الخميس، أبريل 08، 2010

لماذا حزب البعث؟ (3)


لماذا حزب البعث؟

حزب البعث ضرورة فكرية نضالية

وحاجة قومية وحدوية

(وجهة نظر في تحليل الأسباب والمراحل)

المرحلة الثالثة

لماذا الحزب القطري العربي؟

(مفاهيم وطنية ومطلبية وتحررية)

من غير المعروف على المستوى العالمي مصطلح «الحزب القطري»، و«الحزب القومي». وإنما هي مصطلحات سائدة في الوطن العربي فقط. والسبب يعود إلى خصوصيات تاريخية وفكرية وسياسية وإيديولوجية.

أسست كل شعوب العالم كياناتها القومية في بنى دول مستقلة، وأنظمة سياسية حديثة، لهذا لم يميز المصطلح الغربي، والمصلحات غير العربية، بين «القومية» و«الوطنية». بينما في المصطلح الثقافي والسياسي العربي حصل هذا التمييز، وانتشر الالتباس حول تعريف كل منهما. وقد ميَّز حزب البعث العربي الاشتراكي بينهما بإضفاء صفة «القطرية» على الأقاليم العربية التي فصلت بينها اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية. واستناداً إلى رؤيته الوحدوية استخدم مصطلح «الوطن العربي» كتعبير عن الجمع بين الثنائية التي يتم تعريف «الوطنية» بها، وهي «الأرض/ القوم»، أي الأرض التي يسكنها قوم لهم خصوصياتهم التي يتشاركون بها. ولهذا اعتبر أن الوطن العربي يتمثل بـ«الأرض العربية التي يسكنها قوم عرب»، فيصبح هو الكل الأشمل والأقطار هي الجزء.

وسبب الالتباس بالمصطلح العربي يعود إلى ظروف تاريخية، وعوامل أكثرها خارجي، وأقلها داخلي.

أما الظروف التاريخية فتعود، كما دلَّت أبحاثنا، إلى أن التكوين القومي العربي قد حصل عبر قرون عديدة من الزمن. ابتدأت منذ مطلع التاريخ المعروف، في حالة تفاعل تاريخي وثقافي، بين الأجزاء المعروفة في بلاد ما بين النهرين، وبلاد الشام، وحوض وادي النيل، وشبه الجزيرة العربية. وكان أكثرها تأثيراً عامل الدعوة الإسلامية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية، وشملت في مراحل اندفاعتها الرئيسية كل المناطق المحيطة، والمعروفة الآن كحدود شمالية وشرقية وجنوبية للوطن العربي. والجزء الغربي منها، ابتداء من ليبيا انتهاء بالمغرب الأقصى، تعرَّب بالتدريج، لغة وثقافة بفعل وتأثير الدعوة الإسلامية.

وباتساع الإمبراطورية الإسلامية، إلى أوروبا من ناحية إسبانيا، وإلى آسيا الصغرى المعروفة بـ«تركيا»، وصولاً إلى بلاد الصرب حتى أبواب فيينا، أصبحت المناطق التي تعربت أجزاء أساسية من الإمبراطورية الإسلامية، بحكم الولاء للخليفة الإسلامي، خاصة بعد سيطرة الأتراك العثمانيين على كرسي الخلافة. ولذا فقد عرفت تلك الأجزاء وحدتها تحت سيطرة العثمانيين، وكانت تابعة لها تحت مسميات دويلات متعددة. لكنها لم تعرف أية حالة وحدوية مستقلة عن جسم الإمبراطورية الإسلامية.

وبدأت الحاجة إلى وحدة الأجزاء التي تعرَّبت بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أن انهارت الإمبراطورية الإسلامية، وبنت كل الشعوب الأخرى كيانا تها القومية. لكن هذه الحاجة، أي وحدة الأقاليم التي تعرَّبت، كانت مما يخيف الدول الاستعمارية، التي كانت فرنسا وبريطانيا من أهمها في تلك المرحلة. ونتيجة هذا الخوف الاستراتيجي قامت الدولتان المذكورتان بعقد اتفاقية بينهما أطلقتا عليها «اتفاقية سايكس بيكو»، وفيها وضعتا حدوداً جغرافية بينها، وأطلقوا على كل جزء منها الإسم المتعارف عليه اليوم. ووزعا التركة بينهما، بما يُعرف بعصر الانتدابين البريطاني والفرنسي. ولا يزال العرب يعيشون حتى اليوم عصر اتفاقية سايكس بيكو.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إمعاناً في هدف منع الأقطار العربية من التوحد، فقد وقعت بريطانياً وثيقة وعد لليهود بإعطائهم أرض فلسطين لبناء دولتهم الصهيونية عليها، وهو ما يذكره التاريخ باسم «وعد بلفور».

كان من الطبيعي أن يحقق العرب وحدتهم بعد الحرب العالمية الأولى، لكن عامل الإعاقة الخارجي، تم تعزيزه بنزعات إقليمية محلية، بابتكار صيغ قومية مفتعلة، مثل «الفينيقة، والفرعونية، والهلال الخصيب... ». وبعد أن تأكد للدول الاستعمارية أن العامل الإقليمي، كما ترسمه حدود اتفاقية سايكس بيكو ليست كافية للحؤول دون الدعوة إلى الوحدة العربية والعمل على تحقيقها، راحت تصدر دعوة أخرى تقوم على تعميق ثقافة النزعات الطائفية والدينية، تحت ستار «مشروع الشرق الأوسط الكبير». ويشكل التعميق الثقافي الطائفي الخطوة الأساسية الأولى لإعادة تقسيم أقطار الوطن العربي إلى دويلات طائفية، وإعادة تشكيلها في كيانات طائفية ومذهبية. وبالعودة إلى الخريطة المعلنة لهذا المشروع تدل على أن المرحلة الثانية من إعادة تشكيل سايكس بيكو جديدة سائرة على قدم وساق .

وأخطر ما في الأمر، ومما يدعو إلى الأسف أن حركات الإسلام السياسي الناشطة تشكل عاملاً مساعداً لهذا المشروع من خلال إعلان عدائها للفكر القومي من جهة، وتأسيس بنى طائفية أينما تستطيع ونشر الدعوات الطائفية تحت ستار الدعوة للدين من جهة أخرى.

وإننا نعتبر أن نشاط هذه الحركات هو الأخطر لأنها تحفر في ثقافة الأكثرية الساحقة من الشعب العربي الذي يتقبل تلك الدعوات لأنها مغلَّفة بستائر الدين الإسلامي، خاصة وأن الثقافة الدينية تشكل العامود الأساسي للثقافة الشعبية السائدة.

من داخل هذا السياق التاريخي أخذ الالتباس في تعريف المصطلحات يزداد وينتشر، فأخذت تسود لغة «الوطنية اللبنانية، والوطنية المصرية... »، وتحل بديلاً لما كان يجب أن يكون «الوطنية العربية».

ومن جهة أخرى أخذ التشكيك حتى بمصطلح الوطنية، القطرية منها والقومية، يزداد ويستفحل وتدور حوله الكثير من علامات الإبهام والتشكيك، وتشوَّشت مفاهيم الانتماء، وتاهت مفاهيم الهوية.

وفي تلك المتاهات ضاع المواطن العربي بين أن يكون انتماؤه إلى وطن أم يكون انتماؤه إلى دين؟ أو هل يكون انتماؤه إلى دين أم انتماؤه إلى مذهب؟

كما حلت الشكوك حول تحديد الهوية، بين أن ينتمي الإنسان إلى أمة دينية، أم إلى أمة قومية؟ وهل أمتنا عربية، أم أمتنا إسلامية؟

إنها باختصار أزمة ثقافية حادة. إنه وإن كانت مفاهيم القطرية الانفصالية، كالدعوات «الفينيقة، والفرعونية، والأمازيغية... » قد خفتت أصواتها، فإن التفكير على صوت عالٍ أخذ يرتفع من أجراس الكيانية الطائفية والمذهبية والدينية. فالخوف من الأولى أخذ ينحسر بشكل لافت، لكن الخوف من الثانية هو الذي أخذ يزداد ويتصاعد بشكل لافت أيضاً.

كل تلك الإشكاليات تستثير لدينا الكثير من المسؤوليات، ومن أهمها كيف نحول دون تفتيت القطر إلى دويلات، وكيف نحافظ على وحدة القطر الواحد، كخطوة ضرورية لاستئناف العمل بيسر على طريق الوحدة القومية.

أصبحت مهمة المحافظة على التكوين الوطني القطري من الانهيار تشكل إحدى المهام الأساسية أمام الذين يعملون على التغيير. ولهذا السبب تكمن أهمية العمل الوطني على مستوى القطر، التي نوجزها على الشكل التالي:

1-ترسيخ مفاهيم الانتماء الوطني على قاعدة الحقوق والواجبات، والاعتراف أن القطر تسكنه مجموعات إثنية، سواءٌ أكان على مستوى العرق أم ألدين أم المذهب.

والأمر كذلك، نعتبر أن التشريعات المدنية التي توحِّد بين حقوق المواطنين وواجباتهم هي التي تشكل الأساس على المستوى الدستوري وعلى المستوى القانوني، ورفض التشريعات التي تستند إلى الأساس الديني أو العرقي، إلاَّ بما يحفظ وحدة العائلة على صعيد الزواج والإرث والحقوق الروحية الدينية. ولكن على أن لا تنعكس تلك الحقوق سلباً على وحدة المجتمع الوطني.

2-ترسيخ مفاهيم المساواة بالحقوق والواجبات على مستوى الفروقات الطبقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، على أن تراعي التشريعات القوانين مصالح شتى الطبقات وتنوعها.

والأمر كذلك، ولأن الصراع الطبقى لا يزال يمثل الأساس في بنيتنا الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تسود طبقات النخبة الاقتصادية على مفاصل الحكم، وهو ما يتيح لها فرصة سن قوانين وتشريعات تكرس مصلحة تلك النخب، تبقى على الطبقات الأخرى أن تناضل من أجل توحيد الحقوق والواجبات ليس على صعيد التشريع فحسب، وإنما على صعيد التطبيق أيضاً.

أما على صعيد وحدة المجتمع الوطني، فلا يمكن أن تتوفر إلاَّ انطلاقاً من تهذيب التربية الدينية واعتبارها شأناً فردياً أكثر من كونها شأناً اجتماعياً أو سياسياً. أي باعتبارها شأناً يتعلق بمصير الأنفس بعد الموت. وإن السلوك الفردي، ضمن مفاهيم الأخلاق العامة، هو الذي يحدد مصير الفرد في الآخرة، ولا يتم الخلاص عبر أنظمة دينية سياسية. واستناداً إليه فإن تأسيس أنظمة على مقاييس تشريعات هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، لا يمكن إلاَّ أن يكون عاملاً للتفتيت والشرذمة والصراعات الدموية بين أبناء الدولة الواحدة والوطن الواحد.

وإن للدولة الراهنة مفاهيم جديدة تجاوزت مفاهيم المراحل التاريخية السابقة. والدولة الحديثة لا يمكن أن تتأسس إلاَّ على ثابتين اثنين: وحدة الأرض، ووحدة المجتمع الذي يعيش عليها. ولأن الثقافة الواحدة هي من أهم شروط وحدة المجتمع، ولأن الأديان والمذاهب ليس هناك ما يجمعها إلاَّ وحدة المفاهيم الأخلاقية. وليست هناك أسساً لثقافة واحدة بينها، ففيها الكثير مما يفرِّق، على صعيد التشريعات، نرى أنه لا بدَّ من التأسيس لثقافة أخرى تنتخب من تراث الأديان والمذاهب ما يجمع، واستبدال كل المفاهيم الأخرى بمفاهيم ثقافية جديدة تؤسس لوحدة ثقافية، وهي بدورها كفيلة بغرس عوامل التوحد الوطني بين كل تنوعات المواطنين الدينية والمذهبية والعرقية.

إن هذا الأمر يتطلب العمل من أجل محاربة المفاهيم الدينية التي يكون هدفها بناء دولة دينية. ولن يم هذا الأمر إلاَّ بفصل الدين عن السياسة.

وأما على صعيد الصراع الطبقي، فلن يتم على صعيد اجتثاث طبقة لطبقة، واستبدال ديكتاتورية طبقة بديكتاتورية طبقة أخرى، كما تدعو الماركسية. والسبب أنه طالما هناك تقسيم للعمل فهناك فروقات ومميزات، وهذا الأمر يقتضي وجود امتيازات. على أن لا تكون الامتيازات فارقة بحيث تؤسس لهوة سحيقة، اجتماعياً واقتصادياً، بين أبناء المجتمع الوطني الواحد. كما لا يجيز وجود طبقة رأسمالية تعتاش طفيلياً على جهد الآخرين وعرق جبينهم.

وأخيراً سيكون تعريفنا للقطر بأنه الكيان الجغرافي الأصغر في الكيان القومي العربي الأشمل. ولهذا القطر خصوصيات وله عموميات.

فخصوصياته هو أنه من خلال العمل النضالي، تعمل قوى التغيير فيه على تعزيز الثقافة الوطنية على مقاييس بناء الدولة الحديثة أولاً، وتعزيز الثقافة المطلبية التي تهدف إلى جسر الهوة بين الطبقات الاجتماعية على قاعدة المساواة والعدالة ثانياً، وكل ذلك يتم عبر إعداد النخبة المثقفة من بين حركات وأحزاب التغيير التي تشكل الجسر الذي يربط بين الأحزاب وقواعدها الحزبية انطلاقاً من أنه «لاتغيير في بنى الدولة من دون تغيير في البنى المعرفية للمواطن في الدولة الحديثة».

ولأن وطننا العربي يتعرض إلى هجمة استعمارية صهيونية منذ ما يقارب القرن من الزمن، نصنِّف الأقطار العربية في دوائر ثلاث:

-بعضها واقع تحت الاحتلال العسكري المباشر.

-وبعضها الآخر معرَّض للاحتلال العسكري.

-والبعض الثالث واقع فعلاً في دائرة الهيمنة والاحتواء السياسي والاقتصادي.

واستناداً إلى هذا الواقع، نعتبر أن مهمة التحرير من الاحتلال هي من المهمات الخاصة التي تقع على عاتق المواطن في أي قطر من أقطار الأمة العربية. وهي المهمة التي تميزه عن غيره من مواطني دول العالم الثالث. إلاَّ أنه في بعض الأقطار العربية غير المحتلة تتساوى مهماته مع غيره من دول العالم الثالث، وهي المهمة التي تقتضي العمل للخروج من دائرة الاحتواء والهيمنة والخضوع للدول الرأسمالية.

ومن هنا، فإن الحزب على المستوى القطري العربي يتحمل أعباء مهمات ثلاث:

-مهمة ترسيخ مفاهيم المواطنة، أي مفاهيم الانتماء إلى وطن تنصهر فيها النزعات الطائفية والعرقية لتحل مكانها ثقافة المفاهيم الجامعة لكل التعدديات الإثنية.

-مهمة ترسيخ المفاهيم المطلبية، وهي مفاهيم المساواة بين الطبقات الاجتماعية، وردم الهوة بين التعدديات الطبقية.

-مهمة ترسيخ مفاهيم التحرر من الاحتلال، وممارسة مقاومة الاحتلال.

ولكل مهمة برنامجها النضالي النظري، وخططها العملية النضالية. وهي تلك التي تحتاج إلى عمل جماعي لا يمكن أن توفر شروطه ومستلزماته إلاَّ الأحزاب العقيدية المنظمة.

ولأن الوطن العربي يختص بميزة أنه لم يحقق وحدته السياسية تناغماً مع حالته القومية، ولأن قضايا كل قطر تتكامل مع قضايا الأقطار الأخرى، تأتي الحاجة إلى حزب يمتلك شروطاً ومواصفات قومية،

وسنعالج هذا الموضوع في الحلقة الرابعة من دراستنا،

والتي ستكون تحت عنوان:

(الحزب القومي العربي: مهامه التوحيدية والتحررية).




ليست هناك تعليقات: