الجمعة، يونيو 05، 2020

لا للدول الدينية وأخواتها من الأنظمة الطائفية السياسية


لا للدول الدينية وأخواتها من الأنظمة الطائفية السياسية

إذا كان من غير المفيد أن نجترَّ الماضي، بغثِّه، لكن من المفيد أن نستعيد سمينه إلى الذاكرة، ونعمل على تعميقه وعصرنته. أثارت هذه الفكرة في ذهني إعادة قراءة بداية تكوين الحركة الفكرية العربية، حتى ولو كانت بلمعاتها الأولى التي بدأت تشعُّ في بواكير الدعوة الإسلامية. حينذاك، وبعد أن بدأت نواة الدولة الإسلامية تتكون؛ وأخذت المشكلات الناجمة عنها تطل من رحم عقول النخبة، وتقف أمام إشكاليات فرضتها ظروف الانتقال من المجتمع الإسلامي الأول، إلى مجتمعات أوسع، لها ثقافتها الخاصة، حتى بدأت الأسئلة تتكاثر، بعضها كان يساعد السلطة على تثبيت نفسها، والدفاع عن استمراريتها، وبعضها الآخر كان يكشف عورات السلطة ويعريها.
من تلك اللمعات الأولى، انتشرت بعض الفرق الكلامية التي رفعت السؤال العقلي، التي تكوَّنت خارج قيد النزاع على السلطة، ولم تكن لها أهداف سياسية بأكثر من أنها كانت تضيء على تلك الأهداف. لكن هذا لم يكن ليضيرها سواءٌ أستفادت منها السلطات القائمة، أم استفادت منها المعارضة وما كان أكثرها.
ما كنت لأعيد نبش ما يسميه البعض أفكاراً خشبية يعود تاريخها إلى أكثر من ألف وأربعماية سنة، لو لم يكن خشبها لا يزال صالحاً كوقود لمصهر مشكلاتنا الراهنة التي نعاني منها الكثير. فوجدت أن ما أثيره ليس خشبياً، بل مشكلاتنا لا تزال خشبية، وما يضرنا لو عالجنا خشبية إصرارنا على منع العقل من أن يأخذ دوره، كما لو كان الواقع الذي نعيشه الآن شبيه تماماً بواقع كان معيوشاً منذ ألف وأربعماية عام؟
واستناداً إلى تلك الأسئلة التي ولَّد النص إشكاليات حولها، عمل البعض من العرب المسلمين الأوائل على إنتاج أجوبة عنها، سأقوم بمقاربة بين العصرين: عصر ما قبل تلك الأعوام الطويلة التي كان العقل العربي فيها يحبو، وعصرنا الراهن الذي امتلأ بضجيج العقل وضوابط استخدامه. وسأستند في المقارنة، أو المقاربة، إلى تكثيف اللمعات العقلية التي أخذت تضيء سماء أجواء إجتماعية كانت عابقة بالوجدان الديني الذي كان يترافق مع الدعوة الإسلامية في بواكيرها الإيمانية الأولى. تلك المفاهيم  كانت جديدة ومثيرة في عصر كان البعض فيه يغامر في إدخال طفل العقل  إلى ميدان اجتماعي كان متأثراً بثقافة دينية ذات طابع قدسي. وربما كان ذلك العقل مسلوباً من نويات الثورة على التقليد الإيماني.
في بواكير محاولة بناء دولة إسلامية يحكمها رأس خليفة واحد مدبِّر لشؤونها، منذ بداية عهد الخلفاء الراشدين. وكان تأسيس ذلك البناء قائماً كبديل لتقاليد القبائل المُشتتة، عرفت تلك المرحلة، من ضمن ما عرفت، ولادة فرقتين اثنتين حصرنا الكلام بهما دون غيرهما لعلاقتهما بالموضوع الذي نعالجه في هذه المقالة، وهما فرقتا الجبرية والقدرية.
كانت فرقة الجبرية تعتقد بأن الإنسان مجبور على أعماله، وهذا يخدم السلطة السياسية، بأن وصولها إليها، كان بتقدير من الله. وأما فرقة القدرية، فتستند إلى مبدأ الاختيار، وهذا يعني أن السلطة الحاكمة تتحمَّل وزر اختيارها.
وبمراجعة أعمق لتأثير تلك الإضاءات الفكرية، كانت الجبرية تصب في مصلحة الأنظمة السياسية القائمة، والقدرية كانت تصب في مصلحة المعارضة. ومن اللافت أن فتاوى المؤسسات الدينية، ومن دون استثناء تعددياتها المذهبية، كانت تستند إلى مبدأ ديني ثابت وهو (الإيمان بقدر الله خيره وشره). وهذا يؤكد وقوف تلك المؤسسات، في كل الظروف، إلى جانب نصرة السلطة السياسية لتوحي وكأن الله قدَّرها واختار من يتولى شؤونها. وهذه الحقيقة تؤكد، أن تحالف رجل الدين مع السياسي، كان تحالفاً وثيقاً وثابتاً؛ فالأول، واستناداً إلى النص الديني، كان يدافع عن عقيدته الدينية ورؤيتها للسلطة؛ وأما الثاني فكان يدافع عن موقعه في السلطة بأسانيد دينية. وإذا كانت بعض المذاهب غير الحاكمة تحمل سلاح القدرية لمواجهة السلطات الحاكمة، فإنها عندما كانت تصل إلى السلطة ترتدَّ على أعقابها لتحصين نفسها وحماية أنظمتها السياسية بسلاح مبادئ الجبرية. إن هذه الحقيقة، تثبت أن قيام أي سلطة دينية، أو أية معارضة دينية للسلطة، لا يمكن أن يُوثق بما تعلنه أي منهما، بل بما تُبطنه، لأن جميع الدول الدينية لا ترى سلطة شرعية أخرى غير سلطتها، واستناداً إلى رؤيتها العقيدية ومصالحها السياسية.
وهنا، ماذا نستفيد من مفاهيم البواكير الأولى للحركة العقلية التي أشرنا إليها في مقدمة المقال؟
إن تحالف رجل الدين مع السياسي حقيقة قديمة ترافقت مع بناء أول نواة للدولة الإسلامية، ليس بالضرورة أن يكون صادماً لأنه حقيقة تتواصل حتى الآن. وفي هذا السبب ما يدفعنا إلى النظر بحذر لأي تحالف يحصل بين رجل الدين ورجل السياسية، أي تحالف المؤسسات الدينية مع السلطة السياسية، لأنها تحمل دائماً عوامل تبادل المنفعة بينهما. ويسوأ الأمر أكثر إذا كان البعض من تلك المؤسسات الدينية يعتبر المطالبة بإسقاط السلطات السياسية الظالمة يقع بالضد من إرادة الله.
إن خطورة تلك الدول، وتلك المشاريع هي أنها تسلب المؤمنين بها حرية اختيار النظام السياسي، خاصة إذا تمَّ تدجينهم حسب قواعد الفرقة الجبرية. لأنها لا تزال حية تُرزق منذ ألف وأربعماية سنة، ناهيك عن أنها رافقت آلاف السنين التي سبقتها.
إن هذه الحقيقة تؤكد ضرورة استبدال أي سلطة قائمة على أسس دينية، أو على ما يشبهها كالطائفية السياسية. لا بل رفض أي مشروع سياسي ديني يُروِّج له أصحابه لأنه إذا وصل للحكم فسوف يُسبغ على نفسه شرعية إلهية أيضاً، يتخيَّل أنه يحكم باسم الله، ويظلم باسم الله، وينحر حرية البشر باسم الله.

ليست هناك تعليقات: