الأربعاء، يناير 08، 2020

حصة الفقراء من الجنة خذوها واعطوهم رغيفاً من الخبز


حصة الفقراء من الجنة خذوها واعطوهم رغيفاً من الخبز

عندما تصاعدت الدعوات منذ قرون بإقصاء رجال الدين عن السلطة السياسية كان من أجل أن لا يكتسب العمل السياسي صفة المقدَّس. ومن المعروف أيضاً أن الكثيرين من أولئك الدعاة دفعوا حياتهم وحريتهم ثمناً لمواقفهم، ومن نجا منهم لم تسلم كتبه من الحرق، وحريته من المنفى.
مع مرور الزمن، ظلَّ رجال الدين يمثلون دور المتسلقين على سلالم رجال السياسية، ويضعون فتاواهم في خدمتهم لقاء ثمن يدر عليهم مالاً وسلطاناً، الأمر الذي أغراهم ودفعهم إلى تحويل مهمة رجل الدين إلى مؤسسة يتآزرون ويتساعدون من أجل المحافظة على مصالحهم، فحوَّلوها إلى مؤسسات يجتمع تحت خيمتها مئات الآلاف، لا بل الملايين من الموظفين. واكتسبت تلك المؤسسات شرعيتها التي أخذت تكتسب صفة قدسية، نتيجة مزاعمها بأنها تبشر بمبادئ إلهية، وبمثل هذا التحول أصبح رجل الدين يكتسب أهمية أكبر من أهمية السياسي، لأنه إذا كان بمقدور السياسي أن يوفِّر رغيف الخبز، فإن أهمية رجل الدين، كما تزعم المؤسسات التي تقودهم، أنه يضمن للإنسان قصراً في الجنة، أو على الأقل يضمن له مرقد عنزة في مرابعها.
قصة المؤسسات الدينية، هي قصة كل عصر، بحيث تأخذ بعضها، وهي قلة، مظهر العصر. والبعض الآخر يغيِّر الشكل من دون تغيير يُذكر في الجوهر. كل منهم يبيع قانون الغفران لمن يدفع الثمن. وإن أبرز من يدفعها هم رجال السياسة لأنهم سيحصلون مقابلها نجاتهم بخيرات الله على الأرض تاركين وراءهم قصور الجنة للفقراء والمحتاجين. ولكي لا نظهر بلبوس الناقد من دون حجة، فسوف نأتي بحجج ووقائع من اللحظة الراهنة في العراق، وكذلك في لبنان.
إن منهج المؤسسات الدينية الخاطئ في الهيمنة على قناعات معظم إبناء البشرية، ليس من ابتكار الحاضر، بل تعود إلى الماضي السحيق كما ذكرنا أعلاه. ومن أجل البرهان على خطئه، لن نستطرد بنبش صفحات التاريخ، وهي كثيرة، فلأنها لن تغيِّر بسهولة قناعة الإنسان الذي أوكل أمره للمؤسسات الدينية، ظناً منه أنها الطريق الوحيد الذي يوفِّر له نجاة نفسه بعد الموت. ولكننا سنبرهن على خطأ المنهج بوقائع معيوشة يعاني منها عشرات الملايين من البشر، إذا لم يكن العدد بمئاتها أو بملياراتها.
ففي العراق، ولأنه محكوم بواسطة رجال الدين، أو ممن يزعمون أنهم يمثلون مرجعيات دينية، أعلن الثوار غضبهم عليهم وهتفوا (باسم الدين سرقونا الحرامية)، ورفض ملايين الثوار رؤية رجال الدين في الشوارع.
لم يأت الهتاف والإعلان من فراغ، بل له أسباب من أهمها التالية:
-اتهامهم بالتواطؤ على نهب حقوق الفقراء والجياع والمرضى؛ وامتلاكهم أموالاً طائلة من السرقات والرشاوى، وسرقة النذور من العتبات المقدَّسة، والاستيلاء على أموال الأوقاف وعقاراتها. وهذا جزء يسير من أهم البراهين على ما ترتكبه تلك المؤسسات من جرائم النهب والسرقة. وشراء ذمم العاطلين عن العمل. وسرقة المال العام بشكل لا يتصوره عقل أو ضمير.
-غرقوا بتلك الجرائم وارتكبوها بشكل يعاني منه العراقيون الفقر والحرمان والمذلَّة، ورفل فيه رجال الدين، ومن يسير بركابهم من الانتهازيين والمجرمين، بكل النعم والعيش ببذخ فاقع. وإذا لم تتيسر معرفة أحجام ثرواتهم المنقولة أو غير المنقولة، فإنه يكفي أن نتساءل على الشكل التالي: إذا كانت عائدات ثروات العراق، منذ الاحتلال الأميركي الإيراني حتى الآن، تعد بمئات المليارات من الدولارات، وهي كافية لأن تنقذ عشرات الدول من الفقر، وتعزز البنى التحتية كلها لتلك الدول. وإذا كان الشعب العراقي يئن من كثرة المصائب والعلل وعلى رأسها الجوع، وإهمال شديد في توفير البنى التحتية، وغيرها الكثير، يمكننا التساؤل: إين تذهب ثروات العراق إذن في ظل حكم رجال الدين؟
وبعملية حسابية بسيطة يمكننا الكشف عن الجريمة. إذا كانت إيرادات الدولة تعد بمئات المليارات من الدولارات. بينما شعبها جائع ويقتات من براميل القمامة، وأطفاله يتعلمون في مدارس تعود إلى ما قبل العصر الصناعي. ومرضاه قلما يجدون لهم مستشفى يستقبلهم. وشبابه قلَّما يجدون لهم عملاً باستثناء توظيفهم عناصر في ميليشيات السياسيين ورجال الدين ليحموا مصالحهم. وبنى الدولة أصبحت متخلفة جداً عما كانت عليه في مرحلة الحكم الوطني قبل الاحتلال. يصبح السؤال مشروعاً: أين تذهب العائدات الطائلة؟
وأما الجواب فسهل جداً: فتِّش عن الهدر في خزائن السياسيين المحميين من قبل رجال الدين. كما يمكن التفتيش عنه في خزائن الملالي في طهران، الذين يضفون على أنفسهم هالات القداسة الدينية، وهم الحاكمون في العراق، ويعتبرون أنفسهم أولياء أمر كل من يشارك بـ(العملية السياسية) فيه. فهم مأمورون من قبل المرشد الأعلى في طهران. وهذا دليل ساطع على دور رجال الدين في السطو على لقمة عيش المواطن العراقي. فهم يعيشون ببذخ وترف وإسراف، والشعب يعيش في تقتير وفقر وإفلاس. وبمثل هذا الواقع كان مبدأ العدالة والمساوة هو أكثر ضحايا رجال الدين الذين من واجبهم أن يدافعوا عنه.
ولأن الحاكم في العراق يتشكل من تحالف المؤسسات الدينية، الآمرة الناهية، مع المؤسسات السياسية المستفيدة من فتاوى رجال الدين. ولأن الخلل في توزيع الثروة كبير وكبير جداً، يعني أن كل ما ينقص من حقوق المواطن يتراكم في ذمة المرجعيات الدينية وكل من يأتمرون بأوامرها.
ولأن رجال السياسة يستمدون شرعية سلطتهم من فتاوى المؤسسات الدينية كونها مصدر السلطات الأكثر تأثيراً عند الكثير من العراقيين، يقود إلى الاستنتاج بأن المؤسسة الدينية تشكل الداء الرئيسي الذي ينخر في جسد الدولة العراقية، ويستنزف ثرواتها بالنهب والسرقة والفساد.
وهنا، نرفع السؤال التالي: إذا كان للمؤسسات الدينية قدسية فإنما تعود، كما تزعم، إلى أنها تعمل على تطبيق الشرائع الإلهية المقدَّسة. وإذا كانت مقدسة فلأن القدسية، كما نفهمها نحن، يجب أن تحث على العدالة والمساواة بين أبناء البشر. ولأن العدالة المساواة غائبة في العراق. ولأن المراجع الدينية في العراق هم الحاكمون، فهذا يعني أنها لا قدسية لها، وإن ما تنسبه إلى نفسها، باطل وزائف، ويجب أن لا تنطلي أكاذيبهم على من يقلدونهم أو يصدقونهم عن حسن نية أو عن سوئها.
وأما في لبنان، الشبيه الآخر للعراق فتتحالف المؤسسات الدينية مع المؤسسات السياسية الطائفية، وهذا يُعتبر من أساسيات النظام الطائفي السياسي. بحيث يحمي كل منهما الآخر، ويعزِّز موقعه. وعلى العكس من العراق فإن أمراء الطوائف السياسيين في لبنان هم الآمرون لرجال الدين؛ باستثناء واحد يتمثل بحزب الله الذي، لأسباب أيدديولوجية، يحتل فيه رجل الدين رأس الهرم الآمر للسياسيين. وبهذا الواقع التحالفي تلعب المؤسسات الدينية دور الداعم لأمراء الطوائف، ترخي عباءتها عليهم إلى الحد الذي تسكت فيه عما يرتكبونه من تجاوزات على حقوق المواطنين، وتحميهم ولو كانوا غارقين بالفساد والنهب المالي. ولذلك، وتحت مبدأ (حماية الطائفة) تعمل على مسخهم إلى أتقياء، وتقف إلى جانبهم وتدافع عنهم، بدلاً من الوقوف إلى جانب الفقراء والدفاع عن حقوقهم كما أمر الله بذلك. وإذا كان من تفسير لمواقفهم، فإنهم استغلوا بعض النصوص الدينية غير القاطعة بوضوحها. ومثالاً على ذلك حث الشعوب المحكومة على طاعة أولياء الأمور، ودعوتها إلى الصبر حتى ولو جاعوا، واعتبار الفقر والغنى أمر من الله يرزق من يشاء بغير حساب، و ..،
وإنهم بدلاً من حثِّ أولياء الأمور على حل مشاكل الفقراء، بتطبيق الشرائع الإلهية التي تقضي بالتوزيع العادل للحقوق بين البشر، فإنهم يبرعون بوسائل إرشاد الفقراء عن أفضل الطرق لدخول الجنة، بينما هم ساكتون عمن يأكل أرغفة خبزهم من دون أن ترف له جفن، أو يهتز له ضمير.
وهنا يبدو العجب عجيباً، لأن من لا يحمي حقوق الفقراء بتوفير رغيف من الخبز لهم وهم أحياء، سوف يكون أعجز من أن يوفر لهم كوخاً متواضعاً في الجنة بعد الموت. ومن لا يطالب بحق محتاج لبناء أسرة في الحياة الدنيا، سيكون أعجز من أن يضمن له الحصول على ظفر حورية في الجنة.
وأخيراً،
من لا يستطيع أن يحمي رغيف الخبز للفقراء في الحياة الدنيا، فإنه يرقى إلى مستوى الوعود السرابية عندما يزعم أنه قادر على توفير قصر لهم في الجنة. ولا تعجبنَّ إذا قال جائع وفقير لرجل دين: خذ حصتي في الجنة من قصور وحوريات ومن أنهار الخمر والعسل، واعطني رغيفاً من الخبز في الحياة الدنيا. واعمل بما هو منظور ومعيوش وملموس في حياة المعوزين، واترك للعزة الإلهية أمر تدبير شؤونهم بعد مماتهم.
إن كل ذلك يقضي بأن تصحح المؤسسات الدينية مسار مهماتها ووظائفها، والانتقال من موقع تدبير شؤون البشر في عالم الغيب، إلى تدبير شؤونهم في العالم المنظور.

ليست هناك تعليقات: