الثلاثاء، يوليو 07، 2020

القومية العربية في فكر البعث والعنصرية ضدان لا يلتقيان


القومية العربية في فكر البعث والعنصرية ضدان لا يلتقيان

عقيدة البعث بين التراث والمعاصرة
خضع تكوين القومية العربية إلى مجموعة من العوامل التاريخية والفكرية التي أسهمت في إيصالها إلى حال متقدمة من البناء السياسي ومن النضج النظري. وكانت آخرها حداثة فيما توصَّل إليه حزب البعث العربي الاشتراكي عندما استفاد من الحركة التاريخية للبناء السياسي للأمة العربية، ومن الحركة التاريخية الفكرية لرواد الفكر القوميين الأوائل. وللتوضيح نعيد الإضاءة بإيجاز حول تضافر تلك العوامل لنعيد إلى الأذهان كيف يفهم البعثيون قوميتهم العربية، هذا المفهوم الذي على أساسه نتعرَّف على من هو العربي، والكيفية التي ينظر فيها إلى علاقته مع ذاته ومع مجتمعه ومع محيطه الجغرافي ومع القوميات الأخرى، كمكونات من النسيج الحضاري للأمة العربية، وكذلك على المستوى الدولي.
وأما العوامل التي أسهمت في تكوين البناء القومي العربي، فكانت تاريخية متدرجة، كانت تنتقل بسلاسة ولو بآماد زمنية طويلة. كانت كل مرحلة تنقل إلى مرحلة أخرى عوامل انصهار جديدة، وتقوم بتحويل المجتمع السابق إلى مجتمع جديد. وهنا، يمكننا تسليط الضوء على أهم عوامل التي أسهمت في تشكيل وقائع الانصهار تلك.
1-رؤية نظرية في تشكيل البناء القومي تاريخياً:
بداية ليست القومية نزعة غريزية، بما تعنيه من أنها فطرة تستند إلى تركيب فيزيزلوجي نفسي، بل هي عبارة عن نزعة اجتماعية تتشكَّل عبر مراحل حياة الإنسان والمجتمع، بما هو كائن اجتماعي يكتسب ثقافته الخاصة مع أمثاله من البشر الذين يعيشون ظروفاً بيئية جغرافية واحدة، وهماً مصيرياً واحداً.
فمنذ بداية التاريخ في المنطقة الجغرافية، المتعارف على تسميتها اليوم بالمنطقة العربية، خضعت العلاقات الاجتماعية إلى الانتقال من مستوى الخلية القرابية الواحدة، وتدرجَّت إلى مستوى العشيرة والقبيلة التي تمتاز برابطة الدم، فإلى مستوى العلاقات بين العشائر والقبائل، بحيث بدأت تأخذ مستوى أعلى من التنظيم الاجتماعي الاقتصادي، إلى مستوى العلاقات السياسية الذي يُعتبر المثال الأول لبناء دولة تقوم مجموعة متنوعة من التحالف المذكور على بناء لتنظيم شؤون الناس بشتى مستويات العلاقات القرابية. تلك العلاقات التي أخذت شيئا فشيئاً تنقل الخلية القرابة الأولى من رابطة الدم إلى مستوى القرابة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدفاعية. وبهذا أخذ المفهوم القومي يكتسب سماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة.
ولأنها ليست نزعة غريزية، يعني أن تشكيل الشعور القومي نظرياً وعملياً لا يمت بصلة مباشرة للعلاقات القائمة على القربى بالدم، وهذا ينزع عنها صفة التعصب العرقي والعنصري، كما فعلت الفلسفة النازية. ولأنها نتيجة بناء اجتماعي متعدد المصادر بالتقاء العائلات القرابية مع عائلات قرابية أخرى في مجتمع واحد تضمه بقعة جغرافية واحدة وتقاليد وعادات ولغة مشتركة. وبفعل توسيع الرقعة الجغرافية للبناء السياسي القومي، دخل عامل آخر في توسيع المجتمع الأول، وهو التقاء أقوام أخرى بالجماعات القومية السابقة، خاصة إذا تفاعلت معها بوسائل اللغة والآمال المشتركة من اقتصادية وأمنية واجتماعية، تحوَّل المجتمع السياسي القومي الأول إلى مجتمع جديد آخر فتحول المجتمع القومي الأول إلى مجموعة جديدة بروابط جديدة.
2-الغزوات المتبادلة والرحلات التجارية بين الكيانات السياسية المختلفة:
لقد أسهم في التكوين القومي العربي سلسلة من الأحداث التاريخية المتواصلة، لعلَّ من أهمها عمليات الاستيلاء المتبادل بين الكيانات الصغيرة المختلفة، الآشوريين والبابليين والحثيين والفينقيين، التي تسكن الأرض العربية، التي كانت تعمل على توحيد الجماعات المختلفة بين العراق شرقاً وصولاً إلى مصر غرباً. وكذلك روابط التبادل التجاري التي ربطت المشرق العربي بمغربه وصولاً إلى تونس. وهنا لا يضير تكوين المفهوم القومي شيئاً في أنه كان يتم عبر محاولات استيلاء ممالك على ممالك أخرى بواسطة الغزو العسكري، لأنه كان قانوناً عاماً مرَّت به شتى الأمم في اتاريخ ما قبل المرحلة القومية.
3-الثورة الإسلامية كانت من أهم عوامل الانصهار القومي:
ولعلَّنا في استعادة التذكير بالتجربة الإسلامية التي ابتدأت بإخضاع القبائل للانضمام إلى الدعوة الفتية بواسطة الغزوات التي كان يقوم بها المسلمون الأوائل للاستيلاء على القبائل من أجل توحيدها، وهذا لا يضيرها شيئاً ولا ينتقص من أهميتها أنها تستخدم وسائل الإخضاع بالقوة، لأنها كانت الوسيلة السائدة التي تمثل تاريخ المنطقة، كما تمثل تاريخ العالم المعروف آنذاك. فكانت النزعة التوسعية، أي النزعة الإمبراطورية في التوسع هو القانون السياسي الذي استخدمته الشعوب الأوروبية القادمة من الغرب، والشعوب الفارسية القادمة من الشرق. بحيث أسست كل منها إمبرطورية بسطت نفوذها على كامل المنطقة الممتدة من الأراضي الفارسية إلى الأراضي الرومانية. ولكن ما يًميِّز بين النوعين من الإمبراطوريات، القادمة من الخارج، وتلك التي انبنت على الأرض العربية بيد أبنائها، هو أن النوع الأول لم يستطع أن يصهر الجماعات العربية في الجماعات القادمة من الخارج. أما النوع الثاني فكانت عوامل انصهاره طبيعية وسلسة، بحيث اكتسبت خضائصها القومية، التي لا تزال بارزة حتى يومنا هذا.
4-الثورة الإسلامية ثورة في توحيد القبائل العربية:
هكذا كان حال المنطقة العربية قبائل وشعوب متفرقة سهلة التناول لكل غاز قادم من خارجها، ولما جاءت الدعوة الإسلامية، ابتدأت بتوحيد القبائل في شبه الجزيرة العربية. تلك الوحدة التي تمَّ تتويجها بدخول المسلمين إلى مكة المكرمة. وهذا يعني أن وحدة القبائل العربية في مجتمع إسلامي جديد، أنتجت عامل فائض القوة الذي هو مبدأ أساسي في إعادة تشكيل المفاهيم والقيم التي تتضافر في العمل لنقل المجتمع القديم نقلة نوعية إلى مجتمع نوعي جديد، كما هو الحال دائماً من قانون الوحدة الذي يُعطي للتجمعات الصغيرة زخماً وقوة معنوية ومادية.
5-فائض القوة العربية شكل عاملاً لتحرير الأرض العربية:
ومن تلك الوحدة امتلك العرب فائضاً من القوة أصبح قابلاً لإحداث نقلة نوعية أخرى ليس في تاريخ شبه الجزيرة العربية فحسب، بل في تاريخ المنطقة العربية المحاذية لها أيضاً.
ولما كان تاريخ المنطقة، قبل الدعوة الإسلامية، تاريخاً للإمبراطورية الفارسية في الشرق، وتاريخاً للإمبراطوريتين اليونانية والرومانية في الغرب. وكانت الإمبراطوريات القادمة من خارج المنطقة ناقصة التكوين ما لم تكن المنطقة العربية الواقعة بين شاقوفيهما، ظلَّت تخضع لنفوذ خارجي طوال مئات من السنين. وما إن اكتمل البناء السياسي الجديد للثورة الإسلامية في الجزيرة العربية حتى أخذت توظِّف فائض القوة التي امتلكتها من أجل تحرير المنطقة العربية بأكملها من النفوذين الفارسي والبيزنطي. ونجحت في مهمتها أيما نجاح. وفي تلك المعارك انتصر العرب شرقاً على الفرس في معركة القادسية الأولى في العام (15 هـ = 636م)، وتمتاز المعركة بحادثة تاريخية قد تكون لها دلالاتها لاحقاً، وهي تحالف الفرس والروم ضد العرب لحماية كيانتهما الإمبراطورية الوافدة من الخارج. وبالتزامن معها انتصر العرب ضد الدولة البيزنطية في بلاد الشام (12 19 هـ= 633 640م). ومصر (21 هـ = 642م). ومن بعدها انفتحت الحدود أمام الزحف العربي غرباً فبلغت الأندلس، وشرقاً فبلغت حدود الصين.

6-تحرير الأرض العربية من حكم الفرس والروم، بداية لبناء امبراطورية عربية واسعة الأرجاء:
بانكفاء الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية (الفرس والروم) بفعل الزخم العربي المنطلق من أرض الجزيرة العربية. ومنعاً للغوص تاريخياً في المسألة، يمكننا إيجاز ما أحرزته مرحلة الثورة الإسلامية من انتصارات دخلت فيها الإمبراطورية العربية، بأيديولوجيتها الإسلامية، عصر الإمبراطوريات الكبرى في تاريخ المنطقة بعد الهزيمة التي ألحقها العرب بسابقاتها. وكان لذلك العصر جوانب إيجابية وجوانب أخرى سلبية. ونحسب أن هذا الإيجاز يساعدنا على إنضاج رؤية نظرية للفكر القومي العربي. وسنعرض في هذا المقال إيجابيات المرحلة، وسنترك نقد السلبيات إلى مقال آخر.
إيجابيات المرحلة:
-وأهمها، كان توحيد القبائل العربية أولاً، وطرد الغزاة الفرس والروم ثانياً، وهذا الأمر مهَّد لقيام أول بناء سياسي وحدوي بين العرب، حدا بهم إلى التوسع في الفتوحات.
-وأما الإيجابيات الأخرى، فقد استفاد العرب، من خلال الفتوحات الواسعة بالانفتاح على شعوب أخرى وحضارات أخرى، الأمر الذي احتاجوا فيه إلى وضع مقاربات بين مفاهيمهم ومفاهيم تلك الشعوب من جهة، وإلى وضع حلول لمشكلات لم يكن يعاني منها المجتمع العربي، عشائرياً وقبلياً وما بعد العشائرية والقبلية من جهة أخرى.
وأما على صعيد التطور الفكري السياسي والديني، فتجدر الإشارة إلى أن الدولة العربية الإسلامية، وبعد أن دخلت إليها أقوام أخرى، وحضارات أخرى، تفاعلت معها ثقافياً، واندمجت بالمجتمع الجديد، وأصبحت عاملاً عضوياً، تدافع عنه وتشارك في رسم مصيره. فمنهم العسكري، والمترجم إلى اللغة العربية، والمساهم في تطوير المؤسسات الإدارية للدولة الجديدة، ومن علماء النحو والفقه والفلسفة والعلوم الوضعية الأخرى. وأما في الواقع فقد برز قادة عسكريون من غير العرب سطروا الكثير من البطولات في حماية الدولة الجديدة. كما برز منهم علماء ومفكرون، أسهموا في صناعة أسس حضارية في شتى الميادين، ووقفوا جنباً إلى جنب مع أترابهم من العرب.
ولما لم يعد النص الديني يستطيع الإجابة على الكثير من المشكلات الطارئة والأسئلة الجديدة، راحت الدولة تفتش عن حلول وأجوبة عليها، الأمر الذي شعروا فيه بالحاجة إلى تشجيع الترجمة من اللغات الأخرى حيث استعان بهم الخلفاء، الذين تميزوا بتشجيع العلم، لنقل تراث الشعوب الأخرى وترجمته إلى اللغة العربية. كما إلى تشجيع العلماء في شتى حقول المعرفة ومن أهمها العلوم الإنسانية في الفقه، والفلسفة، وغيرها من علوم الطب والفيزياء والكيمياء...
إذن، لم يشكِّل العلماء من أصول غير عربية أية إشكالية في مسارات النهضة الفكرية، بل لعبوا دوراً إيجابياً مؤثراً في تلك المسارات. ولأنهم أسهموا بشكل لافت في إحداث التراكم المعرفي في الثقافة العربية فهم من العرب استناداً إلى أن الأصول العرقية ليست هي التي تحدد الهوية العربية، بل تحوَّل المجتمع العربي، خاصة بعد تأسيس أول دولة عربية، إلى مجموعة من الانتماءات العرقية، وإن كان عدد العرب يشكل الأكثرية المطلقة، فهذا يجب أن لا يشكل عامل تفوق على الأعراق الأخرى التي انصهرت بالمجتمع العربي وأسهمت بتنميته في شتى الحقول.

من نتائج مصادر التراث، أكَّد البعث على رفض العنصرية:
إن حزب البعث العربي الاشتراكي، أولى هذه القضية اهتماماً خاصاً، رافضاً أي نوع من أنواع العنصرية في معالجة وضع كل من هو ليس بقومي الانتماء للعرب، لأنهم انصهورا انصهاراً تاماً في الدولة الجديدة، ووظفوا إمكانياتهم ومهاراتهم ومعارفهم من أجل تقدم البناء الاجتماعي والسياسي والعسكري والسياسي للدولة العربية.
وباستثناء المرحلة السلبية التي استغلَّ فيه بعض القادة العسكريين، من مماليك وأتراك، نفوذهم في حماية الخلفاء للوصول إلى السلطة والهيمنة عليها لمصلحة طبقاتهم الاجتماعية بشكل خاص، ولمن ينتمي إلى أعراقهم الأصلية بشكل عام، فإن دستور الحزب حدَّد بشكل أقرب إلى الدقة موقفه الرافض للعنصرية. حيث جاء في المادتين 10 و11 من دستوره: (العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية. ويجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية).  وغير ما نصَّت عليه المادة 11، يعتبر البعث أن شرط الانتماء للأمة العربية ليس مرتبطاً بعامل القرابة العرقية، ويعتبر أيضاً إن الشعور القومي عبارة عن نزعة اجتماعية تتشكَّل عبر مراحل حياة الإنسان، بما هو كائن اجتماعي يكتسب ثقافته الخاصة مع أمثاله من البشر الذين يعيشون ظروفاً بيئية جغرافية واحدة، ولغة واحدة، وهماً مصيرياً واحداً. ولأن هذا الشرط متوفر في وضع كوضع المفكرين والفلاسفة والعلماء ، الذين هم من أصول غير عربية، فهم عرب، ويُحسب إنتاجهم الثقافي إلى دائرة الفكر العربي والحضارة العربية.

ليست هناك تعليقات: