الأربعاء، مارس 18، 2020

لكم طوائفكم ولي طائفة الكفاءة والنزاهة


لكم طوائفكم ولي طائفة الكفاءة والنزاهة


عندما خلق الله البشر، خلق فهم قيماً واحدة وتكويناً عضوياً واحداً، ولم يفرق بينهم عرق ولون. وجعل من قيم المساواة والعدالة قانوناً يمنع سيطرة إنسان على إنسان، وشريحة اجتماعية على شريحة أخرى لأي سبب كان. وإذا كانت من فروقات بينهم في مستوىات العلم والمعرفة، على المجتمع أن يضمن المساواة بينهم بفرص اكتسابهما. وإن الله وإن لم يساوِ بين العالِم والجاهل، أو العالِم والأقل علماً، ولكنه ساوى بينهما بالحصول على لقمة العيش.
ومن بديهيات الحقائق، إذا اختلَّ التوازن في الفروقات بين إنسان وآخر، ومن أجل ردم الثغرات فيها، فعلى كل من يتولَّى إدارة شؤون الدولة والمجتمع، من مؤسسات سياسية واقتصادية ودينية، أن يجد الوسائل والسبل لتقريب المسافات. وهنا يمكن التمييز في المواصفات بين من يجب أن يتولى تلك الشؤون، وبين من لا يجوز أن يتولاَّها. فعلى من يتصدى لتلك المهمة أن يمتلك صفات الكفاءة والنزاهة، لكي ينجح في تحقيق مبادئ العدالة والمساواة.
ولكن على العكس من ذلك، وهذا ما تؤكده الوقائع المعاشة، في مجتمعاتنا العربية، نجد أن من يتولى شؤون إدارة الدولة من سياسيين واقتصاديين، تتحكم بهم غرائز الجشع والاستئثار بمقاعد السلطة. ولأن للمؤسسات الدينية في مجتمعاتنا أدواراً مهمة تلعبها في إدارة الشؤون السياسية والاجتماعية بارتباطها في معظم الأحيان بالأجهزة الحاكمة بشكل غير مباشر، أو بشكل مباشر كما في لبنان والعراق- تتحمَّل مسؤولية كبرى في وسائل الإرشاد. فماذا نجد؟
استناداً إلى نصوصها الدينية الخاصة، تنحاز تلك المؤسسات إلى جانب المنتسبين إليها حتى ولو كانوا غير أكفياء أو غير مؤتمنين، وتعتبرهم خيراً من غيرهم من المؤمنين بأديان أخرى حتى ولو كانوا مثالاً للكفاية والأمانة. وفضلوا الجاهل فيهم على العالِم عند غيرهم. وتلك هي من أهم الإشكاليات التي تغرق فيها مجتمعاتنا العربية بشكل عام، وأنظمة الطائفية السياسية بشكل خاص.  وبهذا انحرفت تلك المؤسسات عن رسالتها الإلهية في المساواة بين البشر كما خلق الله نواميسها منذ الأزل من جهة، وانحرفت أيضاً عن مسار مبدأ تفضيل النزيه على الأقل نزاهة من جهة أخرى. ففضَّلت الجاهل والفاسد من طائفتها على العالم والنزيه من طائفة أخرى. وبهذا وضعت تلك المؤسسات نفسها في خدمة أمراء نظام الطائفية السياسية، وابتعدت عن خدمة القيم والمُثُل الإلهية.
ليس ما نثبته هنا آت من هوى، بل هو الواقع بعينه. فالمؤسسات الدينية تنطلق من مبدأ تكفير الآخر، ولذلك لا تأتمنه في شغل المواقع السياسية والإدارية في الدولة. وإنه باستثناء ما صدر عن بعض المؤسسات الدينية الكنسية منذ أقل من عشرين سنة، تعتبر كل مؤسسة دينية أن خلاص نفس الإنسان لن يكون عن طريق آخر غير طريقها.
وإن الأشدَّ غرابة في ذلك، أن مؤسسات دينية وسياسية، استفادت من الترويج لتلك الثقافة الغيبية، وحشت في لاوعي أتباعها أنهم الوحيدون الناجون بعد الموت، وأما الآخرون فمصيرهم نار جهنم. ومن ضمن ما باعوهم وهماً أخروياً بالنجاة إذا صبروا على فقرهم وأبدوا مظاهر الطاعة لحكامهم، بينما راحوا هم يتمتعون بما يجمعون من مال وبنين. وبهذا، وبأقل ما يمكن التعبير عنه، هو أن الأكثرية العظمى من رجال الدين والسياسة، انقلبوا على القيم الإلهية العليا التي تمنع استغلال إنسان لإنسان، وتمنع استغفال إنسان لإنسان.
ولكي تشدَّ تلك الأكثرية الطائفية عصبية أتباعها، انقلبت على القيم الإلهية التي تساوي بين المجتمعات والأفراد، إلى قيم التعصب لهذه الطائفة الدينية أو تلك. وهذا ما يحصل، بشكل واضح وجلي وصريح، في أنظمة الطائفية السياسية، كأنموذج شاذ، عندما عمَّموا ثقافة النظام الطائفي السياسي لتمارس النخبة في كل طائفة وسائل استغفال أتباعها، بغيبية خلاص أنفسهم في الآخرة على حساب المطالبة بلقمة عيشهم في الحياة الدنيا. وتقاسموا المواقع السياسية والاجتماعية في مؤسسات الدولة، لكي يعيِّن كل تحالف طائفي من يستكينون لأوامره وتعليماته، وليس لمن هو أكثر كفاءة من الآخر. وفي مطلق الأحوال، ولأن توزيع الوظائف لُزَّم لرؤوس الهرم، اعتمد كل رأس منهم مكاييل الولاء السياسي والطائفي على حساب مكاييل الكفاءة والنزاهة، بحيث دفع الأكفياء هذا الثمن سواءٌ أكان على مستوى الطائفة نفسها، أم كان على مستوى الوطن.
إن هذا الواقع أدى إلى اختلالات فاضحة في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق ولبنان. ومن أهم تلك الاختلالات أن رأس الهرم الطائفي، وعلى الرغم من أنه ليس الأكفأ في طائفته، حفظ مكانه الدائم على مقاعد السلطة تحت حجة المحافظة على حق الطائفة، ووصل إلى هذا الموقع عندما استطاع أن يحيط نفسه بثلاث من الحواشي:
1-حاشية من الاقتصاديين الذين يتقنون فنون التجارة ويقبضون ثمنها ازدهاراً في مصالحهم التجارية والصناعية والمالية.
2-وحاشية من رجال الدين الذين يتقنون فنون التزلُّف والممالأة والعلم بإصدر الفتاوى والمواعظ التي تغطي فساد رأس الهرم السياسي، ليقبضوا ثمنها مما لذَّ وطاب من متاع الدنيا.
3-وحاشية من المُضَلَّلين بشعار (حماية الطائفة) من تغوُّل الطوائف الأخرى، وممن استغفلتهم حاشية رجال الدين بتخليص أنفسهم في الآخرة.
4-وأما الطائفة التي تترأس مرجعياتها الدينية الهرم الديني والسياسي، فقد أحطات نفسها بدائرة واسعة من رجال الدين من الذين يقلدونها. ومثلها بدوائر من النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تلتزم بفتاواها الدينية، وحشد هائل ممن انطلت عليهم أوهام خلاص أنفسهم في الآخرة عن طرق انتمائهم لطائفة معيَّنة.
وما يحصل داخل هذه الطائفة أو تلك تحوَّل إلى قانون عام في نظام الطائفية السياسية. وبتعميم القانون تحوَّل النظام إلى نظام المحاصصة بين الأقوياء في طوائفهم والأكثر خروجاً على قيم العدالة والمساواة. وكذلك خروجاً على قيم الكفاءة والنزاهة.
وعلى العموم، وبحلول مكاييل الولاء لأمراء الطوائف، مكان مكاييل الكفاءة والنزاهة، اختلَّ التوازن في بناء الدولة العادلة والكفؤة. ولأن تلك المكاييل غابت، تحولَّت الدولة إلى مجموعات من الإقطاعيات الطائفية السياسية تتسابق للاستيلاء على أكبر قدر من قطع الجبنة. وهكذا انتصرت الطائفية على القيم الإلهية، على الرغم من مزاعم أمرائها بأنهم حريصون عليها من جهة، وخسرت الدولة كل الكفاءات المؤهلة لقيادتها من جهة أخرى.
والخلاصة، نعطي مثلاً للبرهان على الخلل الحاصل في بنية الأنظمة الطائفية السياسية ومناهجها المعرفية، هو من حصول ظاهرة انتشار فيروس الكورونا، التي قد تعيد الوعي لمن انطلت عليهم خدعة (حماية الطائفة أولاً)، فنرى من ذلك ما يلي:
-عندما انتشر مرض الكورونا لم يميِّز بين بوذي وهندوسي ومسيحي ومسلم ويهودي. والدليل كان في انتشار الوباء في كل أنحاء المعمورة من دون تمييز بين عرق أو دين.
-وعندما بدأت محاولات اكتشاف أمصال لمكافحته، لم يخطر على بال الباحثين أنهم سيصنِّعون أمصالاً بوذية، وأمصالاً هندوسية أو مسيحية أو إسلامية أو يهودية. فالمصل الذي يعالج البوذي سيعالج غيره من المصابين من أعراق أخرى وأديان أخرى.
-إن جرثومة المرض هي نفسها في كل مكان من العالم. ووسائل معالجتها واحدة أيضاً. وسيكون قصب السبق في التفضيل بين هذا الباحث أو ذاك، لمن سيسبق الآخرين لاكتشافه.
وإذا أردنا أن نعمل على المقاربة بين ما يحصل في العالم حول مرض الكورونا، وبين تطبيق مبدأ المحاصصة الطائفية، سواء أكان في العراق أم كان في لبنان، لكان علينا أن نرفع الأسئلة التالية:
-كل من يسوس أمور الدولة يجب أن يكون كفؤاً ونزيهاً. فالفاسد لن يخدم طائفته، لأنه لن يخدم دولته. وهل يجوز أن لا يخدم المسلم سوى مسؤول مسلم؟ وهل لا يجوز أن يخدم المسيحي سوى مسؤول مسيحي؟ وهذا ما ينطبق على السني والشيعي. إن الأفضل هو الأكفأ والأنزه. وهو من يحقق العدالة والمساواة بين مواطني الدولة، بمسيحييها ومسلميها. بسنتها وشيعتها. وإن مكاييل التفضيل بين هؤلاء هي مكاييل كفاءته ونزاهته.
وما انتشار الفساد في لبنان، والعراق الذي بلغ ذروته في المرحلة الراهنة، سوى نتيجة لغياب عوامل الكفاءة والنزاهة في كل مفاصل الدولة من أعلى هرم فيها إلى أدنى مؤسساتها الصغرى. لقد قتلت الفيروسات الطائفية تلك العوامل. إن الكل يغطي على الكل، وانخرط الجميع بالنهب والسرقة والرشوة باسم خدعة (حماية الطائفة).
إن القوانين الإنسانية العامة، والقيم التي تحث عليها الأديان، هو أنه لا يتساوى الجاهل مع العالِم. والنزيه مع الفاسد. واعتبار الأقل كفاءة بديلاً للأكثر كفاءة. وأَنْ لا يَرَى الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخَرِينَ. تلك القوانين الإنسانية هي القوانين الإلهية.
فأيها الأحبة من رجال الدين الذين رفعوا كلمة الحق في وجه الفاسدين، لعلَّكم تضيئون الطريق لمن آثر من السلك الديني سلامته الشخصية، واشترى حصته بالجنة بهبات الفاسدين، عندما سكت عنهم؛ لا بل تواطأ معهم ضد الفقراء والمساكين. وحتى يفيئوا إلى ضمائرهم ويرفعوا كلمة الله في الأرض، كلمة العدالة والمساواة، كلمة النزاهة والكفاءة، عليهم أن يدفعوا ما دفعه الأنبياء والرسل من اضطهاد، وهم من الذين يزعمون أنهم يعظون البشر بتعاليمهم، أن يتذكروا أن منهم من هرب من طغيان فرعون، ومنهم من اختار العذاب على الصليب، ومنهم من هرب من طغيان عشيرته من مكة إلى المدينة.
من أجل ذلك، فقد ارتضيت لنفسي أن أبيع الطائفية لأصحاب الطوائف، وأشتري بديلاً عنها كلها: (طائفة الكفاءة والنزاهة حتى ولو في الصين)، و(طائفة العدالة والمساواة، حتى ولو في مجاهل أفريقيا).


ليست هناك تعليقات: