الأحد، يوليو 04، 2010

وُجْهة نظر ودعوة إلى الحوار:

ما بين الإسلام والعروبة مسافة العلاقة الجدلية بين الديني والسياسي.
نُشِرَ هذا البحث في مجلة الفكر العربي: بيروت: معهد الإنماء العربي: العدد 76: ربيع العام 1994.
- تقديـــــــــــم
I  - إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي قديمة جديدة.
II - الاختلاف بين مناهج المعرفة يؤدِّي إلى نتائج متعارضة.
1-منهج المعرفة الماديـة الجدليـة.
2-منهج المعرفة الدينية، منهج استاتيكي.
3-منهج المعرفة التاريخي - ا لاجتماعي: منهج جدلي في داخل الحالة وفي داخل التاريخ.
III - المنهج المعرفي النظري مدخل إلى معرفة الواقع.
IV - إشكالية الاتفاق على الهوية الفكرية: إسلامية أم عربية؟
1- ما هي الأسس النظرية للرابطة القومية من وجهة نظر القوميين؟
2- أرجحية الرابطة الدينية عند الإسلاميين تُلزِمُهم بموقف حَذِرٍ من القومية.
V - إشكاليـة النظام السياسي: أدينيٌ هو أم علماني؟
1- عقيدة "الأولوية للرابطة الدينية" تُنْتِج نظاماً سياسياً-دينياً.
2- عقيدة "الأولوية للرابطة القومية" تُنْتِج نظاماً سياسياً علمانياً.

تقديــــــم
كانت الظاهرة الدينية، وما زالت، ملازمة للبشر منذ بداية التاريخ حتى لحظتنا الحاضرة. هذه الظاهرة هي صورة التأثُّر والتأثير بين المادي والروحي عند  الإنسان. أصلها مرتبط بكل ما لا يستطيع الإنسان رؤيته أو معرفة أسراره من خلال حواسه، أو من خلال قواه العقلية، ولها ارتباط بالظواهر الخارقة، بمقياس المستوى العقلي والحضاري للمجتمعات، سواء أكانت هذه الظواهر مادية أم غيبية، فإن الإنسان يعطيها صفة القداسة. لكن عندما تنكشف أسرار تلك الظواهر، أي عندما يستطيع الإنسان تفسيرها بحواسه أو بعقله، فإنه تلقائياً يعمل على الفصل بينها وبين صفة القداسة؛ ولهذا فإن ما كان مُقدَّساً عند الإنسان البدائي لم يبقَ كذلك عندما يبلغ هذا الإنسان نفسه مرحلة متقدِّمَة أكثر؛ ولهذا السبب فإن ما هو مقدَّس عند مجتمع/شعب ما ليس مقدَّساً عند مجتمع آخر.
لأن الظاهرة الدينية لها علاقة بمسألة القداسة، ولأن القداسة هي شيء نسبي في داخل المجتمع الواحد أحياناً، وبين مجتمع وآخر، فهل تمرُّ تلك الظاهرة، إذاً، من دون أن تترك أثراً ما على النُظُم الثقافية لتلك المجتمعات؟
إن الثقافة هي:« الإرث الاجتماعي ومحصلة النشاط المادي والمعنوي للمجتمع. ويتكوَّن الشق المعنوي من حصيلة النتاج الذهني والروحي والفكري والفني والأدبي و القِيَمي، وتتجسَّد في الرموز والأفكار والمفاهيم والنظم وسُلَّم القِيَم والحسِّ الجمالي» ([1]).
وإذا كانت المعتقدات الدينية، كنتاج روحي لمجتمع ما، ذات أثر بالغ في سلوك الإنسان النفسي - الفكري، والنفسي - الاجتماعي، وفي إنماء ثقافته الخاصة في هذا الاتجاه أو ذاك، فإن الدين -بما يحمل من مُعتَقَدات دينية ومُقدَّسات، مسموحات و محظورات- يطبع ثقافة المجتمع بسمات تلك القِيَم. وطالما أن ثبات هذه المعتقدات والمقدَّسات أو تغيُّرها مرتبطٌ بمستوى الإدراك العقلي عند الفرد والمجتمع، فهي عُرْضَة لإعادة النظر أيضاً، وإن التغيير الذي يطالها سوف يقود إلى تغيُّرات مماثلة في ثقافة ذلك المجتمع.
تأتي الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام، ضمن هذا النطاق. وهي قد نشأت أصلاً في البيئة الشرقية لتطبع المجتمع الذي نشأت فيه بخصائصها وسماتها.
فالإسلام بلغ شاناً مُتقدِماً بالنسبة إلى الأديان البدائية عندما استطاع أن يرتقي  بالقوى المقدَّسة إلى أعلى مستويات التجريد العقلي، عندما  أكَّد على وجود إله غير منظور لا يُدرِكُه إلا العقل. و بالإضافة إلى ذلك استُكْمِلَت الثورة الروحية في الإسلام بثورة توحيدية سياسية وتشريعية في داخل المجتمع العربي، فكانت هذه الثورة نوعاً من الانقلاب السريع في حياة المجتمع البدوي / القبلي في الجزيرة العربية.
هذه  الثورة، عدا عن إحداثها  انقلاباً في  معظم  جوانب  الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية لمجتمع الجزيرة، فإن تأثيراتها لم  تقف عند حدود الجزيرة العربية؛ وإنما راحت تبُثُّ إشعاعاتها وقوة  تأثيرها في الشعوب المجاورة، ثم الأبعد منها فالأبعد، حتى وصلت إلى الحدود الجنوبية الغربية للقارة الأوروبية.
إن المتغيِّرات التي أصابت مجتمع الجزيرة طالت بتأثيراتها المجتمعات/ الشعوب التي خضعت للفتح العربي-الإٍسلامي؛ فكان من أهم المتغيِّرات تلك التي أحدثت تعريباً في بنى بعض الشعوب التي كانت تنتمي إلى غير العرب.
إن المتغيِّرات التي تطال المستوى الحضاري لأي مجتمع، عبر مراحل التاريخ، يصبح لها تأثيرات على البناء الثقافي الديني.
ضمن هذا السياق نفهم علاقة الدين بشكل عام، والدين الإسلامي بشكل خاص، بحياة المجتمع العربي، أو المجتمعات التي تعرَّبت.
فإذا كنا لا ننفي، لأن هذا غير موضوعي أصلاً، إيجابيات التركيب الاجتماعي-النفسي والتحرري الذي تركه الإسلام في حياة المجتمعات التي  خضعت لسلطان ثقافته، فإن الإسلام -بلا شك- كانت له تلك الإيجابيات التي تحتاج إلى دراسات موضوعية متخصِّصة؛ إلا أن تأكيدنا على تلك الإيجابيات لا يمنعنا من النظر إلى مراحل التاريخ الإسلامي والعربي نظرة نقدية لنكتشف ما تحمله من ثغرات وإشكاليات، لأنه حينما أحدث الإسلام متغيِّرات إيجابية انكفأ زخمها فيما بعد ومنذ القرن الخامس الهجري- وأخذ يتراجع بفعل عدة عوامل منها: أن الدعوة الإسلامية فقدت زخمها عندما أُصيب العقل العربي، أو عندما أُريد له أن يُصاب بسمات من الجمود، انعكس بدوره ضعفاً وتخلُّفاً على الحياة الفكرية والسياسية والدينية للشعوب كافة التي كانت تضُمَّها دولة إسلامية واحدة.
إننا من خلال هذه الرؤية، التي تنظر إلى التاريخ العقائدي والسياسي للإسلام نظرة شاملة، تنظر إلى الإيجابي منه لا لتُضَخِّمه، بل لوضعه في موقعه الصحيح، وتنظر إلى السلبي لا لكي تستخدمه مادة للتشهير، وإنما لكي تُصوِّب المسار باتجاه الهدف السليم؛ ومن خلال هذه المنهجية سننظر إلى طبيعة العلاقة بين المجتمع القومي العربي-كواقع سياسي فكري اجتماعي- و بين الإسلام كظاهرة دينية اجتماعية ثقافية رافقت التاريخ العربي أكثر من عشرة قرون.

I  - إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي قديمة جديدة.
الصراع بين الديني والسياسي صراع قديم، لم يكن سمة بارزة لشعب دون آخر؛ عرفه التاريخ البشري في أبرز محطتين تاريخيتين: في أوروبا بين الكنيسة من جهة والملك والطبقات الاجتماعية من جهة أخرى. وفي التاريخ العربي الإسلامي بين الفقهاء والسلاطين.
لقد سادت في أوروبا سلطة الكنيسة قرونـاً طويلـة من التاريخ الأوروبي،  حكم في أثنائها رجال الإكليروس المسيحيون باسم الحق الإلهي وباسم الدين، واتَّهموا بالهرطقة كل من لم يلتزم بسلطة الكنيسة: من الملك نزولاً إلى الرعايا كافة؛ حتى  إنهم حكموا  بالتعذيب على من لا يُدين بمذهب الرأس الكنسي الحاكم، من أتباع المذاهب المسيحية المختلفة؛ فالمقصلة والحرق بالنار كانا  ينتظران حكماً من المحاكم بحق، حتى المفكرين، الذين يتجرأ ون على اعتناق أفكار جديدة لا تنسجم مع أفكار الكنيسة الجامدة.
أما في الدولة الإسلامية، فقد ساد الصراع بين الديني والسياسي طوال المرحلة التي امتدَّت منذ وفاة  الرسول إلى إلغاء  الخلافة  الإسلامية  في العام 1924م بعد انهيار الدولة العثمانية الإسلامية.
لم يتغلَّب الديني على السياسي، بل إنهما كانا متلازمين، إلا في سنوات قليلة بعد وفاة الرسول، لأن الدعوة كانت في ذلك الحين لا تزال في عزِّ تأثيرها واستحواذها على المشاعر ([2])؛ لكن بعد ذلك سارت الأمور مسارات أخرى، أصبح فيها السياسي هو السيد، والديني مُنْقادٌ له يخدم اتجاهاته ويُدَعِّم مواقعه ويُسوِّغ له شرعيته الدينية.
هذه الحقيقة طبعت مجمل العصور الإسلامية: الأموية و العباسية والمملوكية والعثمانية؛ كان، في خلالها، يُطبِّق الفقهاء حدود الشريعة الإسلامية، باستثناء ما له علاقة مباشرة بطريقة الحكم و السلطة والأداء السياسي للخليفة الحاكم أو لأتباعه، حيث لم يجرؤ أحد أن يحقق عدالة التطبيق على العامة والخاصة.
هذه النتائج تدلُّ عليها مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، التي كان يحيا في ظلِّها المسلمون، في مستويات من التمييز الواضح في الغنى والترف والفحش وتجاوز حدود الشريعة، في الوقت الذي كانت تعيش فيه العامة في مستويات متدنِّية من الفقر والضعف والعبودية؛ وكان الفقهاء ينقسمون على أنفسهم بين ما يُسمَّى بفقهاء السلاطين، والفقهـاء الذين كانوا قلَّما يُعبِّرون عن سخطهم خوفاً من بطش السلطان.
هذه صورة تاريخية لما كانت عليه العلاقة بين الفقه والسلطان/ الخليفة، أي بين الديني والسياسي، هي صورة الصراع الدائم التي كانت تُحسَمُ بتسوية ما، كان فيها السلطان يُقَرِّب الفقهاء لتدعيم سلطته السياسية، وكان فيها الفقهاء يتقرَّبون منه تحت حجة حماية الحدود للدولة والشريعة. وإننا نعتقد أنه كان هناك ما يشبه المصالحة الدائمة، أو فلنقل فضَّ الاشتباك، بين موقع الفقيه و موقع السلطان، أي بين السياسي والديني.
من جانب آخر، كان فقهاء المسلمين قد انقسموا إلى فِرَقٍ وتيارات شتى، حتى إن فقهاء المذهب الواحد لم تجمعهم-في غالب الأحيان -روابط بأكثر مما تفرِّقُهم؛ يتصارعون لكي يفرض كل مذهب سلطته؛ ولم تهدأ هذه الصراعات، بالمنظار التاريخي، عند حدود، بل إنها كانت متواصلة ومستمرة.
لا يمكن هنا إلا أن نشير إلى أن حوالي المئتي فرقة ومذهب إسلامي تركت جميعها، بشكل أو بآخر، بصماتها  في التاريخ الإسلامي، كانت تسعى فيه كل فرقة بطريقة سلمية أو ثورية، للوصول إلى السلطة؛ كما استطاع بعضها  أن يسيطر بشكل جزئي ولمدد قصيرة أو طويلة، بلغت أحياناً عشرات السنين، على السلطة، خاصة عندما تزايد عدد الدويلات الحاكمة التي كانت تتصرَّف مع الخليفة وكأنه موجود بالاسم.
لكن الأغلب والأهم أن السلطة السياسية للخلافة الإسلامية كانت في يد التيار السُنِّي الذي لم تكن مذاهبه مُوَحَّدَةً أيضاً، بل إنها كانت تتبارى في ما بينها للحصول على الاعتراف بها من الخليفة/ السلطان.
أما الفقهاء، وإن لم يتسلَّموا مقاليد النظام السياسي، إلا أنهم كانوا يُجيزون شرعية أي سلطان يستطيع الاستيلاء على السلطة، ويكتفي الفقهاء منه بأن يُؤمِّن حماية الثغور الإسلامية وحماية الأحكام الشرعية. إن العودة إلى دراسة هذا الجانب بطريقة أكثر تفصيلاً وشمولاً تدلَّنا على أن هذه الإجازة تتناقض مع الدعوة إلى أن الإسلام هو دين ودولة.
في ظلِّ سكوت الفقهاء عن اللاعدالة واللامساواة اللتين كان يمارسهما السلاطين والخلفاء، كان السياسي يحكم باسم الديني ويتلطَّى به، وهذا أيضاً يؤشِّر بوضوح على وجود إشكالية في العلاقة بين السياسي والديني، وهي بدورها تشكِّك بمصداقية أن يكون الإسلام ديناً ودولة.
إن اعتقادنا بأن الوقوف لمعالجة هذه الإشكالية، ليس أساسياً فحسب، وإنما هو مصيري أيضاً، لما للوضوح فيها من علاقة جوهرية بمبدأ أي نظام نريد. أهو النظام السياسي العلماني، أم النظام السياسي الديني؟
فإذا كان ما يحلُّ المشكلة هو سيادة النظام الديني، مسيحياً كان أم إسلامياً، فهل النظام هذا يستطيع أن يُؤمِّن العدل والمساواة، السياسية والاجتماعية لجميع منتسبي الأديان السماوية؟
وإذا كان هذا النظام بيد دين دون آخر، ونحن نتكلَّم باستمرار عن مجتمع قاعدته الإثنية الدينية، في الوقت الذي ينقسم فيه كل دين إلى عشرات المذاهب، فهل يستطيع المذهب الحاكم أن يُؤمِّن العدالة والمساواة، السياسية والاجتماعية، لجميع المذاهب؟
أما إذا كان النظام السياسي المطلوب نظاماً وضعياً، فهل يستطيع تأمين العدالة والمساواة لجميع أفراد المجتمع الإثني - الديني، الذي يحكمه؟
بل هل يستطيع هذا النظام أن يحمي، بعلمانيته / وضعيته، الجانب الروحي الذي تتميَّز به مجتمعاتنا المؤمنة بالأديان السماوية؟ أي هل يستطيع مثل نظام كهذا أن يحقَّق التكامل بين الروحي والمادي عند الإنسان؟
باستقراء التاريخ الأوروبي، نرى أن المجتمع الأوروبي، بتغليبه السياسي على الديني بعد إزاحة السلطة السياسية للكنيسة- استطاع أن يحكم سياسياً بنظام وضعي، واستطاع أن يلغي الصراع بين المذاهب الدينية المسيحية، ويسمح أيضاً بالمشاركة السياسية، في الحياة العامة، لكل المذاهب الدينية.
أما حين نستقرئ التاريخ العربي الإسلامي، فنصل إلى نتيجة مفادها أن السياسي كان سائداً على الديني، وفي أفضل حالات التكامل بينهما كان أحد المذاهب الإسلامية، المُمَثَّل بالسلطة، يعمل على التنكيل بالمذاهب الأخرى وإبعادها عن قصر الخليفة / السلطان.
وفي الوقت الذي تبقى فيه إشكالية الصراع بين الديني والسياسي دون أن يحرز أحد طرفيه النصر على الآخر، سوف تبقى إشكالية تنظيم العلاقة بين العروبة والإسلام مستمرَّة في عملها التفتيتي؛ وهي وإن استكانت في  بعض  المراحل، لظروف  الصراع مع  الخارج مثلاً، فإنها تبقى جاهزة لتَنْبُت من جديد وبقوَّةٍ أيضاً.
فالمطلوب، بدلاً من استجداء التوفيق بينها، أن يتحدَّد موقف علمي واضح بالحوار الهادئ والصريح بين طرفي الإشكالية، لأن في تحديد مثل هذا الموقف تكمن الحلول التي يفتقدها مجتمعنا للتفرغ إلى مقاومة الغزو الآتي من الخارج. وعلى الرغم من امتلاكنا القوَّة والزخم، فإن غياب الحسم في المواقف بين الديني والسياسي تُكْسِبْه قوَّةً على قوَّة.
أين نجد هذا الموقف، بل هل يمكن أن نجده؟ وبالتالي هل نستطيع تحديد ما هو أقرب إلى الموضوعية والعلمية؟
إن الموضوعية مسألة نسبية، فما يبدو موضوعياً في نظر منهج معرفي، لا يكون كذلك من زاوية النظر إلى منهج آخر؛ فالموقف من تحديد موضوعية الموضوعية يرتبط أساساً بتحديد منهج المعرفة الذي يسلكه الباحث.
II الاختـلاف بين مناهـج المعرفـة يؤدِّي إلى نتائـج متعارضـة.
مناهج المعرفة متعدِّدَة، يمكن أن نحدِّدَ أهمَّها، الذي يمكن أن يساعدنا على فهم موضوعنا بشكل  أفضل، للحصول على نتائج أقرب إلى حد الرضى عنها من قِبَلِ أكبر عدد ممكن من أفراد مجتمعنا.

1- منهج المعرفة الماديـة الجدليـة:
هذا المنهج يتمحور حول مسألة الانتاج الاقتصادي، وهو منهج ماركسي يرى أن التصورات والأفكار تتشكَّل في إطار البُنْيَة الاقتصادية بالذات، وحسب اعتقاد مُنَظِّري هذا المنهج، يكون" وجود الإنسان مشروطاً في نوعه وشكله، بالبنية الاجتماعية-الاقتصادية، حسب ماركس و إنجلز. فوجود الإنسان هو الشرط المادي لهذا الوجود. ولا وجود للإنسان في المطلق أو بمعزل عن الشروط المادية للحياة والانتاج"([3]). وإنه أيضاً " ما يصُحُّ للبشر، يصح أيضاً بالنسبة إلى معارفهم. فلا معرفة في المطلق أو خارج شروط تكوُّن هذه المعارف المادية"([4]).
تدعو الماركسية، من المادية التاريخية، إلى مطالعة أحداث التاريخ" فتُحَلِّل هذه الأحداث انطلاقاً من مسألة مُعَيَّنة ذات الجذور المادية"([5]).
وبعد أن تؤكِّد النظرية الماركسية ارتباط المعارف بالعلاقات الاقتصادية القائمة في الواقع المُعاش، تصل إلى نتيجة أن المعرفة نسبية وموضوعية، فهي جدلية في نموِّها وتطوُّرها، فالإنتاج الفكري والمعرفي يتفاعل جدلياً مع ظرفه الموضوعي، لكن الماركسية تُغْفِل التفاعل الجدلي بين هذا الإنتاج مع ظرفه الذاتي"([6]).
فإن تكن المادية الجدلية، كمنهج في المعرفة، قد اعترفت بدينامية الأفكار والثقافة وإنتاج المعرفة، أي اعترفت بأهمية هذا التطور، لكنها ربطت هذا التطور والتفاعل مع الظروف المادية / الاقتصادية؛ فهي عندما حصرت مصدر المعرفة بعامل واحد، فإنها أعادت هذه الدينامية إلى استاتيكية أخرى  عندما جرَّدَت تطور المعرفة من ظروفه الخاصة / الذاتية التي لها علاقة بالتراث الروحي الفكري والديني.

2- منهج المعرفـة الدينيـة، منهج استاتيكي:
يرى بودون "أن الدين هو ظاهرة مميَّزَة لكل المجتمعات الإنسانية السابقة والحاضرة و اللاحقة…يريد  علماء  الأنتربولوجيا والاجتماع إعطاء هذه الظاهرة تفسيراً وضعياً"([7]).
كما يميِّز دوركايم في كل واقع ديني بين عنصرين اثنين: المعتقدات والطقوس. فالعقائد تعني القضايا المُعَدَّة من قِبَلِ اللاهوتيين، والتي لا يمكن أن تُناقَش من قِبَلِ المؤمنين ([8]). وأياً تكن طبيعة الغَرَض الذي يتناوله المُعْتَقَد الديني فإنه «لا يميِّز بما قد نميل إلى تسميته بالبداهة المُلْزِمَة تحت طائلة التحريف» ([9])، ولهذا تتضمَّن كل ديانة عدداً معيَّناً من الأوامر والنواهي([10]).
أما الطقوس فليست في فعاليتها الأدواتية فحسب، وإنما "تنفيذ الطقس يُقوِّي ويُعيد تضامن المجموعة" أيضاً ([11]).
فالأوامر والنواهي الدينية تستند إلى نظرية (التابو)، الذي هو كل ما يُحَرَّم لمسه أو الاقتراب منه، و" يُنوِّه علماء الأنتربولوجيا بما له من أثر في الضبط الاجتماعي، وفي توكيد القِيَم الاجتماعية والأخلاقية"([12]). فالأوامر والنواهي والمُحَرَّمات التي تطلقها الدعوات الدينية تدخل ضمن التشكيل الثقافي للمجتمع الديني، وإن "الوصايا والمُحَرَّمات، وهي الدعائم الأساسية لكل عقيدة دينية، تُعْتَبَر أهم دعامة في التشكيل الثقافي لكل طفل"([13]).
ولأنه لا يمكن مناقشتها لأنها مُسلَّمات، فعوامل التشكيل الثقافي للمجتمع المُتَديِّن تقود إلى التعصب الديني الذي "هو ضرب من الحماس الشديد الذي يدعو إلى الغُلُوِّ والاستمساك برأي أو موقف مُعَيَّن"([14]).
ولا يقف التعصب الديني عند الإيمان العميق بفكرة أو عقيدة "بل يتعدَّى هذا إلى الدفاع عنها و الاستماتة في سبيلها، والاستخفاف بآراء الآخرين، ويَخْضَع للدعوات التبشيرية ووسائل الإيحاء المختلفة"([15]).
ويُعْتَبَر التعصب السياسي، أيضاً " حالة مَرَضِيَّة غير سوية على المستوى الفردي والجماعي؛ فسلوك المتعصب يتميَّز بالنظرة الحادَّة الضيِّقة الأفق، و يتَّصِف بالرعونة و البعد عن التعقُّل، والتصلُّب بالرأي، والخضوع لسيطرة الانفعالات الجامحة، والاستهانة بالقِيَم والعرف الاجتماعي السائد متى كان لا يلتقي مع اعتقاده"([16]).
إذا كان الفكر وضعيَّاً، فقد ينقاد بعض مُعْتَنِقيه إلى طريق التعصب إذا اعتقدوا  أنه يُلِمُّ بالحقيقة المُطْلَقَة؛ فكم هو بالأحرى إذا كان مصدر هذا الفكر إلهياً ؟ فالتعصب، حينئذٍ، يصبح أشدَّ تأثيراً في نفس معتنقيه.
أين يأتي الفكر الإسلامي، كفكر ديني، داخل هذا السياق؟
يعتقد أركون " أن الإسلام، كدين وكتطبيق تاريخي، كان قد وُلِد نتيجة النضال الذي استبدل السلطات المتبعثرة والمتنافسة المبنية على اللعبة الميكانيكية للعصبيات القَبَلِيَّة السائدة في الجزيرة العربية، بسلطة وحيدة مرتكزة على السيادة العليا للإله الواحد"([17]).
فمصدر المعرفة الإسلامية، ذو منبع إلهي، تنتقل إلى النبي بواسطة الوحي (الكتاب)؛ حيث يقوم هو بتفسيرها من جهة، ويحكم بما لم يَرِدْ في النص من جهة أخرى (السُنَّة)؛ ثم يأتي دور تقليد السلف الصالح كما هو مُحَدَّدٌ في المصادر عند المذاهب السُنِّيَّة. أما الشيعة فيضيفون مصدراً أساسياً آخر إلى مصادر المعرفة، وهو الإمام المعصوم، ثم الفقيه والمجتهد في حال غيابه، وهو  -أي الفقيه- " الحاكم والرئيس المُطْلَق. والراد عليه رادٌّ على الإمام، و الراد على الإمام رادٌّ على الله تعالى، وهو على حدِّ الشُرْك بالله…"([18]).
ولأن مصادر المعرفة الإسلامية الدينية هي ضمن هذه الحدود، ولأنه إذا كان هناك من دور للعقل، فإنما في حدود أن يصل بالبرهان إلى ما هو مُحَدَّد سلفاً بالمصادر الأساسية، لذا فالمعرفة الدينية هي معرفة تسليمية، يُعَبِّر عنها المظفر بأنها " تتوقَّف أساساً ومُنْطَلَقاً على مدى إيمان الشخص وتسليمه بالأمور الروحية غير المنظورة في الإسلام"([19]).
وهي معرفة تواكلية أيضاً "لأن الأمر الذي لا شكَّ فيه هو أن السلوك الفعلي لأعداد كبيرة من المسلمين، المبني على طريقة فهمهم الخاصة للدين، ينطوي على قدر غير قليل من التواكلية، والإيمان بالمكتوب و المحتوم"([20]). وإن أية محاولة لتدخُّل الإنسان في تحديد مصيره يُنْظَر إليها على أنها خروج على المشيئة الإلهية، فإزاء هذه المسألة يقف الإنسان صامتاً([21]).
وأيضاً هي معرفة تقليدية، لأنه بعد أن توقَّف الوحي -بعد اكتمال العقيدة الإسلامية- بوفاة النبي، أصبح التقليد هو السائد في الحياة العقلية الدينية الإسلامية،؛ و ميزة التقليد هو "كونه يقيم استمرارية بين الحقب التاريخية المتتالية للتاريخ نفسه، ولكن هذه الاستمرارية ليست من نوع إعادة  الانتاج البيولوجي، ولا من نوع التكرار  البسيكولوجي عبر العودة غير المحدودة لنفس المواضيع الخيالية([22])؛ وإنه "في كل مرة نتمسَّك أو نراعي طريقة للحياة أو العمل أو الشعور بحجة أنه (هكذا تمََّّ التصرف دوماً)، يمكننا الكلام عن التقليد؛ إن عبارتَي (عرف القدماء) و (المعلم قال ذلك) يُعبِّر عن الخضوع لسلطة الماضي"([23]).
فمبادئ / قواعد المعرفة الدينية الإسلامية، التسليم والتقليد والتواكلية، هي على الرغم  مما يسبغه  عليها السلفيون الإسلاميون من هالات تبلغ حدود القداسة، إلا أنها في النهاية تدلُّ بوضوح على أن المنهج المعرفي السلفي هو الذي يريد أن يقف التاريخ عند حدود السلف، وبالتالي أن يقتله.
فمنهج المعرفة الدينية الإسلامية -كما يفهمها السلفيون- أدَّى إلى تجميد قدرة العقل وتجميد حركة التاريخ.
فبالنسبة إلى العقل أصيب بالجمود بعد أن أصدر السلفيون حكم الإعدام بحق كل فكر أو سلطة من أي مصدر أتى، وفيه أسبغوا قدرة الله تعالى ]وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون [ 117/2 على أنفسهم.
فالإسلام الرسمي قد أغلق على نفسه "في تحديدات دوغمائية قاسية لا تُناقَشْ، [وقد] أسبغ عليها صفة الحقائق الثيولوجية الخالصة"([24]).
حاولت بعض الحركات الفكرية في الإسلام أن تبرهن على حرية الإرادة عند الإنسان، بإعطاء دور بارز للعقل، بمعنى العقل الجدلي وليس العقل التسليمي أو التقليدي أو التواكلي، كانت المعتزلة أولى تلك الحركات التي تصدَّت لمهمة توليد البرهان من حرية الإرادة عندما " أثبتوا لبعض الحوادث مؤثِّراً غير الله، ورأوا أن الإنسان فاعل مُحْدِثٌ مُخْتَرِع و مُنْشِئ على الحقيقة دون المجاز (وسلَّموا) بتلازم الأسباب ومُسَبِّباتها"([25]).
حصل ذلك على الرغم من أن الأشاعرة قد "ذهبوا إلى أن جميع المُمْكِنات مستندة إلى الله سبحانه ابتداءً بلا واسطة… وعلى أساس هذه الفكرة قالوا إنه لا علاقة بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة…والكل واقع بقدرته (قدرة الله) واختياره تعالى"([26]).
وحذا كل من الغزالي والصوفية حذو الأشاعرة "فلا نجد عندهم اعترافاً بالضرورة بين الأسباب ومسبِّبَاتها"([27]).
لهذا تحول العقيدة الإسلامية، بشكل عام، دون سيادة الاتجاه المستقبلي لأن الإسلام باعتقاد السلفيين هو آخر الرسالات، وقد اكتملت بنزول القرآن، " وهكذا ينطوي الإسلام على عقيدة أساسية هي أنه دين البشرية التالية كلها، وتعاليمه هي أعلى قمة للتشريع والأخلاق والحكمة التي يمكن أن يهتدي بها الإنسان"([28]).
أما بالنسبة إلى التاريخ، فقد فَقَدَ التطور التاريخي معناه في أصول المعرفة الإسلامية، لأن  التاريخ توقَّف  بعد نزول الآية: ] اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5/3.
فمسار التاريخ بعد الإسلام "إما أن يكون تدهوراً، وإما أن يكون -على أحسن الفروض-محاولة دائمة للعودة إلى الإشعاع الأول. وفي كلتي الحالتين لا ينطوي المستقبل على جديد، ولا يُمثِّل تطور البشرية خطاً صاعداً إلى أعلى…فالتاريخ سيبلغ يوماً ما نقطة تعلن على المستوى الذي بلغه عند نزول الوحي، و هو أمر ممتنع بالنسبة إلى عقيدة اكتمل بها  رشد الإنسان، أعني عقيدة يستحيل-بحكم تعريفها ذاته-أن يتمَّ تجاوزها في أية لحظة لاحقة من تاريخ البشر"([29]).
لكن مفهوم التاريخ تطور "مع تطور مفهوم الحقيقة. فلم تعد هناك حقائق مُعطاة نصل إليها بالرواية والإسناد الصحيح، بل غدت الحقيقة حصيلة بحث وتقصٍّ ومحاكمات ذهنية. والواقعة التاريخية أصبحت تُعْرَف في أسبابها وعلائقها أكثر مما تُعْرَف بتفصيلاتها"([30]).
فالمنهج المعرفي الإسلامي، على مستوى العقيدة والتاريخ،هو منهج التجميد والسكون، ويؤمن بمُسَلَّمات / حقائق ثابتة، ويُفَسِّر الحقائق والفكر والتاريخ على قاعدة ثوابت عقيدية، وهو لا يرى التاريخ إلا انعكاساً لمُثُلِه العقيدية المطلقة.
إن الإغلاق المعرفي الإسلامي، بتأثير من المُسَلَّمات الدينية، كان إغلاقاً سياسياً أيضاً، يتساوى  فيه التطرف والاعتدال الإسلاميان، فهما "يلتقيان في سياستهما الثقافية والاجتماعية…كما أنه بين السياسيين من الإسلاميين، وبين الحركيين والإرهابيين منهم، رابط أساسي هو هدف إقامة سلطة إسلامية وبرنامج اجتماعي مشتَرَك…"([31]).
لقد جمعت معاداة "السببية" السلفيين الإسلاميين، وكذلك قاعدة التقليد المعرفية، فهم يؤمنون، معتدلون ومتطرِّفون، بما آمن به "مالك (لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما يصلح به أولها)، فهم يفكِّرون في داخل منظومة مُغْلَقَة [هي] تلك التي يُقدِّمها لهم النموذج الحضاري العربي - الإسلامي في القرون الوسطى، والتي تشكِّل إطاره المرجعي الوحيد"([32]).
فلم يظهر حتى الآن من المعتدلين من هو على استعداد "للتنازل عن أمور جوهرية يبقيهم التمسِّك بها بمنأى عن سياق التاريخ العربي الحديث وعن منأى شرعيته، ولا سيما في ما يتعلَّق بتطبيق الشريعة المنافية لواقع الحياة العربية، وإقامة المجتمع على أسس من الاستبداد الاجتماعي"؛ ومن مظاهر  ذلك: القطع والرجم والصلب والملابس الغريبة الهندام والفصل بين الجنسين([33]).
فالشريعة، بما هي قوانين وأنظمة، أصبحت تشكِّل الغاية والهدف، وعلى كل شيء أن يقف في سبيل خدمتها؛ فبدلاً من أن تصبح الشريعة مسخَّرَةً للمجتمع في سبيل تيسير إدارة شؤونه وتسهيل مصالحه، وفي الوقت الذي قال فيه الله تعالى: ] ألم تروا أن ألله سخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة[ 31/20، اندفع السلفيون إلى  تغليب الحفاظ على شكليات الشريعة، و كأنها هي الهدف والغاية، بدلاً من مصالح الناس، بينما وُضِعَت الشريعة لخدمة تلك المصالح.
هذا السبب دفع بفقهاء المسلمين "إلى تقسيم خادع للكفاءات ما بين السلطة العقائدية و السلطة التنفيذية. نجد، في ما يخصُّ الإسلام، أن العلماء [فقهاء الدين] يُغَذُّون الوهم بامتلاكهم سيادة ذات قانون إلهي، في الوقت الذي توظِّف فيه دولة الخلافة أو السلطة أو الإمارات المختلفة هذا الوهم من أجل أن تمارس سلطة استبدادية مطلقة"([34]).
فأسس المنهج المعرفي الإسلامي، إذاً، «تعني الخضوع الكامل الذي تمارسه الأمة تجاه إرادات الله المُسجَّلَة، وكل ذلك يفترض أنه مُوضَحٌ  ومُفَسَّر في الشريعة من قِبَلِ فقهاء أكفياء» ([35]).
استخدم المنهج المعرفي الديني، بقواعده التسليمية والتقليدية والتواكلية، ما  أسبغه الله  تعالى على ذاته من قدرة مطلقة ] وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون [ 117/2، فأعطاها صفات بشرية وأحلُّها في جسد وعقل بشري، واستخدمها أداة للإيحاء بأن ما يقوله أولو الأمر يقود، حتماً، إلى ما لا يُغضِب الله، وهو في الوقت ذاته حاول أن يسلب الإنسان حريته في الاختيار.
لو أن الله تعالى قدَّر على الإنسان كل أعماله، وحرمه من حرية الاختيار، كما تدلُّ بعض الآيات القرآنية، وهو القادر على منعه من تجاوز الحدود المرسومة لشريعة الإسلامية، ففي أي إطار تأتي تلك الآيات الأخرى  التي حدَّدت موقع النبي في دائرة الإنذار وليس في دائرة السيطرة، وهذا واضح عندما يأمره الله تعالى: ] قل إنما أنا بشر مثلكم…[ 41/6، ] فذكِّر إنما أنت مُذَكِّر [ 88/21، ]لست عليهم بمسيطر[ 88/22. فالله لم يمنع السيطرة عن النبي لكي يهبها لغيره من أولي الأمر/الفقهاء.
فالقدرة الإلهية لم تُسَخَّر لغير الله وحده، والمعرفة الإلهية،بإعجازها، لم تُعْطَ لأحد من البشر، و إن ما سُمِح به للنبي  لا يتجاوز الجدال بالتي هي أحسن. إذ  لو ألزم الله البشر بمنهج  واحد في المعرفة، أي لو كانت هناك حقيقة مطلقة غير الذات الإلهية، فما هو الهدف الذي لأجله خُلِقَت البشرية ووُضِعَت على طريق التطور والارتقاء، لتنتقل من الطور البدائي ومن استخدام حجر الصوَّان إلى عصر الصاروخ والكمبيوتر؟
لكن، وإن كان الاعتقاد سائداً في أن المنهج المعرفي الستاتيكي يؤدِّي إلى نتائج سلبية على الفكر البشري، إلا أنه يجب التمييز بين مستويات القضايا / مواضيع المعرفة عندما نقوم بنقد المنهج المعرفي الديني - الإسلامي.
- فالمسلَّمات الماورائية (وحدانية الخالق - الثواب والعقاب في الآخرة -مصير الإنسان بعد الموت…) لها علاقة بفلسفة تفسير  الكون، وهي مُسلَّمات أكثر منها قضايا تخضع دائماً للبرهان.
-النُظُم والشرائع (الوسائل الفضلى في تنظيم شؤون البشر الدنيوية) والحقيقة فيها نسبية.
- القيم الأخلاقية التي لها علاقة بتربية الضمير الفردي والجماعي، وهي وإن كانت مُكْتَسَبَة، فقلَّما تخضع لقوانين التغيير، وهي أقرب للحقيقة المطلقة منها إلى الحقيقة النسبية.
فإذا كنا قد عالجنا بمنهج نقدي الخطأ الذي يقع فيه المنهج الديني في المعرفة عندما يسبغ  صفة الحقيقة  المطلقة على القضيتين الأولى والثانية، فإن ما لا يجب أن نغفله هو القضية الثالثة التي تُعْتَبَر إحدى الزوايا المهمة في  استكمال بناء المعرفة القِيَمِيَّة للذات عند الفرد والمجتمع في الفكر الديني.
إن القِيَم الأخلاقية لها علاقة بتحقيق إنسانية الإنسان (الجانب الروحي)، و لها قوانينها الخاصة في التطور (تكتسب صفاتها المطلقة بين مختلف الشعوب وعبر كل العصور).
فالصدق والرحمة والإيثار والشجاعة…هي قِيَمٌ أساسية في الأديان؛ يعمل المتدينون على المحافظة على الماضي في هذا الجانب، أي تقليد السلف بها؛ وهذه مسألة ضرورية لأن المبادئ الأخلاقية تتعلَّق بمصلحة المجتمع أو الجماعة المُؤمِنَين،؛ والإسلام يفرض "التمسُّك بالأخلاق كشيء أساسي ينبغي أن يكون عليه المسلم في سلوكه في المجتمع… فإحياء  الإسلام يعني تجديد التأكيد على القيم الأخلاقية"([36]). ولهذا  يجري  الاهتمام بالمجتمع " في ضوء المعايير الأخلاقية المُسْتَمَدَّة من الماضي. إن ديناميكية هذا التطور، واهتمامه بالجوانب الروحية وبالعدل، هما اللذان يعطيان المنافس الديني تقدُّميته وقدرته على التَكَيُّف مع المتغيرات الحديثة"([37]).
والأخلاق هي قيمة اجتماعية - نفسية، وهي ضوابط قد يكون مصدرها اجتماعياً أو روحياً، وهذا يُكْسِبُها قوَّة ومناعة، تلك الضوابط هي "مجمل الآليات التي تحفظ المجتمع في استقراريته كما في متغيراته"([38]).
تلك القِيَم يكتسبها الإنسان من المجتمع المحيط به مباشرة "إلى أن تصبح قوى ذاتية داخلية هي[ الضمير]. ويتكوَّن هذا الضمير عن طريق امتصاص قِيَم الآباء واكتسابها، وبذلك تصبح معايير الطفل نفسه"([39]).
وبناء الضمير مسألة في غاية الأهمية في سبيل تنمية القوى الروحية عند الإنسان، خصوصاً بعد أن يتِمَّ تجريدها من قانون المنفعة لكي تصبح غير مشروطة بالترغيب والترهيب.

3-منهج المعرفـة التاريخي الاجتماعي: منهج جدلي في داخل الحالـة وفي داخل التاريخ.
بدايةً، إن علم اجتماع المعرفة "يحاول فهم الإيديولوجيات والفلسفات الاجتماعية من خلال طبيعة المناخ الحضاري والبناء الاجتماعي الذي أفرزها أو الذي ظهرت خلاله"([40]).
" يناقش علماء المناهج -منذ زمن طويل- إمكانية قيام علم اجتماع يقوم على الموضوعية المطلقة وعدم الانحياز، والتحرر من آثار الإيديولوجيا. وانقسم المفكرون -في موقفهم من هذه القضية- إلى فريقين رئيسين: فريق يرى إمكانية الاتجاه بالدراسات السوسيولوجية وجهة موضوعية خالصة، وجعْلِها أقرب إلى التعبير عن الواقع بعيداً عن التحيُّزات الشخصية والاتجاهات المذهبية، والأحكام القِيَميَّة، والتوجهات الأيديولوجية؛ وفريق آخر يرى  أن طبيعة الموضوعات التي يدرسها عالم الاجتماع، والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيش في ظلِّها، والبناء الإيديولوجي القائم داخل مجتمعه، والطبقة التي ينتمي إليها، والقِيَم التي يؤمن بها، كلها أمور تبعد عن نطاق الموضوعية، سواء من حيث الموضوعات التي يدرسها، أو المناهج التي يستخدمها، أو نماذج التحليل والتفسير التي يتبنَّاها، أو النتائج التي يتوصَّل إليها"([41]).
ولأن عالِم الاجتماع يرى "أن الظواهر تُكوِّن وحدات ترتبط أجزاؤها بعضها ببعض، وأنه في ضوء هذه الأنساق يمكن فهم الظاهرة في ظروفها الخاصة"([42]).
ولأن غالبية الاجتماعيين تؤمن بأن هذه الظواهر ذات صفات خاصة، كما أنها تعتقد أن هذه الصفات تجعل الظواهر الاجتماعية "نسيج وحدها، وتُميِّزها عن الظواهر المادية أو الآلية، والظواهر الحيوية أو النفسية"([43]).
إن هذه السمات / الصفات هي الوحدات الثقافية التي لا تنقسم إلى أقلّ منها، ومجموعها يشكِّل نمطاً اجتماعياً، ومجموعة الأنماط تشكِّل نظاماً، ومجموعة النُظُم الاجتماعية تشكِّل الثقافة التي تميِّز شعباً من الشعوب.
فإذا قام عالِم الاجتماع بدراسة سمات الثقافة الخاصة لمجتمع ما بنظمها وأنماطها وسماتها، يعني أنه يدرس هذه السمات ليحدِّد خصائصها المميِّزِة في حالتها الظرفية المُحَدَّدَة في زمن مُحَدَّد. أما حين يدرسون طريقة تشكُّلِها، فمعنى ذلك أنهم يدرسون هذه الحالة ضمن سياق تاريخي.
إن التمييز  بين  هذين  النوعين من  الدراسة، هو  اعتراف  بجدلية  التشكيل الثقافي، وهي مرتبطة بما يحصل من عوامل تأثُّرٍ وتأثير بين العناصر المُكوِّنة لثقافة ما من جهة، وبين ما يحيط بها من مؤثِّرات خارجية من جهة أخرى؛ وهذه المؤثِّرات، أيضاً، هي عُرضة للتغيير والتبديل صعوداً مع حركة التاريخ، (حركة التفاعلات المؤثِّرات الداخلية، وحركة التفاعلات -المؤثِّرات الخارجية مرتبطة بحركة التاريخ).
استناداً إليه، فإننا نميِّز بين منهجين في دراسة العقائد الإيديولوجية والظواهر الاجتماعية: المنهج الستاتيكي الذي يتميَّز به المنهج الديني الذي يفسِّر الظواهر بناءً لعقائد ثابتة / مُسَلَّمات لا تُناقَش؛ والمنهج الديناميكي الذي يتميَّز به منهج عالِم الاجتماع الذي يُفسِّر الظواهر بناءً لاعتقاده بإمكانية التغيُّر والتطور في المفاهيم والمعتقَدات.
فالمنهج الديني، بمُسَلَّماته الثابتة، يعتقد أن المنهج الوحيد في التغيير هو تطبيق العقائد التي طبقَّها السلف؛ بينما المنهج الجدلي يعتقد أن الثقافات/ العقائد السابقة لم تعُدْ تشكِّل المصدر الوحيد للتغيير، لأن اللحظة التاريخية الخاصة، التي كانت فيها العقائد السابقة ذات مفعول تغييري، لم تبق هي ذاتها في لحظة تاريخية أخرى.
علينا أن نميِّز بين عنصرين: النمط الثقافي الخاص بمجتمع ما، والاختلافات الثقافية بين مجتمع وآخر:
-فالنمط الثقافي لأي مجتمع يتكوَّن "من نُظُمٍ اجتماعية، أي نُظُمٍ اقتصادية ودينية وعائلية وسياسية وأخلاقية ولُغويَّة…وعادات وتقاليد"([44]).
-ليست كل الشعوب لها أنماط متجانسة، وإنما التنوُّع الثقافي هو القاعدة، بحكم الاختلافات بين النُظُم والعادات والتقاليد التي تسود هذه  المجتمعات ([45]).
كما علينا أن نميِّز، من وجهة نظر المنهج المعرفي التاريخي - الاجتماعي، بين عناصر ثلاثة: معرفة الظاهرة الاجتماعية في لحظتها الراهنة، وفي تاريخيتها، وفي مواجهتها للمؤثِّرات الخارجية.
-ففي لحظتها الراهنة، تخضع لدراسة وصفية، أي معرفة الحالة التي عليها في اللحظة التي تَتِمُّ دراستها فيها.
-وفي تاريخيتها، تخضع لدراسة المؤثِّرات الداخلية التي خضعت لها وأحدثت تغييراً فيها أو تطويراً.
-وفي مواجهتها للمؤثِّرات الخارجية، تخضع لدراسة مدى ما تمَّ تسرُّبه من ثقافات خارجية. فالمجتمعات/ الشعوب -منذ القِدَم- كانت على صلات بشكل أو بآخر؛ وهذه الصلات أصبحت اليوم تَتِمُّ بشكل أسرع مما كانت فيه سابقاً بسبب الثورة / الانفجار التي بلغتها وسائل المواصلات: وسائل الاتصالات، وسائل الإعلام، وسائل الثقافة…هذه الثورة سوف تدفع بحالات التزاوج السريع بين ثقافات الشعوب لتتبادل وسائل التأثير والتأثر.
وكما أن الظواهر الاجتماعية، في مجتمع ما، ليست هي وليدة اللحظة التي نراها فيها، وإنما هي حالة تكوَّنت عبر التاريخ من جهة، وحالات التفاعل بين الثقافات المختلفة من جهة أخرى، هي حالة دينامية-تاريخية.
وكما أن تشكيل الظواهر الاجتماعية، في داخل المجتمع الواحد، تسير طبقاً لجدلية العلاقة  بين مكوِّناتها من جهة، وطبقاً لجدلية تاريخيتها من جهة أخرى، فإن الظواهر الثقافية عند المجتمعات المتباينة تسير طِبقاً للجدلية ذاتها؛ "فالتاريخ الإنساني، قبل أن يكون سجلاَّت وقائع ومواد شهادة، هو تعبير عن مرحلة ذهنية كانت توجِّه هذه الأحداث وتضبط إيقاعها"([46]).
فمنهج المعرفة التاريخي - الاجتماعي، غير منفصل عن "السببية"، بل إن السببية هي جزء أساسي فيه؛ ولذا "في غالب الأحيان، يُستَعمَل مفهوم السببية في علم الاجتماع في معنىً احتمالي: عندما يكون ذلك ممكناً، نسعى إلى  إقامة علاقة  سببية م1 = م2، عِبْرَ مضاعفة الملاحظات الحاصلة في ظروف متشابهة، وعِبْرَ تبيان أن م1 يسهم في ظهور م2 يجعله أكثر حدوثاً"([47]).
فالمنهج التاريخي - الاجتماعي يدرس الظواهر الاجتماعية بحالتيها: الستاتيكية والديناميكية، وهو يدرس تشكيلها وتطورها حسب العوامل/ المتغيرات الذاتية للمجتمع من جهة، والعوامل/ المتغيرات التاريخية من جهة أخرى. و هو يستند إلى مبدأ السببية في دراسة تفاعل مختلف الظواهر داخل المجتمع الواحد (تفاعل العناصر الذاتية) وفي دراسة تفاعل الظواهر الداخلية مع الظواهر الخارجية (التفاعل مع العوامل الخارجية.
فإذا كانت أسس المعرفة الماركسية تسجن نفسها في تفسير الظواهر الاجتماعية، داخل سور أحادي الجانب (الجدلية المادية)؛ والمعرفة الدينية-بشكل عام، والإسلامية بشكل خاص (لأنها موضوع بحثنا)، تُجَمِّد المعرفة على أسس ستاتيكية-ميتافيزيقية؛ فإن المنهج التاريخي-الاجتماعي يخترق  الدائرة: الأحادية الجانب والستاتيكية، ليقوم بدراسة كل ما له علاقة في تكوين المعرفة في حياة الإنسان والمجتمع على الصعيدين الذاتي والموضوعي (جدلية تاريخية ذات عوامل متعدِّدَة).
و مع أنه لا يُوجَد -حتى الآن- منهج واحد يستطيع  أن يصل  إلى تحديدات موضوعية خالصة في دراسة المجتمعات، فإننا نحسب أن المنهج التاريخي-الاجتماعي، ما زال، هو  المنهج الذي يُشكِّل القاعدة الأفضل لفهمٍ أقرب إلى الصحة من غيره في تفسير حركة المجتمع وبنائه المعرفي.

 III- المنهـج المعرفـي النـظري مدخـل إلـى معرفـة الواقـع.
في ظل مناهج المعرفة تلك، يتوخَّى الدارسون أن يحدِّدوا هوية للمجتمع العربي، لأن في تحديدها أمراً فاصلاً ومصيرياً في تحديد المسارات الأخرى ذات التأثير الحاسم في بناء اتجاهات هذا المجتمع في المستقبل، لماذا؟
إن الاتفاق على تحديد الهوية يحسم الجدل في الجانب التوحيدي السياسي؛ لأنه في ظل غياب الوحدة السياسية سوف نتواجه بمخاطر مصيرية يعرف الجميع نتائجها السلبية. ففي إعاقة الوحدة، تقف إشكاليات نابعة من الثنائية في الاتجاهات التالية:
-قوميـة قطريـة (العروبة أمة واحدة أم عدة أمم-قومية واحدة أم عدة قوميات).
-قوميـة دينيـة (العروبة هي الجامع الوحدوي، أم الإسلام).
-قطريـة دينيـة (عنها تتوالد الطائفيات السياسية).
فإذا قمنا بتأجيل البحث حول إشكالية الثنائيات: (القومية - القطرية) و(القطرية - الدينية) لأنها ليست موضوع بحثنا، فإنما يبقى الأهم هو إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام. ففي تحديد مسار لهذه الثنائية، نرى ما يلي:
إذا كانت هوية المجتمع هوية قومية، فروابطه حتماً سوف تكون قومية، وهذا جامع مُشْتَرَكٌ لشتى الاتجاهات العقيدية-الدينية الأخرى وغير الدينية.
أما إذا كانت الهوية دينية، فروابطه حتماً سوف تكون دينية، وهذا هو عنصر تفتيتي لن تُجْمِع عليها سوى الاتجاهات الدينية المرتبطة بالدين الحاكم، ولن يستمر في التأييد سوى اتجاه المذهب الحاكم.
لذلك، نرى أن تحديد الهوية يسهم في حل إشكالية أي نظام سياسي نريد، فالهوية الجامعة تُحدِّد هوية النظام السياسي الذي يلعب دور التوحيد، أما اختيار الهوية الأخرى فإنه يُحدِّد هوية لنظام سياسي يحمل التفتيت بالقوة ثم بالفعل.
ليس للتوحيد السياسي أثر بالغ في الوحدة الذاتية فحسب، وإنما هو عنصر أساسي في حسم إشكالية ( التفتيت أم الوحدة ) في  مواجهة الجانب العدواني للقوى الخارجية أيضاً.
إن العمل لحسم هذه المسألة ليس ملهاة نظرية، وليس نوعاً من الجدل البيزنطي الذي لا يقود إلى نتيجة على الرغم من أن الحوار هو نظري، وإنما نتائجه تُحدِّد مصير المستقبل الذي نتحاور لأجل الاتفاق على تحديد ملامحه قبل أن تسقط بيزنطية كلياً وأهلها مشغولون بحوار لا جدوى منه.
تصدَّى لهذه المهمة نخبة من المفكرين العرب والمسلمين، منذ أواخر القرن التاسع عشر، بعد أن ثبت فشل النظام العثماني، خصوصاً بعد أن أصبح التخلُّف والجهل والقهر والاستغلال سمة من سماته.
وسواءٌ اختلف العقائديون حول نسبة النظام العثماني إلى الإسلام أم اتفقوا عليها، فإن هذا النظام كان يحكم باسم الإسلام أولاً، ولأن شيخ الإسلام كان له موقع مهم إلى جانب السلطان العثماني ثانياً، ولأن أحكام الشريعة  الإسلامية كانت الأساس الوحيد الذي تتعامل به الدولة مع رعاياها ثالثاً.
منذ ذلك الحين، الذي كان فيه المجتمع الإسلامي عامة والمجتمع العربي خاصة مُصاباً بالتخلُّف من جهة، وكانت فيه المجتمعات الأوروبية تتقدَّم على سُلَّم الحضارة بسرعة باهرة من جهة أخرى؛ طُرِحَت الإشكالية التالية:
إذا كان النظام العثماني قد أُصيب بالإفلاس، فأي نظام يُشكِّل البديل؟
وإذا كان الفكر الأوروبي، ونظامه السياسي الجديد قد أحدث مثل تلك الطفرة الحضارية؛ فهل في  هذا الفكر ما يُبدِّد أسباب تخلُّفنا؟ وهل فيه ما يستفيد منه العرب و المسلمون في إصلاح نظامهم القائم كحد  أدنى؟ أو هل فيه ما يدفعنا إلى الانقلاب على النظام السابق واستحداث البديل؟
أطلَّت أواخر العصر العثماني، وبداية الاستعمار الأوروبي المباشر للمنطقة العربية، مترافقة مع نتائج الحرب العالمية الأولى، لكي تحمل مشاريع الثوابت السياسية والاقتصادية والجغرافية كما حددتها اتفاقية سايكس-بيكو و وعد بلفور، ثم المصادقة الدولية على شرعية الانتداب الغربي المباشر على الأجزاء التي حدَّدتها تلك الاتفاقية.
إن هذه التطورات التي أعقبت انهيار النظام العثماني، واستبداله بنظام دولي جديد، وضعت المنطقة العربية أمام مواجهة مهام جديدة:
- أية هوية سياسية يختارون بعد تغييب الهوية السياسية الإسلامية؟ هل يمكن أن تستمرَّ هذه الهوية إذا ما تمَّ إحياؤها؟ أم يكون البديل الهوية القومية - العلمانية؟
- ماذا يساعد هذه المجتمعات على مقاومة وقائع الاستيلاء الأجنبي المباشر على مقدَّراتها الاقتصادية، ومقاومة السيطرة على أوضاعها السياسية؟
إنه في الوقت الذي تتعرَّض فيه المنطقة للهيمنة والسيطرة والنهب والاستيلاء كانت النُخَب الثقافية -بشكل أساسي- ثم النُخَب الاجتماعية والدينية تنمو باتجاهات شتى لاستطلاع آفاق الحلول المطلوبة للأزمات والإشكاليات السياسية والاقتصادية.
من هذا الواقع وُلِدَت اتجاهات أساسية عند تلك النُخَب كانت تتمحور حول مسألتين:
-تحديد الهوية الفكرية والسياسية للمجتمعات المُجَزَّأة بما يساعدها على تحديد النظام السياسي الوحدوي الذي يَجْمَع تعددياتها الفكرية والسياسية.
-تحديد الوسائل العملية التي تساعدها على إنجاز الاستقلال السياسي كبديل للهيمنة السياسية الامبريالية.
إذا كانت مسألة تحديد الوسائل لإنجاز الاستقلال السياسي شكَّلت إطاراً وحدوياً  لأنها جمعت  في دائرة خطابها السياسي الأكثرية العظمى من المطالبين بالاستقلال والثائرين على الوجود الأجنبي، فقد ساعد على توحيدها الحوافز الواضحة في مقاومة واقع تُسْلَبُ فيه الإرادات السياسية والخيرات الاقتصادية. وهي في الوقت ذاته شكَّلت جاذباً وحدوياً للتعدديات الفكرية والدينية والسياسية التي كانت تصطرع حولها الاتجاهات المتعدِّدَة.
ففي الإطار السياسي تمحورت الاتجاهات حول إشكالية الوحدة القومية أو القوميات / الكيانات القطرية.
أما في الإطار الفكري فتمحورت الاتجاهات حول إشكالية الرابطة القومية / الوطنية والرابطة الدينية الإسلامية.
ولأن الاتجاهات السياسية، قطرية/ قومية، تجد مبررات صراعها بين الوحدة والتفتيت، وتحكمها إشكالية التطبيق والزمن، تبعاً لاختلاف الاتجاهات حول كيفية وزمنية الوصول إلى تحقيق هدف الوحدة القومية، ولهذه المسألة بحث آخر؛ وهي في الوقت ذاته قد خفَّت حِدَّة تناقضاتها في لحظتنا الراهنة، تبقى الإشكالية الأساسية نابعة من زاوية النظر إلى التعدديات العقائدية، والتي يتمحور الحوار/ الصراع حولها، وهي: القومية الوحدوية أم الدينية الوحدوية؛ فبين التيارات القومية والتيارات الدينية الإسلامية، تحديداً، تقع إشكاليتين:
الأولـى: إشكالية أولوية تحديد الهوية التي تُميِّز المجتمع، هل هي إسلامية أم عربية؟
الثانيـة: تحديد أولوية أي نظام سياسي، هل هو ديني/إسلامي أم قومي/ علماني؟

IV إشكاليـة الاتفـاق على الهويـة الفكريـة: إسلاميـة أم عربيـة؟
إن متابعة النظر في هذه الإشكالية في التاريخ العربي-الإسلامي، وبشكل خاص منذ أواخر القرن التاسع عشر، تمنحنا المقدرة على التمييز بين ما هو إصلاحي تكتيكي/ مرحلي، وبين ما هو عقيدي/ استراتيجي.
هذه الإشكالية أثارت مسألة العلاقة بين العروبة والإسلام، فانبرى فيها تياران يدعم فيه كل منهما وجهة نظره بأساليبه وأسانيده: أحدهما قومي الاتجاه، والثاني إسلامي ديني، وتشكَّلت بين هذين التيارين اتجاهات وسيطة:
- الإسلاميون الذين أنكروا وجود علاقة عداء بين العروبة / القومية وبين الإسلام / الديني، لكنهم أعطوا رجحاناً للإسلام، عندما اشترطوا قومية لا تتأثَّر بمعتقدات معادية للإسلام.
- القوميون الذين اعتقدوا أن بين الإسلام والعروبة ما يجمع أكثر مما يُفَرِّق، لكنهم أعطوا رجحاناً للقومية، عندما اشترطوا إسلاماً لا يكون مصدراً للتفتيت الطائفي.
لهذا الإصرار، من التيارين كليهما، بترجيح أحد طرفي المعادلة على الآخر، أسباب لها علاقة بتحديد مستقبل هوية النظام السياسي (وهذا الجانب سوف ندرسه لاحقاً في هذا البحث).
لكن لا بُدَّ من الإشارة إلى أن بحث طبيعة هذه العلاقة عبر التاريخ والأيديولوجيا لم يهتم به المفكرون القوميون والإسلاميون إلا في مراحل متأخِّرة من هذا القرن، وقد صدرت حتى الآن أبحاث قيِّمة وواعدة في الوصول إلى عدد من النتائج الموضوعية، وهذه الدراسات تحاول البحث عن  طبيعة العلاقة عبر تلازمها الجدلي في التاريخ والفكر والحضارة استناداً إلى تفاعلات ومُؤثِّرات ذاتية وخارجية.
ما هي الأسس النظرية للرابطة القومية من وجهة نظر القوميين؟
للمسألة القومية دلالتان:
- "في الدلالة السياسية للمفهوم، يرتبط مفهوم القومية بمفهوم الأمة، من حيث الانتماء إلى أمة محدَّدة. والأمة هي الشعب ذو الهوية السياسية الخاصة الذي تجمع بين أفراده روابط موضوعية وشعورية وروحية متعدِّدة تختلف من شعب لآخر، مثل اللغة و العقيدة والمصلحة والتاريخ والحضارة…"([48]).
- في الدلالة الاجتماعية: هي "صلة اجتماعية عاطفية تنشأ من الاشتراك في الجنس واللغة والمنافع. فهي شعور مجموعة من الأفراد بأنهم يؤلِّفون وحدة اجتماعية نتيجة لما يجمعهم من روابط عنصرية وثقافية ولغوية، وما يشعرون به من رغبات صادقة في تحقيق أهدافهم الوطنية السياسية"([49]).
لا شك أن وضع القومية في إطارها النظري كان نتاجاً للفكر الأوروبي، وهذا الفكر بدوره كان انعكاساً للواقع الأوروبي الخاص. فالنظرية لم تأت من فراغ، وبالتالي لم تكن نتاجاً للفكر الكمالي أو المجرَّد، بل كانت حاجة لواقع أوروبي مُعاش.
ونحن نعتقد أن هناك ما لا يُحصى من ظواهر طبيعية أو اجتماعية موجودة بالقوة، لا تلفت الأنظار، وقد لا تهتمُّ بها العقول لتقوم بتجريدها إلى  فكر ما، لكن هذا لا يلغي وجودها، بل هي تبقى خارج الضوء حتى يأتي الفكر لكي يضع اليد عليها في لحظة ما وهو يفتِّش فيها عن الإجابة عن إشكالية تكون قد أُثيرَت في دائرة اهتماماته.
وهكذا، فالمسألة القومية موجودة منذ القِدَم وعند كل الشعوب، أي منذ الوقت الذي بدأت فيه المجتمعات تنشأ وتتكوَّن بدءاً من الأسرة / العائلة الواحدة، فالقبيلة الواحدة، وهلُمَّ صعوداً. فالقومية بالأصل، وهي لُغوياً مُشتَقَّة من القوم، هي رابط وجداني يحسُّ به الإنسان بالانتماء إلى قوم ينتسب إليهم، ويحقق بهم ومعهم طبيعته وميله الاجتماعي، اقتصادياً وسياسياً، تحت ضغط احتياجاته في الحماية والعيش.
اتَّخذت النُخب الفكرية العربية من الفكر القومي الأوروبي نقطة ارتكاز تستند إليها  في التفتيش  حلول للمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كان يعجُّ بها المجتمع العربي - الإسلامي في ظل النظام العثماني.
فإن الشك، في مثل هذه الحالة، حول وجود الرابطة القومية هو لغو من الكلام صادر عن مواقف إيديولوجية لا علاقة لها بالموضوعية.
وإن الاتهام الذي يصدر ضد الفكر القومي، وكأن القومية العربية لم تكن لتُوجَد لولا انعكاسات الفكر الأوروبي هو لغو آخر؛ لأنه لم يكن للأوروبيين من فضل على الفكر القومي المجرَّد سوى أنهم دلُّوا  على ظاهرة لم تكن تثير اهتمام من سبقهم. وهذا الفعل شبيه بما قدَّمه غاليليه من استدلال على كروية الأرض: فالأرض، بالأصل، هي كروية منذ الأزل، ولكن لم يُوجَد أحد قبله من وصل إلى أن يبرهن على كرويتها، ففضله كان في سَبَقِه أنه وضع برهاناً على كرويتها وليس في أنه صنع هذه الكروية.
يقول زين زين :" إن يقظة العرب المثقَّفين الواعين لم تكن يقظة العروبة فيهم، فإن عروبة العرب لم تقع يوماً في سبات، إذ كانوا يشعرون دوماً أنهم عرب"([50]).
وكذلك يقول عمارة: فإن «الواقع المتميِّز لتطورنا القومي، ومضامين مصطلحات هذا المبحث في فكرنا الحضاري، يشهدان للنشأة المُبكِّرَة والمتميِّزة لقوميتنا وأمتنا» ([51]).
لإيمان النخبة المثقفة، منذ أواخر القرن التسع عشر، بوجود كيان قومي عربي، انصبَّ اهتمامهم في كتاباتهم النظرية على تحديد الأسس التي تقوم عليها النظرية القومية العربية، مثل وحدة اللغة، والتاريخ المشترك، إرادة العيش المشترك، المصالح المشتركة.
لكن الفكر القومي عند  النخبة، من المثقفين  في عصر  النهضة، لم ينطلق أصلاً من حاجة فكرية مجرَّدَة، لكنه انطلق بناءً لحاجة سياسية اجتماعية شكَّلت بدورها حافزاً للفكر العربي للتفتيش عن واقع موجود ليكتشفه لا لكي يصنعه، ويضعه في خدمة الحاجة إلى إيجاد حلول للإشكاليات الموجودة، ومن أهمها: كيف يمكن لتركي عثماني أن يتولَّى أمر العرب؟ أو كيف يمكن لدين واحد، في مجتمع تسوده الإثنيات الدينية، أن يفرض نظامه السياسي على الأديان الأخرى؟ فإذا كان الإسلام هو ذلك الدين الذي يفرض نظامه السياسي، فإن الإشكالية لن تزول، أيضاً، فيما لو كان الدين المسيحي، أو غيره، هو الذي يفرض ذلك النظام.
كان من الممكن أن تسير الأمور في سياقها الطبيعي لولا أن المسألتين: الإثنيات القومية والإثنيات الدينية يمكن أن تكون سلسلة القيادة في إمرة عرق ما أو دين ما، أو لو لم يكن النظام العثماني-الإسلامي مُثْقَلاً بالأخطاء والثغرات والمشاكل.
بالإجمال، لم تكن المسألة القومية تشدُّ اهتمام الباحثين بإلحاح لو لم يكن هناك مقاومة لها من جانب تيارات أخرى،؛ وهذه التيارات التي تنبري في ساحة المواجهة الداخلية مع المسألة القومية تنحصر بشكل أساسي في اتجاهين: الاتجاه الفكري / الوطني، والاتجاه الديني / الإسلامي.
هذه المباراة التي تجري حول إثبات وجود المسألة القومية غير موجودة  عند شعوب  أخرى بمثل هذه الحِدَّة؛ والسبب في ذلك هو أن تلك الشعوب قد حسمت أمر هويتها. حتى الشعوب الإسلامية الخاضعة لنظام لإسلامي قد تجاوزت هذه المشكلة أيضاً.
لم يكن الاتجاه القطري/ الوطني منافساً للفكر القومي العربي بشكل جدِّي لأنه لم  يُكْتَب للعقائديات  القطرية، كالفينيقية والفرعونية، سبل الحياة؛ وإنما المنافس الحقيقي للفكر القومي العربي هو التيار الديني-الإسلامي؛  فكيف  ينظر الإسلاميون، والسلفيون منهم بشكل خاص، إلى الرابطة الدينية، وما هي ردود فعلهم تجاه الرابطة القومية؟

2- أرجحيـة الرابطـة الدينيـة عند الإسلاميين تُلزِمُهم بموقف حَذِرٍ من القوميـة:
يمكن التمييز أولاً بين الاتجاهات الإصلاحية الدينية التي نظرت إلى المسألة القومية نظرة إيجابية و بين الاتجاهات السلفية المتطرفة التي نظرت بعين العداء تجاهها.
عند استعراض مواقف الإسلاميين، يمكن تقسيمها إلى مستويين:
الأول: ما تتضمنه العقيدة الإسلامية من مواقف تجاه القومية.
الثاني: قراءة تاريخية لوسائل تطبيقها.
اتَّفق الإسلاميون حول أولوية الرابطة الدينية الإسلامية على أية رابطة أخرى من جهة، وأولوية تطبيق الشريعة الإسلامية على أية شرائع من أي مصدر أتت من جهة أخرى،. ولعلاقة تطبيق الشريعة مع الجانب السياسي نؤجِّل النظر فيها إلى الموضع الذي نبحث فيه إشكالية الهوية السياسية في هذا البحث.
فما هو موقف مصادر المعرفة الإسلامية من القومية؟
% يقول الله تعالى ] …اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5/3. ] يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49/13؛ ويتابع مخاطباً النبي محمد  وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 21/107؛ ] وما أرسلناك إلا كافة للناس… [34/28.
تدل هذه الآيات بوضوح على أولوية الرابطة الإسلامية دون غيرها من الروابط الأخرى من جهة، وإذا فُصِلَت بعض هذه الآيات عن سياق نزولها الزماني والمكاني والمحيط البشري، فهي تدل أيضاً على عالمية الدعوة الإسلامية من جهة أخرى.
فللرابطة الدينية أولوية مطلقة على غيرها من الروابط الأخرى، وهي دعوة وُجِّهَت للناس كافة؛ و ليس هناك من قيمة يُحاسَب  عليها المسلمون في ارتباطهم بعقيدتهم الإسلامية إلا التقوى والعمل الصالح.
% في آيات أخرى يقول الله تعالى،مخاطباً النبي: ] وانذر عشيرتك الأقربين[ 26/214؛ و ] إنما  أنت  منذر ولكل قوم هاد [ 13/7؛ و] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيِّن لهم…[ 14/4؛ ]فإنما يسرناه بلسانك  لعلَّهم يتذكَّرون [ 44/58؛ ] وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً…[ 42/7؛  ]وكذلك أنزلناه حكماً عربياً [ 13/37؛] بلسان عربي مبين  [26/195؛  ]والكتاب المبين إنـَّا جعلناه قرآناً عربياً لعلَّكم تعقلون  [43/ 1و2.
يتَّضِح من هذه الآيات سياق نزولها المكاني والمحيط البشري، موضوع الاستجابة للدعوة، بشكل واضح؛ فهي دعوة إسلامية، حملها رسول عربي إلى عشيرته الأقربين وقومه العرب.
فمن الواضح، أيضاً، أن هناك أرجحية لروابط القربى والقوم تتضمَّنها الدعوة الإسلامية؛ فهل هناك تناقض بين ما تريد أن تقوله الآيات التي تتضمَّن شمولية الدعوة وعالميتها وبين الآيات التي تتضمَّن الإشارة إلى قوميتها؟
لو دقَّقنا النظر لاستطعنا أن نستنتج ما يلي:
- لا جدال ولا تأويل لأولوية الرابطة الدينية في داخل أفراد المجتمع الإسلامي، سواءٌ أكان المجتمع قومياً، أم كان مجتمعاً إثنياً.
- هناك افتراق حاصل في تحديد ما تعنيه المصطلحات التالية: الشعوب-القبائل العالمين - الناس كافة. فهل هي تعني العالم المعروف كله في ذلك العصر، وغير المعروف أيضاً؟ أم هي مصطلحات لها مدلولات عربية مأخوذة  على مقياس الوضع الذي كان سائداً في عصر نزول الدعوة الإسلامية، أي هل تعني (القبائل) و( الشعوب) بمدلولها العربي؛ وهي كانت معروفة ومُحَدَّدَةً تحديداً دقيقاً في الجاهلية، كمثل ما كانت تعنيه مصطلحات ( العالمين) و (الناس كافة)؟
في تقديرنا، إن ما  تعنيه المصطلحات  التي تتباين  الرؤية حولها  في التفسير أنها قد اكتسبت مضمونها من سياقين اثنين: السياق الفكروي والعقائدي والسياق التاريخي المُعاش.
ففي السياق الفكروي المعاش، لا يمكن لأي فكر له الطابع الشمولي/ الإنساني إلا أن ينتشر أينما يشاء في الزمان والمكان عندما تتوفَّر له شروط الانتشار المادية. لكن  مع ذلك، وبحكم موجات الغزو الخارجي للجزيرة العربية، استقرَّت إثنيات غير عربية على أرضها وتعايشت مع قبائلها؛ و عندما أُنزِلّت الدعوة الإسلامية بادر هؤلاء إلى اعتناق الإسلام، وحينئذٍ أخذت العقيدة الإسلامية اتجاهاتها الشمولية / العالمية.
لا يمكن في مثل هذه الحالة أن تعترف شعوب أخرى من غير العرب بأفضلية العرب عليهم وهم أبناء لعقيدة إسلامية واحدة. إن هذا الشعور سوف يتعمَّق على الرغم مما جاء في القرآن من التأكيد على عروبة اللغة وعروبة القوم الذين وُجِّهَت إليهم الدعوة،؛ ولا يمكن في مثل هذه الحالة الاعتراف للعرب بأنهم ]خير أمة أخرجت للناس[ 3/110.
وإذا كان العرب المسلمون قد مارسوا سيادتهم على الآخرين من المسلمين - غير العرب بإبقائهم موالي، إلا أن موقف هؤلاء الموالي هو حاسم في اعتقادهم بشمولية  الدعوة و عالميتها؛ لأنهم، حتى لو رضخوا لسيادة العرب في مرحلة ما، لن يرضوا بالتبعية لعِرْقِيَّة أخرى غير عِرْقِيَّتهم. أما العرب  المسلمون، فهم  في موقف حَرِجٍ من هذا الجانب، فهم مُخَيَّرون أمام خيارين: أن يكونوا أسياداً، في ظل الإسلام، على غيرهم من الشعوب وهذا يؤدِّي إلى إبعادهم تلك الشعوب عن الإسلام؛ وإما أن يتنازلوا عن هذه السيادة لمصلحة الشعوب الأخرى إلى جانب الإسلام.
إن اتجاه موقف المسلمين غير العرب إلى تفسير مصطلحات (الشعوب) و(العالمين) و(للناس كافة) بجانبها الشمولي، والتردد  الذي طبع موقف المسلمين العرب، قاد في النهاية إلى تغليب عالمية الإسلام على قوميته.
فعلى أية حال، لم يستطع التوفيقيون/ الإسلاميون القوميون إلا أن يُقِروّا بأولوية الرابطة الدينية،التي هي -حسب اعتقاد أبي الفتوح- "الولاء للإسلام وليس لقومية أو قبيلة أو وطن أو أسرة…وليس معنى ذلك أن ولاء الإنسان لقومه أو حبه لهم أمر يمقته الإسلام؛ ولكن إذا تعارض ذلك الولاء مع إقامة أحكام الدين…فعلى المسلم أن يكون ولاؤه لدينه ولربه"([52]). وعلى الرغم من هذا التنازل الجزئي المشروط، فهو يُجيز القليل من القومية لأن الكثير منها هو تعميق لها و"تعميق الدعوة القومية ما وُجِدَ أساساً إلا للقضاء على وحدة المسلمين"([53]).
من جانب آخر، يرى آخرون أن هناك علاقة تأَثُّر وتأثير بين العروبة والإسلام، بين الرابطة القومية والرابطة الدينية. فالإسلام، من وجهة النظر هذه، لعب دوراً توحيدياً للعرب، وإن "التوحيد الذي حقَّقه الإسلام للجماعة العربية الأولى كان ذا طابع قومي، ومُتَّسِماً بملامح عربية واضحة…والقرآن الكريم يُذَكِّر القوم الذين وحَّد بينهم، وضمَّ صفوفهم، وأَلَّف بين قلوبهم…"([54])؛ إضافة إلى "الدور المتعاظم الذي لعبه الإسلام في التكوين النفسي المُشْتَرَك للجماعة العربية"([55]). ولم تقتصر هذه المشاعر، نحو الإسلام، على المسلمين فحسب، وإنما كانت، أيضاً، سِمَةٌ من سِمات العرب غير المسلمين "الذين لم ينضووا تحت لواء العقائد الدينية"، حتى إن العادات والتقاليد التي هي من أهم قطاعات التكوين النفسي المُشْتَرَك بالنسبة لأمة من الأمم نجده "مطبوعاً بطابع الإسلام وتعاليم الإسلام"([56]).
أما في القراءة التاريخية لرصد الموقف العقائدي وتطبيقاته فنرى أن المسلمين العرب  أقرُّوا، ولو بعد مشاحنات تاريخية طويلة ومتواصلة مع الفرس-عُرِفَت بالصراع الشعوبي- بحق غير العرب بالمشاركة في النظام السياسي كمرحلة أولى. وعلى الرغم من إقرار معظم المذاهب الإسلامية بشرط انتساب الخليفة إلى قريش سوَّغت بشكل شرعي، أحياناً، ورضخت أحياناً أخرى للأمر الواقع بتسويغ إمارة الاستيلاء، أي أن يكون الخليفة غير قرشي بل غير عربي أيضاً؛ وحصل ذلك في العصرين المملوكي و العثماني عند أهل السُنَّة، وفي عهد الدولة الصفوية عند الفِرَق الشيعية.
إن تنازل المسلمين العرب عن شرطهم، بقرشية الخليفة وعروبته، إلى المسلمين من غير العرب - سواءٌ أكان تحت قوة الاستيلاء، أم بفعل تطويع العقيدة الإسلامية لترجيح الشمولية والعالمية- يستدعي منا المحاسبة و النقد: ماذا استفاد المسلمون من هذا التنازل، بشكل عام، بل ماذا استفاد المسلمون العرب، بشكل خاص؟
بشكل عام، ضَمِن السلاطين تطبيق الشريعة الإسلامية، كما قاموا بحماية الثغور الإسلامية أيضاً؛ فهل انعكست هذه الحماية إيجاباً على الأمة الإسلامية، بخاصتها وعامتها؟
باستقراء التاريخ، لم يستفد من ذلك سوى معظم فقهاء المسلمين الذين انخرطوا في المؤسسة الدينية؛ أما العامة فلم تحصل إلا على الويلات الاجتماعية والاقتصادية والتخلف والجهل. أما تطبيق حدود الشريعة الإسلامية فلم تطل الخاصة و إنما كان تطبيقها مقتصراً على العامة، ولن يستطيع أحد  أن ينكر ذلك تحت حجَّة أن حادثة مغايرة لهذا الحكم قد حصلت هنا أو هناك؛ فليست  الحالات الجزئية هي المقياس في التعميم، وإنما السياق العام هو الحكم الفصل في تعميم الأحكام والنتائج.
فإذا كانت هذه هي حال المسلمين العرب، فكيف كانت حال غيرهم؟
إن المسلمين غير العرب، المماليك والأتراك والفرس، كانوا وحدهم الذين أجازوا لأنفسهم -في ظل صمت معظم الفقهاء- الامتيازات المادية والاجتماعية والسياسية. لكن إذا طُرِحَت مسألة استفحال اللاعدالة واللامساواة، التي كانت سائدة في عهود الخلفاء المسلمين العرب، فإن هذا لا يُبَرِّر السكوت (بل الإجازة الشرعية لاستغلال المسلمين غير العرب حق المسلمين العرب) تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة الإسلامية.
إن السكوت عن الاستبداد الذي كان يُمارَس بحق العامة من المسلمين العرب، وإجازة الاستيلاء على النظام السياسي من قِبَلِ المسلمين غير العرب، والذي تُوِّج أيضاً في امتناع الإسلاميين، بل في محاربتهم الاتجاهات الانفصالية عن الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان غير مُبَرَّر حتى ولو كان تحت حُجَّة المحافظة على الرابطة الإسلامية العالمية؛فالرابطة الإسلامية وُجِدَت لخير المسلمين كافة وليس لمصلحة طبقة دون طبقة.
يطالب الإسلاميون الإصلاحيون في أقصى ما يطمحون إليه، كثمن للمحافظة على الوحدة الإسلامية  تحت ظل النظام  العثماني الإسلامي، أن يمنح العثمانيون  مٌتَنَفَّسات قومية للقوميات والأديان الأخرى، حيث يُعَبِّر جمال الدين الأفغاني إذ يقول :"إذا كانت العصبية الدينية ضرورية، لكان على المسلمين أن يرعوها بالعدل، ويأتي ذلك بحفظ الحقوق لأربابها وإحكام الألفة الوطنية بين المسلمين وبين أبناء أوطانهم من أرباب الأديان المختلفة، لأن المصالح مُشْتَرَكَة ومُتَبادَلَة"([57]).
هناك خلل ما دفع إلى التناقض بين مقتضيات العقيدة وتطبيقها، فأين يقع هذا الخلل؟
نرى أن الخلل في نتائج التطبيق له علاقة مع طبيعة المنهج المعرفي المُتَّبَع. فمسلَّمات الفكر الديني، التي تستند إلى حقائق مُطْلَقَة في تفسير التاريخ، هي التي حالت دون  الإسلاميين في الوصول إلى نتائج تساوي بين الأهداف وسبل العمل لتطبيقها.
في هذا السياق، كان هدف الفقهاء هو سيادة العقيدة الإسلامية كحقيقة مطلقة، فلم يقفوا كثيراً عند صحة أو خطأ الوسائل التي تؤكِّد على أفضلية العرب في اشتراطها عروبة الخليفة.
فالتفسير داخل هذا المنهج هو أنه: لِيَكُن النظام السياسي كيفما كان على شرط أن يحمي تطبيق الشريعة الإسلامية أياً تكن نتائج تطبيقها.
ولكي يُبَرِّر الداعون إلى عالمية الإسلام حججهم في انقلابهم ضد أفضلية العروبة في  الإسلام، اتَّخذوا مواقف طوباوية من العصبية القبلية أوصلت إلى مواقف سلبية من القومية.
لقد غرق الخطاب الديني الأصولي / السلفي، بدافع من إيديولوجيات متعصِّبة، في إسباغ صفة الحقيقة المطلقة على عدد من المصطلحات الإسلامية، السبب الذي دفع بالكثير من الإسلاميين إلى الوقوع في التباس شديد في مواقفهم حول تلك المصطلحات، وتأتي على رأسها مسألة العصبية القَبَلِيَّة التي عملوا على إلغائها بالجملة، وليس العمل على تشذيبها من شوائبها.
فلو لم يكن في العصبية القَبَلِيَّة من إيجابيات وحقائق إيجابية لما أمر الله تعالى نبيَّه بإنذار  عشيرته الأقربين، ومن تلك الحقائق الإيجابية في التعبير عن الروابط القومية  القطرية، التي  هي عبارة عن المشاعر الإنسانية الفطرية التي يحسُّ بها الإنسان إزاء الأقربين منه؛ فالأقرب إلى صلة العيش المشترك معهم، وهكذا دواليك. تأتي الدلالة على صحة ذلك إذا توغّلنا في عمق المشاعر الإنسانية داخل مجتمع إسلامي واحد، يفترض أنه يعتنق الخطاب الإسلامي المؤدلج في معاداة العصبية القبلية بالجملة، فماذا نرى؟
من غير الطبيعة  البشرية أن يشعر حتى ذلك المسلم نفسه  نحو جميع أفراد  المجتمع  بالشعور ذاته؛ فهناك  مستويات  مختلفة  لهذا  النوع  من الشعور العلائقي / الاجتماعي؛ وقياساً عليه، وبشكل مماثل له في النتائج، تتحدَّد المشاعر الإنسانية بين أفراد مجتمعين مسلمَين ينتمي كل منهما إلى قومية غير قومية المجتمع الآخر.
فللعقيدة الإسلامية -عند الإسلاميين- وجهان: الوجه المثالي الذي قد يصل إلى مستوى من الطوباوية؛ والوجه الثاني هو الوجه الواقعي/الفطري-الاجتماعي.
فإننا نرى أن الإسلاميين، بخطابهم التحريضي/التعبوي المؤدلَج، كثيراً ما يخلطون بين هذين الوجهين؛ فهم لا يستطيعون النزول بالطوباوية كوجه دعائي جميل- إلى مستوى البشر في الوقت الذي يتناسون فيه الواقعية. وإذا تمَّت مواجهتهم لها فإنما يُصْدَمون بوجود الفجوة الكبرى  بين طوباويتهم وبين واقع البشر، فهم في أكثر التحاليل تفاؤلاً لن يحققوا نتائج لصالح العامة في هذا ولا ذاك.
فإذا كان المسلمون غير العرب، طوال التاريخ العربي - الإسلامي، يفتِّشون عن شرعية استيلائهم على السلطة، من خلال طموحهم في السيطرة على الأماكن المقدَّسة الموجودة على الأرض العربية، فإن لهم منافع شتى تصب تحت دعوى تطبيق شعار عالمية الإنسان وشموليته؛ فأين هي المصلحة التي يحققها المسلمون العرب في التنازل عن تلك الحقوق القومية؟
إن ما نريد أن نُثْبِتُه هنا، ليس دعوة إلى رابطة قومية شوفينية، وإنما نرى أن مصلحة العرب والمسلمين منهم - ألا يخسروا في الوقت ذاته قوميتهم وهم لن يستطيعوا أن يكسبوا عالمية الإسلام كنظام سياسي؛ والعودة إلى التاريخ هي أبلغ دليل على ذلك.

V - إشكاليـة النظام السياسي: أديـنيٌ هو  أم علمـاني؟
1- عقيدة "الأولوية للرابطة الدينية" تُنْتِج نظاماً سياسياً-دينياً:
استناداً إلى منهج المعرفة الديني-الإسلامي، يحدِّد الإسلاميون، بشكل عام والسلفيون بشكل خاص، أن الإسلام هو عقيدة وشريعة([58])؛ "فإذا فُصِلَت السلطتان يبقى الدين بغير سلطان يؤيِّده ولا قوَّة تسنده"([59])؛ ففي الإسلام يُوجَد "نظام حياتي كامل لا يترك مجالاً لأي نظام آخر، ولا يَدَعُ  منفذاً للشعور بالحاجة إلى تنظيم جانب من جوانب الحياة، لأن الشريعة الإسلامية-بقواعدها الكُلِّيَة العامة بالفقه الذي بُنِيَ على أصليها الكبيرين (الكتاب و السُنَّة)، شاملة لكل ما تقضي به سُنَّة الحياة إلى نُظُمٍ وأحكام"([60]).
وعلى الرغم من أن المجتمع الإسلامي قد يضمُّ إثنيات دينية أخرى، فإنه  يستطيع -حسب ما يعتقد الإسلاميون- أن يجد حلاً لمشاكلهم. فالعقيدة الإسلامية قد خصَّصت أصحاب الكتاب بحلول تحفظ حقوقهم: "مساواة  في حق العمل…مساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، ولهم  أيضاً حق الانتخاب والترشيح لكافة مجالس الدولة، وكافة هيئات الإدارة والحكم. ولهم أن تكون منهم نسبة من الوزراء تتناسب مع عددهم. ولكن ليس لهم حق رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء"([61]).
أما بالنسبة للإثنيات القومية، فإن العقيدة الإسلامية قد حلَّت إشكالية حقوقهم السياسية على قاعدة ( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، لكن على شرط أن يكونوا منتسبين إلى الإسلام.
فالإسلام، إذاً، كما يعتقد الإسلاميون، هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى للبشر، وبعده لن يكون هناك وحي يُوْحى ] ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخَاتَم النبيين [ 33/40؛ وقد بلغت العقيدة من الشمولية مَبْلَغاً مُطْلَقاً، لأنه باستطاعتها الإلمام بكل ما تقضي به سُنَّة الحياة، الأولى والآخرة، من نُظُمٍ وأحكام.
ينظر الإسلاميون إلى العقيدة الإسلامية، بمصادرها المعرفية، بمنظار الكمال الإلهي؛ وهم يخلطون بين ما هو حقائق مطلقة وبين ما فيه الحقيقة نسبية تتغيَّر بتغيُّر ظروف الزمان والبيئة الاجتماعية.
إننا نحسب أن الأحكام، التي يصدرها هؤلاء على الرغم من حداثة القائلين بها، هي تضخيم غير مُبَرَّرٍ للذات؛ ويلعب دوراً كبيراً في تعميق حالة الاغتراب عند المسلمين، وهذه العملية أصبحت عقيدة ثابتة عند التيار السلفي، الذي  يعتقد  أن المسلمين  يمتلكون "تراثاً  فكرياً ضخماً وغنياً [وهم ليسوا] بحاجة إلى أي مصدر آخر للفكر"([62]).
ويتابع آخرون، في داخل هذا التيار، موقفاً يصل إلى حدود نبذ وإبعاد عدد من المفاهيم الفكرية، مثل:الحرية والديموقراطية من أذهان المسلمين ([63]).
وتتصاعد لهجة التطرف لترفض كل ما يُعْرَض من أفكار غير إسلامية عندما يحسب بعض السلفيين "أن الإسلام يَعْتَبِر مفهوم الديموقراطية مفهوم كفر، ويعتبر جميع ما بُنِيَ عليه من دساتير وأحكام، دساتير كفر وأحكام كفر، لأنها كلها غير منبثقة عن العقيدة الإسلامية ولا مأخوذة من كتاب الله ولا من سُنَّة رسوله، وإنما هي تشريعات البشر"([64]).
هنا يخلط السلفيون بين عقيدة التوحيد الإسلامية،كعقيدة ماورائية ( لن نناقشها من منطلق إيماننا بها كحقيقة مطلقة) وبين الشريعة الإسلامية-كقوانين وأحكام-التي لها علاقتها الزمنية بحياة البشر المتغيرة.
إن إعطاء صفة القداسة للجانب التشريعي في العقيدة الإسلامية هو سيف مُسَلَّطٌ على القائلين بها، وعلى المُقلَّدين على حدٍّ سواء. إن هذا السيف المعرفي هو  نفي لكل  قوانين التطور والارتقاء داخل المجتمعات، وهم يجمِّدونها في الوقت الذي تتقدَّم فيه البشرية -كما نرى ونسمع- في ظل أنظمة سياسية لا تطبِّق التشريع الإسلامي.
فلو كانت الشرائع الإسلامية الدنيوية مُلِمَّةً بكل ما تقضي به سُنَّة الحياة، من نُظُمٍ وأحكام -كما يعتقد الإسلاميون- من جهة؛ ولو كانت التشريعات التي يُطلِقون عليها تشريعات البشر (التشريعات الوضعية) التي يُحَرِّمون اعتناقها بحجة أن كل ما هو غير منبثق عن التشريع الإسلامي هو تشريعات وأحكام كفر، لكانت نتائج استقراء التاريخ الإسلامي هي غير ما هي عليه من تخلُّفٍ وجهل وظلم واضطهاد…
وإن كان القرضاوي يعترف بالأخطاء التي حصلت عِبْر التاريخ الإسلامي، لكنه يعتقد بوجوب الفصل بين أخطاء المسلمين أو انحرافاتهم على مدار التاريخ وبين الإسلام لأن هذه الأخطاء هي "حُجَّةٌ للإسلام عليهم وليست حُجَّةً لهم على الإسلام"([65]).
إن القرضاوي، بذلك، يدفع عن الإسلام أوزار التاريخ ويُحمِّلها للذين يريدون إسلاماً خاصاً حسب اتجاهاتهم، وحسب رؤيتهم له، في الوقت الذي يرى فيه أن هناك تيارات إسلامية متعددة: بعضها يتبنَّى "أضيق صور الجمود والتقليد المذهبي، وأخرى حَرْفِيَّة لفظية، تُهمِل مقاصد الشريعة، وتقف عند  ظواهرها. وهناك تيارات لا تَتَّخِذ غير العنف أسلوباً، وتيارات  تُكَفِّر المجتمع كله، لا تكتفي بالحكام، بل تُشْرِك الشعوب أيضاً: لأنها رضيت بهم والرضا بالكفر كفر.وهناك اجتهادات غريبة لأفراد وجماعات"؛ ويتساءل: "أي صورة من صور الإسلام نعتبرها هي التي تُمَثِّل الإسلام الصحيح ؟"([66]).
ونحن، أيضاً، نتساءل معه بسؤاله ذاته، خصوصاً بعد العودة إلى الوراء لكي نُعدِّد من كتب التاريخ عشرات وعشرات من الملل والفِرَق، لنستكمل السؤال: ما هو السبب في وجود مثل ذلك السيل الذي لا ينضُب من توليد الفِرَق والمذاهب التي تنتسب كلها إلى العقيدة الإسلامية، وكلٌ منها تعتقد أنها الفرقة الناجية من النار؟
وكما تأسست الفِرَق والمذاهب الإسلامية، يفعل القرضاوي مثلها عندما يعمد إلى تحديد رؤيته للإسلام مستنداً، كما استند غيره، إلى القرآن والسُنَّة.
إن تعدد الفِرَق والمذاهب يتحمَّل وزره المنهج المعرفي الذي يُثَبِّت الحقائق ويعطيها صفة المطلق والثابت والمُحَرَّم مَسّه استناداً إلى تأويلات وتفسيرات خاصة؛ وحَرَموا العقيدة، بذلك، من إمكانيات النقاش والتطوير أولاً، ومن التفاعل مع  غيرها ثانياً، وأسبغوا صفة الإلهي على حدودها ثالثاً؛ وبذلك كان من أهم ثغرات هذا النظام المعرفي، الذي ثبَّتته شتى الفرق -وكل منها حسب رؤيتها- هو عدم التمييز بدقة بين ما هو مُقَدَّس /  إلهي، وبين ما يستحيل إلا أن تكون فيه الحقيقة نسبية.
هذه الإشكالية بالذات هي التي انعكست على رؤية السلفيين/ الإسلاميين للنظام السياسي في الإسلام، حصل ذلك عندما اعتقدوا بوجود ما هو غير موجود بالفعل، أي عندما حسبوا بأن في الإسلام قواعد كُلِّيَة شاملة تستوعب كل ما تقضي به سُنَّة الحياة إلى نُظُم وأحكام، السبب  الذي دفعهم إلى إدماج الديني بالسياسي، وإلى إدماج ما تركه الله تعالى للبشر من حرية الاختيار لغرض التطوير، وبين الأوامر الإلهية: فهم لم يميزوا  بين ما  هو مُقَدَّرٌ، فعلاً، على الإنسان من أحكام أخروية، وبين ما هو متحرِّرٌ من قيود ونواهي الأوامر الإلهية. لذا أصبح السياسي/ الدنيوي و كأن الله قد  حدَّد جوانبه بدقة للبشر ولا يمكن لهم إلا معرفتها من أولي الأمر.
إن ربط العلاقة بين الديني والسياسي، والإصرار على إعطائها صفة الثبات، لم يكن يعبِّر تماماً عن الواقع؛ ويبرز ذلك واضحاً بسكوت الفقهاء عن تجاوز الخليفة والسلطان لحق الرعية/ المسلمين؛ ولا يغيِّر الواقع - الفصل بين السياسي والديني- حجة السكوت عن استيلاء السلطان أو الخليفة على السلطة بالقوة عندما اشترط الفقهاء قيامه بحماية الثغور الإسلامية وحماية الأحكام الشرعية. تبدو  شكلية  العلاقة و بُعْدُها عن  الجوهر  عندما  مارس  الفقهاء سياسة السكوت عن سلوك الخليفة وحاشيته، والسلطان وحاشيته، ضد أحكام الشريعة، التي لم يخضع لحدودها سوى العامة من المسلمين، كان فيها الخليفة / السلطان يتمتَّع بكل ما تُؤتيه له السلطة من منافع بدون حساب، في الوقت الذي كانت تئِنُّ فيه الرعية من وطأة اللاعدالة واللامساواة، بينما كان حُرَّاس الشريعة/الفقهاء يرتضون لأنفسهم بأنه كان يُسْمَح لهم بتطبيق أحكام الشريعة على طبقة من المسلمين دون غيرهم.
استناداً إليه، يتَّضح أن الشريعة كانت هي الهدف حتى ولو مُورِسَت في ظلِّها اللاعدالة و اللامساواة بحق العامة من المسلمين. حسب هذا الواقع كانت مصالح العامة هي الوسيلة فقط مما يثير الاستهجان والاستغراب عندما قَلَب الفقهاء الوسيلة إلى هدف والهدف إلى وسيلة؛ فأصبحت مصالح الناس هي الوسيلة لتطبيق الشريعة في الوقت الذي سخَّر فيه الله تعالى للإنسان ما في السموات وما في الأرض، وسخَّر الشريعة لحماية هذا التسخير/المصالح.
انقلبت المعادلة !! فالشريعة، أصلاً، هي وسيلة وُضِعَت لأجل تنظيم علاقات الناس ولأجل تأمين حقِّهم في العدل والمساواة؛ فأصبح الناس هم المسألة الثانوية، فحسبهم أن يخضعوا لأحكام الشريعة من دون النظر إلى المساواة في تطبيقها؛ و أصبح دور السلطان / الخليفة محصوراً في قيامه بدور الحارس للشريعة و ليس الخضوع لها. ولا ينتقص من قيمة هذا الحكم ما أثبتته  كتب التاريخ  من عدد من الأمثلة المتفرِّقة التي تدل على عدالة هذا أو ذاك من الخلفاء أو السلاطين؛ ولم تكن هذه سوى أمثلة قليلة نادرة لخلفاء/ سلاطين لم تتحوَّل قصورهم إلى أساطير وإلى حانات وملاهٍٍ يمارسون فيها كل أنواع اللهو والفحش والغنى والترف…
كانت هذه الصورة، بلا شك، تتم بتقريب الخليفة للفقهاء تارة، وإرهابهم تارة أخرى، لإسباغ الشرعية على خلافته بفتوى من هنا أو هناك. وكانت بعض المذاهب تعمل للوصول إلى الخليفة طلباً للرضى في سبيل السماح لها بالعمل حسب قواعدها الفقهية ومنافسة المذاهب الأخرى.
كان الاعتقاد بترابط العلاقة بين الديني والسياسي، وما زال، اعتقاداً طوباوياً في  الفكر الإسلامي، باستثناء مرحلة النبُوَّة وأوائل عهد الراشدين؛ والسبب في ذلك أن النبي محمد قبل وفاته- لم يحدِّد شكلاً من أشكال النظام السياسي الذي على المسلمين أن يتَّبِعوه من بعده؛ ولم يستطع خلفاؤه الراشدون، أيضاً، أن يضعوا قواعد لمثل هذا النظام. فبعد وفاة الرسول اتَّفق صحابته -بعد خلاف- على مبايعة أبي بكر الصِدِّيق، والذي بدوره كتب عهداً باستخلاف عمر بن الخطَّاب؛ وهذا الأخير سمَّى عدداً من الصحابة لكي يختاروا خليفة من بينهم…ثم حوَّل الأمويون، و من بعدهم العباسيون، الخلافة إلى وراثة بين الآباء والأبناء؛ ثم درج العُرْف على قبول كل من يأتي إلى السلطة، بغضِّ النظر عن مدى شرعية الوسيلة، وهذا ما سُمِّيَ بإمارة الاستيلاء، حسب الماوردي.
وما عِلَّة تنوُّع أساليب تحديد قواعد النظام السياسي إلا لانعدام وجود "نظام يُرَتِّب كيفية الوصول إلى السلطة"([67]). لذا لم يتساءل المسلمون: كيف ومتى يتم تقويم الخليفة؟ وبأية وسيلة؟ وهل يتم ذلك بالنصح والإرشاد؟ أم بطلب الهداية له والصبر على زيغه؟ أم بحمل السيف عليه لو رفض النصيحة؟"([68]).
فمنذ العصر العباسي، احتلَّ المسلمون الفرس مراكز متعددة في دوائر النظام السياسي العباسي؛ و احتلَّ  الأتراك موقع السلطة الأول في العصر المملوكي مع الإبقاء على الخلافة للعرب إسمياً بعد أن نقلوا الخليفة العباسي إلى القاهرة، وعندما سيطر الأتراك العثمانيون على السلطة نقلوه معهم إلى القسطنطينية.
 ولاعتقاد فقهاء المسلمين في أولوية المحافظة على العقيدة الإسلامية، لأن في حفظها حفظٌ للسيادة الإلهية: لهذا السبب أجازوا، ولم يقاوموا، أية سلطة استبدادية اعتقدوا أنها تحمي العقيدة والثغور الإسلامية. أما  ما يُعبِّر عن ذلك -بشكل واضح- فهو إقرارهم بشرعية إمارة الاستيلاء، التي تعني أن يستولي الأمير بالقوَّة على بلاد يُقلِّده الخليفة أمرها، ويُفوِّض إليه تدبير أمورها وسياستها. ويُعلِّل الماوردي ذلك، أي قبول هذا السلطان، بحُجَّة " حفظ الشريعة والقوانين، وحراسة الأحكام المدنية"([69]).
مجمل القول، إننا نرى، استناداً إلى التاريخ العربي-الإسلامي، أنه كان بين السلطة الدينية الإسلامية والسلطة السياسية طلاقُ واضح، مارس فيه فقهاء المسلمين مبدأ ( ما لقيصر لقيصر وما لله لله) في الواقع، وذلك على الرغم من إيمانهم وقولهم بضرورة اندماج الديني في السياسي.
كان الفقهاء، فعلاً، يشترطون لمبايعة الخليفة توافر عدد من الصفات فيه، مثل: قرشيته، عدالته، تقواه، وشجاعته… لكن الذي حصل على أرض الواقع-بعد أن تَتِمَّ مبايعة الخليفة- هو غير ما يتمنَّى الفقهاء؛ فالانفصام بين القول والواقع كان موجوداً، ولم يجتمع السياسي والديني في شخص واحد من الخلفاء الذين توالوا على كرسي الخلافة الإسلامية إلا فيما ندر؛ فكانت السلطة سلطتين: الفقيه والسلطان.
أما اليوم، وفي مرحلة ما بعد انهيار النظام الإسلامي الأممي، بانهيار الإمبراطورية العثمانية، و في الوقت الذي  أصبحت فيه الظروف الزمنية والجغرافية، على الصعيد السياسي والحضاري، غير ما كانت عليه الأوضاع منذ مئات السنين التي تفصلنا عن تاريخ إلغاء الخلافة الإسلامية في العام 1924م؛ ما زالت قاعدة العمل لتأسيس الدولة الإسلامية على النظام  الديني قائمة عند مختلف التيارات الإسلامية؛ وما زالت هذه القاعدة تقف اليوم في مواجهة الدعوة إلى علمنة الدولة، كنظام سياسي حديث، و هي مُسْتَمِرَّة  على الرغم من أنها لم تُحْرِز أي نجاح في التاريخ الإسلامي.
لا تُعَدُّ، اليوم، العلاقة بين الديني والسياسي إشكالية في المجتمعات غير الإسلامية، نظراً  لأن الغرب قد حسمها  لصالح  النظام  العلماني بعد  أن  أثبتت التجربة الأوروبية/الغربية فشل النظام الديني.

2- عقيدة "الأولوية للرابطة القومية" تُنْتِج نظاماً سياسياً علمانياً:
كان فشل تجربة الدولة الدينية المسيحية في أوروبا نتيجة حصول تناقض بين رجال الإكليروس/ رأس الهرم في الدولة المسيحية وبين فئتين/ طبقتين في المجتمع المسيحي الأوروبي، وهما:
- الأولى: هي المذهبيات المسيحية غير الحاكمة.
- الثانية: الطبقة النخبوية السياسية والإقطاعية والفكرية.
كان احتكار رجال الإكليروس للسلطة الزمنية والروحية معاً، باسم الحق الإلهي، قد أدَّى إلى كثير من المجازر التي أنزلتها محاكم التفتيش بحق معارضي الكنيسة من المذاهب المسيحية غير الحاكمة من جهة، و التحكُّم في مصالح طبقة الإقطاع، والحَجْر الفكري على رجال العلم والفكر من جهة أخرى.
كانت نتائج التناقض، في سبيل الوقوف في وجه السلطة الدينية للكنيسة، أن تَوَجَّه الفكر الأوروبي إلى إعلاء الفكرة القومية، كرباط جامع لمجمل طبقات الشعب السياسية والدينية، فكانت العلمانية، أي الفصل بين الديني والسياسي، وليدة هذا الفكر، وترجمته السياسية العلمية.
أما المجتمع العربي - الإسلامي، وخلافاً لما يُنْكِرُه السلفيون، فقد عانى من التناحر المذهبي بين مختلف الفِرَق الإسلامية ([70]) من جهة، ومن الصراع على تسلُّم مقاليد الخلافة بين الإثنيات القومية من جهة أخرى.
- ففي الوقت الذي كان فيه مذهب من المذاهب الإسلامية يحصل على غطاء شرعي  من قِبَل سلطة الخليفة، كان هذا الغطاء مشروطاً بما يُسْبِغ   من شرعية دينية على سلطة الخليفة، وبما يستطيع فقهاء المذهب أن يخدموا فيه سياسة الدولة في النواحي الاقتصادية أو غيرها. وما إن يتمكَّن هذا المذهب من أن يُوَطِّد أقدامه حتى يدخل في حالة من الصراع مع المذاهب الدينية - الإسلامية المنافسة له.
- غالباً ما استخدمت الإثنيات القومية المذاهب الدينية لتحقيق مآربها، والتاريخ الإسلامي زاخر بمثل تلك الوقائع: فصراع الفرس مع الأمويين، وفي تقوية مواقعهم في داخل السلطة العباسية، وتأسيسهم للدولة الصفوية في  إيران، تقرَّبوا من المذهب الشيعي واعتنقوه، وهكذا فعلت الدولة العثمانية عندما اعتنقت المذهب السُنِّي لمواجهة النظام الصفوي الشيعي([71]).
- نال، في  ظل  مختلف العصور  الإسلامية -و في معظم الأحيان- أصحاب الديانات السماوية (أهل الكتاب) حقوقهم، التي نصَّت عليها الشريعة الإسلامية؛ ولم تحصل بينهم وبين المسلمين أية صراعات تُذْكَر؛ بل إن العلاقات الحميمة هي التي كانت سائدة، وذلك بشهادة النصارى أنفسهم([72]).
لكن  هذه  الحقوق  المُعْتَرَف  بها، و إن  كانت  من  وجهة  النظر الإسلامية كافية وعادلة، وعلى الرغم من امتناع (أصحاب الكتاب) عن المطالبة بحقوقهم السياسية كمواطنين من جهة، ودفع الجزية المفروضة على (أهل الذمَّة) من جهة أخرى، لكن  هذا كان يعني عندهم انتقاصاً من مواطنيتهم، وهي من وجهة نظرهم كانت غير عادلة([73]).
- أثبتت وقائع التاريخ عدم إمكانية تطبيق حلم السلفيين في إمكانية الجمع بين السلطتين الزمنية والروحية؛ ففي الوقت الذي كان فيه الفقهاء يحسبون، طوال مراحل التاريخ الإسلامي، أن النظام الإسلامي كان نظاماً يحمي ويحرس الأحكام الشرعية، لكن تلك الأنظمة في الواقع كانت تفرض نفسها وتستولي على السلطة -ليس لاعتبارات عقيدية إسلامية -وإنما كانت تتوسَّل الإسلام والمسلمين في سبيل البقاء في السلطة؛ وبعد وصولها للسلطة  كان يحصل  الطلاق بين سلوكها الخاص وبين أحكام الشريعة. لذا كان النظام السياسي حارساً للشريعة، التي يُطبِّقها الفقهاء على العامة من المسلمين، وليس خاضعاً لها؛ وكان ذلك يحصل في الوقت الذي كان أصحاب هذا المذهب أو ذاك يشكِّلون غطاءً دينياً لهذه السلطة أو تلك.
استناداً إلى ما سبق، فنحن نحسب أن الالتحام بين الديني والسياسي كان شكلياً، أما افتراقهما فكان هو السائد.
كل تلك الأسباب مجتمعة أوصلت النظام السياسي الإسلامي إلى طريق الفشل، وأظهرت الفجوة السحيقة ما بين العقيدة الإسلامية وتطبيقها على أرض الواقع.
إن النظام الإسلامي، الذي قاد الأمة الإسلامية بشكل عام والعرب بشكل خاص، لم يحقق مصالح عامة المسلمين العرب، ولم يؤمِّن أيضاً الحقوق الكاملة لغير المسلمين.
إن ما نحسبه  أحكاماً  موضوعية  حول  فشل  العلاقة  بين  الديني العقائدي والسياسي ليس تشكيكاً بالعقائد الدينية،وإنما هو كشف لخلل في العلاقة بينها وبين السياسي.
استناداً إليه نتساءل: ألا يمكننا أن نقوم بعملية الفصل بين الديني والسياسي؟
إننا ننطلق في محاولة البحث عن جواب ليس تقليداً لقوانين الغرب العلمانية، و لكن في  دائرة التفتيش عن حلول للإشكاليات العديدة التي تنتج عن فكروية تطبيق النظام السياسي على قاعدة العقائد الدينية.
لم يستطع النظام السياسي الديني الإسلامي -كما رأينا- أن يحقق مصالح العامة من المسلمين أولاً، وهو لن يُوَفَّق في تأمين حقوق المذاهب الإسلامية بسبب اختلافاتها العقائدية الخاصة ثانياً، وهو لن يستطيع تأمين الحقوق كاملة لغير المسلمين ثالثاً.
إن التمييز بين ما هو عقائدي أخروي وما هو سياسي دنيوي يضعنا أمام المعادلة التالية: ليس كل ما هو عقائدي مُقَدَّس يجب أن يكون سياسياً  مقَدَّساً أيضاً. إن  هذه المعادلة تقودنا إلى وجوب الفصل بين الإلهي المقدس والبشري الدنيوي، وإلى الاعتقاد بأن المقدس ليس حقيقة مطلقة. فماذا يعني ذلك على أرض الواقع؟
إن ما هو مُقَدَّس عند مجتمع ديني قد لا يكون مُقَدَّساً عند مجتمع ديني آخر. فالمقدس (التابو) ليس، إذاً، حقيقة مُطْلَقَة؛ ولذا فإن الفصل -في مجتمع تعددي-بين المقدس الأخروي والمقدس الدنيوي يسمح أكثر في بناء واقع اجتماعي/سياسي تتعايش فيه الإثنيات الدينية، بحيث يصبح المقدس الأخروي قضية خاصة بعيدة عن الشرائع والممارسات السياسية. أما إلغاء صيغة المقدس الدنيوي فهو إلغاء لنقاط التماس والاحتكاك والتناقض بين الإثنيات الدينية.
إن هذه الرؤية مبنيَّة على فهمنا لطبيعة المقدس، الذي يزاوله كل إنسان مع جماعته  الخاصة، لأنه ليس من الصحيح بشيء -ولكي يصلِّي المسلم في مسجده، أو أن يصلِّي المسيحي في كنيسته أو في منزله- أن المسلم يحتاج إلى نظام إسلامي لكي يحميه، أو أن يحتاج المسيحي إلى نظام سياسي مسيحي لكي يحميه أيضاً. إن وقائع التاريخ الإسلامي، كذلك وقائع  التاريخ المسيحي تدل  بوضوح إلى أن حالات الاضطهاد لم يكن يمارسها، بشكل فعلي ودموي، سوى أصحاب المذاهب الدينية التابعة لدين  واحد بحق بعضهم البعض. كما أن هناك أدلَّة كثيرة تُثْبِت أن المتدينين، إلى  أي دين انتموا، يمارسون شعائرهم الدينية في ظل نظام سياسي علماني بكل حرية.
أما إذا اعترض المسلمون على العلمانية، كنظرية سياسية وافدة من الغرب أولاً، أو لأنه يُخْشى منها أن تعمل للقضاء على الشريعة الإسلامية أو التضييق عليها ثانياً؛ فإنما الحوار الموضوعي بين مختلف الأديان، المبني  على قاعدة  الاعتراف المُتبادَل بأن هناك تناقضاً فعلياً بين الدعوات العقائدية أو المذهبية، وليس حواراً مبنيَّاً على المجاملات والدعوة إلى وحدة كاذبة؛ لأن التناقضات موجودة بالفعل؛ فالمواجهة بالواقع هي التي  تسمح بالوصول إلى الحقيقة، والوصول إليها يؤدي إلى الاتفاق بشكل أفضل لتسوية ما هو مُخْتَلَف عليه ليبقى مُلْكاً خاصاً لأصحابه، ولتحديد ما هو في دائرة الاتفاق ليُشكِّل إعلاناً يمارسه الجميع بحرية.
إن الوضوح والجرأة في تحديد المسائل يؤدِّيان إلى فكِّ الاشتباك بين ما هو مُخْتَلَفٌ عليه، وبين البناء على عوامل الاتفاق لتطويره.
إن الفصل بين مظاهر القضايا / موضوع الخلاف، ومظاهر القضايا/ موضوع الاتفاق، ومظاهر القضايا التي يمكن لكل طرف أن يقوم بإلغائها لصالح القضايا / موضوع الاتفاق، هي خطوة جدية يأمن فيها المجتمع التعددي جانب القضايا الحسَّاسة التي تبقى مُلْكاً خاصاً لأصحابها.
خاتمــــة
إن الخوف من إثارة الفتنة، التي يتلطَّى وراءها أدعياء الحرص على الوحدة في داخل المجتمع التعددي، كلما سمعوا كلاماً صريحاً، هو خوف كاذب وغير مُبَرّر.
فالإشارة إلى الحقيقة بوضوح وجرأة هي كالكشف عن المرض مهما كان خبيثاً لكي يساعد على وصف الدواء الحقيقي والمفيد. فالحل ليس كما يراه المُدَّعون حرصاً، لأنهم في الوقت الذي يعملون فيه تعتيماً على الحقائق -حسب أعراف (التقية) التي يمارسها الجميع ومن مختلف الأديان على طاولات الحوار- تراهم يُثيرونها وينبشون قبورها في الكواليس والممرات الداخلية.
فإذا كان شعار العلمانية يثير الخوف في نفوس الإسلاميين، فإننا نستطيع أن نُطْلِق  إسماً آخر على أي نظام توحيدي. وإذا كان مضمون الشعار/النظام لا يصلح لبيئتنا، فلن  يُلْزِمَنا أحد  بمضمون ما إلا ما نتفق عليه، ونتأكَّد من أنه يصلح دواءً ناجعاً لأمراضنا. فمن واجبنا أن نبتكر نظرية سياسية تصلح قاعدة لنظام سياسي يلمُّ الشمل ويؤمِّن الوحدة، في الوقت الذي يكون  فيه، أيضاً، حارساً أميناً لحماية معتقداتنا الدينية، التي تشكِّل لنا تراثاً روحياً مهماً وضرورياً من أجل بناء إنسانيتنا، ومنعاً للانزلاق في متاهات الحضارة المادية بأكثر مما تتطلَّبه حاجتنا إلى السعادة وحاجة الآخرين إليها.

مصادر البحث ومراجعه
- مجلة الفكر العربي: بيروت: معهد الإنماء العربي: العدد 76: ربيع العام 1994.
-أبو الفتوح، أبو المعاطي: حتمية الحل الإسلامي: مطبعة الجبلاوي: القاهرة: 1977.
-أركـون، محمـد:"السيادة العليا والسلطات السياسية في الإسلام"(46-56):مجلة الفكر العربي المعاصر: العدد 12: بيروت: 1981.
- …………………: تاريخية الفكر العربي الإسلامي: مركز الإنماء القومي: بيروت: 1986: ط1.
- الأفغاني،جمال الدين:"التعصُّب" دار أمواج:بيروت: 1993: ط1.
-بروكلمـان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية: دار العلم للملايين: بيروت: 1984: ط10: ( تعريب: نبيه فارس).
-البغدادي، أحمد: "الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي" (19-76): مجلة البـاحث : بيروت: العددان 57/58: 1993.
-بودون، ر. : المعجم النقدي لعلم الإجتماع: المؤسسة الجامعية: بيروت: 1989: ط1. (تعريب د. سليم حداد).
-الجابري،محمد عابد:الخطاب العربي المعاصر:دار الطليعة:بيروت:1988: ط3.
-جعيط، هشام: الفتـنة: دار الطليعة: بيروت: 1993: ط2: ( تعريب خليل أحمد خليل).
-حزب التحرير الإسلامي: نقض مشروع الدستور الإيراني: (كُتَيِّب منشور): بتاريخ 30/8/1979.
- الحورانـي، يوسف: "فلسفة التـاريخ ومستقبلها في الفكر العربي" (55-68): مجلة الفكر العربي المعاصر: م . س.
- خليل، خليل أحمد: مفاتيح العلوم الإنسانية:دار الطليعة:بيروت:1989: ط1.
-زكريـا، فؤاد: "العقل العربي والتوَّجُه المستقبلي" (26-34): مجلة الفكر العربي المعاصر: بيروت: العدد 12: 1981.
-زيادة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية (ج2): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986: ط1.
- زين، زين نور الدين: نشوء القومية العربية: دار النهار للنشر: بيروت: 1980: ط4.
-السمالوطي، نبيل محمد توفيق: الإيديولوجية و أزمة علم الاجتماع المعاصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب: الإسكندرية: 1975: د.ط.
-السيد، رضوان: "الفقه والفقهاء والدولة" (129-159): مجلة الاجتهاد: بيروت: 1989: العدد 3.
-شمس الدين، محمد مهدي: العلمانية: المؤسسة الجامعية: بيروت: 1980:ط1.
-صالح ، حافظ: الديموقراطية وحكم الإسلام فيها: دار النهضة الإسلامية: بيروت: 1992: ط3.
-العظمة، عزيز: "قميص عثمان و شعرة معاوية " (12-16): مجلـة الناقـد: لندن: العدد 64.
-عمارة، محمد: فجر اليقظة القومية(ج1):دار الوحدة: بيروت: 1984: د.ط.
-………: الأمة العربية وقضية الوحدة(ج3):دار الوحدة: بيروت: 1984.
-عيسوي، عبد الرحمن محمد: دراسات في علم النفس الاجتماعي: دار النهضة العربية: بيروت: 1974: د.ط.
-الفنجري، أحمد شوقي: كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1990.
-القرضاوي، يوسف: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه: مؤسسة الرسالة: بيروت: 1992: ط3.
-الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (ج 1): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1985: ط2.
-……………………: موسوعة السياسة (ج4).
-كانتوري، لويس: "المحافظـة والتقـدم في مصر:الإحياء الإسلامي" (8-26): مجلـة قراءات سياسية: فلوريدا: العدد2: 1993.
-الليثي، سميرة مختار: جهـاد الشيعة: دار الجيل: بيروت: 1978: ط2.
-مدكور، د. ابراهيم: معجم العلوم الاجتماعية: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1975: د.ط.
-مـراد، سعيد: الحركة الوحدوية في لبنان بين الحربين العالميتين (1914-1946): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986: ط1.
-المطهِّري، مرتضى: الحركات الإسلامية في القرن العشرين: دار الهادي: بيروت: 1982: ط1: ( تعريب: صادق العبادي). 
-المظفر، محمد رضا: عقائـد الإماميـة: دار الزهراء: بيروت: 1983.
-معتوق، فريدريك:تطور علم اجتماع المعرفة:دارالطليعة:بيروت:1982: ط1.
-ميتز، آدم: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري: دار الكتاب العربي: بيروت: 1967: ط4: ( تعريب: أبو ريدة).
-يوسف، يوسف: "فلسفـة التـاريخ ومستقبلـها في الفكر العربي" (55-68): مجلة الفكر العربي المعاصر: م . س.
***






([1]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (ج 1): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1985: ط2: ص 844: ( المادة: الثقافة).
([2]) جعيط، هشام: الفتـنة: دار الطليعة: بيروت: 1993: ط2: ( تعريب خليل أحمد خليل).
([3]) معتوق، فريدريك: تطور علم اجتماع المعرفة: دار الطليعة: بيروت: 1982: ط1: ص105.
([4]) م . ن : ص 105.
([5]) م . ن : ص  112.
([6]) م . ن : ص ص119-120.
([7]) بودون، ر. : المعجم النقدي لعلم الإجتماع: المؤسسة الجامعية: بيروت: 1989: ط1: ص316: ( المادة: الدين): ( تعريب د. سليم حداد).
([8]) م . ن : ص320.
([9]) م . ن : ص 321.
([10]) م . ن : ص321.
([11]) م . ن : ص321.
([12]) مدكور، د. ابراهيم: معجم العلوم الاجتماعية: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1975: د.ط: ( المادة: التابـو).
([13]) م . ن : ص 146: (المـادة: تشكيل ثقافي ).
([14]) م . ن : ص 160: ( المـادة: تعصب ديني ).
([15]) م . ن : ص 160: ( المـادة: تعصب ديني ).
([16]) م . ن : ص 160: ( المـادة: تعصب ديني ).
([17]) أركون، محمد: "السيادة العليا والسلطات السياسية في الإسلام" (46-56): مجلة الفكر العربي المعاصر: العدد 12: بيروت: 1981: ص 47.
([18]) المظفر، محمد رضا: عقائـد الإماميـة: دار الزهراء: بيروت: 1983: د.ط: ص 69.
([19]) م . ن : ص 11.
([20]) زكريا، فؤاد: "العقل العربي والتوَّجُه المستقبلي" (26-34): مجلة الفكر العربي المعاصر: بيروت: العدد 12: 1981: ص 28.
([21]) م . ن : ص 28.
([22]) بودون، ر. : م . س : ص 198: ( المـادة: التقليد ).
([23]) م . ن : ص 195.
([24]) أركون، محمد: تاريخية الفكر العربي الإسلامي: مركز الإنماء القومي: بيروت: 1986: ط1: ص 286.
([25]) زيادة، معن: الموسوعة الفلسفية العربية (ج2): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986: ط1: ص 473.
([26]) م . ن : ص 473.
([27]) م . ن : ص 474.
([28]) زكريا، فؤاد: م . س : ص 29.
([29]) م . ن : ص 29.
([30]) يوسف، يوسف: "فلسفة التاريخ ومستقبلها في الفكر العربي" (55-68): مجلة الفكر العربي المعاصر: م . س: ص 62. 
([31]) العظمة،عزيز:"قميص عثمان وشعرة معاوية "(12-16):مجلـة الناقـد:لندن:العدد 64:ص15.
([32]) الجابري،محمد عابد: الخطاب العربي المعاصر: دار الطليعة: بيروت: 1988: ط3: ص29.
([33]) العظمـة، عزيـز: م . س : ص 15.
([34]) أركون، محمد: "السيادة العليا والسلطات السياسية في الإسلام": م . س : ص 50.
([35]) م . ن : ص 52.
([36]) كانتوري، لويس: "المحافظة والتقدم في مصر: الإحياء الإسلامي" (8-26): مجلـة قراءات سياسية: فلوريدا: العدد2: 1993: ص 12.
([37]) م . ن : ص 11.
([38]) خليل، خليل أحمد: مفاتيح العلـوم الإنسانيـة: دار الطليعة: بيروت: 1989: ط1: ص 260: ( المـادة: ضبط اجتماعي ).
([39]) عيسوي، عبد الرحمن محمد: دراسات في علم النفس الاجتماعي: دار النهضة العربية: بيروت: 1974: د.ط: ص 419.
([40]) السمالوطي، نبيل محمد توفيق: الإيديولوجية و أزمة علم الاجتماع المعاصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب: الإسكندرية: 1975: د.ط: ص1 (تقديم).
([41]) م . ن : ص 1.
([42]) مدكور، إبراهيم: م . س : ص 601: ( المـادة: نسق اجتماعي ).
([43]) م . ن : ص 408: ( المـادة: علم الاجتماع ).
([44]) م . ن : ص 623: ( المـادة: نمط ثقافي ).
([45]) م . ن : ص 188: ( المـادة: تنوع ثقافي ).
([46]) الحوراني، يوسف: "فلسفة التاريخ ومستقبلها في الفكر العربي" (55-68): مجلة الفكر العربي المعاصر: م . س : ص 62.
([47]) بودون، ر. : م . س : ص 363.
([48]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (ج4): م . س: ص 831: (المـادة: القومية).
([49]) مدكور، ابراهيم: م . س : ص 471: ( المـادة: القوميـة).
([50]) زين، زين نور الدين: نشوء القومية العربية: دار النهار للنشر: بيروت: 1980: ط4: ص139.
([51]) عمارة، محمد: فجر اليقظة القومية (ج1):دار الوحدة: بيروت: 1984: د.ط: ص265.
([52]) أبو الفتوح، أبو المعاطي: حتمية الحل الإسلامي: مطبعة الجبلاوي: القاهرة: 1977: ص68.
([53]) م . ن : ص 208.
([54]) عمـارة، محمد: فجر اليقظة القومية (ج1): م . س: ص 50.
([55]) عمـارة، محمد: الأمة العربية وقضية الوحدة (ج3): دار الوحدة: بيروت: 1984: ص150.
([56]) م . ن : ص ص 151-152.
([57]) الأفغاني، جمال الدين: "التعصُّب" (27-39):دار أمواج: بيروت: 1993: ط1: ص38.
([58]) القرضاوي، يوسف: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه: مؤسسة الرسالة: بيروت: 1992: ط3: ص 54.
([59]) م . ن : ص 56.
([60]) شمس الدين، محمد مهدي: العلمانية: المؤسسة الجامعية: بيروت: 1980: ط1: ص 86.
([61]) الفنجري، أحمد شوقي: كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1990: ص 126.
([62]) المطهِّري، مرتضى: الحركات الإسلامية في القرن العشرين: دار الهادي: بيروت: 1982: ط1: ص 126: ( تعريب: صادق العبادي). 
([63]) صالح ، حافظ: الديموقراطية وحكم الإسلام فيها: دار النهضة الإسلامية: بيروت: 1992: ط3: ص 120.
([64]) حزب التحرير الإسلامي: نقض مشروع الدستور الإيراني: (كُتَيِّب منشور): بتاريخ 30/8/1979: ص 10.
([65]) القرضاوي، يوسف: م . س : ص 32.
([66]) م . ن : ص ص 34-35.
([67]) البغدادي، أحمد: "الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي" (19-76): مجلة البـاحث : بيروت: العددان 57/58: 1993: ص 58.
([68]) م . ن : ص 56.
([69]) السيد، رضوان: "الفقه والفقهاء والدولة" (129-159): مجلة الاجتهاد: بيروت: 1989: العدد 3: ص 145.
([70]) الليثي، سميرة مختار: جهـاد الشيعة: دار الجيل: بيروت: 1978: ط2.
([71]) بروكلمـان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية: دار العلم للملايين: بيروت: 1984: ط10: ص ص 497-499: ( تعريب: نبيه فارس).
([72]) ميتز، آدم: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري: دار الكتاب العربي: بيروت: 1967: ط4: ص ص 75-118: ( تعريب: أبو ريدة).
([73]) مـراد، سعيد: الحركة الوحدوية في لبنان بين الحربين العالميتين (1914-1946): معهد الإنماء العربي: بيروت: 1986: ط1: ص 74.

ليست هناك تعليقات: