من صدام حسين إلى عزة الدوري
حزب البعث العربي الاشتراكي ولاَّدة الرموز والثورات
استناداً إلى ثقافتهم باختصار أمة بفرد، وموت أمة بموت فرد، وغياب حركة ثورية بغياب القائد فيها، راهن أعداء العروبة والعراق والبعث على أنه باغتيال صدام حسين سوف يستسلم العراق وسينهار البعث وستصبح المقاومة الوطنية العراقية بخبر كان. ولكن خاب فألهم، فهم لم يعلموا أننا شعب يؤمن بأنه كلما غاب قائد سيولد من بعده قادة، وما إن يغيب رمز عن الساحة، بحكم الموت أو غيره، سيخلفه رموز يتابعون المسيرة ويحملون الراية. فراية العروبة ستبقى خفَّاقة لأن العروبة ولاَّدة القادة والرموز، وقد برهنت على ذلك طوال تاريخها العريق في القدم.
لقد راهنوا على أنهم باحتلال العراق يُسقطون هيبة الحكم الوطني، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، فتنحني الرقاب لهم وتستسلم، لأنهم كلما احتلوا قطراً عربياً بالحرب النظامية كانوا يثيرون حملة من التعبئة الإعلامية القصد منها غسل دماغ الشعب العربي ظناً منهم أنه سيسقط في عقدة الهزيمة، وبالتالي في عقدة اليأس. وهكذا حصل في ما سمِّي (هزيمة حزيران) في العام 1967. ولكن الشعب العربي كان ينتظرهم في خنادق المقاومة الشعبية إذ أذهلتهم ولادة المقاومة الفلسطينية التي أعادت الحيوية إلى الشارع العربي بعد أن كاد يسقط في هوَّة اليأس. لقد توهموا أن النصر على العرب أصبح ملك أيديهم، لولا أن دقَّت المقاومة النفير وأعلنت أن حرب الشعب أصبحت استراتيجية للمستقبل، كما جاءت ثورة تموز في عراق العام 1968 لتشكل رافداً أساسياً يدعم تلك الاستراتيجية، مساعداً ومشاركاً وضامناً لاستمراريتها. أما النتيجة فكانت ماثلة في قرار أعداء الأمة القاضي باجتثاث العامل الجديد، فعملوا على اجتثاثها في الأردن، ومن بعدها في لبنان. وما إن أعلنوا البيان الرقم واحد بإخراجها من لبنان في العام 1982، حتى تقمَّصت مقاومة لبنانية، استفادت الشيء الكثير من مقاومة الفلسطينيين، وما فتئت تقاتل حتى أرغمت العدو الصهيوني على الخروج هارباً من لبنان في العام 2000. كانت تلك تجربة أثبتت جدارتها، وأثبتت أن روح المقاومة الشعبية تنتقل من جيل إلى جيل، ومن قطر إلى قطر، والدليل على ذلك أن الأعداء أنفسهم، وما إن احتلوا العراق، وأعلن رئيسهم جورج بوش يوم النصر حتى وجدوا المقاومة العراقية بانتظارهم على كل المفارق، وأشعلت النار في آلة الاحتلال وزرعت الموت في صفوف جنوده، وأكلت الأخضر واليابس من اقتصاده، وأرغمته أخيراً على إعلان الهروب الذليل. ولأن المقاومة الشعبية تحولت إلى عقيدة قتالية ثابتة، كانت من أهم دلائلها أنه كلما احتفل أعداء العروبة وهماً منهم بإضعاف مقاومة شعبية على ساحة من ساحات الوطن العربي وجدوا مقاومة أخرى تنتظرهم على الأبواب والأسوار. أما سبب إصرارهم على اجتثاث المقاومة فلأنهم يجهلون أننا أمة ما إن تضعف مقاومة في مكان ما ولسبب مرحلي ما حتى تولِّد مقاومة أخرى أشد منها بأساً وأكثر قوة وتأثيراً.
فمن ولادة المقاومة الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية، إلى المقاومة العراقية أثبتت أمتنا أنها لن تموت ما دام أبناؤها يحملون سلاح المقاومة الشعبية. ولن تموت لأن الشعب العربي دفن إلى الأبد أسلوب الحرب النظامية التي أثبت الواقع والمنطق أنها ليست الخيار المناسب والعملي طالما ظلَّت شروط توفير مستلزماتها تحت رحمة مصانع الغرب المعادي لكل آمال الشعب العربي وتطلعاته.
هذه واحدة، وأما الثانية فهي وجه مكمل للأولى، وخلاصتها أن الأعداء توهموا أنهم بالقضاء على الرمز، أو القائد، يقضون على إرادة أمة ويستلبون روح المقاومة فيها. وهم قياساً على تجربتهم مع النظام الرسمي العربي الذي ما إن يسقطوا أحدها حتى يفرضوا الاستسلام على الدولة كلها. وقد برهنت تجربة العراق الفريدة عكس ما كانوا يخططون. فقد كانوا يراهنون على أنه بإسقاط النظام ستسقط الأمة، وما إن يُسقطوا القائد حتى تسقط مقاومة الدولة. وما إن يجتثوا رئيس الحزب حتى يجتثوا الحزب كله. وقد أثبت الواقع عكس ما كانوا يراهنون عليه أو يحلمون به. لذا فهم أسقطوا النظام الوطني ولكن ظلَّت الأمة حيَّة فأعلنت المقاومة. وراهنوا على أنهم إذا قتلوا قائد المقاومة فستموت المقاومة، فاغتالوا القائد ولكن المقاومة اشتدَّت وتصلَّب عودها وتعمقت أكثر.
رحل صدام حسين بإباء الثوري وكأنه رسم مسار طريق الثوار أمام العرب، شعباً ورؤساء، وخطَّ الطريق أمام البعثيين وغير البعثيين من شرفاء هذه الأمة وفرسانها. لقد رحل مطمئن القلب على أن رفاقه سيتابعون المسيرة، وإنَّ أحداً لن يتخلف عن مسيرة التحرير بقطبيها: النصر أو الشهادة. وهذا ما حصل لأن حساباته كانت مبنية على قاعدة أن المؤسسة الحزبية، التي قادها وخبرها وعجم عودها، لن تتخلف عن السقف الذي رسمه بدمائه وحياته، بل ستكون شهادته أنموذجاً لها ورمزاً يستعصي على الأعداء اجتثاثه. فحزبه زاخر بالرموز التي لن تتوانى عن السير على طريقه وعلى طريقته، فلبى النداء عزة ابراهيم الدوري، رفيق دربه، واستلم راية قيادة الحزب والمقاومة، وقد أثبت صلابة ورباطة جأش أذهلت كل من راهن على اجتثاث المقاومة بعد اغتيال قائدها والأمين العام على حزبها.
ففي هذه المناسبة، مناسبة رحيل صدام حسين، القائد العربي العظيم، نتوجَّه إلى خلفه الرفيق عزة الدوري، قائد المقاومة والحزب، بأسمى التبريكات بشهادة رفيق دربه. كما نتوجَّه إليه شخصياً، وعبره إلى كل المقاومين على أرض العراق، بكل تحيات الاعتزاز والفخر لأنه، ولأنهم، سطروا للعرب تاريخاً مجيداً سيذكره الأميركيون لعشرات السنين بسبب ما ألحقوا بهم من كسور وجروح وآلام لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لتحمل عبئها ووزرها وثقلها. لم يعدوا أنفسهم لها لأن قياداتهم لم يحسبوا في لحظة من الغرور والعنجهية أن أبناء العروبة، من الرافدين إلى الأرض السليبة في فلسطين وإلى أرض البطولات في لبنان، لن يسكينوا لضيم أو قهر أو احتلال.
ونحن في هذه المناسبة أيضاَ، نشدُّ على أيدي كل رفاق صدام حسين من الذين علمونا دروس الشهادة، سواءٌ أقضوا على أعواد المشانق، أم في غياهب السجون والمعتقلات، هؤلاء الذين أعطونا دروساً عملية بقوة الصمود، وقوة التحدي للجلادين من الذين تسللوا إلى أرض العراق من كل حدب وصوب، ومن كل الألوان والأشكال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق