختاره، سواء من خلال خضوعه لإرادة شخص أو دولة أو أية سلطة أخرى، وهذا ما يسمى بالحرية السلبية.
فوجود الحرية مرتبط بثلاثة أمور أساسية:
-الأول: غياب الإكراه والقيود البشرية.
-والثاني: غياب العوامل الطبيعية التي تحول دون تحقيق القرار الحر.
-والثالث: امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة إرادياً.
لكن، لكي تكتسب الحرية الفردية مفهومها الصحيح، حرية اختيار الهدف والطريق، أن يكون الاختيار واعياً، فكيف يتحقق الاختيار الواعي؟
يشكل التعليم والثقافة، بتوسيعهما لقدرة الإنسان على الاختيار والقرار، شرطاً أولياً مهماً من شروط ممارسة الحرية، فالمعرفة تطور قدرة الإنسان على الافعال الحرة والتصرف الحر.
فالحرية في بعدها الفلسفي، استناداً إلى ما عددناه من تعريفات، هي حرية مطلقة تتنافر مع مبدأ الضرورة الطبيعية والاجتماعية.
أما الحرية في بعدها الاجتماعي، فهي حرية نسبية، من شروطها الخلاص من القسر والإكراه، لكن، على أن لا تتنافى مع الأعراف والقوانين الاجتماعية السائدة المشروطة بالوعي والمعرفة من قبل الفرد.
أية ثقافة هي المطلوبة للأعراف والقوانين؟ هل هي ثقافة المجتمع السائدة؟ أم هي ثقافة النخبة من الناس؟ وكيف يكون الأمر فيما لو تناقضت مفاهيم المعرفة عند الأفراد، مع الثقافة السائدة؟
ينزع الفرد بالغريزة إلى حرية الفعل، تظهر عند الإنسان منذ ولادته في تصرفاته وحاجاته، كحرية اللعب واختيار الطعام، حريته في ملكيته العامة وأغراضه الخاصة، وتظهر لديه ميول في الاستيلاء على ممتلكات غيره، ومقاومة الميول ذاتها عند أنداده من الأطفال.
حينئذ يبدأ الفرد بالإدراك، أن هناك العديد من الحواجز التي يضعها الآخرون في وجهه، وهي التي تحد من حرية تصرفاته وتمنعه من ممارسة الكثير من رغباته، فيشعر أنها قيوداً أمامه. فالطفل يشعر حتى في علاقاته مع أمه بمثل هذه الحواجز والروادع، وكلما اتسعت علاقاته مع الآخرين تزداد القيود، وهذه بدورها تراكم العامل الثقافي عنده الذي هو عبارة عن مجموعة من العادات التي يحدد له فيها المجتمع، الصغير أو الكبير، حقوقه ويرسم له واجباته.
كلما كان المجتمع متقدماً، يؤمن للفرد طرائق متقدمة لاكتساب ثقافة مجتمعه، وكلما تقدمت وسائل التعليم وطرائقه تسهم في تطوير ثقافة الفرد وتعمقها، ساعتئذٍ تتراكم العوامل الثقافية التي تؤهل الفرد إلى الوصول للمستوى الذي يصبح فيه قادراً على الاختيار الواعي، أي الاختيار الحر الذي يشبع قناعته الذاتية على أن لا يتخطى دائرة حقوق الآخرين.
يتميز كل مجتمع بثقافته الخاصة، ولأن ليس كل أفراد المجتمع يقتنعون بهذه الثقافة يظهر في داخل كل مجتمع عدد من الرافضين لها، كلياً أو جزئياً. هذا الرفض قد يؤدي إلى إنتاج فكري جديد، فإذا أخذ طريقة في اقناع آخرين بصحته، يشكلون حينئذ تجمعاً ثقافياً متميزاً في داخل مجتمعهم يروِّجون فيه لفكرهم الجديد. فإذا كان الفكر الجديد بمستوى من العمق يجيب فيه على حل مشكلات كثيرة، فإنه يشق طريقاً لكي يأخذ موقعاً في التراث الثقافي للمجتمع بما يُسهم في تطويره أو تغييره.
تصبح الثقافة الجديدة، أكثر جدية، عندما تتحول إلى مشروع سياسي قابل للتنفيذ. وهنا تتحول هذه الثقافة إلى دائرة الالتزام في داخل التجمع البشري الذي يعمل على تحقيقها.
فالثقافة الملتزمة، من هنا، تحمل عنصرين أساسيين لهما علاقة بالبعد الفلسفي للحرية، وهما : حرية اختيار الهدف، وحرية اختيار الوسيلة لتحقيقه.
لكن الثقافة الملتزمة تثير إشكالية حول مفهوم الحرية في بعدها الفلسفي وهي التالية: كيف يستطيع الفرد/ الإنسان الملتزم ان يوفق بين مفهوم الحرية الفردية، وبين القيود التي يفرضها التجمع الذي انتسب إليه؟
الحرية الشخصية/ الفردية في اختيار الهدف تحقق ذاتها، لأن الاختيار ما زال في دائرة الفكر، وقد تم دون ضغط أو إكراه. لكن المشكلة تنبع عندما ينتقل الفرد إلى المرحلة الثانية وهي اختيار الوسيلة أو الطريق الذي على أساسه سوف يعمل لترجمة خياره الفكري إلى واقع عملي، فهل يتم هذا الاختيار فردياً أم جماعياً؟
بداية، لا يمكن للفرد أن يحوِّل أفكاره إلى واقع عملي دون الاستعانة بالآخر، لذلك أين يكون موقع حرية الاختيار الفردي إذا اصطدمت بحرية الاختيار عند الآخرين، وكيف يكون الحل إذا انقسم أفراد الجماعة الواحدة حول تحديد وسائل التنفيذ إلى أكثر من فريق؟
الثقافة التي تجمع أفراداً كثيرين، تتحول إلى ثقافة ملتزمة لأنها تحمل إمكانية التطبيق. وللتنفيذ شروط، ومنها: ضرورة امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة جماعياً. فوسائل القوة لها شروط العمل الجماعي، فإذا لم يقتنع فريق أو فرد من الجماعة بوسائل التنفيذ التي أختارها فريق آخر من داخل الجماعة الواحدة، فسوف تتواجه هذه الجماعة بعدد من الاحتمالات منها:
-إما أن ينخرط الفرد أو الفريق في التنفيذ حسب الوسائل التي اختارها الفريق الآخر، وهنا تفتقد حرية الاختيار الإرادي ، وهذا ما يتعارض مع البعد الفلسفي للحرية.
-وإما أن يبتعد الفرد/ الفريق عن الجماعة لأنه غير مقتنع بالطريق الذي حدده الفريق الآخر ولأن هذا الطريق لا يعبر عن الاختيار الإرادي. وهو إذا ابتعد يكون قد أنقذ حقه في الاختيار الحر.
هذان الاحتمالان، كلاهما، يخلقان الإشكالية التالية: إذا كان النهج الثقافي الجديد/ الهدف، قد حاز على القناعة الإرادية الحرة لدى الفرد، فعلى الفرد أن يعمل لتحقيق هذا المنهج. وإذا تخلى عنه فهو قد تخلى عن قناعته الفكرية الحرة.
فلكي لا يختل التوازن بين الحرية الفردية (في اختيار الهدف الفكري) وبين الحرية الفردية ( في اختيار وسيلة تطبيقه)، جاءت نظرية الديمقراطية لكي تجيب على هذه الإشكالية.

3- البعد السياسي الاجتماعي لـ(الديمقراطية).
جاء في القاموس الفلسفي حول الديمقراطية ما يلي: معنى الديمقراطية سيادة الشعب، وهي نظام سياسي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين لا لفرد أو لطبقة واحدة منهم. ولهذا النظام ثلاثة اركان:
-الأول: سيادة الشعب.
-والثاني: المساواة والعدل.
-والثالث: الحرية الفردية والكرامة الإنسانية.
هذه الاركان الثلاثة متكاملة، فلا مساواة بلا حرية، ولا حرية بلا مساواة، ولا سيادة للشعب الا إذا كان أفراده أحراراً.
إن كل نظام سياسي يعتبر إرادة الشعب مصدراً لسلطة الحكام هو نظام ديمقراطي، إلا أن إرادة الشعب في الواقع هي إرادة الأغلبية فيه.
فالديمقراطية، إذن، كما جاء في الموسوعة السياسية، هي نظام سياسي- اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأين: المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في وضع التشريعات التي تنظم الحياة العامة.
فإذا كانت الحرية في بعدها الفلسفي هي الإرادة الحرة على بناء مجموعة من الأفكار أو اختيارها اختياراً حراً. وشعور الفرد، بعد اعتناقه لها أو الإسهام في انتاجها، أنه غير مقيد أو مُكرَه باختيارها أو الاعتقاد بها. وإذا كانت هذه العملية الفكرية مرتبطة بتوليد إحساس ذاتي بالسعادة والسرور، فإنما الديمقراطية تبحث عن تجسد هذا الاحساس في صورة العلاقة بين الأنا والآخر، العلاقة التي لن تولد إحساساً بالسعادة إلا إذا حافظت على التوازن، الأقرب للدقة، في تأمين السعادة الذاتية وسعادة الغير.
فالديمقراطية تفتش عن الوضع الأفضل الذي يتحقق فيه البعد الفلسفي للحرية بنتائجها الفكرية والنفسية على الأنا وعلى الآخر. فهي، بهذا المعنى، تفتش عن أفضل إطار سياسي واجتماعي ممكن يستطيع أن ينظم العلاقة بين الأنا والآخر بشكل يطلق إرادة الحرية لدى الفرد ويمنع طغيان إرادة على أخرى.
أ- الد يمقرا طية ذات خاصية فردية، تُعنى بحرية الفرد:
مفهوم الديمقراطية يرتبط، إذن، مع عوامل فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية. وهذه العوامل يفترض وجودها في بناء العلاقات بين الإنسان والآخر.
الفرد هو كيان مستقل بذاته، إنما عدة أفراد يشكلون مجتمعاً تتمايز طبائع أفراده ورغباتهم وحاجاتهم، الفكرية والسياسية والاقتصادية، وكل منهم يشعر أنه يجب أن يعبر عن حريته وأن يمارسها. وحتى لا تتصادم طرائق التعبير والممارسة للحرية الفردية، جاء المفهوم الديمقراطي ليقوم بدور التوفيق بين الحريات الفردية التي بمجرد اصطفافها في اطار مجتمعي، تكتسب صفتها الاجتماعية، ثم صفتها الاقتصادية والسياسية... الخ... ويأتي الدور التوفيقي بين الحريات الفردية الذي يلعبه المفهوم الديمقراطي كتسوية بين حرية الفرد وحرية الآخر ليقدم كل منهما تنازلات للآخر. وكلما كانت التشريعات قادرة على تأمين التوازن والدقة في التنازلات كلما أصبحت المعادلة قابلة للاستمرار. وكلما اختل التوازن يتخلخل البناء الديمقراطي ويصاب بالاهتزاز.
فالمفهوم الديمقراطي في إطاره النظري، هو إقامة تسوية ما بين الأفراد. أما في حالة تطبيقه فتظهر صعوبة في تأمين التسوية العادلة ما بين الحقوق والواجبات الفردية، وهنا تظهر الحاجة المبدأية في أن لا تكون التشريعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ثابتة، وإنما يجب أن تحمل إمكانية الحركة في تطويرها كلما برز الاختلال في التوازن بين الحريات الفردية.
من هذا المنظار، وكي لا تصبح مسألة إعادة التوازن، الهدف المراد تحقيقه من تطوير التشريعات، ميكانيكية مادية تدفع الفرد كي يتسلط للحصول على مكاسب على حساب الآخرين، يأتي المفهوم الأخلاقي رادعاً معنوياً، لكي يلعب دوراً ذاتياً كابحاً ضد الانزلاق في دائرة التسلط الفردي.
ب- ا لمركزية ذات خاصية اجتماعية تُعنى بحرية الجماعة:
فالتشريعات كما الرادع الأخلاقي لا يمثلان سوى سلطة معنوية ليس لها قوة إقامة الحدود ومنع الحريات الفردية من الطغيان على الحريات العامة. لذلك كان لا بد من سلطات مركزية يتم اختيارها اختياراً حراً من قبل الأفراد، كتعبير عن الحرية الفردية، لكي تمارس قوة الرقابة على تنفيذ التشريعات الديمقراطية.
وقد تتحول مركزية السلطة إلى أداة للتسلط؛ في مثل هذه الحالة، يأتي بناء المؤسسات الديمقراطية، ووسائل ممارسة الحريات السياسة، الحل الممكن للحد من أية محاولة للمركزية بالانحدار تجاه التسلط.
وهل ليس للديموقراطية إشكاليات كونها مبدأ سياسياً خاضعاً للتطبيق؟
إن أية تسوية بين الفرد والآخر، على الأسس الديموقراطية النظرية ستكون نظرية محض إذا لم تراع الخصوصيات الفردية. فالمسألة النظرية للديموقراطية تساوي بين جميع أفراد المجتمع على افتراض أن جميع أفراد المجتمع متساوون في الخصوصيات والإمكانيات الفكرية والجسدية. ولذلك جاء المبدأ السياسي الذي يعتمد مبدأ حكم الأكثرية. وهنا تبدأ إشكالية الديموقراطية.
إذا كانت التشريعات القانونية، والقيمية الأخلاقية، ملتزمة بمبدأ المساواة بين البشر سيبقى الالتزام نظرياً سليماً، أي سيبقى مبدأً قيمياً منشوداً. ولكنه على أساس أن يتساوى جميع الأفراد بامتلاك المواصفات ذاتها. ولكن الواقع يحمل عوامل الخلل في هذا الجانب. وهذا الخلل يصبح أكثر وضوحاً إذا ما اعتمدنا حكم الأكثرية، أو رأي الأكثرية، مبدأ نخضعه للتطبيق. فماذا نجد إذا ما قمنا بتشريح اجتماعي إحصائي لنكيل به عدالة مبدأ حكم الأكثرية؟
نقول بداية أن إثارة إشكالية مبدأ (حكم الأكثرية) ليس نفياً لعدالته، فالنفي يتناقض كلياً مع مبادئ العدالة والمساواة بين البشر. بل تأتي إثارتها من أجل الإسهام في وضع خطط مرحلية لتأهيل المجتمع الذي يصبح بإمكانه تطبيق هذا المبدأ تطبيقاً سليماً.
ومن أجل الإسهام في هذا الواجب، نثير الأسئلة التالية:
-إذا كانت أكثرية المجتمع تنتمي إلى دين واحد، أو إلى مذهب واحد. وإذا كانت غير محصَّنة ضد الطائفية، فمن الواقعي أنها، في ظل النظام الديموقراطي، ستختار ممثليها من دين واحد، أو حتى من مذهب واحد.
-إذا كانت الأكثرية في حزب واحد تنتمي إلى طبقة العمال، أو طبقة الفلاحين، أو طبقة المثقفين الثوريين، وإذا كانت غير محصَّنة بوعي تنظيمي تدرك فيه ضرورة التنوع في إمكانيات القيادة، فمن الواقعي أنها، في ظل النظام الديموقراطي، أن تختار ممثليها من الطبقة التي تمثل الأكثرية في مؤتمراتها.
هناك أمثلة أخرى نقتصر على ما أوردناه لنستخلص منها أن تطبيق المبدأ القيمي يجب أن يكون مسبوقاً أو مترافقاً مع تعميق ثقافة المستفيدين منه ليصبحوا مؤهلين لتطبيقه بوعي.
ولكل ذلك نقول: إنه لا ديموقراطية من دون ديموقراطيين. فما هو العمل؟
من أجل ذلك، نتساءل:
-من واقع الدولة الحديثة، أي الدولة المدنية، هل يمكن أن يشكِّل المفهوم الديموقراطي جامعاً مشتركاً في مجتمع متعدد الثقافات؟ بل هل يمكن للدولة الحديثة أن توحِّد الثقافات المتعددة بين شتى شرائحها الاجتماعية؟ وهل يمكن للثقافة الدينية أن تلتقي مع الثقافة العلمانية؟ وهل يمكن لثقافة المذاهب، داخل الدين الواحد، أن تُجمع على ثقافة ديموقراطية موحَّدة؟
-أو حتى في الشرائح الاجتماعية الواحدة التي اختارت النظام الديموقراطي في بناء الدولة الحديثة، هل يستطيع جميع الأفراد في تلك الشرائح، على مستوى تعددية مستوياتهم الثقافية، أن يطبقوا النظام الديموقراطي بوعي واحد، وبشكل سليم بعيداً عن الأهواء والغرضية، ومهما تعرَّضوا لضغوط؟
-ومن واقع المجموع الدولي، هل تتساوى الدول القوية مع الدول الضعيفة في وعي النظام الدولي العادل الحريص على تطبيق مبادئ العدالة في العلاقات بين الدول؟
-ومن واقع الحركات والأحزاب العقيدية هل يتساوى جميع الأعضاء بمستوى الوعي الديموقراطي؟
كلها أسئلة تضيء الأجوبة عنها طريق الوصول إلى نظام ديموقراطي أقرب للتطبيق منه إلى البقاء في برج الديموقراطية العاجي. ولهذا، وفي سبيل تمهيد الطريق أمام الباحثين عن مبادئ العدالة والمساواة بين أبناء الجماعة الصغيرة الواحدة وصولاً إليها في علاقات الدول على مستوى العالم كله، أن نقوم بتقسيمها على أبواب ثلاث، وهي:
-الباب الأول: مبادئ العدالة والمساواة بين أبناء الجماعة الواحدة في الدولة الحديثة الواحدة. وهذا يشمل العلاقات الديموقراطية داخل الجماعة الواحدة كالجمعيات الأهلية أو الأحزاب السياسية، أو التيارات السياسية على شتى مشاربها.
-الباب الثاني: مبادئ العدالة والمساواة بين التيارات الثقافية المتعددة في الدولة الواحدة. كمثل الثقافات الدينية والعلمانية.
-الباب الثالث: مبادئ العدالة والمساواة على مستوى علاقات الدول في العالم.
يتمزَّق المجتمع العربي تياران ثقافيان متعارضان أو متناقضان، وهما: الثقافة القديمة بسماتها الدينية التي تجاوزت مهمتها الإرشاد الأخلاقي والنفسي إلى تحقيق أهداف سياسية، والثقافة الجديدة بسماتها الحداثية المدنية أو العلمانية. ولأن الثقافة القديمة تشكَّل الوعاء الأساسي الذي ينهل منه معظم أفراد المجتمع العربي منذ مئات السنين، ويعتبر أن الثقافة الحداثية الجديدة جاءت بالضد من ثقافة الأكثرية الساحقة من هذا المجتمع، ويعتبر روادها أن الثقافة الجديدة تشكل غزواً ثقافياً خطيراً، شنَّ الرواد الأوصياء على الدين حرباً واسعة ضد الثقافة الجديدة. ولهذا السبب، وانطلاقاً من مبدأ بحثي أكاديمي، يستند إلى أنه لا يمكن وصف العلاج لمريض من دون تشخيص المرض، سنبدأ بتشخيصه انطلاقاً من البحث عن مسألتين متلازمتين، وهما موقف الإسلاميين من العلمانية والديموقراطية. وأما السبب فلأن مبادئ الثقافة الحديثة تستند في بناء الدولة الحديثة عليهما.
ولذا سنبدأ بالبحث عن المسألة الديموقراطية في ميزانها أولاً. ومن بعدها ننتقل إلى البحث عن المسألة العلمانية في ميزان تلك الحركات ثانياً.


ليست هناك تعليقات: