الاثنين، نوفمبر 07، 2011

(الجماهير هي المرجع الأخير)

-->
(الجماهير هي المرجع الأخير)
و(الحركة الثورية هي الملاذ الآمن)

بين نظرية الشعار وتطبيقاته السياسية مساحة إذا لم يملأ فراغها المحتوى العلمي يصبح تطبيق الشعار بعيداً عن الواقع، وإذا ابتعد الشعار عن الواقع يتحول إلى مجرد ترف نظري، وهو أحياناً ما نعبِّر عنه بالرومانسية، أي الأحلام الجميلة العصيَّة على التحقيق.
جميل شعار (الجماهير هي المرجع الأخير)، والجمال فيه بيِّنٌ عند الأحزاب التي وضعت أيديولوجيتها في خدمة مصالح الشعب، لأن الحزب الشعبي إذا لم يضع نصب عينيه الدفاع عن تلك المصالح، وإذا لم يلتزم التزاماً طوعياً بتلك المصلحة، ويناضل من أجلها، فلا يحق له أن يحيا. وهو يمكن أن يكون أي حزب ما عدا كونه حزباً يمثل الشعب.
عندما اعتبر حزب البعث أن (الجماهير هي المرجع الأخير)، كان ينطلق من أن الحركة الثورية قد أهملت دور تلك الجماهير في عمليات التغيير في مرحلة من مراحل نضالها. ولهذا أكد حزبنا على أهمية دور الشعب في أي حراك، الذي بدون ذلك الدور لا تستطيع تلك الحركة أن تنجح في نضالاتها. وهو، إذن، من أجل أن يكون التغيير حقيقياً ويقترب أكثر ما يمكن من التحقيق، ومن أجل أن لا ينحرف النضال باتجاهات أخرى، اعتبر حزبنا أن لوجود الحركة الثورية أولوية ودوراً يسبقان أي شرط آخر، ولهذا اعتبر أيضاً أن هناك تلازماً بين دور الجماهير ودور الحركة الثورية. ففي الفصل بينهما مقتل لهما معاً.
وتاريخياً، لعبت الأنظمة الرسمية دوراً في إجهاض الحركة الثورية لتمنع بهذا الإجهاض وجود أي عقل ينظِّم حركة التغيير، وإذا حصلت ردود فعل شعبية هنا أو هناك للمطالبة بحقوق الشعب، فإنما يسهل احتواؤها والسيطرة عليها في حده الأقصى، أو تجويفها وإفراغها من زخمها ومضمونها في حدها الأدنى. كما تصبح حركة الجماهير ونضالاتها أسيرة في يد الانتهازيين على قاعدة (يفجر الثورة مجنون ويقطفها انتهازي).
ومن الجائز أيضاً أن الحركة الثورية، التي عرفت مرحلتها النضالية الذهبية في الخمسينيات والستينيات، أخذت بعدهما تميل في علاقاتها الداخلية إلى الروتين والتدجين، وتطبيق المفهوم السلطوي داخل أحزاب الحركة العربية الثورية، قاد فيما بعد إلى غياب الديموقراطية في علاقات الحزبيين الداخلية.
ومن الجائز أيضاً أن القوى الخارجية التي كانت تنظر بخوف من تنامي الحركة الثورية العربية أسهمت هي أيضاً في تعميق أزمة تلك الحركة، خاصة وأنها استندت في ذلك إلى عامل الإجهاض الرسمي من جهة، وإلى عامل أزمات الحركة الداخلية للأحزاب التي كانت تتنامى باستمرار من جهة أخرى، إلى أن وصل الأمر بها في النهاية إلى تجويف نفسها. وقد ساعد القوى الخارجية وجعل تدخلها أكثر فاعلية بعد أن تعاونت مع حركات الإسلام السياسي التي كانت أكثر جماهيرية من الحركة الثورية العربية من جهة، ومن جهة أخرى راحت تلتقط كل صوت معارض هارب من قمع الأنظمة الرسمية لتقوم بتدجينه وتخزينه للحظة المناسبة.
عوامل ثلاث، إذن، أسهمت في تغييب دور الحزب المنظم. وجاءت اللحظة المناسبة التي حصل فيها الانفجار الشعبي العربي، فلم يجد هذا الانفجار قيادة تتلقفه وتنظمه وتقوده وتعمل على ترشيد حركته. أو فلنقل إن الجماهير انتظرت كثيراً صحوة ثورية منظمة ولكنها لم تجد تلك الصحوة لأن أحزاب الحركة الثورية تنام في غفوة طويلة متوسِّدة أزماتها الداخلية. ومع تقديرنا لمن بقي حياً من المعارضة الوطنية الصامدة على أرضها الوطنية، وبسبب تراجع الحركة العربية الثورية، لم يجد البركان الشعبي المتفجر قيادة فاعلة إلاَّ مجموعتين تتصديان، وهما: حركات الإسلام السياسي أولاً حيث تجد له في كل حراك شعبي أثراً كبيراً، وثانياً من تربى وتدجن أو رضي بالتعاون مع قوى الخارج التي وفَّرت له القوى الخارجية كل أنواع الدعم المادي والعسكري والأمني والإعلامي.
هنا، أصبحت ثنائية (الحركة الثورية الجماهير) مُغيَّبَة عن ساحة التأثير والفعل، بحيث ظلَّ القطب الأول حياً يتحرك، أما القطب الثاني فميت مستسلم، أو إذا تحرك فمن دون فعالية أو تأثير ملموس. وهنا أيضاً، سندلي بدلونا النظري لدراسة التجربة في اللحظة الراهنة.
مساهمة نظرية في بناء ثنائية (الحزب الشعب) على أسس سليمة:
الشعب، بالمفهوم العلمي، هو المحور الأول في ثنائية (الشعب - النظام). هذه الثنائية لا شك بأنها تشكل العصب الأساسي لمفهوم الدولة الحديثة التي تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، أي بواسطة نظام يكون من اختيار الشعب بالوسائل الديموقراطية. ولأن الفعل الديموقراطي، في عالمنا الثالث، مُزيَّف ولا تُطبَّق أحكامه بموضوعية وحيادية، راحت بعض الطبقات في المجتمع تستغل المبدأ الديموقراطي وتُبثي على شكله، وتتجاهل جوهره، وتتلطى به لتحتل كراسي الحكم وتوظِّفها لمصلحتها. وبهذا راحت تحكم صورياً باسم الشعب ولكنها تعمل على ضمان مصالح القلة القليلة من مواطني الدولة التي تتربع على كراسي الحكم فيها.
تلك الأنظمة المزيَّفة، التي تتربَّع على كراسي الحكم في الأقطار العربية، نشأت تحت وهج المفاهيم السياسية القادمة من الغرب، بواسطة ما عُرف بأنظمة الانتداب الفرنسية والبريطانية. ولأن تلك المفاهيم قدمت إلينا، أو صُدِّرت إلينا، تحت ظل ما يُعرف بأنظمة الرأسمالية الغربية، فقد طبَّقت تلك الأنظمة الرأسمالية الشكل السياسي الديموقراطي من أجل إنتاج أنظمة سياسية محلية تضمن مصالح الدول الرأسمالية التي أنتجتها.
وبمثل هذا الانتقال، على الرغم من أنه نُقلنا من مرحلة تعسف السلطة الدينية التي كانت حاكمة باسم الله إلى مرحلة حكم الشعب للشعب، فأثلجت قلوبنا، ورضينا بالأمر الواقع لعلَّ أوضاعنا تتبدَّل من حال سيء إلى حال أفضل. ولكن ولأننا طبقنا شكل النظام الديموقراطي، واستبعدنا الجوهر، اختلَّت موازين ثنائية (الشعب النظام) ومال النظام نحو تحقيق مصالح الشرائح الغنية من المجتمع على حساب حقوق الجماهير الواسعة، وغاب عن التطبيق مبدأ العدالة والمساواة. ومن هنا ابتدأت رحلة الطلاق بين الشعب والنظام الرسمي. ولما طالت فترة الانتظار، ولم يتحصَّل أي مكسب يصب في مصلحة الشعب، كانت فيه النخب المستفيدة تبتكر كل وسائل الاستغلال والفساد، وتحميها بقوة الأمن والسجون، كان لا بدَّ من  أن يحصل الانفجار الشعبي، وهذا قد حصل فعلاً في هذه المرحلة، وهو ما اتُّفق على تسميته بـ(الحراك الشعبي)، وتوسَّع البعض في تعميم مصطلح (الربيع العربي).
عادة ما يبدأ الانفجار بمن يتجرأ على قرع الجرس للتنبيه من خطر قادم، فقد بدأ الانفجار الشعبي في تونس، ومن ثم انتشر وعمَّ غيره من الأقطار العربية. واندلعت النار في هشيم الأنظمة العربية. وبمثل هذه الحالة يصبح الشعب كما قال الشعار: (الجماهير هي المرجع الأخير). والمرجع الأخير هنا، يكتسب مفهوماً علمياً، وهذا المفهوم العلمي يعني أن الجماهير هي أول من يحس بالألم والجوع لأنها تكابدهما. وهي أول من يقدم التضحيات الجسام في مواجهة أنظمة الاستغلال التي كانت السبب في حرمانها من لقمة العيش وحبة الدواء. ومن المعروف أيضاً أن من كابد تلك الآلام طوال عقود كانت الطبقات الشعبية الفقيرة والجائعة والمحرومة، ولهذا نزلت إلى الشارع في هذه المرحلة غير هيَّابة من الموت والاعتقال والملاحقة. فالشعب، إذن، هو المجسُّ الأكثر حساسية لالتقاط ذبذبات انحراف النظام السياسي عن وظيفته. وهو الأكثر استجابة للثورة ضد ذلك النظام.
وإذا كان الشعب هو الطرف الأساسي في ثنائية (الشعب النظام)، وهو الأكثر حساسية بالشعور بالحاجة، وإذا كان هو الذي نزل إلى الشارع وصرخ من الألم مطالباً بالتغير، فهذا دليل على أن النظام قد أخطأ القيام بوظيفته.
ومن هنا تبدأ الإشكالية بتحديد مفهوم الشعار المرفوع. صرخة الشعب هي الدليل الذي لا دليل غيره يؤشر على المرض، ولكن الشعب في مطلق الأحوال يستطيع أن ينتفض من شدة الألم، ولكنه ليس هو الملاذ بتوجيه الانتفاضة أو الثورة. الشعب يثور ولكنه لا يستطيع أن يوجه الثورة ويقودها من دون وجود من يوجِّه ومن يقود. وهذا الواقع العلمي لا تحيدنا عن الإيمان به أية مزايدة تزعم أن من يؤمن بالعلمية يظهر وكأنه عدو للشعب، أو في أقله أنه يستصغر شأن الجماهير الشعبية الواسعة.
ولكي تتَّضح الصورة أكثر، نشبِّه (الحراك الشعبي) بالسفينة التي تؤدي بلا شك وظيفتها أو مهمتها على أكمل وجه، ولكن السفينة لا تسير إلى وجهتها الصحيحة من دون ربان يصوِّب لها اتجاهاتها إذا انحرفت عن مسارها الصحيح. فمعادلة (السفينة الربان) معادلة علمية لا يجوز تجاهلها حينما نعالج واقع الحراك الشعبي الدائر الآن على مجمل الشوارع العربية. فالسفينة في هذه الحالة عامل ضروري ومهم في أداء وظيفة النقل من مرفأ إلى مرفأ، ولن تتم العملية من دون وجودها. وكذلك الربان هو عامل مهم وضروري في تصحيح مساراتها إذا انحرفت عنها.
وهنا، من الواقع الحاصل الآن في شوارع معظم الأقطار العربية، شقَّت سفينة الشعب طريقها وأبحرت تتحدى أعتى عواصف الأنظمة وأكثرها قهراً وقمعاً، ولكنها من دون ربان. ولنتصور حالتها الآن بعد أن اختل التوازن بين قطبيْ التغيير السفينة تمخر عباب المحيطات المتلاطمة، بينما الربان غائب، أو غافل. إن الواقع الأليم يؤكد أن القراصنة من كل حدب وصوب ركبوا متن السفينة ويقوم كل منهم بتوجيهها إلى مرفأه.
هناك أدلة كثيرة، تاريخية ومعاصرة، تدل على أن القراصنة سيطروا على سفينة (الحراك الشعبي) ويلعبون الآن دور الربان، أو على الأقل يأمرون الربان بتوجيه سفينة (الحراك الشعبي العربي) إلى مرافئ أخرى غير المرفأ الذي كانت متوجِّهة إليه أصلاً. ولذلك نفهم من تعبير (المرجع الأخير) أن السفينة التي لا غنى عنها في أداء وظائف تغيير الواقع الفاسد، تقوم بوظيفتها بشكل رائع لكنها تائهة من دون إرشاد نصوح حريص على إيصالها إلى مينائها الآمن.
وإذا كانت أحزاب التغيير لا تعطي هذا العامل دوره الأساسي، أي تؤيد وتتضامن من دون دور في قيادة السفينة، فهي كمن ينخرط في ورشة رومانسية لن تؤدي غرضها الفعلي والواقعي. وإذا كان الشعب لا يعترف بدور الربان فهو أيضاً كمن دخل نفقاً يجهل متاهاته، وهو سيكون فريسة سهلة أمام شهية القراصنة التي ستلتهم حمولة السفينة، وتلقي بين أمواج البحر العاتية بكل من يعترض على قيادتها إلى مرافئ أخرى. وفي هذه الحالة يدخل الشعب في دائرة رومانسية القول لا الفعل. وتلك طاحونة ستأكل أخضر (الربيع العربي) ويباسه معاً.
ولأن أخضر (الربيع العربي) الآن يؤكل من كل أنواع القراصنة وأشكالهم، و(ربيع ليبيا) قد أُكِل، كما أُكِل قبله (ربيع العراق)، فلا بد من التساؤل: هل من وقفة جادة وعلمية، مما يجري الآن، للوقوف في وجه القراصنة الذين سيأكلون ما تبقى من (ربيع عربي)؟
ولأن هناك من يريد أن يشوِّه المفاهيم باستغلال قول ما قلنا به، وتوجيه الاتهام لمن ينظر إلى عملية التغيير بعلمية، بالوقوف بالضد من مصلحة الشعب، والأسوأ من كل ذلك اتهامه بأنه يقف إلى جانب الأنظمة القمعية. لكل هذا ندعو هؤلاء إلى أن يتخطوا منطق المزايدات الرومانسية، وأن لا يفسروا كل قول على مزاجهم وطريقتهم. وأن ينزلوا إلى الواقع العلمي بجرأة من عليه أن يتحمل مسؤولية موقفه. كما أن عليهم أن يعوا بأنه إذا كان الشعب هو (المرجع الأخير)، فإن الشعب من دون ربان سيضلُّ طريقه. وفي مطلق الأحوال أن يضعوا نصب أعينهم ثنائية (السفينة الربان)، أي ثنائية (الشعب الحزب)، التي إن فصلنا دور القطب منهما عن الآخر، نكون كمن يرفض المنطق العلمي السليم. كما أننا، بإعطاء الأولوية لأحدهما على الآخر، سنكون كمن يُفكر بمنطق من يقول )لا إله) ولا يستكملها بـ(إلاَّ الله).
وهنا، تحضرنا النتيجة الأخيرة حيث تواجهنا إشكالية معقَّدة فرضها الواقع ولا نستطيع إلاَّ المساعدة برأي أو موقف، فشارع الجماهير ملتهب، تقابله برودة وصقيع يلفان الحركة العربية الثورية. هل على الشارع أن يُبرِّد سخونته منتظراً الربان المغيَّب؟ أم يستمر في تأجيج النار في ظل قيادة أصبح من الواضح أنها تقود الحراك لتمطر غيومه الملبَّدة في غير حقل الجماهير؟
الجواب على كل حال أحلاهما مرٌّ: ومرارته في أن التوقف في وسط الطريق سيكون استئناف الخضوع لقمع الأنظمة. والاستمرار فيه سيلقي بالجميع في أتون الاحتلال المقنَّع. وما مصير العراق إلاَّ شاهدٌ على ما فعله الاحتلال. وما مصير ليبيا إلاَّ حي يُرزَق.
وإذا كان لا بُدَّ من موقف، والموقف مطلوب، والحياد مرفوض، فليكن الموقف الجريء على الرغم من مرارته: أوقفوا الحروب الأهلية فوراً، وانسوا كل شيء غير الدفاع عن الوطن إذا ما تبيَّن أن الوطن مهدد بالاحتلال الأجنبي المقنَّع تحت عباءات (المجالس الوطنية الانتقالية)، وحافظوا على رأس الدولة من الوقوع في مصيدة الأطلسي، وغير الأطلسي، لأن تجميل رأس بالديموقراطية والإصلاح، بينما هذا الرأس مهدد بالقطع، فسوف يصب في دائرة الغباء. وتجميل رأس واقع في مصيدة الأطلسي يصب في دائرة العبثية. والعبثية لا تبني أوطاناً (ولا من يحزنون).

ليست هناك تعليقات: