الخميس، يوليو 08، 2010

نحو تأسيس مفاهيم قومية للثقافة العربية


نحو تأسيس مفاهيم قومية للثقافة العربية
تعريف المثقف عند جان بول سارتر (عرض ونقد).
(بحث قُدِّم في مركز البحوث في صيدا).
موقف المثقف وموقعــه
ينقل المثقف المحافظ الثقافة السائدة ويحافظ عليها ويضمن تواصلها.أما المثقف الناقد فهو الذي
يستخرج من الثقافات والسلوكات السائدة السلبي منها والإيجابي.
من هو المثقف؟ المثقف هو الإنسان الذي يلعب دور الوسيط بين مُنتج المعرفة ومستهلكها:
-فالمثقف المتدين يأخذ أصول معرفته من المبادئ الدينية الثابتة لينقلها إلى المجتمع، وعلى أساسها يقوم بتفسير كل العلاقات بين أفراده. »فهو كالحارس الأمين لثقافة تمَّ تحديدها بدقة«.
-أما مثقف المعرفة التطبيقية، فقد نشأ مع ظهور البورجوازية الصناعية، التي أنتجت نظامها المعرفي، وهذا النظام يتعارض مع النظام المعرفي الديني؛ فدخلت، بذلك، ساحة الصراع مع رجال الدين المسيحيين، عندئذٍ لاحت في الأفق ملامح معرفة جديدة في أوروبا. عملت البورجوازية على إزالة صفة القداسة عن القطاعات العملية التطبيقية جميعها، فأنتجت مبادئ العلمنة. أما الذين بنوا تلك المبادئ فهم الاختصاصيون بالمعرفة العملية التطبيقية: من رجال قانون، ورياضيين، وأدباء، ورجال مال. وأُطلِق عليهم لقب الفلاسفة.
إستخدم فلاسفة أوروبا، فيما قبل القرن 19م، المنهج التحليلي في مواجهة الأرستقراطية، بتقاليدها الموروثة وامتيازاتها وأساطيرها؛ فأنتجوا منهجاً للمعرفة مغايراً للمنهج الذي سبقه. قام المنهج الجديد على المذهب العلمي والميكانيكي والتحليلي. وحددوا به للبورجوازية الناشئة إيديولوجيتها. لكن تلك الإيديولوجيا لم تعد تتناسب اليوم مع عصر الاحتكارات. وعلى الرغم من ذلك فما زالت موجودة، ويقوم بنقلها أحفاد أولئك الفلاسفة، وهم اختصاصيو المعرفة العلمية التطبيقية.  وأصبح الناقلون مثقفين. فماذا يعني ذلك؟ وما هي صفاتهم؟
1-تختار الطبقة المسيطرة اختصاصيِّي المعرفة العلمية التطبيقية. والهدف من اختيارهم هو  قيامهم بالوظائف التي تحددها تلك الطبقة ضماناً لمصالحها.
2-تحدد الطبقة المسيطرة التكوين الإيديولوجي لاختصاصيِّي المعرفة العلمية التطبيقية. وهي بمثل هذا التحديد تحوِّلهم إلى حراس للتقاليد والعادات. وتصنع منهم خدَّاماً تضعهم بتصرفها، وتعينهم كموظفين في البنى الفوقية، وتعطيهم بعض السلطة، لينقلوا قِيَمَها ويقوموا بتعديلها عند الضرورة. فهؤلاء ليسوا مثقفين، لأنهم يعملون، فقط، على تمرير الإيديولوجيا المسيطرة.
3-ترشد مصالح الطبقات المسيطرة عملية انتقاء الفنيين الاختصاصيين بالمعرفة العلمية التطبيقية. وتنحصر عملية الانتقاء، غالباً، بأبناء الطبقات الوسطى المُشبَعين بالخصوصية الإيديولوجية للطبقة التي أنتجتهم. وهنا لا بُدَّ من الملاحظة أن الغايات والأهداف التي يعمل لأجلها أولئك الاختصاصيين ليست غاياتهم ولا أهدافهم. ولهذا يعاني الواحد منهم من جملة من الصراعات الداخلية:
أ- ينشأ المثقف إنساني منذ طفولته الأولى: حاسباً أن كل الناس متساوون. لكنه يعي أن ما وصل إليه كان بصفته كوريث: إبن موظف تجاري، أو صاحب مهنة حرَّة فإذا كان قد وصل أحد، من خارج الطبقة المسيطرة، إلى طبقة أعلى من طبقته السابقة، فإنما يعود إلى مميزات شخصية فيه. وهو يدري أن القسم الأكبر من أمثاله قد استبعدتهم تلك الطبقة.
ب- كانت البورجوازية تميِّز نفسها بأنها صاحبة فكرة كونية وشمولية، أي إنسانية، في مواجهة خصوصيات مصالح الطبقة الأرستقراطية. فالاختصاصيون بالمعرفة التطبيقية، إذا طبَّقوا مناهجهم في مجال المعارف الشمولية لا يمكنهم أن يتغافلوا عن أن البورجوازية وإيديولوجيتها تتصفان، أيضاً، بالخصوصية الذاتية.
وإذا حاول هؤلاء الاختصاصيون أن يطوِّروا فكرهم باتجاه كشف اللاعدالة في النظام الاجتماعي، لن تقف الطبقة المسيطرة على الحياد، بل تتصرف بما يضمن استمرار النظام الذي يحقق مصالحها، لذلك تُبقي مواقع الاختصاصيين تحت رقابتها.
ج-غايات الطبقة المسيطرة وأهدافها هي المنفعة الخاصة.
 فإذا ما اكتشف الاختصاصي ما هو نافع للعموم، واكتشف أن الطبقة المسيطرة تقوم باستغلال اكتشافه لمصلحتها وزيادة أرباحها. وإذا حصل أن اعترض، وأخذ يميِّز بين مصلحة العام ]الإنسانية[، ومصلحة الخاص ]الطبقة المسيطرة[ يتعرَّض إلى شبهات تلك الطبقة ومحاربتها له. فإذا رضخ واستمرَّ بعمله من دون اعتراض يتحول إلى لا مثقف. أما إذا رفض أن يكون تابعاً للهيمنة فيصبح مثقفاً يمارس وظيفته بأمانة، بينما تتهمه الطبقة المسيطرة بأنه يهتم بما لا يعنيه.
فالمثقف، إذاً، هو الذي يدرك، بوعي، التعارض بين البحث عن الحقيقة العملية الشمولية  والإيديولوجيا المسيطرة. وأن يتحوَّل هذا الوعي إلى ممارسات عملية ووظيفية. فالكشف عن التناقضات الإنسانية في المجتمع هي من إحدى الوظائف الأساسية للمثقف، إذ ذاك يلعب دوره في الصراع الذي يدور بين المتناقضيْن: فهو يعمل على كشف التناقض، ثم العمل في سبيل تعديله ليصب في المصلحة العامة.

نقـد المحاضرة الأولى

من خلال محتويات المحاضرة الأولى يتبيَّن أن جان بول سارتر توجَّه بكلامه إلى مجتمعين، هما: المجتمع الأوروبي والمجتمع الياباني، وكلاهما مجتمعان صناعيان. ويبدو من الواضح أيضاً أن المجتمعين قد انتقلا من  مناهج معرفية سابقة للعصر الصناعي إلى مناهج معرفية تتناسب معه. وكان الانتقال من مرحلة معرفية إلى أخرى يمر بولادة طبيعية، أي الانتقال من طريق إلى آخر  عبر مرحلة نقدية طويلة للموروث الثقافي المعرفي السابق، بحيث يحقِّق الانتقال بواسطتها مسألتين في غاية من الأهمية، وهما:
    ·     وجود طبقة مفكرة تعتمد على نفسها في إنتاج مناهج المعرفة تُولد من خلال المعاناة المباشرة لإشكاليات المجتمع الذي تُنتج له.
    ·     تفاعل تاريخي طويل بين مصانع الإنتاج المعرفي وبين المستهلكين المحليين، أي بين مُنتجي الثقافة والمناهج المعرفية من جهة، والطبقات المثقفة الوسيطة، والقواعد الشعبية الواسعة من جهة أخرى.
إستكمالاً للصورة، كان لا بُدَّ من أن يرتفع السؤال الذي أحسب أنه يتناول عمق إشكالية الثقافة وإشكالية أي مثقف نريد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ولهذا أرى أنه من المناسب، وبدلاً من أن نبحث أولاً عن دور المثقف في مجتمعاتنا ووظيفته، أو البحث عن نوعيته، أن نبدأ بصورة معكوسة، حسب الترتيب التالي:
أن نبحث عن هوية الثقافة التي نريد أولاً. وعن المثقف الذي يتبنى أسسها الرئيسة ثانياً. وعن أفضل وسيلة لتحديد وظيفته وتعريفه ثالثاً.
فهل نحن  كتجمع مثقف محدود العدد، نمتلك، بالفعل، ثقافة موحَّدة؟
نحن نمتلك، كما أحسب، نصف ثقافة. وهذا النصف جاء مبتوراً أيضاً. فنحن أنصاف مثقفين، ولا يمكن لأنصاف المثقفين أن يُفلحوا في أية عملية تغيير ثقافي ومعرفي في مجتمعاتهم، فكيف أفسر حيثيات هذا الحكم؟
لقد مرَّت مراحل  تحولات الثقافة الأوروبية، كما حددها سارتر، على الشكل التالي:
-إنقلاب البورجوازية الأوروبية على المنهج المعرفي السابق: كان المنهج السابق منهجاً معرفياً أصولياً مسيحياً يقوم على عدد من الثوابت / المقدسات، والتي لا يُسمح لغير الأكليريكيين بالتبشير بها. أي أنه كان للكنيسة، من أبنائها، وسطاء ثقافيين ينقلون ثقافتها ويحافظون عليها، لتبقى الضمان الأكيد للمحافظة على مصلحة الكنيسة.
ولما أحسَّ بعض حرَّاس الكنيسة من الإكليريكيين أنها تجاوزت حدودها الدينية المرسومة لها، انخرطوا في الدعوة إلى عملية إصلاح من داخلها. ولما لعبت عوامل الانفتاح على الخارج، في أوساط غير الإكليريكيين، دورها في تأسيس حركة نقدية لمنهج الكنيسة المعرفي. ولما نشأت طبقة اقتصادية جديدة  من رحم الطبقات التي كانت مسيطرة، وعمادها الكنيسة الممثلة برجالها، بالتحالف مع الارستقراطية والإقطاعية الزراعية، أخذت تسهم في وضع مناهج معرفية أخرى تنقض مناهج المعرفة السابقة. ولأن مصالح الطبقة المسيطرة، الكنيسة وحلفائها، لن تستمر إلاَّ من خلال استمرار مناهجها المعرفية الخاصة، دخلت في صراع دموي طويل ضد حرَّاسها الذين تجرأوا على الدعوة إلى الإصلاح من جهة، ومع أخصامها من المفكرين من غير رجال الدين من جهة أخرى. فكانت نتائج الصراع أن انتصرت مناهج المعرفة الجديدة، لكنها لم تأخذ من الكنيسة إلاَّ ما ليس لها، وأبقت على دورها الأساس، وهو أن تبقى ضميراً للمجتمع المدني.
 ويمكننا الافتراض، هنا، أن مراحل التاريخ متشابهة بيننا وبين أوروبا. وهذا الافتراض يستند إلى أن أوروبا قد خضعت لنظام ديني كنسي صارم. أما المنطقة العربية، فقد خضعت أيضاً لحكم ديني إسلامي لا يقل صرامة بالنوع عن صرامة النظام الكنسي الأوروبي. ولكن المنطقة العربية، بعد انهيار الإمبراطورية الإسلامية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تواجهت بفراغ معرفي كبير، وكان السبب هو أن المنطقة العربية خرجت من كابوس منهج معرفي كانت تظهر، بوضوح، ملامح الانقلاب عليه قبل أن يُقضى على نظامه السياسي. لكنه لم يتسنَّ لمن شخَّصوا أنه متخلف، أن يعملوا على إنتاج البديل، أي الانخراط في حركة نقدية لمناهجه المعرفية، كمقدمة ضرورية ولازمة لإنتاج منهج جديد يلبّي حاجات المجتمع العربي الإسلامي، ويعمل على الارتقاء به نحو التغيير فالتقدم. ولأن تلك المسافة ضاعت من تاريخنا الفكري، فإلى أي سبب يعود ما حصل؟
 قبل أن تحصل عملية ولادة  معرفية جديدة بشكل طبيعي، تمَّ استيراد مناهج معرفية من الغرب، أي أننا استوردنا، أو صُدِّرت إلينا مناهج الفكر الغربي، فعملنا على تقليدها، بمعنى أننا استوردنا بدلة جاهزة فُصِّلت لجسم غير جسمنا، وهذا لا ينفي أن تكون بعض تفاصيل الجسمين متشابهة. فاضطرنا هذا الاستيراد إلى أن  نأخذ البدلة إلى الخياط لكي يُجمِّل فيها ما أخذ يبدو متنافراً، وانخرط الخياط في اقتطاع جزءٍ من الكم وآخر من القبة ويضيف زرَّاً هنا أو جيباً هناك، فتشوَّه منظر البدلة أيما تشوه. وهكذا تحوَّلت البدلة التي كانت جميلة، على الجسم الغربي، إلى بدلة قبيحة المنظر على أجسامنا. لكن هذا لا يعني أنه علينا أن نمتنع عن الاستعانة بالقماش المُنتَج غربياً، بل من المشروع أن نستعين به لكي نفصِّل بدلة تناسب أجسامنا.
وتأسيساً عليه لم تكن المناهج المعرفية عربية الملامح بل لعبت المناهج المعرفية الأوروبية دورها الأساسي، فكانت ولادة التطور عندنا على الصعيد المعرفي ولادة غير طبيعية. ويأتي نشازها من أن الشرائح المحدودة من مجتمعاتنا نقلت عن الغرب المناهج الفكرية ومعها المناهج التكنولوجية، محاولة بذلك أن تؤسس لنمط مجتمع جديد يحاكي الغرب بكل شيء.  وهي بمثل هذا العمل أخذت تحاكي الغرب بمظاهر التصنيع القليل والاستهلاك الكثير عندما لعبت دور الوسيط التجاري. لكن هذا النموذج كان محدوداً ومقتصراً على طبقات مستفيدة من وظيفتها التجارية ومن غير الممكن أن يتم تعميمها على شتى شرائح مجتمعاتنا.
ردمت النخب العربية المثقفة مسافة الانتقال بين المنهج المعرفي السابق، الذي كان قائماً بشكل أساسي على الثقافة الإسلامية النصوصية من جهة، وعلى ثقافة الطرقية الصوفية السطحية من جهة أخرى، باستيراد ما بهرها من المناهج المعرفية الأوروبية الجديدة. وإذا كنا لا ننكر أهميتها وصلاح أكثر جوانبها لمجتمعاتنا، إلاَّ أنها كانت في واد والواقع المعرفي العربي الإسلامي في وادٍ آخر.
 كان العامة، وحتى بعض الخاصة، في مجتمعاتنا أعجز من أن يميِّزوا أي المناهج أكثر فائدة لمصلحتهم. ووقف حرَّاس الثقافة العربية الإسلامية التقليدية  ليدافعوا بشراسة وانفعال بسلاح التقليد، فكانت أسانيدهم، في الهجوم على المناهج الجديدة، أكثر تبسيطاً وأقرب إلى فهم العامة وثقافتها؛ فوقف العامة إلى جانب حرَّاس المناهج القديمة.
كانت مساحة الفراغ التي أحدثتها عملية الانتقال السريعة من منهج سلفي جامد إلى منهج علماني منقول بدون غربلة قد استندت إلى متغيرين:
1-المتغــير الثقـافي: وهو انتقال النخبة فقط من منهج معرفي إلى منهج معرفي آخر بطريقة قيصرية ومبتورة. وحصل الانتقال من دون عملية نقدية فكرية، بينما كانت هذه العملية مطلوبة بل ضرورية.
 فعملية إنتاج مناهج معرفية جديدة تبتدئ من النخبة المفكرة التي لديها كل القناعة والوعي والمقدرة على نقد المناهج السائدة وإنتاج مناهج بديلة تعتقد أنها صالحة لإحداث التغيير. هذه التجربة خاضتها النخبة الأوروبية المفكِّرة من خلال صراعات طويلة ودامية ضد مناهج الكنيسة  المتحالفة مع الدولة والاقطاع والأرستقراطية.
دفع المفكرون في تلك الصراعات كثيراً من التضحيات من جرَّاء ملاحقات السلطات الملكية وأمام محاكم التفتيش الكنسية. وعلى الرغم من ذلك أنتجوا مناهج معرفية جديدة. ولما أصبحت معظم المجتمعات الأوروبية متفهمَّة لتلك المناهج ابتدأت الثورة الثقافية والعلمية فالصناعية والاقتصادية في النمو. ودامت تلك العملية منذ بداياتها الأولى على أيدي الإكليريكي توماس الأكويني [1225 1274م]، حتى عصر الشك الذي أسسه رينيه ديكارت [1596 1650م]، أي ما يناهز أكثر من ثلاثة قرون من الزمن. ومن بعدها انفتحت أبواب الحرية أمام العقل الأوروبي، فانفتح معها الطريق واسعاً أمام إنتاج فكري خصب ومختلف أخذ يصب في مصلحة البشرية جمعاء.
كانت الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة نتاجاً للانتقال من مرحلة الجمود إلى مرحلة التحليل العلمي. وهكذا انكفأت مناهج المعرفة الجامدة التي يحتكرها رجال الأكليروس وتنميها الكنيسة بشحنات ثقافية موجهة وشحنات نفسية إيمانية قائمة على مبدأ التكفير والاتهام بالهرطقة. فأين نحن من ذلك؟
إنهزمت الإمبراطورية العثمانية وخلَّفت وراءها مناهج المعرفة التقليدية المحمية من النخبويتين الإقطاعية والدينية ولم تتخل الطبقات الشعبية عن الإيمان بها. من هنا تبدأ حالة انقطاع التواصل المعرفي لأن النخبة في مجتمعاتنا اعتنقت منهج البورجوازية الأوروبية من دون أن تتصدى إلى نقد المناهج المعرفية السائدة عندنا وهي القوت اليومي للنخب المثقفة والشعب، عندئذٍ حصل الطلاق بين الطبقة المثقفة الليبرالية وبين العامة من الشعب. فأصبحت كل شريحة لها دينها المعرفي الذي يتناقض كلياً مع الآخر، فابتدأت أزمة الفكر العربي والمثقف العربي من هذه النقطة بالذات. وأصبحت الطبقة المثقفة ليبرالياً تدافع عن مصالحها بمناهجها الجديدة من دون أن تجد أذناً صاغية من العامة لأنها لا تستطيع أن تتفهم المناهج الجديدة من جهة، ولأنها لم تمر بمرحلة كافية تستطيع من خلالها أن تتبيَّن أخطاء مناهجها المعرفية التي رضعتها بالتقليد من جهة ثانية. وتأتي حالة الانقطاع تلك من أن مجتمعاتنا ومثقفينا على حد سواء لم يمروا بمحنة وعذابات التغيير، ولم يبذل المثقفون والمفكرون العرب جهداً يكفي لعبور الهوَّة بين المناهج القديمة والمناهج الجديدة. وفي مراحل المحنة لا يمكن إلا أن تُنضج فيها الطبقة المثقفة مشروعاً نقدياً معرفياً للمعارف السابقة، وعليها أن تتحمل أوزار اختيارها والدفاع عن مهماتها بدون خوف أو قلق. وإلا فإن من المستحيل أن تنتقل مجتمعاتنا بسلام من ضفة التخلف إلى ضفة التقدم. وسوف تبقى الهوة ماثلة ما لم نبدأ من نقطة الصفر في ضرورة تغيير مناهجنا المعرفية السابقة من خلال نقدها بموضوعية وتقديم المناهج الجديدة التي تتناسب مع بيئتنا الاجتماعية بأساليب واضحة وبشكل متواصل. لكن هذا لا يعني أبداً أنه يجب إعادة التاريخ إلى الوراء في سبيل أن نقوم بعملية انتقال معرفية طبيعية. وإنما كانت الإشارة إلى هذه الإشكالية تهدف فقط إلى وضعها في الحسابات النقدية لكي تساعد في وضع اتجاهات للحلول حيثما تصبح الحلول مطلوبة.

2-المتغير الاقتصادي والسياسي، وبالتالي الطبقي: لقد انتقلت أوروبا من عصر الإقطاع والأرستقراطية بولادة طبيعية إلى عصر البورجوازية الصناعية. فأسست الطبقة الجديدة مناهجها المعرفية التي تتناسب مع مصالحها من جهة، وأخذت تنتج الطبقة المتخصصة المثقفة التي تساعدها على ضمان تلك المصالح من جهة أخرى.
أما في المنطقة العربية فقد استوردنا منتوجات العالم الصناعي بشكل كثيف؛ وأصبحنا مستهلكين للسلعة الغربية أكثر من كوننا منتجين لها؛ واستوردنا المناهج المعرفية التي تخدم مصالح الطبقات التي أنشأتها الثورة الاقتصادية الغربية. وعندما نشأت في بلادنا الطبقتان البورجوازية الصناعية والبورجوازية التجارية أنتجنا الطبقة المثقفة التي حرست إيديولوجية تلك الطبقات.
فمن المتغيرات على صعيد الإنتاج المعرفي الاقتصادي وبين متغيرات الإنتاج الصناعي والعمل التجاري، أسسنا على قواعد معرفية غربية أنظمة سياسية تحمي وتحرس مصالح الطبقات الجديدة.
وعلى قياس الأنظمة السياسية وأخطائها، وعلى قياس النُخب المثقفة التي أخذت تنتج وسائل معرفية وثقافية لحماية تلك الأنظمة من جهة، وحماية مصالح الطبقات المسيطرة على بُنى تلك الأنظمة من جهة أخرى، فصَّلنا أثواب الحركة النقدية الثقافية. ونسجنا أثواباً تناسب الجسم السياسي الطبقي التجاري والصناعي.
وفي غمرة الحركات الثقافية النقدية للأنظمة السياسية  والطبقات المسيطرة عليها والمدافعة عنها، نسينا تارة، وتناسينا تارة أخرى، الجانب الأهم من المهمة النقدية الثقافية. فأين تقع المهمة الأساسية كما نراها نحن؟
مرَّت الحركة النقدية الثقافية الأوروبية منذ البداية في مرحلة نقد المنهج المعرفي الديني، وحاربت احتكار الكنيسة للمعرفة، وكان من أهم أهداف تلك الحركة أن تصل إلى قلب دائرة العامة من أفراد المجتمعات الأوروبية. ومن أهم نتائجها أنها أنقذت مناهج المعرفة من براثن المقدس وجموده وصنميته. فأعادت للعقل دوره، وكان من المستحيل أن تعود الحركة لمناهج المعرفة من دون استعادة حق العقل بالتفكير. لقد سبقت الحركة الثقافية النقدية الأوروبية للفكر الديني والثقافة الدينية كل مظاهر التطور الاقتصادي الأوروبي. وهي كانت تحسب، وحساباتها كانت مصيبة إلى حد بعيد، أن الفكر الديني في أوروبا كان يضفي الشرعية على أنظمة الحكم الملكية من جهة وعلى أنظمة الاستغلال الاجتماعي والطبقي من جهة أخرى. فإذا كان القصد من الحركة الفكرية الناشئة أن تصيب النجاح، فكان لا بُدَّ لها من أن تكسر التحجر الذي أصاب البنى الثقافية والفكرية التي أصابت العمق الثقافي لأوسع القواعد الشعبية في أوروبا. ولم تستطع البُنى الفكرية الجديدة التي أنتجها فلاسفة أوروبا أن تشق طريقها نحو تغيير شامل للمناهج المعرفية لو لم تستجب أوسع القواعد النخبوية والشعبية، لفهم اتجاهات المناهج المعرفية الجديدة وتفهمها.
فأين نحن من تلك التجربة؟
إنني لا بُدَّ لي من أن أعود إلى التذكير بوجود مسافة مفقودة في تجربتنا الثقافية المعرفية. ثقافتنا الراهنة في واد وثقافة أوسع الجماهير الشعبية في واد آخر. لم ننس بعد أن المتنورين في منطقتنا قد أحسُّوا بالنقص الحاصل في ثقافتنا الموروثة، ووعوا عدم قدرتها على مواكبة المتغيرات الهائلة على الصعيد الإنساني والعالمي، وهم، أيضاً، قد فهموا الثقافة المستوردة من الغرب فقلَّدوها. لكن هل يُعدُّ هذا فرض كفاية، أي أن النخبة أدركت ووعت، ولا ضير إذا لم ترتقي العامة إلى ما ارتقت النخبة إليه؟
في عمليات التغيير الاجتماعي لا بُدَّ من أن تواكبها عملية تغيير ثقافي ومعرفي، ولا يمكن للتغيير الثقافي والمعرفي أن يحصل إذا لم يلامس عقول أوسع القواعد  الشعبية. فلا يكفي، في مثل هذه الحقائق، أن تعي النخبة وتفهم لوحدها، أي أن تعي وتفهم بالنيابة عن العامة من الشعب.
فما هي ثقافة عامة الشعب السائدة؟ وما هي المسافة التي علينا أن نقوم بردمها، والتي لم تسمح باجتيازها بشكل طبيعي، ومن دون القفز من فوقها، المتغيرات الدراماتيكية والمتسارعة التي أحدثها غياب الإمبراطورية الإسلامية العثمانية المتخلفة؟
جاءت المتغيرات الفكرية الأوروبية لتملأ الفراغ الذي أحدثته، ولكنها أحلَّت ثقافة الاستهلاك بدلاً من أن تُحلَّ ثقافة المعارف الفكرية. فهي لم تنجح في أن تنسخ مناهج المعرفة الشعبية الساذجة لتُحِلَّ مكانها مناهج المعرفة العلمية. وهي لم تستطع أن تقف في وجه حرَّاس الثقافة التقليدية، لتحل مكانهم حرَّاساً للثقافة الجديدة بمناهج معرفية جديدة.
ثقافة  حراس التقليد الثقافي، والمشبعين بالثقافة الدينية التواكلية، أصحاب الثقافة القديمة أدعياء أمانتهم على تطبيق الشرائع الإلهية، هم المسيطرون على عقول العامة من الناس. ويكفي عامة الناس أن يأتي رجل دين واحد ويقنعهم أنه على العامة أن يقلِّدوه فيصيبوا الجنة، وسوف يدخلونها من دون أي عناء بالتفكير وحمل هموم أعبائه. أَوَ ليس من أهم هموم المثقف، الذي يعي مساوئ المناهج الثقافية التواكلية والقائمة على التقليد وفرض الكفاية أن يعمل على نقدها، وعلى أن يعمل على إنتاج مناهج معرفية جديدة؟
نخلص إلى الاستنتاج بأننا نمتلك نصف ثقافة: يُعَدُّ استهلاكنا لنتاج الغرب المعرفي نصف الثقافة الأول. ولأننا لم نُنتِج منهجاً فكرياً يتلاءم مع بيئتنا، الذي يمثِّل نصف الثقافة الآخر، نكون كمن يمتلك نصف ثقافة.
ما هي التأثيرات السلبية التي يتركها نصف الثقافة الذي نقاتل بسلاحه ونعمل على التغيير بواسطته على مجمل الحركة الثقافية السياسية الليبرالية؟
إننا نعاني، في هذه المرحلة، معاناة دامية ومؤثِّرة. ومصدر هذه المعاناة أننا تهنا كثيراً وعبرنا مرحلة تغيير مفاجئ فاستوردنا أسلحتنا من الخارج، ولم نستطع أن نطوِّر فيها. ولهذا نرى أن إن الصراع الحاصل اليوم هو ليس بين مُنتجيْن للثقافة، بل بين مستورديْن لها. وإذا عدنا إلى  أعماق لا وعينا، وأحياناً أعماق وعينا، لوجدنا أن الصراع الحاصل اليوم هو بين أبناء المنهج التحديثي الليبرالي، وليس بينهم وبين أبناء المناهج الأخرى.
أَوَ ليس من المثير للاستغراب أن يكون نقدنا موجَّهاً، بشكل أساسي، إلى شعارات الأحزاب اليسارية؟ أَوَ ليس من المُستغرَب أن تكون سهامنا موجَّهَة إلى أصحاب الشعارات التي نؤمن بها؟
إذا راجعنا خطاب الأحزاب السياسي لن نجد فيه ما يتناقض مع شعارات المثقفين كأفراد. وإذا نظرنا في أدبيات المثقفين، كل المثقفين، لوجدنا أن أكثر ما يُلفت النظر هو عبارات التفشيل والتسقيط للأحزاب اليسارية، بحيث يحسبون أن مؤسسات الأحزاب قد سقطت وفشلت. وهل ننسى أن الأحزاب السياسية هي من أهم الابتكارات السياسية، الحديثة والمعاصرة، ويكفيها شهادة أن من تأثيراتها الإيجابية أنها تنظم العمل المعارض وتجعله أكثر فعالية؟
وعلى الرغم من ذلك ما زلنا نطلق تلك الأحكام عليها في الوقت الذي ترتفع فيه من الطرف الآخر، السلفي الديني والبورجوازي الصناعي أو التاجر والتقليدي من الزعماء السياسيين، شعارات العداء، كمثل العقائد المشبوهة أو المستوردة، والدعوة إلى محاربتها وإسقاطها. فهل هناك ما يجمع بين المثقف، الحامل هموم الأمة، وبين الواضعين متراساً في وجه أي منهج معرفي آخر غير مناهج القوى المسيطرة على المؤسسات السياسية والاقتصادية، والمهيمنين على مناهج التقليد والتجميد والتواكل؟ فهل أصبحت مؤسسات اليسار طريدة يتسابق على اقتناصها كل من المثقفين الليبراليين والمثقفين السلفيين والسلطويين على حد سواء؟
ما هي أسباب هذا الترابط؟ وما هي أسباب الصراع الدائر بين أحزاب اليسار؟
إن الجميع، وعلى حد سواء. ونقصد بالجميع هنا: المثقفين الليبراليين الذين يصوبون سهامهم باتجاه أحزاب اليسار، وأحزاب اليسار التي يوجِّه كل منهم سهامه نحو الحزب الآخر. إن هؤلاء جميعاً وقفوا في حقل للرماية هو ليس حقلهم. وكان من المشروع لهم أن يقفوا فيه لو أنهم درسوه وعرفوا خفاياه وقاسوا اتجاهات الريح فيه. ولكنهم دخلوا إليه من دون أن يفعلوا ذلك.
إن الحقل الذي يعمل فيه المثقفون الليبراليون وأحزاب اليسار هو حقل مرصود لمنهج معرفي سلفي، سواء كان ينتسب إلى الأديان والمذاهب الدينية أو ينتسب إلى سلفيي البورجوازية، ويجهد الجميع على أن يحققوا نتائج فيه  بمناهج ليبرالية، لكنهم، كما نحسب، أنهم لن يفلحوا كثيراً، وأكبر دليل على ذلك هو أن نقوم بملاحظة صغيرة: إن أي رجل دين، حتى لو كان يملك القليل من الثقافة يستطيع أن يجمع من حوله المئات من عامة الشعب، هو يتكلم وهم يستحسنون. بينما لا يستطيع مثقَّف ليبرالي حتى ولو كان فذَّاً أن يحمل أفراداً قلائل منهم ويكون قادراً على أن ينتزع منهم كلمة استحسان. ولا نخرج بنتائج مختلفة إذا ما وضعنا مالكاً لمصالح اقتصادية في مواجهة الأفذاذ من المثقفين المشهود لهم بالوعي والكفاءة.
إن المقياس ذاته نستطيع أن نطبقه على علاقات الحركات الدينية مع شريحة واسعة من العامة، وعلى علاقات العامة مع الحركات الليبرالية واليسارية. فماذا نرى؟ ليس استنتاجاً ما نقول، بل هو واقع تاريخي في لبنان تحقق من صحته الذين واكبوا مرحلة الستينات بوضوح، واستكملوا مواكبتهم لها حتى الوقت الراهن. لقد استقطبت الأحزاب اليسارية الآلاف من العامة، ولما انتعشت الحركات الأصولية استقطبت بخطابها الذي هو من عجين ثقافة العامة مئات الآلاف منهم. أتدعو هذه الظاهرة للاستغراب؟ أهي دليل على فشل العمل الحزبي؟ أهي دليل على فشل الشعار اليساري؟ أم هو عجز عن فهم هذا الشعار؟
لا يحسب أحد أنني أقوم بصياغة لائحة دفاع عن الأحزاب اليسارية الليبرالية. بل إن ما أردت من وراء إلقاء الضوء عليه، ليس إلاَّ لكي أبرهن على الفرضية التي أشرت إليها في البداية، وهي أن النخبة المثقفة التي طوَّرت منهجها الفكري انغمست في حركتها الفكرية في معركة أحادية الجانب. فهي قد انخرطت في منهج فكري معرفي جديد قامت من خلاله بنقد مظاهر العلاقات بين الطبقات البورجوازية من صناعيين وتجار وطبقات مثقفة ونتائج هذه العلاقات. ومن خلال مراجعة التراث النقدي الليبرالي منذ عشرات السنوات لوجدنا أنه تراث غني وخصب، وقلما يتعارض على عناوينه وأهدافه الأساسية كل الليبراليين، أحزاباً وأفراداً، بشكل كبير. وفي مقابل ذلك نسي الجميع في غمرة صراعاتهم مع بعضهم البعض، أحزاباً وأفراداً، أفراداً وأفراداً، أحزاباً وأحزاباً، أن يُوحِّدوا الصف في قيادة صراع حول تغيير المناهج المعرفية للعامة من الشعب. وقد نسي الجميع، أو جهلوا، أن مساحة الفراغ كانت منذ أن انتقلت مجتمعاتنا من طور إلى طور آخر تم بقفزة في الهواء فرضها التغيير المفاجئ الذي ألمَّ بمنطقتنا وبمجتمعاتنا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وإنه في الوقت الذي يخوض فيه الليبراليون صراعهم مع الطبقات المسيطرة عليهم أن يخوضوا، أيضاً، معركة التغيير ضد مناهج المعرفة السائدة عند أوسع القطاعات الشعبية. فالثغرة في نضالات الأحزاب والقوى الليبرالية ابتدأت منذ أن جهلت أو تجاهلت أهمية خوض غمار التغيير في المناهج الثقافية الشعبية وحصرت كل اهتماماتها في نشر وتطبيق المناهج المعرفية الغربية ومبادئها.
من الخطأ أن يمارس الليبراليون معارك الإلغاء ضد بعضهم البعض. يكفيهم خصماً، يمتلك أكثر منهم عُدة وعدداً يعمل على إلغائهم جميعاً. أَوَ ليس هناك خصم راديكالي، يلبس تارة لباس المنهج المعرفي الديني السلفي، وأحياناً أخرى يلبس لباس المنهج المعرفي البورجوازي الاقتصادي والعلمي؟
ليست الصراعات بين أبناء من يحسبون أنهم أبناء منهج معرفي واحد إلاَّ مظهر من مظاهر ما أطلقنا عليه، في بداية تعقيبنا، وهو أننا نملك نصف ثقافة. وعلينا أن نعمل لامتلاك ثقافة كاملة وهذا لن يتم إلاَّ بإجراء حركة نقدية* لمناهجنا المعرفية الموروثة، والتي بواسطتها، نستطيع أن نتعرَّف فعلاً على وهاد الحقل المجتمعي الذي ننحت فيه ونحفر ولا نستطيع أن نحصل على جزءٍ من الكسب يعادل الجهد الذي نبذله. ويصبح الحصول على ثمن أكثر جزاءاً إذا ما قمنا بمثل تلك المراجعات النقدية، بحيث يتشارك فيه مصدر الإنتاج الفكري النقدي مع المثقف الوسيط مع الفرد العادي.
وهنا نرى أنه لا بُدَّ من أن نحدد الزاوية التي منها نتوجَّه بالنقد إلى الأحزاب اليسارية، وإلى المثقفين اليساريين والليبراليين، ومن هذه الزاوية نحسب أن المشكلة لم تبدأ من مضامين المبادئ السياسية الرئيسة التي يدعون لها.  وإنما بدأ الخلل عندما غرقوا في بؤر الخطاب السياسي، المستند إلى مناهج معرفية غير تلك التي تعتنقها التيارات الدينية وتيارات البورجوازية المالكة والمتاجرة والمتمولة وأوساطها الشعبية المؤيدة لها والمقلِّدة. فهم عندما أعلنوا مبادئهم وبنوا مشاريعهم السياسية على أساسها كانوا يقلدون ما جاء من الغرب. وإذا كانوا هم قد فهموها فإن القاعدة الشعبية الواسعة، صاحبة المصلحة في التغيير، كانت بعيدة كل البعد عن فهمها واستيعابها. وإذا كان عجز مناهج المعرفة السابقة كان واضحاً، أو شبه واضح، عند قوى التغيير؛ فإن القواعد الشعبية ذاتها كانت تجهل أن مناهجها عاجزة عن تأمين حقوقها؛ لا بل كانت مقتنعة أنها الوحيدة التي تؤمن مصلحتها. وفي ظل هذه الفجوة الموجودة بين القواعد الشعبية وبين المثقفين الليبراليين، أفراداً وأحزاباً، كان من العسير على قوى التغيير أن تصل إلى نتائج تُذكَر. فالحل، كما نتصوره نحن، وكما دلَّت عليه التجربة الأوروبية، هو أن تنطلق قوى التغيير، أي القوى المثقفة، في عملها من خلال مسارين متلازمين، وهما: نقد مناهج المعرفة التي قلَّدتها العامة والتي اكتسبتها أباً عن جد أولاً، وتقديم مناهج معرفية جديدة ثانياً، وهنا لا نرى ضيراً من الاستعانة بمناهج الغرب المعرفية ونتائجها.
الشريحتان اليسارية واليمينية تطرحان الشعار الديموقراطي، والفرق بينهما أن الشريحة اليسارية تتهم الشريحة اليمنية، الحاكمة في السلطة أو المهيمنة على الأوساط الشعبية، بأنها لا تطبق الديموقراطية بشكلها الصحيح. وحتى لو  طبَّقت تلك السلطات أساليب الديموقراطية بأرقى مظاهرها، فإنني لن أكون متشائماً إذا حسبت بأنه لن يصل من مرشحي الطبقات الليبرالية اليسارية ما يُحدِث خللاً ذا تأثير يُذكَر في البُنى السياسية والسلطوية لصالح اليسار.
لقد غرقت الأحزاب والقوى اليسارية المثقفة في الخطاب السياسي الذي يستهدف الوصول إلى السلطة، وحسبت أن سفينة إنقاذ الجماهير الكادحة لن تكون إلا بوصولها إلى كراسي الحكم. وأعادت أسباب عجزها عن الوصول إلى مؤامرة تحيكها قوى اليمين الحاكم والقوى البورجوازية المهيمنة. وأتَّهمتها بأنها تزيِّف الديموقراطية وتغيِّبها باستخدام سلطة القمع وسلطة المال. وهي بمثل تلك الادِّعاءات كأنها تقول بأن جماهير الشعب هي فعلاً تفهم الديموقراطية وتعشقها. ولو كان الواقع صحيحاً لدافعت العامة عن حقها الديموقراطي بالأسنان والأظافر. لكن العامة الذين يخضعون لسلطة القمع وسلطة المال هم، فعلاً، أبعد ما يكونون عن فهم دورهم الديموقراطي، ولا يشعرون بأن مبادئها تطعمهم لقمة واحدة من الخبز. فهناك جهل بأهمية الشعارات والمبادئ السياسية الحديثة. وليس من التكرار الممل أن نُذكِّر بوجود الفجوة بين المثقف والشعب.
هل نسيت الأحزاب والقوى اليسارية المثقفة أن اختيار العامة لن يصب إلاَّ في صالح حرَّاس المناهج المعرفية الأصولية الدينية والسياسية لأنهم استقوا مناهجهم وتأثروا بها وعملوا على هديها؟
فإذا كان خطاب المثقفين، أحزاباً وأفراداً، يتناقض مع مناهج المعرفة التي يقلِّدها العامة من الناس، فلن يستطيعوا أن يدخلوا حلبة المنافسة مع حرَّاس المناهج الطائفية السياسية وحرَّاس المناهج البورجوازية والتجارية والمالية.
وإذا كان هدف الوصول إلى السلطة يشكِّل شرطاً ضرورياً للتغيير فهو سراب. لأنه لن يصل إلى السلطة إلاَّ من يلتزم بخط القوى المسيطرة. وهذا الالتزام سيؤدي إلى المجاملة والنفاق، ومتى انخرطت الأحزاب والقوى في سلك المجاملين والمنافقين سترتكب إثم الردة على مبادئها وهذا لن يكسب حركة التغيير شيئاً.
عندما نَعِم الأوروبيون بالديموقراطية فليس لسبب إلاَّ لأن مفكريهم عانوا الشيء الكثير ودفعوا من راحتهم ودمائهم أحياناً ثمناً باهظاً نتيجة إصرارهم ليس في سبيل الوصول إلى السلطة بل لإصرارهم على مناهضة مناهج المعرفة  التي كانت سبباً في تخلف مجتمعاتهم.
وكي لا نحمَّل أنفسنا نقداً يجعلنا أسيرين لتلاوة فعل الندامة، لا بُدَّ من أن نعترف بأننا جميعاً، أحزاباً ومثقفين، قد وضعنا اليد على الجرح الذي ينزف فينا، وهو جرح النزيف المعرفي، لكننا لم نعمل من أجل إيقافه. فوضع اليد على الجرح هو خطوة أولى، أما الخطوة الثانية، التي بدونها لن ننقذ الجريح من الموت، هي إيقاف النزيف. لقد وضعنا يدنا على جرح تخلفنا النازف، ولكننا، حتى الآن، لم نخطو خطوة جريئة في سبيل إيقاف هذا النزيف.
وكي لا نجمِّد حركتنا السياسية حتى يكتمل بناء منهجنا المعرفي الجديد، دعونا نقتسم الهم والمسؤولية: فرقة منا تنحت في تأسيس بناء معرفي، وفرقة تنحت في تأسيس هيكل سياسي يتوافق مع البناء المعرفي الجديد ويسترشد به.
ولكن حذار من النفاق طريقاً للوصول. وحذار من استجداء الجماهير الشعبية. وحذار، خوفاً من خسارة صوت انتخابي هنا أو هناك، من تغليب التكتيك السياسي على المبادئ المعرفية. وللوصول إلى مثل هذا المستوى أن نحذر من الوقوع في دائرة غواية السلطة وإغراءاتها. فحين نمارس الحق الديموقراطي السياسي، سواء في طلب السلطة أو في إبداء الرأي، علينا أن لا نعدَّه أكثر من وسيلة لتوسيع رقعة نشر المناهج المعرفية الجديدة التي، وحدها، تأتي لمجتمعاتنا بخشبة الخلاص الثابت.
وحتى لا نترك للأجيال القادمة إرثاً ثقيلاً شائكاً، وهو العبء ذاته الذي ورثناه عن أسلافنا، لا بُدَّ من التمهيد للخطوة الأولى.
أحسَّ أسلافنا أن التخلف الذي كان سائداً، منذ أكثر من قرن من الزمن، لا يمكن فصله، كإحدى نتائج المناهج المعرفية السابقة، عن تلك المناهج التي كانت سائدة. ولهذا وُلِد من هذا الإحساس الشعور بالإصلاح. وقِيل يومذاك، كاعتراف بوجود إشكالية معرفية، إن الخلل ليس في تلك المناهج بل الخلل متأتٍ من الذين يطبقونها. ولم يستطع الإصلاحيون أن يخطوا خطوة أخرى  أكثر تقدماً. ولم تفسح المتغيرات المتسارعة، على الصعيدين الدولي والمحليً، المجال لكي تنضح مرحلة الإصلاح الفكري من داخل دوائر المناهج التي كانت سائدة. فجاءت تلك الأحداث ليس لكي تبتر التجربة الداخلية فحسب، ولكن لكي لا تفسح في المجال لأصحاب المناهج الليبرالية أن يأخذوا دورهم أيضاً. وانصبَّت الجهود بعد تلك المتغيرات في العمل من أجل الاستقلالات السياسية فكانت الحركة السياسية قد أكلت كثيراً من جرف الحركة الفكرية. وتصدرت الحركة السياسية واجهة التغيير بشعارات ومبادئ غربية*. وقد أغرت الحركة المفكرين وأصحاب الكفاءات الفكرية بنعيم السلطة، هؤلاء الذين كان عليهم أن يحافظوا على مواقعهم الطبيعية ويستمروا في أعمالهم الفكرية بعيداً عن إغراءات السياسة. وبدلاً من ذلك غرق الجميع، تقريباً، في الخطاب السياسي التعبوي، وابتعدوا عن البحث العلمي الفكري ذي العلاقة بتغيير المناهج المعرفية التي أثبتت فشلها إلى مناهج إصلاحية تتناسب مع الحدث السياسي السريع. فخسرت الثقافة ولم تكسب السياسة.
لقد ترك أسلافنا عبء النضال من أجل إرساء مناهج معرفية جديدة على عاتقنا. وعلينا نحن اليوم مسؤولية أن لا نؤجل العمل، فنلقي هذا العبء على كواهل أبنائنا وأحفادنا. ولا ننسى أن أبناءنا بدأوا ينفعلون أكثر باستيراد المعارف الجاهزة، والتي يتركز أكثرها على التكنولوجيا والعلوم الصناعية التي تؤمن الرفاهية المادية، وتناسوا ما للعلوم الإنسانية من أثر كبير في بناء إنسانية الإنسان، وكي لا يتوهَّم أن سعادته تستند فقط إلى امتلاك السلعة المادية، ولكي يعي أن البشر ليسوا آلات تحتاج إلى تغذية بالوقود كشرط لاستمرارها بالعمل والإنتاج، وإنما للبشر حاجات أخرى منها النفسي والاجتماعي. ولن تتحقَّق تلك الأهداف بدون إعادة النظر بإنتاج مصادر معرفية جديدة تساعد الإنسان، كفردٍ في مجتمع، على بناء قيم تسهم في تخطيط حاجاته المادية والنفسية والروحية والاجتماعية على أساس  القيم الإنسانية العليا، وكي تستمر مناهج المعرفة التي تصب في مصلحة الإنسانية والإنسان، في مصلحة المجتمع كله وليس في مصلحة طبقة واحدة.
أما عن الوسائل التي تعبِّد الطريق المعرفي الثقافي أمام شتى التيارات الليبرالية، أفراداً وأحزاباً، فهي موضوع آخر.
ولأن الوقت المخصص للمداخلة هو وقت قصير جداً أكتفي بما أردت أن أبدي فيه رأياً. وإنه متى حصل التوافق حول صحة التشخيص يمكن عقد دورة حوارية أخرى، تتحدد فيها أدوار المثقفين ووظائفهم على ضوء تشخيص الواقع الخاص لمجتمعاتنا، وإنتاج ثقافة كاملة، وليس الاكتفاء بنصف ثقافة. وتأتي المداخلات القادمة، كما أقترح، تحت عنوان كيف نُنتج ثقافة جديدة وما هي أفضل الوسائل التي تتيح للمثقفين الليبراليين أن يقوموا بعملية الإنتاج تلك.
***




*  الحركة النقدية هي ذات أهداف موضوعية: غربلة التراث، وتحديد الإيجابي وتثبيته؛ وتحديد السلبي ثم رفضه.
*  لا بُدَّ، هنا، من أن ألفت النظر إلى أنني لا أقف موقفاً سلفياً من تلك المبادئ، وعلى جميع الأحوال فإن  موقفي لا يغلب عليه الطابع السلبي في جميع جوانبه، ولا الطابع الإيجابي بدون نقد. الحضارة الغربية ليست إشعاعاً يؤخذ كله، لكنه ليس غزواً يتم رفضه بالكامل.


ليست هناك تعليقات: