لا يجوز أن ننظر من زاوية واحدة إلى مشهد متعدد الزوايا، لأن الصورة ستكون ناقصة لا محالة، والأحكام عليها ستكون ناقصة أيضاً ومجتزأة. وهنا ليس للحكم على ذلك المشهد أهمية إذا كان لا يستند الى رؤية المشهد من زواياه كافة. وهذا الأمر ينطبق على رؤية الحراك الشعبي العربي الراهن كمشهد تتعدد رؤى الذين يتابعونه بالرأي والتحليل كمشاهدين له من خارج، أو المنخرطين فيه من الداخل. وعنه وله تصدر تحاليل وأحكام تبدو محيِّرة في كثير من الأحيان، كما تبدو ناقصة ومتحيزة ومتعصبة في أحيان أخرى، وحاسمة في جوانب، ومترددة في جوانب أخرى، حتى كاد أصحاب الفريق الواحد يتخاصمون ويتجادلون من دون طائل.
ولأنني جزء من الذين واكبوا الحدث الكبير منذ بدايته التاريخية في تونس، وامتداده من قطر الى آخر بسرعة لم تكن متوقَّعة الاحتمال، لأن معظم المحللين كانوا ينظرون إلى الواقع العربي بعين من نفض يديه، في هذه المرحلة، من إمكانية أن يتململ الشعب أو تُستنهض أحزابه بشتى تلاوينها وأشكالها.
كانت الصورة واضحة في ساحة قطرية، ومشوَّشة في ساحة أخرى، وغامضة في ساحة ثالثة. لذلك كثرت الكتابات التي اهتمت بالتحليل والتشخيص، وتكاثرت الأحكام وتنوعَّت. وكان من أكثرها لفتاً للأنظار تلك الأحكام التي نظرت من زاوية واحدة إلى الحدث، سواءٌ أكانت الأحكام ذات علاقة بتشخيص أسباب الحراك وتحليلها، أم كانت حول نتائجه. ولذا أصبح تشخيص الحراك في تونس وكأنه مماثل لما حصل في مصر، وكأنَّ تشخيص أسباب حراكهما وآلياته واستهدافاته ونتائجه مماثل لما راح يحصل في ليبيا. وكرَّت سُبحة منهج تشخيص الحراك في الأقطار الأخرى، كما هو حاصل في البحرين واليمن وسورية… وازدادت الفجوة بين نتائج التشخيص واحتمالات نتائج الحراك.
ولأن الذين لم يمتلكوا أكثر من عين، ترى الحراك أينما كان من زاوية واحدة، أُصيبوا بالتشنج والتعصب ضد الذين حاولوا أن يشخصوا واقع الحراك في تلك الأقطار من زوايا أخرى، وتحوَّلت الحوارات، أو قل الجدالات، أو قل السفسطات أحياناً، الى صراعات داخل الفريق الواحد، الأمر الذي وفَّر على وسائل الإعلام المعادية، ومن لفَّ لفُّها، الكثير من الجهد في مواجهة الحركات والأحزاب والشخصيات الصادقة في مواقفها القومية، والتي تُدرك أهمية أن تصب نتائج الحراك في مصلحة الأمة العربية والجماهير العربية. وراحت تلك الوسائل تضخ الكثير من الغيوم التي حجبت الرؤية الواضحة عن الذين لا يمتلكون مناظير استراتيجية في تفسير الحراك ونتائجه.
وإننا على قاعدة النظر الى كل حراك من زوايا متعددة تأخذ خصوصيات الحراك بعين الاعتبار، سواءٌ أكان بمكانه، أم كان بوسائله وتشخيصه ونتائجه، سنتناول إشكاليتين اثنتين بالتشخيص والتحليل. وكل قصدنا من وراء ذلك، الإسهام في الإضاءة على الظاهرة العربية الشعبية التاريخية التي تشهدها ميادين الشارع العربي، سواءٌ منه الذي تململ، أم ذلك الذي ما يزال ينتظر. واِلإشكاليتان هما: خصوصية كل حراك، وإشكالية مفهومنا للتغيير:
-الأولى: خصوصية الحراك:
إذا فتشت عن أسباب الحراك في شوارع عدد من الأقطار العربية لوجدت بينها تماثلاً يصل إلى حدود التطابق، في الوقت الذي يكتسب كل منها خصوصيات تميز البعض منها عن البعض الآخر، ومن أهم الجوانب التي تتماثل فيها، نذكر التالي:
-الواقع الاقتصادي الذي تميل موازينه إلى جانب الطبقات الغنية بشكل شاسع.
-والواقع الاجتماعي كانعكاس للواقع الاقتصادي ازدادت فيه أعداد الطرفين: إذ ازداد عدد الأغنياء، وفي المقابل ازدادت الطبقة الفقيرة فقراً على فقر.
-ومن حيث الحريات السياسية والحق بممارسة الديموقراطية استخدمت كل الأنظمة وسائل القمع البوليسي، وتقاربت بينها وسائل الاعتقال الكيفي والتوقيف العرفي كما توحدت عقيدة التعذيب والحجز في السجون من دون محاكمة...
-ومن حيث احتكار السلطة توحَّدت عقائد التوريث، إذا لم يكن بين أبناء العائلة الواحدة، فبين أبناء الحزب الحاكم، او بين أبناء الطبقة المستغلة...
أما أهم الجوانب التي تميز الحراك عن الآخر، فهي التالية:
هناك خصوصيات تميز ما بين حراك وآخر، وهذا ما يُوجب على الباحث أن يكتشفه، وهو لن يستطيع ذلك إذا حصر نظره بزاوية واحدة، الأمر الذي ينبغي فيه أن ينظر إلى كل حراك من زوايا متعددة. وإذا لم يفعل ذلك، وإذا نظر إلى كل حراك من زاوية واحدة فكأنه ينطبق عليه المثل القائل: وهو كمن يساوي (بين الباذنجان والبيض)، ولهذا المثل قصة شهيرة، نعتذر من القارئ اللبيب بسردها: (كلَّف رجل خادمه بشراء الباذنجان، ففعلها الخادم وعاد إلى البيت فوجده مقفلاً، فانتظر سيده إلى أن عاد. فقال له مازحاً: كان عليك بدل انتظاري أن ترمي الباذنجان إلى داخل البيت من هذه الكوة. وكلَّفه سيده مرة أخرى بشراء البيض، فاشتراه وعاد إلى المنزل فلم يجد سيده، فقذف بالبيض من الكوة إلى داخل البيت. ولما عاد سيده روى له ما حصل، فوجدا البيض مكسوراً. فأنَّبه سيده على فعلته وقال له بأنه كان عليه أن يميز بين البيض والباذنجان)، وراحت القصة مثلاً يُضرب بمن لا يستطيع التمييز بين خصوصيات قضيتين تبدوان متماثلين في جوانب، ولكنهما متباينين في حوانب أخرى. ذلك ما اكتشفناه من تحاليل يقوم بها عدد من الكُتَّاب، إذ ينظر بعضهم إلى ما يجري في مختلف الأقطار بعين واحدة، ولهذا السبب كسروا كثيراً من البيض ووصلوا إلى نتائج مُضلِّلة، وراح صدرهم يضيق بكل تحليل لم يأخذ النتائج التي توصلوا إليها بعين الاعتبار.
إن الأسباب التي دعت إلى التفاف ملايين الجماهير حول أول دقة جرس قرعها معارضون للأنظمة الرسمية القائمة، أو حتى مجموعات غير منظمة، كانت وحدة المعاناة الشعبية على صعيد الشارع القطري الواحد، أو على صعيد شوارع أكثر من قطر. ولكن هذا لا يعني أن يتم استخدام الوسائل ذاتها في كل حراك، وكما لا يعني أيضاً الحصول على النتائج ذاتها.
ولأن الحراك الشعبي لم يكن مطلبياً فقط، بل كانت له أهداف وطنية سواءٌ أكان على صعيد القطر الواحد أم كانت له مؤثرات وانعكاسات قومية على صعيد القضايا العربية، فقد راح كل حراك يشكل خصوصياته التي تميزه عن الآخر.
ولأن هويات الأنظمة ليست متماثلة، او متطابقة كلياً، من حيث قربها أو بعدها من التحالف مع قوى الاستعمار؛ أو من حيث قربها أو بعدها عن التأثير بالقضايا القومية، سواءٌ اكان لها مواقف تتناقض كلياً أو جزئياً مع تحالف الصهيونية والرأسمالية، فقد كان لكل نظام منها خصوصية طبعت وسائل الحراك وستطبع نتائجه بخصوصيات ليست متوفرة في الأقطار الأخرى.
ومن الأمثلة على ذلك، للتفسير وليس للتفصيل، لا يمكن أن نعترف بتماثل بين ثورة تونس وثورة مصر إلاَّ بأن النظامين اللذين كانا حاكمين قد وضعا كل بيضهما في السلة الأميركية، ومثَّلا الأنموذج بطاعة الإدارة الأميركية والالتزام بأوامرها. وعلى الرغم من ذلك فلكل منهما خصوصية مدى التأثير على مجريات الصراع العربي – الصهيوني، وهنا لا نوازي بين أهمية دور مصر وأهمية دور تونس. فليس لنظام بن علي في تونس التأثير نفسه الذي يمتلكه نظام حسني مبارك المطلوب منه حماية اتفاقية كامب ديفيد وتطبيق فصولها، وهي الاتفاقية الاستراتيجية التي تحمي أمن (إسرائيل).
كما أنه لا يمكننا الإقرار بأن يكون هناك تماثل بين هذين النظامين، أو بين الثورتين التي اندلعت ضدهما وبين الأنظمة الأخرى أو الثورات الأخرى. فخصوصيات ارتباط النظامين المذكورين بالقوى الاستعمارية يعني أن الحراك فيهما كان في مواجهة النظام في الداخل من جهة وفي مواجهة قوى الخارج من جهة أخرى؛ أي أن كل ثورة منهما، كانت تواجه في معركة واحدة النظام في الداخل، والتدخل من الخارج، لأن التدخل الخارجي كان جزءاً عضوياً من بنية النظام ومؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية. أي بمعنى أن المعارضة التي تستجيب لإملاءات الخارج وتأتمر بأوامره لم تكن خارج حدود تلك الأقطار. لذلك لم يكن الخارج بحاجة إلى تسريب أي نوع من المعارضة المكلفة بتدعيم قوى الثورة المضادة، داخل الثورات المندلعة، لأن قوى الثورة المضادة، من داخل ومن خارج، موجودة أصلاً في بنى ومؤسسات النظامين المختلفة.
وأما بالنسبة للثورات الأخرى في الأقطار الأخرى، فتختلف عنها؛ وكما تبيَّن لاحقاً، كما هو بيِّنٌ في المثال الليبي، وكما تشير الدلائل في المثال السوري... فإن التدخل الخارجي كان بحاجة إلى إعادة المعارضين ودفعهم للتسلل إلى داخل الثورات مزوَّدين بالوسائل والإمكانيات السياسية والعسكرية والمادية والإعلامية.
وهنا لا بُدَّ من أن يستوقفنا حال الأنظمة المسكوت عنها، كما في أنظمة الخليج، والتي لا تقل وسائلها بالقمع والتهميش ومصادرة الحريات عن مثيلاتها في الأنظمة الأخرى التي أثارت حماس الغرب الرأسمالي وغيرته الكاذبة في البكاء على حقوق الشعب، حيث راح يُظهر كل أنواع التأييد لحماية المدنيين في الأنظمة التي لا يرضى عن أدائها واستجابتها لكل أوامره، بينما يتأكد يوماً أكثر من الذي سبقه أنه غير مُكترث لما يحصل من جرائم يندى لها جبين الإنسانية كما هو حاصل في العراق وفلسطين؛ كما أنه يسكت عما يجري من تجاوزات كبيرة تُداس فيه حقوق الإنسان في دول الخليج. وهنا لا بُدَّ من أن نشير بإصابع الاتهام الصارخة في وجه هذا الخارج، واتهامه عن سابق إصرار وتصميم باستخدام المكاييل المزدوجة، وهي ليست أكثر من مكاييل مُصمَّمة على مقاييس مصالحه، وتستجيب لنهج إملاءاته وأوامره.
هذا بالنسبة لخصوصية كل حراك، اما بالنسبة لأهدافه بالتغيير، فلها حصة من التحليل، الذي قصدنا من تحديد جوانبه في هذه الدراسة، ليس إلاَّ إسهاماً في تقريب طاولات الحوار بين أبناء الصف الواحد، من أجل الاتفاق على مفاهيم المصلحات للاستفادة منها في توحيد الرؤية حول قضية من أكثر قضايا العرب أهمية.
-الثانية: إشكالية الاتفاق على مفهوم واحد للتغيير:
من بديهيات الأمور أن نقول بأن الشعب هو أكثر من يعاني من قهر الأنظمة، وهو الأكثر استجابة لدعوات التغيير، وهو أكثر من يضحي في سبيل تحقيق أهدافه؛ إلاَّ أن هذه البديهة لا تعني أن تلك الجماهير قادرة على تحديد مسارات التغيير ومسالكه بشكل سليم. فالوقوف في صف الشعب أمر بديهي، وأما مسألة توفير أفضل مناخات الحراك الشعبي ووسائله للحصول على أكثر ما يمكن من الحقوق الشعبية فهي من مهمة الأحزاب المنظمة. وإذا رأى البعض عكس ذلك، فهذا يعني أنه لا حاجة للأحزاب، ولا أستطيع الجزم بأن هذا البعض يقصد ذلك، ولكن الإشارة إليه ليس إلاَّ من قبيل الكشف عن التناقض الذي يقعون فيه حينما يقومون بتحليل الواقع على قاعدة أن الحركة الجماهيرية وحدها قادرة على إنجاز التغيير، وكأن الشعب عندما ينخرط في الحراك الشعبي أو الثورة الشعبية قادر من دون وجود عوامل أخرى على أن ينجز المهمة. وكأن المريض الذي يحس بالألم ويصرخ من وجعه قادر على أن يعالج نفسه بنفسه، متناسين أن الشعور بالألم شيء ووصف العلاج له شيء آخر، هذا يحصل في حالة واحدة، وهي عندما يكون الإنسان مريضاً وطبيباً في آن معاً. وإذا حصل وكان الشعب بمستوى الثائر والقائد معاً، أي أن يكون المريض والطبيب معاً، فعندئذٍ تحصل المعجزة. وهنا لا بُدَّ من من التساؤل: هل دخلنا عصر جمهورية إفلاطون؟
من بديهيات الأمور، خاصة منذ نشأة فكرة الأحزاب السياسية المنظمة، أن نعتبر، على مستوى التغيير في المجتمعات البشرية، بأن عملية التغيير الناجحة تعتمد على وجود طرفين يؤدي كل طرف منهما دوره في عملية التغيير بشكل يتكامل مع دور الطرف الآخر، وهما: حزب منظم، وشعب متجفز.
ونحن نعلم أيضاً أن حالة الجمود التي لفَّت الشارع العربي لعقود طويلة كان غياب الحزب العربي من أهم أسبابه. وعندما صرخ الشعب العربي وتململ وملأ الشوارع، كان الحزب العربي ما يزال يغط في سبات عميق. ولذا بقي الشعب متحفزاً لكن من دون دليل يرشد خطواته ويصوبها. فتحول الوضع إلى ما يشبه وجود مريض يصرخ من الألم لكنه لا يجد الطبيب الذي يداوي مرضه ويعالجه. ونحن نخشى في هذه الحالة أن لا يحصد الشعب إلاَّ الصراخ.
لقد أطلَّ علينا البعض من المحللين، أو من المحرضين المغرضين، قائلاً: إن الاحزاب هي التي كانت سبب (خراب البصرة). وداعياً في الوقت ذاته إلى الاستمرار في الثورة الشعبية لأن الشعب قادر بنفسه على أن يصل بالثورة إلى برِّ الأمان وإلى قطف النتائج المرجوة من ثورته. وهذا يعيدنا إلى التذكير بأن شعبنا العربي لم يصل إلى المستوى الذي يجمع بين مهمتين: مهمة المريض والطبيب معاً. وإذا كانت هذه من أمنياتنا، لكن لا تؤخذ الدنيا بالأماني. لكن هذا يطرح السؤال التالي: وهل على الشعب أن يؤجل ثورته حتى تكتمل شروط نجاح التغيير؟
ليس التغيير على صعيد المجتمعات، بأهدافه، ووسائله، وصفة دواء جاهزة، يتجرعه المريض حبة حبة، أو نقطة نقطة، فيشفى. بل التغيير عملية تراكمية من الخطوات المرحلية، تحمل كل خطوة عاملاً إيجابياً يتم البناء عليه. في هذه العملية تستفيد أحزاب التغيير من تجاربها، وتبني عليها وتؤسس للمراحل التي تليها. ويتحصن الشعب بجرعات معنوية عندما ينجح في انتزاع حقٍّ من حقوقه، ولعلَّ من أهمها في هذه المرحلة أن الشعب العربي، أينما كان، كسر حاجز الخوف من القمع والملاحقة والقتل والاعتقال. وهو بمثل هذه النتيجة قد نال الحق بالتظاهر والاعتراض، أي انه أنجز أهم حق من حقوقه السياسية. ولهذا لا شيء يدفعنا إلى الدعوة لإيقاف الحراك الشعبي الراهن، لأن تداعياته الإيجابية ما تزال تتوالى. إلاَّ أن ما يفتقده الحراك الشعبي الآن هو غياب الجانب التنظيمي، الذي لا تستطيع القيام بعبئه سوى الأحزاب العقائدية الملتزمة كلياً بحقوق الشعب، فهي الأكثر وعياً بتلك الحقوق، وهي الأقدر على ترشيد وسائل الحراك وأساليبه.
وإذا كنا ندرك هذا المفهوم للتغيير، فلأنه ينطبق على شروط المواجهة بين الشعب والنظام السياسي، وهو الأنموذج التقليدي السائد في معظم دول العالم، لكن للتغيير في وطننا العربي، وسائل وأدوات وأهداف، يتداخل فيها العامل الداخلي مع العامل الخارجي. وحينذاك تزداد مفاهيمه تعقيداً، إلى الدرجة التي يلتبس فيها الأمر على الذين لا ينظرون إلى المفهوم إلاَّ من زاوية واحدة. وهذا ما هو حاصل الآن في الحراك الشعبي العربي الراهن. وهنا، كما لكل حراك خصوصياته على صعيد الداخل، فله خصوصيات أيضاً على صعيد الخارج.
خصوصيات علاقة الخارج مع الداخل في الحراك الشعبي العربي:
لا يسعنا هنا، إلاَّ أن نعود بالذاكرة إلى أن وطننا العربي مطموع به من الخارج، لأكثر من سبب وسبب، وأكثر من برهان وبرهان. وتعود بنا ذاكرة التاريخ إلى العصر اليوناني، منذ غزوة الإسكندر المقدوني، وانتصاره على الفرس الذين كانوا يحتلون بلادنا. وتتوالى فصول الغزو والاحتلال حتى عصرنا الحديث عندما غزا الغرب الأوروبي الإمبراطورية العثمانية وأسقطها في الحرب العالمية الأولى، وما رافقها من اتفاقيات مع الشريف حسين، واتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور. ويمكننا العودة بالذاكرة إلى ما أشاعه الغرب الأوروبي من وعود للشريف حسين بإنشاء الدولة العربية الواحدة، كما وعدوا بنقل الديموقراطية والتحرر والحق بتقرير المصير، وما شابهها من شعارات نزلت على قلوب العرب، في تلك المرحلة، برداً وسلاماً، بحيث استقبلوا تلك الشعارات بشوق العطشان لنقطة ماء، وبشوق الجائع لرغيف من الخبز. ولكن ما أن انتصر الحلفاء حتى تبخرت تلك الوعود، وقفز إلى الواجهة نظام تقسيم بلاد العرب إلى أقطار خضعت إلى حكم الانتداب. وخضعت إلى قرارات الاستيلاء، فاقتطعوا منها فلسطين ووهبوها للصهيونية. ولم ينل منها الشريف حسين إلاَّ على بلاد الحجاز، وأسس نظاماً ملكياً منقوص السيادة، يخضع لتوجيهات الإدارة الأميركية وإملاءاتها ويستجيب لمصالحها.
ولما أثبت التاريخ منذ فجره الأول، أي منذ آلاف السنين، أن بلادنا مطموع بها، يصبح من قصر النظر أن ننظر إلى الخارج نظرة بريئة خاصة عندما يعدنا بالديموقراطية والرخاء الاقتصادي، والدفاع عن حقوق الشعب. ويصبح قصر النظر أكثر عندما يموِّل الخارج فواتير أي حراك شعبي. وهذا الأمر يدعونا إلى إطلاق حكم قاطع بأن أي حراك شعبي، في أي قطر عربي، مهما ظهر بريئاً فإن تدخل الخارج هو أمر أكيد. ولهذا فلايمكن أن نعطي مفهوماً للتغيير بمعزل عن اعتبار التدخل الخارجي أمراً بديهياً، لأن الخارج لن يترك أي حركة تغيير في الوطن العربي تسير دون الحصول من مولدها على (الحمص).
وبناء على هذه القاعدة الثابتة، التي لا ينكرها إلاَّ مكابر من الصادقين، أو مشكوك بأمر انتمائه إلى جوقة العابثين بحقوق الشعب لمصلحة الخارج، سنؤسس لتعريف مفهوم التغيير بخصوصياته العربية. وذلك باعتبار الخارج عاملاً أساسياً فيه لا يجوز لأحد إغفاله.
من المعروف تاريخياً أن الغرب الرأسمالي، بعد أن استولى على الوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أسَّس أنظمة رسمية عربية، أو دعم أنظمة ووفَّر لها الحماية، ليضمن المحافظة على ثلاثة أهداف استراتيجية، وهي:
1-الأمن التجاري: كان يعتمد بداية على طبقة الكومبرادور لالتقاء المصالح الاقتصادية بينهما. وهي الطبقة التي تمتهن التجارة، وعلاقتها مع الخارج علاقة وسيطة بين المُنتِج والمستهلك، ولم تكن الصفوة منها تتخطى حدود البورجوازية العربية الناشئة عن الإقطاع التقليدي وهي تلك التي شكَّلت طبقة الإقطاع السياسي في بعض الأقطار العربية.
2-الأمن النفطي: بعد اكتشاف أهمية النفط تأسست علاقة جديدة بين الخارج الاستعماري والأنظمة المحلية التي تهيمن على الثروة النفطية. وكان العقد بينهما قائماً على تبادل المصالح والخدمات؛ بحيث يضمن سيطرة الأنظمة على حصة لها في الثروة النفطية بما يشبه حق العائلات المالكة بحصة مجزية من عائدات النفط، وبدورها تضمن تلك العائلات الحاكمة استمرار تدفق النفط للدول الخارجية المهيمنة على أساس أن تحتكر امتياز إنتاج النفط وتسويقه.
3-أمن (إسرائيل): وبعد الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور، اعتبرت دول الغرب الرأسمالي أن وجود (إسرائيل) ضمانة أساسية لمنع توحيد العرب من جهة، وضمان أمن الأنظمة الرسمية الملتحقة بالاستعمار من جهة أخرى، وبالتالي المشاركة بقمع الحركات المناهضة للمصالح الرأسمالية.
مما سبق يدل بما لا يمكن دحضه أن محافظة الدول الرأسمالية على أمن التجارة والنفط و(إسرائيل) لا يمكن التنازل عنه. وهذا الأمر يدفعنا إلى التأكيد أن أي عملية تغيير يمكن أن تحصل في بنية أي نظام عربي لن تمر من دون أن يكون لدول الرأسمال الغربي دور مؤثر فيها. فالمطلوب من الأنظمة كلها أن تلعب دور الحامي للأمن التجاري، والمطلوب من بعضها أن تلعب دور حماية أمن النفط، وبعضها الآخر مطلوب منها أن تلعب دور الحامي لأمن (إسرائيل). ومن أجل توفير أدوار الحماية، هناك دور لدول الغرب الرأسمالي مركَّب أحياناً، ومعقَّد أحياناً أخرى. ومن أجل ذلك كان العداء لأي هدف وحدوي عربي أساسي في الاستراتيجية الغربية. ومن أجل ذلك لا يجوز بأي حال من الأحوال الاستسلام إلى فكرة مناقشة أن ما يدور من حراك عربي شعبي قد يحتمل تدخلاً خارجياً، بل الواقع يؤكد أن لا حراكاً شعبياً عربياً من دون وجود تدخل خارجي.
بناءً على ذلك، نقول لكل من ينتقد المناهضين للتدخل الخارجي، على قاعدة اتهامه بالتلطي وراء ما يسمونه بـ(عقدة المؤامرة)، إن المؤامرة موجودة فعلاً؛ ومن الغفلة بمكان أن لاتدخل في كل تحليل. وإن كان الأمر يتطلب أن ننقد أنفسنا، وهو قول حق، لكن الأمر يتطلب منا أيضاً أن نعتبر أن (المؤامرة) جزء عضوي ملتصق بكل حركة تغيير. إلاَّ أن هذا لن يدفعنا إلى التصرف بغفلة أيضاً لنطلب تأجيل الحراك الشعبي، بل علينا أن ندعو إليه، وننخرط فيه، ونموت في شارعه. ولكن...
اللاكن هذه أكلت الكثير من إمكانيات الحوار والتوافق بين الحريصين على مصالح الأمة، وعلى الرغم من ذلك علينا أن نُصرَّ عليها، لأن التدخل الخارجي (نظرية المؤامرة) حقيقة واقعة، ولهذا يأتي التحذير من التدخل الخارجي مسألة ضرورية وواجبة على كل الصادقين في انتمائهم للأمة العربية. ولكي لا يكون موقفنا لرفع العتب، بل من أجل أن يكون موقفنا صادقاً، علينا أن نرفع سيف قتال أي تدخل خارجي، حتى لو تطلب الأمر إيقاف أي حراك إذا كانت تأثيراته وزخمه تؤكدان أنه سيقطف ثمار الحراك الشعبي. لأن التدخل الخارجي سيستحوذ على الجوهر ولن يسمح للشعب إلاَّ التلهي بالقشور. وهنا لا بُدَّ من التذكير بأن بعض حركات الإسلام السياسي المشاركة في الحراك الشعبي العربي أينما كان، تتعاون حتى مع القوى الخارجية التي تعتبرها (كافرة) من أجل إسقاط الأنظمة الرسمية، تقوم بهذا الدور على قاعدة ما تسميه أولوياتها الاستراتيجية. وأولوياتها تقتضي بإسقاط الأنظمة الرسمية (العلمانية) بالتعاون مع أي جهة كانت حتى ولو كانت استعمارية، وهماً منها أنها ستعمل على مقاومة تلك القوى بعد إنجاز مهمتها الأولى. ومن مهماتها الآن في الحراك العربي أن تُسقط الأنظمة الرسمية العربية، بينما الخارج يدعم تلك الحركات، على الرغم من خلافه الظاهري مع الأصولية الإسلامية المتشددة، لأنه يعتقد منذ زمن طويل: (إن تلك الحركات تعرف كيف تهدم الأنظمة ولكنها تجهل أو تعجز عن بناء البديل الأفضل).
وأخيراً، ولخصوصيات عملية التغيير في الوطن العربي، وللزخم الذي يتدخل فيه الخارج في كل عملية تجري، يصبح من المهم أن يتحاور المفكرون والباحثون والكُتَّاب العرب لوضع مفهوم موحَّد للتغيير، بأهدافه ووسائله ونتائجه. ولعلَّ ما أسهمنا في دراسته هنا يسهم بدوره في وضع مفهوم موحَّد للتغيير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق