الخميس، ديسمبر 20، 2012

أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها (5/ 5)


أضواء على نشأة حركات الإسلام السياسي والقضايا الخلافية بينها
(5/ 5)
الحلقة الخامسة:
إشكالية مقاربـة النص الإسلامي مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة
استناداً إلى مقاطع منتخبة من الفصل السادس من كتاب (الردة في الإسلام)، المنشور في العام 1999، لمؤلفه حسن خليل غريب، سننشر خمس حلقات تعالج هذا الموضوع، وقمنا بتقسيمها إلى موضوعين رئيسين، وهما:
أولاً: التعريف بأهم حركتين بينها، وقسمناها إلى ثلاث حلقات: 
-الحلقة الأولى: الحركات الإسلامية من مرحلة التبشير إلى مرحلة التنظيم:
-الحلقة الثانية: حركة الإخوان المسلمين
-الحلقة الثالثة: حركة ولاية الفقيه
ثانياً:  القضايا الخلافية بين حركات الإسلام السياسي:
-الحلقة الرابعة: حركـة الإحياء الإسلامي وسيادة مبدأ الاتهام بالردة
-الحلقة الخامسة:  إشكالية مقاربـة النص الإسلامي مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة

IV  -إشكالية مقاربـة النص الإسلامي مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة
لو تطلعنا من شاشة التلفزيون، أو امتطينا صهوة موجة إذاعية، أو لو حككنا أزرار الأنترنيت، أو رفعنا سماعة الهاتف، أو حجزنا مقعداً على متن طائرة تقلُّنا، بساعات، إلى أقصى مكان في المعمورة... لوجدنا أن العالم من أدناه إلى أقصاه قد أصبح بحجم قرية صغيرة... لأنه أصبح باستطاعة الإنسان، بلمسة زر، أن يُطِلَّ بسرعة على ما كان يحسبه أبعد من البعيد...
باستطاعتك أن تزور هذا العالم المترامي وأنت جالس في مكانك، مستدفئاً في فصل الشتاء، أو مستبرداً في فصل الصيف، من تشاء وما تشاء ومتى تشاء، متحدِّثاً إلى أي فكر أو مستطلعاً أية ثقافة أو متتبعاً أي خبر؛ وتكون مستمعاً-وأنت في مكانك- إلى ما تريد من أخبار وآراء وتحليلاتوتستطيع أن تبثَّ آراءك إلى من تريد. وبهذا أصبحت ثقافات العالم أقرب إلى الإنسان من أسرته ومجتمعه.
من هنا نرى من الأفضل البدء في الكلام عن العولمة -التي يرفضها البعض بالكامل، و يقبلها البعض الآخر من دون تحفظات- انطلاقاً من الاتجاهات النقدية التي تحاول أن تفهم القوانين التي تحكم العولمة، وهي تدرك سلفاً أن العولمة هي عملية تاريخية، حقاً، لكن ليس بمعنى التسليم بحتمية القيم التي تُعيد إنتاج نظام جديد للهيمنة من قبل القوى الكبرى.
نحن نرى أن أفضل الناظرين، بشكل إيجابي، إلى العولمة يقف في موقع رد الفعل وليس الفعل حقاً. فهل كُتِبَ علينا أن نُمثِّل، دائماً، دور الرادِّ على الفعل؟ فها نحن نرفض العلمانية كرد فعل ضد مظالم الاستعمار، ونرفض الديموقراطية من الزاوية ذاتها وها نحن نرفض العولمة انطلاقاً من ردود الفعل ذاتها.
إننا نجد في الواقع أن الغرب يمثَّل -بالنسبة إلينا في هذا العصر- مصدر إنتاج المباديء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... وهي ليست غير النسخة التي يطبِّقها على أرضه وفي أوساطه الاجتماعية؛ و لن ننسى أنها قد أصابت نجاحاً في تغيير الكثير مما كان يعيق المجتمعات الغربية عن بلوغ التغيير الإيجابي من أجل تقدمه الإنساني والتكنولوجي. وقد أصابت هذه المباديء تقدماً كبيراً في بناء الإنسان الغربي بناء جديداً، وأصابت في بناء الصروح العلمية الهائلة.
بدأت تصل إلينا أولى طلائع الإنتاج الفكري السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي -التكنولوجي، منذ أوائل القرن 18م=12هـ، أي منذ قرنين من الزمن. فاصطفَّت معظم النخب الإسلامية-العربية منذ تلك اللحظة- بين رافض لها بالمطلق أو قابل بالمطلق، والقلة كانت إلى جانب الدراسة والاختيار بعد النقد الموضوعي؛ وها نحن اليوم ننكب جميعاً، قابلين أو رافضين أو ناقدين، على هذا الانتاج (الفكري والتكنولوجي) بشراهة لا مثيل لها.
منذ قرنين من الزمن -وما زلنا- نضع أنفسنا في موقع المستهدَف بالمؤامرة، ويأتي على رأس أسلحة التآمر -كما نحسب- استيراد الانتاج الفكري، الذي يصَدِّرُه الغرب إلينا. فنحن لم نستقبل ما كان يأتي ،بل رفضنا أن نستقبل، لأننا اخترنا موقع الراد على الفعل، وكل دورنا أن ندرأ المؤامرة القادمة من الغرب، لأننا نلعب دائماً دور الضحية ونحسب أن كل ما يُصَدَّر إلينا موبوء بالجراثيم التي تستهدفنا؛ فيبقى الغرب هو الجلاد دائماً ونبقى نحن الضحية إلى أجل غير معروف. فبتنا والحالة هذه في موقع الدفاع السلبي: أي أننا نمتنع عن الإنتاج من جهة، ونقاوم الإنتاج القادم إلينا من الخارج تحت ذريعة أن ما عندنا يكفي ونخاف عليه من التلُّوث. فلو كان ما نتوهَّمه صحيحاً لما كنا في هذا المستوى من التخلف والجهل.
نحن لا ننكر أن الغرب، ببعض اتجاهاته الفكرية والثقافية وبكل حركاته الاقتصادية ومشاريعه السياسية الرسمية، يعمل لتأمين مصلحته بشكل مباشر، لكننا لن نقتنع أن يكون كل ما يصل إلينا منه موبوء ومُثقَل بأوزار المؤامرة.
ألم تحلَّ العلمانية مثلاً أهم إشكالية كان الغرب يرزح تحت وطأتها قروناً عديدة؟ ألم تكن إشكالية الصراع بين الإيمان الساذج للكنيسة وبين عقل الفلسفة تربك مسيرة الحضارة في الغرب، بل وتدفعها إلى الوراء؟ لكنه لما انتصرت الفلسفة، أي كل أنواع التفكير الحر الذي لا يُقِرُّ مبدأ إلغاء التفكير الآخر بدوافع القدسية، لم تنهزم الكنيسة، والدليل على ذلك أنها حتى الآن ما زالت تلعب دوراً فاعلاً في البناء الروحي للإنسان، وتلعب دور الضمير المراقب على السلطات الزمنية. فالعلمانية «قامت لا على العداء للدين، ولا على إنكار القيم السماوية المُنزَلَة، بل قامت على معارضة الكنيسة كمؤسسة فكرية تعرقل حرية التفكير، وتلاحق العلماء وتُكفِّرهم في أقوالهم العلمية، وتحرق كتبهم…».
لما انعتق فكر العلماء والفلاسفة من إرهاب محاكم التفتيش الكنسية؛ ولما كُتِبَت السلامة لمؤلفاتهم من الحرق والمنع والتحريم؛ ولما أيقن الفيلسوف والمفكر والعالم والناقد العاقل أن رقابهم أصبحت بعيدة عن مقصلة التكفير، أخذت رقعة العلوم-سواء الإنسانية منها أم التكنولوجية- تتَّسع، فأعطت ثماراً يانعة للتقدم والحضارة الغربية أولاً، وتقدم الحضارة الإنسانية ثانياً.
يقول ول ديورانت: «إننا مدينون [في الغرب] لفلاسفة القرن18م-وربما للفلاسفة الأكثر عمقاً في القرن17م بالحرية النسبية التي ننعم بها في الفكر والكلام والعقائد… وبسببهم استطاعت ديانتنا [المسيحية] أن تتحرَّر أكثر فأكثر من الخرافة البليدة الكئيبة، واللاهوت الذي يبتهج بالتعذيب… وبسبب هؤلاء فإننا هنا الآن [في الغرب] نستطيع أن نكتب دون خوف ولا وجل، ولو مع شيء من اللوم».
أما عندنا-في المجتمع العربي والإسلامي-فما زلنا نعيش مراحل محاكم التفتيش، بشكل أو بآخر، بصورة أو بأخرى؛ وهذا بيان لمجموعة من الكُتَّاب والمثقفين والفنانين العرب صدر في العام 1989م=1409هـ، حيث عبَّروا فيه عن واقع الحال قائلين: «تواصل قوى الظلام جهادها ضد العقل والمدافعين عنه، فتحرق الكتب، وتُعدِم كل من كتب كتاباً لا يعجبها، وتبيح دم كل مثقف عرف المسؤولية، تاركة الجهل يأخذ مداه الكامل… وها هي تتحرك طليقة في الشوارع والمدن والقرى مستقوية بأعداء العقل والإنسان الذين يريدون لشعوبنا أن تظلَّ غارقة في ظلمات الجهل والخرافة».
كما هي العادة، انهالت على العلمانية -كمبدأ سياسي يفصل الدين عن الدولة، من جهة؛ وكونه آتٍ إلينا من الغرب من جهة أخرى- شتى أنواع التهم؛ فكانت، بحدها الأدنى، أنها تتنافى مع الشريعة الإسلامية وهي مُرسَلَة بمهمة تآمرية ضد الإسلام والمسلمين؛ وفي حدها الأقصى اتهام السائلين عنها والقائلين بها بأنهم كفرة مُلحِدون. أما في أحسن الأحوال فقد وُصِمَت بأنها مبدأ صالح للغرب المسيحي فقط لأن المسيحية تُقِرُّ (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، أي أن المسيحية هي دين للآخرة وليس للدنيا؛ وتتعارض العلمانية مع الإسلام لأنه دين ودنيا، فلا يمكن فيه الفصل بين الدين والسياسة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المسلمين، لم يعطوا للغرب-ولأنفسهم أيضاً-أنموذجاً فكرياً، يصلح لبناء نظام سياسي إسلامي يُحتذى به لقيادة البشر في الدنيا و يوصلهم إلى الآخرة بأمان من جهة، ونستطيع أن ننافس فيه الأفكار القادمة من الغرب من جهة ثانية. كما أنه لم يتيسر بين أيدينا-عبر التاريخ الإسلامي كله-نموذجاً لنظام سياسي إسلامي نستطيع الاتفاق على أنه كان صالحاً لقيادة المسلمين بشكل سليم أولاً، ولكي نقوم بعولمته في سبيل تصديره للغرب المسيحي فيشكِّل له تحدياً في عقر دار مبادئه التي يُصدِّرها إلينا ثانياً. كما أنه ليس بين الأنظمة الإسلامية القائمة حالياً ما يقنع قطاعاً واسعاً من المسلمين أنفسهم لكي يكون المثال المُحتذى، فكيف يمكننا إقناع الغرب المسيحي، وغيره من بلدان الشرق البوذية، مثلاً؟
حملت الدعوة الإسلامية عدداً من القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتنظيم شؤون البشر، وإن ممارسة الحكم على أساسها  -وعلى شرط أن تدعمها مرجعية إسلامية مركزية تحمل قوة إلزام كل الفرق-يُمهِّد الطريق أمام حكم عادل، بما يعني العلاقة بين الحاكم والمحكوم، «إلا أن ذلك هو من باب الحقائق الفكرية، ونعلم أن الواقع المشهود في التاريخ العربي-الإسلامي، للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، لم يقارب هذه الآفاق المثالية، إلا في فترات وجيزة… كان من باب الومضات الاستثنائية في الحقبة الطويلة من الاستهتار بالحقوق، ومن تعطيل الحريات والإبقاء على الأمية والسفاهة».
ألم يوفِّر الغرب المسيحي مئات من السنين من جهد علمائه وفلاسفته وعقلائه عندما استفاد من تجربة العقل الإسلامي-العربي وإنتاجه منذ أخذ ينقل تراثنا وإنتاج عقول علمائنا وفلاسفتنا؟
ألم تعط مباديء الديموقراطية للشعوب الغربية المسيحية وغيرها فسحة واسعة لنقد ما لا يصلح لها من قوانين وأنظمة حكم؟ ألم تُصبِح الشعوب الغربية سيدة نفسها وسيدة أنظمتها السياسية بفعل تلك المبادئ؟
أما نحن، وحينما ابتدأ الغرب ينتج فكراً متطوراً متقدماً مستفيداً من تراثنا وإنتاجنا، ثم أخذ يُصدِّرُه إلينا أو كنا نحن نسافر إليه لاستيراد إنتاجه، فقد أخذتنا ردات الفعل المتباينة: بين قابل ورافض و ناقد وكانت مسألة المبدأ الديموقراطي من أهم تلك المبادئ التي أثارت اهتمامنا وأكثرت موجات الجدل من حولها؛ وهو كنموذج حي يمكن أن يشكِّل أبرز ما سنعمل على دراسته كحالة من حالات التفاعل الاجتماعى والفكري دار الجدل من حولها في أوساط أمتنا.
كان الأكثر مرونة بين الإسلاميين هو الذي أقرَّ بهذا المبدأ لكن على أساس أنه ليس ابتكاراً مسيحياً غربياً، بل إن الشريعة الإسلامية هي التي كان لها قصب السبق في وضعه، ويستند هذا الفريق إلى أن مبدأ الشورى في الإسلام هو القاعدة المبدئية للديموقراطية. وإذا كان الكلام صحيحاً-كما يحسب قائلوه-فلماذا نأخذ، إذاً، عن الغرب مبادئ كنا نحن واضعوها؟ فهل من الصحة بمكان أن الإسلام قد وضع أسس المبادئ الديموقراطية؟
نحن نحسب أن هذا الرد ليس أكثر من رد فعل ساقه قائلوه كمبرر للامتناع عن أخذ ما ليس ذا أصول عقيدية إسلامية. وسنرى، لاحقاً، عدم صحة تأويل من تأَوَّل أن الشورى في الإسلام هي مبدأ موازٍ للمبدأ الديموقراطي. أو على الأقل لم يُجمِع الإسلاميون على صحة هذا التأويل.
كانت الردود، حين استقبال المبادئ الديموقراطية، ذات الأصول الغربية، متباينة ومتباعدة. كانت ردود فعل من حملوا سلاح النص الديني الأكثر تناقضاً؛ فهي قد تراوحت بين من يزاوج بين الشورى الإسلامية والديموقراطية الغربية استناداً إلى نصوص دينية إسلامية، وبين من يُكَفِّرُ القائلين بالديموقراطية مستندين في تكفيرهم إلى نصوص دينية إسلامية أيضاً.
وتأتي العولمة أخيراً وليس آخراً لتستفزَّنا، فنقف، كما جرت العادة في صف الرَّاد للفعل، وليس مُنتِجُه… فهل لم نعد نملك سوى ردود الأفعال؛ وهل لم يبق لدينا إلا أن نُصاب بوهم المؤامرة ضد واقع حضاري ندَّعي أننا نتملكـه؟ إن المؤامرة كما نحسب ليست موجَّهة ضد حضارة نمتلكها، لأننا اليوم لا نمتلك إلا التخلف والجهل؛ لكننا نملك كنوزاً مادية لا نستطيع استثمارها بسبب هذا التخلف؛ ونحن أيضاً نُعدُّ سوقاً استهلاكياً واسعاً لا يشبع، ويأكل مما لا ينتج؛ فالغرب يمتلك العلم الذي يؤهله لاستثمار كنوزنا ويعيد إنتاجها ويبيعنا إنتاجه فيربح على وجهين: وجه نهب كنوزنا، ووجه بيعها لنا ثانية. فالمؤامرة بهذا المعنى ليست ضد حضارتنا في هذا العصر لأنه ليست لدينا حضارة، بل المؤامرة هي لإبقائنا هكذا من دون حضارة، لكي نبقى عاجزين عن الاستفادة مباشرة من ثرواتنا أولاً، وإعادة إنتاج السلع الضرورية منها ثانياً.
إن هاجس المؤامرة يسكن عقلنا وخطابنا اليومي؛ وإننا نعترف بوجود المؤامرة، لكننا ضيَّعنا اتجاهاتها، فعلينا أن نصحح هذه الاتجاهات أولاً، ونعمل مستفيدين من الحضارة الغربية، لأننا لن نجد خياراً آخر، في سبيل بناء أرضية حوارية جادَّة تجعلنا نقبل الحوار الموضوعي مع الفكر الآخر فنأخذ منه ما يساعدنا على بناء قوة حضارية ذاتية مبنية على التطور السياسي-الاجتماعي-التكنولوجي، مما يصل بنا إلى مستوى الإسهام الفعلي في تقدم الحضارة العالمية الحديثة. وهنا لا بُدَّ من التمييز بين العالمية والعولمة:
عالم: جمعها عوالم، ويشتق منه فعل (عَولَمَ)، والاسم منه (عولمة). وفكرة العالم هي إنسانية وكونية، «فإذا مُـثِّلَ العالم فإنما يُمَـثَّلُ لإنسان كأقرب ما يكون منه، وأبعد ما يكون عنه في وقت واحد».
كل قيمة عليا هي إنسانية/ عالمية… ولكي يكتسب أي مبدأ سياسي، اجتماعي، أو اقتصادي… صفة الإنسانية/ العالمية لا بُدَّ له من أن يُنشَرَ في خارج الدائرة التي نبت فيها إلى الدائرة الأقرب مباشرة، فالأبعد…حتى يَعِمَّ كل بقعة في العالم البشري؛ وهكذا يُسبَغُ على هذه القيمة صفة العالمية، ويصبح فعل نشرها «عولمة». فالعولمة هي العمل على تصدير القيمة/ المبدأ إلى العالم الأبعد، فإذا انتشر وقُبِل اكتسب صفة العالمية.
فالعالمية هي صفة لكل قيمة عليا، والقيم العليا مفطورة عند كل إنسان بالقوَّة، وتصبح قيمة بالفعل، جليَّةً واضحةً، كلما بدأ الصراع بين القيمة ونقيضها في سبيل القضاء على النقيض. فهل يمكن لعالمية القيم أن تتحقق؟
يمكن أن تكتسب المبادئ والقيم صفة الشمولية في القبول النظري، لكنها قد لا تكتسب صفتها الشاملة في التطبيق لأكثر من سبب. أما إذا حققت شموليتها في التطبيق، فهذا حلم أصبح حقيقة، وهذا يُعَدُّ إنجازاً جميلاً و رائعاً. لكن الواقع الإنساني شيء آخر، من حيث اختلاف مستوى المجتمعات في الثقافة والوعي…
ولكي لا نسبح في محيط الأمل اللا واقعي، أو نغرق في لُجَّة اليأس القاتم، يكفينا العمل في سبيل تأسيس قيم إنسانية - عالمية مقبولة على الصعيد النظري الذي يحمل إمكانية التطبيق؛ ومن ثم العمل على مقاربة هذه القيم من واقع التعدديات الثقافية والدينية بين المجتمعات شيئاً فشيئاً عن طريق الحوار القابل للتعديل والتطوير وليس عن طريق الوهم بتحقيق ذلك عن طريق القسر والإكراه.
تُعَدُّ العالمية صفة من صفات الأديان السماوية، بشكل خاص، ويندرج عدد من القيم الإسلامية في دائرة العالمية. فأين يقع الإسلام في العالم المعاصر؟ وأين يمكن مقاربة بعض ما يُعَدُّ أنه قيم إسلامية عليا مع التعدديات الدينية والثقافية في هذا العالم؟
عمل الغرب، ويعمل-بحسه المادي (الربح والخسارة)-على تصدير السلع الاستهلاكية؛ ويعمل على تسويق هذه السلعة بواسطة ثقافة اقتصادية هدفها الأول فن الترويج للسلعة؛ ويستخدم، إلى جانب ذلك، قواه العسكرية، طامساً ما أنتج وصدَّر من حضارة فكرية ذات أبعادٍ إنسانية. فحصل من جراء ذلك التباس شديد في مفهوم العولمة.
استنبط الغرب - التاجر أسلوباً اقتصادياً قائماً على ثقافة إعلانية تدعمها وسائل الإعلام المتعددة الوجوه والأغراض. واستدعى هذا الأسلوب في سبيل إنجاحه عولمة لمفاهيم سياسية/ اجتماعية/ اقتصادية تصبُّ في دائرة ثقافة الاستهلاك السُلَعي، فيؤسس بهذا ثقافة للمستهلك كتابع للمنتج كل همه أن يلاحق السلعة الأفضل من خلال الدعاية والإعلان…وليس من همٍّ لثقافة الاستهلاك غير أن تكون جذَّابة في الشكل، جاذبة للمستهلك بسهولة. فيَعِدّ نفسه بسلعة تُيسِّر له الرفاهية والراحة فيصبح مستهلكاً مُترَفاً أكثر منه راغب في ثقافة الإنتاج.
من هنا كانت العولمة، التي نأنف منها، فعل تصدير اقتصادي يستخدم عدداً من مبادئ السياسة والاجتماع لأغراض الربح التجاري. ولكننا يجب أن نُزِيلَ الالتباس الحاصل بين العولمة -بمفهومها الاقتصادي الاحتكاري الاستعماري- وبين العولمة بمفهومها الفكري العالمي/ الإنساني.
إن في العولمة، كما نحسب،  فعلاً إيجابياً، أيضاً. ويمكنها أن تكون كذلك إذا كانت فعل تصدير للقيم الإنسانية العالمية الفاضلة.
-فالمسيحية، منذ أن نشأت على أرض فلسطين، عملت على عولمة مبادئها وتعاليمها، فوصلت إلى أوروبا، ثم انتشرت في أصقاع الأرض.
-والإسلام، منذ نشأته في الجزيرة العربية، عمل في سبيل عولمة مبادئه وتعاليمه، فوصل إلى الصين شرقاً و جنوب أوروبا غرباً.
-وكل فلسفة قديمة كانت أم حديثة، منذ سقراط وحتى الآن، كانت تتعولم بطريقة أو بأخرى: تعولم أرسطو في الشرق الإسلامي، ثم انتقل إلى الغرب المسيحي بوسائط عربية إسلامية. وعولمت الفلسفة الأوروبية نفسها فانتشرت من أدنى الكرة الأرضية إلى أقصاها، ولاقت صدىً واسعاً في الشرق العربي-الإسلامي منذ قرنين من الزمن.
-ومنذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة، في العام1945م=1364هـ، بفعل التقاء شعوب العالم بأدوات حكومية- في اجتماعات دورية؛ وبفعل انفتاح شعوب العالم على بعضها البعض -بفعل التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات- وُلِدَت مجموعة من المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما أبرز إلى الواجهة حاجة المجتمع الدولي لتوحيد المفاهيم حول هذه المصالح… فنشأت الحاجة إلى عولمة القوانين التي تضمن توحيد الرؤى السياسية والفكرية في أكثر من حقل يطمئن فيه المرء -أياً كانت جنسيته أو دينه أو اتجاهاته الثقافية والسياسية- على حريته وحياته وحقوقه أينما انتقل في أرجاء هذا العالم الفسيح.
ولأن البحث واسع جداً، ولأن طبيعة بجثنا محدودة تحديداً منهجياً، حول مسألة الردة عن الدين، فلا يمكننا إلا أن نُطِلَّ فقط على ما يمس جوهر هذا البحث ويخدمه من خلال ما اصطُلِحَ على تسميته بـ«حقوق الإنسان».
ليست من السهولة صياغة تعريف دقيق للعولمة، نظراً إلى تعدد تعريفاتها، والتي تتأثر أساساً بانحيازات الباحثين الأيديولوجية، واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً وقبولاً. كما أن هناك تنوُّع ضخم في الظواهر التي تتعلق ببحث مفهوم العولمة: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الأيديولوجيا….
وفي سبيل الاقتراب من صياغة تعريفات للعولمة لا بد من الاستناد إلى عمليات ثلاث تكشف عن جوهرها: «العملية الأولى تتعلق بانتشار العولمة بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس. والعملية الثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول. والعملية الثالثة هي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات…».
لقد جرت أول محاولة لعولمة قانون موحَّد لحقوق الإنسان، منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في العام 1948م=1367هـ، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان الإعلان المذكور منطلقاً لإصدار ثلاثة صكوك تضفي عليه القوة القانونية، وهي: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العام 1966م =1386هـ. والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في العام ذاته. ثم صدر البروتوكول الاختياري. وفي العام 1979م=1399هـ صدرت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
للإعلان العالمي سلطان معنوي. أما العهدان فهما معاهدتان مُلزِمتان للدول التي تصدِّقهما بتوقيعها.
أثار الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة شتى الهيئات في الشرق العربي-الإسلامي، ودفعها في أعقاب الحرب العالمية الثانيةإ لى إصدار أكثر من خمسة عشر مشروعاً، ترجع المبادرة في صياغة معظمها إلى هيئات علمية من الجامعيين والدارسين ورجال الحقوق، وإلى بعض المنظمات الإقليمية: مثل رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، وإلى بعض الرابطات الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان.
يشترك معظم هذه المشاريع بطابع الخصوصية المرجعية التي تمتاز بها عن النصوص الأممية، إلا أن بينها ميادين تطابق عديدة. وما يُميِّز هذه المشاريع عن النصوص الإسلامية فارق جوهري، بحيث تمتاز النصوص الإسلامية في منعها حق الارتداد. وإن ما يُميِّز المواثيق الدولية أنها تنطلق من مبدأ النظام الطبيعي، وتنظر إلى الإنسان في واقعه الإنساني، وفي حاجياته المادية… بينما المواثيق الإسلامية تنظر إلى الإنسان بشمولية ذاته، وتنظر إليه من جانب احتياجاته المادية والروحانية. ففيها تُعَدُّ الحقوق مِنَّةً ربانيَّة، والحريات تخويلاً إلهيا….
جاءت المواثيق الدولية لتسبغ على عدد من القوانين -التي لها علاقة بحقوق الإنسان- صفة العالمية؛ وصِيغَت في سبيل ذلك- آليات تضمن التزام الناس بها.
وعلى العموم، علينا أن نأخذ بالحسبان أن هيئة الأمم المتحدة تُشكِّل إطاراً دولياً عالمياً يُمثِّل أوسع تمثيل شتى الاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم؛ ويأتي على رأس هذه الاتجاهات -والتي هي ميدان بحثنا- مسألة التعددية الدينية وما تؤمن به من مبادئ تناول حقوق الإنسان.
فعلى أية اتفاقية دولية لها علاقة بحقوق الإنسان أن تراعي القواسم المشتركة والاتجاهات المختلَف حولها لشتى أديان البشر على الكرة الأرضية، آخذة بعين الاهتمام القيم الإنسانية العامة. وإنه إذا تضمَّنَت هذه الاتفاقيات والعهود خصوصيات كل دين، ولكل دين نصوصه المقدَّسة، لامتنعت الصفة العالمية عنها… ولأصبح من المستحيل عولمتها/ أنسنتها. فهل العولمة تتحقق في ظل تعددية النصوص المقدَّسة؟
لو كانت عولمة النصوص المقدَّسة ممكنة لقام كل دين، في شتى أصقاع الأرض، بعولمة قِيَمِه وخصوصياته. وما ينطبق في مثل هذه الحال- على الأديان السماوية يصح، أيضاَ، على الأديان الرئيسة الأخرى، وعدد منتسبي بعضها لا يقلُّ عن عدد منتسبي الأديان السماوية بل يفوقها عدداً.
فعلى الرغم من كل ما يُشغِل عقول الباحثين والمفكرين من هواجس موضوعية حول ما يجري في عالمنا المعاصر، ويأتي على رأسها محاولات الدول الرأسمالية الكبرى، التي تُسخِّر كل القيم الثقافية في سبيل تسويق بضائعها المادية، فإنه يمكن لهؤلاء الباحثين والمفكرين، أن يُميِّزوا بين العولمة الإيجابية -ذات الطابع الإنساني التي تعمل لتصدير القِيَم الإنسانية، وبين العولمة السلبية ذات الأهداف التسويقية التجارية الاحتكارية.
قد تدفع المفكرين والباحثين، إلى تغليب جانب السلبية في تقييمهم مسألة العولمة، هي تلك التجربة التي تكون قد دلَّت «على أن الدول المشاركة في العضوية في منظمة الأمم المتحدة، لا تتساوى بينها في قابلية العمل بمواثيق المنظمة، وليست على درجة واحدة في نوعية القوانين الحاكمة، ولا في شمول الوعي السياسي، وفي مراتب انتشار التعليم، وتقلُّص الأمية؛ بالإضافة إلى ما بينها غالباً- من التفاوت في الموارد الطبيعية والمالية، ومن القدرة على تسخير الوسائل الكافية لنشر التعليم وحفظ الصحة، ولتوفير فرص العمل، ولضمان الحق في السكن وضمان الأسرة، إلى غير ذلك من الواجبات المُيسَّرَة لتمتع المواطن بحقوقه.
إن وجود فوارق في مستويات الاقتصاد والتقدم الاجتماعي والثقافي ليس مبرراً كافياً للوقوف سلباً في وجه العمل لنشر قيمة من القيم الإنسانية وتعميمها. فالاعتراف بحقوق الإنسان -كقيمة عليا- هي مسألة نظرية، فإما أن تؤيدها أو أن ترفضها لحسن أو لقبح عقلي فيها فهذه مسألة منطقية. أما أن ترفضها لصعوبة تطبيقها في مجتمع لا يمتلك شروط تطبيقها فهذه مسألة مختلفة جداً، ويكون الأمر مُستَغرباً جداً.
إن الخلاف غالباً حول العولمة، التي لها علاقة بحقوق الإنسان، لا تدور بين تحسين أو تقبيح عقلي وعملي؛ فمواطن الخلاف هي غير ذلك تماماً؛ فمحاسن حقوق الإنسان -عقلياً ونظرياً- هي أمر ليس موضوع خلاف، وإنما الخلاف يدور حول مضامين هذه الحقوق. فكيف يحصل هذا؟
في دائرة المقارنة بين مباديء الإسلام حول حقوق الإنسان و بين الإعلان العالمي تقول فوزية العشماوي- إن الإسلام أرسى المساواة المطلقة بين البشر من دون تفرقة أو عنصرية أو تمييز بسبب اللون أو العرقية أو اللغة. فالمباديء التي أرساها الدين الإسلامي، وأعلنها الرسول محمد-منذ 14 قرناً- هي أشمل من المباديء والمعايير التي أقرَّها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان منذ خمسين عاماً. وهنا تقوم العشماوي بمقارنة بين النصين الإسلامي والعالمي:
-قال الرسول محمد: «كلكم لآدم و آدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود، ولا لأسود على آخر إلا بالتقوى؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
-تنص المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على أن: «جميع الأفراد لهم نفس الحقوق والحريات بدون تفرقة من أي نوع، مثل الجنس أو اللون أو النوع أو اللغة أو الدين أو الآراء السياسية أو الوطنية، أو الوضع الاجتماعي أو الملكية أو البلاد او أية أوضاع أخرى».
لقد فاتت موضوعية المقارنة العشماوي. فالمقارنة لم تكن عادلة على الإطلاق: فوثيقة الأمم المتحدة قد أتت على ذكر مسألتين في غاية الأهمية رفض الإسلام الاعتراف بهما، وهما لُبُّ الصراع الدائر بين الأديان كافة:
-نصًّت الوثيقة على تساوي كل الأديان على كل الكرة الأرضية، وسجَّلَت اعترافها بها.
- ونصَّت على المساواة في الحقوق السياسية والمدنية بين كل المنتسبين لكل الأديان من دون تفرقة أو تمييز.
من هنا نتساءل: هل يمكن المقاربة بين نصوص الشريعة الإسلامية وبين ما جاء في المادة 18-الفقرة1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية؟
-لقد نصًّت المادة18/الفقرة1 على ما يلي: «لكل فرد الحق في حرية الفكر والضمير والديانة. ويشمل هذا الحق حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد باختياره، وفي أن يُعبِّر، منفرداً أو مع آخرين بشكل علني أو غير علني، عن ديانته أو عقيدته، سواء كان ذلك عن طريق العبادة، أو التعبُّد أو الممارسة أو التعليم».
-وجاء في الفقرة 2،ما يلي: «لا يجوز إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يُعطِّلَ حريته في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها».
كان الموقف الإسلامي واضحاً في ما له علاقة بمبدأ الانتماء الاختياري للدين إذ تميَّزت المشاريع الإسلامية الخاصة بحقوق الإنسان إلى رفض السماح بالارتداد عن الدين. وتبرز، من جهة أخرى، إشكالية مقاربة النص الإسلامي من العولمة، وهي مشكلة الاسترقاق و مشكلة الإماء.
-نصَّت المادة الثامنة (الفقرة1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية على أنه: «لا يجوز استرقاق أحد، ويُحَرَّم الاسترقاق والاتجار بالرقيق في كافة أشكالهما».
-وجاء في الفقرة 2: «لا يجوز استعباد أحد».
-أما الشريعة الإسلامية فإنها لم تشجع على الاسترقاق ولكنها لم تُحرمّه. فالعبد في الإسلام كل من تحدَّر من عبد سابق، أو من وقع أسيراً في الحرب…والعبد إنسان وشيء في آن واحد، إذ يمكن بيعه وإهداؤه و توريثه الخ… ولا حق له بالملكية…ويحق له الزواج إذا وافق سيده على ذلك. وانتشرت في العهد العثماني عادة تربية الغلمان، منذ القرن14م=8هـ، وعلى الرغم من أنه تمَّ القضاء عليها، في بداية القرن18م=10هـ، فإنهم كانوا يُعَدُّون من عبيد السلطان.
لقد كان نظام الاسترقاق معمولاً به منذ أيام الدعوة الإسلامية الأولى، ولم يُعدَّل حتى الآن. فكان كل من أُسِرَ في الغزوات يجوز استرقاقه…ولما كَثُرَت الفتوحات كَثُرَ الاسترقاق من الأمم المغلوبة كثرة هائلة؛ وكان المُستَرقًّون، رجالاً ونساءً وذراري، يُوزَّعون على المسلمين الفاتحين. يقول المسعودي إن ابن الزبير بن العوام كان له ألف عبد وألف أمة… وكان يُعَدُّ هذا الرقيق مملوكاً للسيد المُطاع، له الحق في بيعه وهبته؛ وإذا كان أَمَةً جاز للسيد أن يستمتع بها…ويصح أن يكون للرجل عدد كبير من العبيد، كما يصح أن يكون في بيته عدد من الإماء….
جاء في النص القرآني:)فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا( (محمد: من الآية4). وقد جاء في تفسير هذه الآية ما يلي:
«  قال الخوارزمي، عندما سُئِل عن حكم أسارى المشركين: « أما عند أبي حنيفة وأصحابه أحد أمرين: إما قتلهم، وإما استرقاقهم أيهما رأى الإمام. ويقولون في المِّن والفداء المذكورين في الآية نزل ذلك في يوم بدر ثم نُسِخ. وعن مجاهد: ليس اليوم مَنّ ولا فداء، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق. ويجوز أن يُراد بالمنِّ أن يُمَنَّ عليهم بترك القتل ويُستَرقُّوا، أو يُمنَّ عليهم فيُخلوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمَّة. وبالفداء أن يُفادى بأساراهم أسارى المشركين؛ فقد رواه الطحاوي عن أبي حنيفة؛ والمشهور أنه لا يرى فداءَهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حرباً للمسلمين. وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة-على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين- وهو القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمَنّ. ويحتجُّ بأن رسول اللهr منَّ على أبي عروة الحجبي و على ابن أنال الحنفي، وفادى رجلاً برجلين من المشركين، وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأي».
« وجاء عند ابن كثير ما يلي: «الظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذٍ، ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل… ثم ادَّعى بعض العلماء أن هذه الآية المُخَيِّرة بين مفاداة الأسير والمَنِّ عليه منسوخة بقوله تعالى ) فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم(… وقال الآخرون -وهم الأكثرون ليست بمنسوخة. ثم قال بعضهم: إنما الإمام مُخَيَّر بين المَنِّ على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل أن يقتله إن شاء…وزاد الشافعي فقال: الإمام مُخَيَّر بين قتله أو المنِّ عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً…».
« وجاء عند محمد جواد مغنية: «…وعندئذ أحكِموا أسر من بقي منهم كيلا يفلت ويعيد الكرَّة عليكم؛ ومتى تمَّ ذلك كان الخيار للنبي أو نائبه في إطلاق الأسير بفداء، أو منّ من غير فداء حسبما تقتضيه المصلحة…».
أما جُلَّ ما فعله الإسلام بالنسبة لمسألة الرقيق -وهو غالباً ما كانت أعداده تتكاثر بسبب كثرة الغزوات والحروب- أن جعل عتق الرقبة كفَّارة عن الذنوب، ولم يرد نص واضح مُحكَم يدل على تحريمه. وهذه آيتان من القليل الذي جاء في القرآن: )وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا( (القصص: من الآية3). )لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ( (المائدة: من الآية89).
لا يستقيم الموقف إذا ادَّعى الفقهاء المسلمون أن موضوع الرقيق قد عفَّى عليه الزمن، من بعد أن أصبح لاغياً بحكم الأمر الواقع، لأن النصَّ وتأويلاته باقيان  منهلين أساسيين أمام كل مسلم ليأخذ منهما ما يتناسب مع الظروف التي يعيشها، فهو حرّ أن يستعبد من أسرى الحرب من يشاء إذا شاء، ويفعل ذلك من دون أي حرج شرعي.
فعلى قلَّة المعلومات التي تُنشَر عن موقف التيارات/ الجماعات الإسلامية بالنسبة للأسرى؛ لكنه تتسرَّب من آن لآخر أخبار، حتى ولو كانت أخباراً صحفية، لها دلالة ويمكنها أن تضيء على بعض جوانب الإشكالية. وهي تدل مباشرة على أن الأمر الواقع لن يعفي الفقهاء المسلمين من اتخاذ موقف واضح من تأويل النص وتفسيره بدقة ووضوح لا لبس فيه، وبما لا يدع أية ثغرة لأي تيار أن يأخذ النص على ظاهره ليتسلل منه إلى ممارسة حقه الشرعي في إعادة نظام العبودية تحت ذريعة أن النص واضح محكم.
جاء على لسان أحد أمراء الجماعات الإسلامية في الجزائر ما يلي: «يعيش المتطرفون [الجماعات الإسلامية في الجزائر] في عالم صوفي. يعتبرون أنهم يمثِّلون اليد المسلحة لله؛ وبناء على هذه الصِفة يسمحون لنفسهم بأن يقتلوا مستندين إلى الكتاب المقدَّس، الذي لا يكاد يعرفه معظمهم. يُطبِّقون الخطوط الكبرى فيه من دون أن يهتموا بالفوارق الدقيقة الحساسة… ويعتبرون أن ضحاياهم ليست بريئة بل مُدانة بخطيئة أصلية تقريباً: خطيئة عدم الإيمان بالله. ما هي براهينهم؟ [يحسبون أنه] لا يحترم الجزائريون الشريعة والفقه الإسلامي، ولا يعيشون كمسلمين صالحين؛ يشاهدون برامج التلفزيون الكافرة، ويسمحون لنسائهم بالقيام بكل شيء…كان أعضاء الجماعات الإسلامية المسلحة يؤكدون أنه ينبغي حتى قتل الأطفال الرُضَّع…». وكانوا يقومون بتعذيب الأسرى: إما باقتلاع أجزاء من جلدهم بآلات حادة؛ أو دفنهم أحياء؛ أو قتلهم ذبحاً بالخناجر….
هل تُحَلُّ مشكلة هؤلاء القتلى إذا تبرَّأ كثيرون من العلماء المسلمين مما يفعله غيرهم؟ وهل هم لا يتحمَّلون أية مسؤولية؟ وهل إن ما يحصل، وما يفعله إسلاميو الجزائر، إلا مستنداً إلى ما يتناقله الإسلاميون، كل الإسلاميين، من روايات ونصوص؟ وهل إسلاميو الجزائر إلا من  المجتهدين الذين ينالهم أجر واحد إذا أخطأوا؟ وهل يُعَدُّ ما يجري في الجزائر نتيجة لاستيرادهم مباديء ومفاهيم غربية؟
بلى يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم، وإن المسؤولية التي يتحملها كل الفقهاء المسلمين، الذين يغسلون أيديهم من دم أولئك الأبرياء، هي أن ترتفع منهم صرخة حق جريئة ليس باستنكار ما يجري، والادعاء بأن ما يفعله أولئك ليس من الإسلام في شيء-تحض على السماح بالنظر إلى النص بغير العيون التقليدية السلفية،التي بواسطتها ومنها، تتخذ معاهد التعليم الديني الإسلامي مادتها لتعليم الفقه والتشريع والتفسير وغيرها من علوم الدين؛ تلك المادة ذاتها التي يتلقَّاها إسلاميو الجزائر، واستناداً إليها يفتون بما يحدد خطواتهم بالعمل الذي به يقومون.
لم تنفرد الدعوة الإسلامية بموقفها غير المحدد من الرق، لأن المسيحية لم تقف موقفاً متميزاً بالنسبة للعبودية فهي علَّمت أن عتق العبد يُعَدُّ كفَّارة عن ذنوب المؤمنين؛ وذهب القديس أوغسطينوس إلى أن العبودية هي عقاب مفروض على الإنسان المذنب. إلا أن «الخطيئة هي التي تجعل الإنسان يَستعبِد الإنسان طيلة حياته، ومثل هذا لا يمكن أن يحدث إلا بحكم الله الذي لا يعرف الظلم، والذي يعرف كيف يكيل العقاب لمن يستحقه».
أما المواثيق الدولية، ومنها اتفاقية جنيف الرابعة، فتُشكِّل، كنص معولم، حماية للمدنيين وللمحاربين: فهي قد حرَّمت في مادتها 33 معاقبة أي شخص عن ذنب لم يقترفه شخصياً. فهذه الاتفاقية حرَّمت ما لم تُحرِّمه الأديان السماوية.
فهل في ظل هذه الاتفاقية يمكن استرقاق المحاربين وأهاليهم؟ أو هل يمكن أن تُعَدَّ النساء رقيقاً يبقون ملك يمين المنتصر؟ وهل يجوز قتل الرجال والنساء؟ وهل يمكن استرقاق أطفال المحاربين؟
لم تُشرِّع العقيدة الإسلامية حق الاسترقاق فحسب، وإنما منعت المساواة بين الأرقاء والأحرار، أيضاً: يقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى( (البقرة: من الآية178).وقد جاء في تفسير هذه الآية ما يلي:
« جاء عند محمد جواد مغنية: إن الحر لا يُقتَل بالعبد، وإن الرجل لا يُقتَل بالمرأة، أي إن الحر إذا قتل عبداً لا يُقتَلُ به. وإذا قتل الرجل امرأة لا يُقتَلُ بها، فهل هذا محل وفاق بين الفقهاء؟ يتساءل مغنية، ثم يُفصِّل ما جاء عندهم:
-قال مالك والشافعي وابن حنبل: إن الحر لا يُقتَلُ بالعبد.
-قال أبو حنيفة: بل يُقتَلُ الحر بعبد غيره، ولا يُقتَلُ بعبده.
-واتفق الأربعة على أن الرجل يُقتَلُ بالمرأة، والعكس صحيح.
-قالت الإمامية: إذا قتل الحر عبداً لا يُقتَلُ به، بل يُضرَبُ ضرباً شديداً، ويُغرَّمُ دِيَّة العبد. وإذا قتلت المرأة رجلاً عمداً كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية إن رضيت هي وبين أن يقتلها. فإذا اختار القتل فلا يُغرَّم أهلها شيئاً… وإذا قتل الرجل امرأة كان وليُّها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل، وبين أن يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دِيَّة الرجل.
« وجاء عند ابن كثير أن الجمهور قد ذهب إلى أنه لا يُقتَلُ الحر بالعبد، لأن العبد سلعة، لو قُتِلَ خطأً لم يجب فيه دِيَّة، وإنما تجب قيمته.
-وذهب الجمهور أيضاً إلى أن المسلم لا يُقتَلُ بالكافر.
-وقال أبو حنيفة إلى أنه يُقتل به لعموم آية المائدة.
إعتراف الإسلام بالاسترقاق بامتناعه عن تحريمه بنص مُحكَم؛ والإقرار بشرعية الطبقية بين سيد و عبد ومنع التساوي بينهما؛ والحال كما هي عليه، فكيف يمكن التوفيق بين عالمية القوانين وعولمتها وبين الشريعة الإسلامية؟
لقد جاءت النصوص العالمية لتُعبِّر بشكل جلي عن تحريم الاسترقاق والاتجار به بشتى أشكالهما من جهة، ولكي تساوي بين جميع الأفراد بالحقوق والواجبات بدون تمييز من أي نوع كان من جهة أخرى. وجاءت لتؤكِّد-في المادة الثالثة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية-على مساواة الرجال والنساء بحق التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية.
فهل يبقى من مخرج أمام الفقهاء المسلمين إلا أن ينتظروا الواقع لكي يفرض نفسه على الشريعة من دون أن يتجرَّأ أي واحد منهم على اتخاذ موقف تشريعي يواكب تطور الزمن؟ وهل يبقى دورهم واقفاً عند محطة انتظار الواقع لكي يفرض نفسه من دون أي تدخُّلٍ منهم سوى الصمت وإدارة الظهر ودفن الرأس في الرمال؟
هذه حقيقة لم يستطع محمد جواد مغنية إلا أن يتوقف عندها، ولكن بلامبالاة، في أثناء تفسيره لآية تتعلق بالإماء وأحكامهن، حين يقول: «إن الحديث عن الإماء وأحكامهن أصبح بلا جدوى بعد إلغاء الرق».
من هو الذي ألغى نظام الرق؟ وهل كان للفقهاء المسلمين فضل في ذلك؟ وهل صدرت مباركة منهم لهذا الإلغاء
 أم أنهم قابلوه بالصمت؟ فإذا كان هذا الإلغاء خطوة حسنة ألم يكن من واجب الفقهاء أن يباركوه ويتبعوه بخطوة اجتهادية جريئة تحرّمه تحريماً بائناً لا رجعة عنه؟
تحسب فوزية العشماوي ومعها كل فقهاء المسلمين من جميع المذاهب- «أن الإسلام دين عالمي، يصلح لكل زمان ولكل مكان، والرسول محمدr هو رسول عالمي، لم يُرسَل إلى قوم بالتحديد…». ولأن الأسس التي قام عليها الإسلام (إعترافه بحقوق الإنسان-وإن الإسلام دين عالمي) ليست معروفة لدى الغربيين، تدعو العشماوي إلى أنه قد «آن الأوان لكي يتحرك المسلمون…لينقلوا هذه الحقائق السامية إلى العالم…ليثبتوا…أن الإسلام دين عالمي يصلح لكل زمان وكل مكان… وإنه لا يتعارض مع التقدم…».
إننا لا نجتنب الحقيقة إذا قلنا إن النخبة الدولية -على الأقل- التي صاغت المواثيق الصادرة عن الأمم المتحدة، ذات العلاقة بحقوق الإنسان، لا تجهل موقف الشريعة الإسلامية من الاسترقاق؛ وإنها لا تجهل، أيضاً، قانون الردة في الإسلام، أصولـه ونتائجه والعقوبات التي يرتبها على المسلم المرتد. فالمسألة ليست كامنة في أن الغربيين -و خاصة النخبة منهم -  يجهلون الإسلام، حتى ولا الشرقيين، أيضاً. ونحسب أن إلغاء التمييز العنصري، وضمان حرية الانتساب إلى الأديان، لم يأت إلا ردَّاً على قوانين الردة الدينية-التي أُسبِغَت عليها صفة القدسية-والتي تتنافى مع حقوق الإنسان، والدين الإسلامي هو أحد هذه الأديان.
وذاك صوت إسلامي يرتفع منتقداً العولمة بأنها ذات نزعة مادية، ويحسب أن السبيل إلى مواجهتها، و«في وقت معقول، ولكي لا تشتدَّ خسائرها على المسلمين، يجب على أمة الإسلام أن تنهض لرسالتها مقبلة على العلم والصناعة واستغلالهما في حماية رسالة الحق إلى العالم المُضلَّل في شأن الإسلام». والمُستَغرَب في الأمر أن من يقارن بين الماديين والروحيين لا يستطيع أن يدافع عن صدق روحانيته سوى بالدعوة إلى بنية علمية صناعية!!
بعيداً عن الخطاب التعبوي، الذي يدافع عن الدين بمفاهيم عمومية، نتساءل: هل يمكن الآن استكمال عصر الفتوحات الإسلامية؟ وهل يمكن الإقرار بشرعية استعباد الأسرى أو قتلهم أو استرقاقهم؟ وهل يمكن الإقرار بشرعية الإماء والتسرِّي بهن؟
إذا كان ذلك أصبح منافياً لروح العصر، وأصبح لاغياً بحكم الأمر الواقع، إلا أنه لم يصدر عن أية مركزية دينية إسلامية ما يرفع الشرعية الإسلامية عن هذه التشريعات، إن الاستمرار بالصمت عن ذلك يُبقي التشريع شرعياً حتى لو أصبح بلا جدوى، لماذا؟
إنه على الرغم من عدم توفر المعلومات نتساءل: لماذا كلما غزت جماعة إسلامية قرية جزائرية يقتلون الرجال و يصطحبون النساء معهم حين انتهاء الغزوة؟
إنه ودرءًا لمخاطر عدم إلغاء بعض التشريعات الإسلامية، التي تأوَّلها السلف من النص بفتوى فقهية مركزية، تبقى كل جماعة إسلامية أو كل تيار إسلامي-عندما تسنح له الفرصة المناسبة، حتى ولو كانت مؤقتة-على أهبة الاستعداد لتطبيق أي نص وكما يحلو له التأويل ولو عُدَّ هذا التشريع بأنه أصبح بلا جدوى.
ولأن عولمة الثقافة والقوانين وتأسيس أرضية مشتركة للتعايش الشعبي الدُوَلي تتعمق أكثر فأكثر، وفي شتى أصقاع الأرض، من جهة؛ ولأنه-حتى هذه الساعة-قد تمَّت عولمة كثير من المؤسسات الإنسانية والثقافية والقانونية، التي لها علاقة بتنظيم التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية السائدة على الكرة الأرضية من جهة أخرى، أصبحت الشعارات العامة الفضفاضة، والدعوات المثالية ليست إلا إغراق الخطاب الديني بالألفاظ التي لا تفيد أية حقيقة علمية موضوعية.
واستطراداً حول مسألة عولمة القوانين لا بد من أن نُثير ما جاء في وثيقة حقوق المرأة في الاتفاقيات الدولية، التي صدرت عن هيئة الأمم المتحدة في العام 1979م=1399هـ، ما يلي: «تمنح الدول الأطراف المرأة في الشؤون المدنية أهلية قانونية مماثلة لأهلية الرجل، ونفس فرص ممارسة تلك الأهلية... ».
وتنص المادة الخامسة -الفقرة أ- على ما يلي: «تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك المرأة والرجل، بهدف تحقيق القضاء على التميُّزات والعادات العرفية، وكل الممارسات الأخرى، القائمة على فكرة دونية أو تفوق أحد الجنسين...».
وتنص المادة العاشرة على ما يلي: «...القضاء على التمييز ضد المرأة، لكي تكفل للمرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في ميدان التعليم».
واستئنافاً للبحث في مسألة تنظيم الرق نرى أن آثار اللامساواة بين الحر والعبد في الحقوق قد طالت المرأة، أيضاً. فقد أقرَّت السُنَّة النبوية حق الرجل بالتسرِّي بالمرأة، فأيَّد بهذا عادة ألِفَها العرب في الجاهلية. ولم يتساوَ أولاد الإماء بأولاد الحرائر في الحقوق. وكانت مكانة أم الولد منحطَّةً، حتى إن المسلمين كانوا يُطلقون عليها اسم أم الولد. وأباح القرآن، أيضاً، التسرِّي بما ملكت يمين الرجل، وجاء ذلك في عدد من الآيات: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك( [من الكفار بالسبي كصفية وجويرية] (الأحزاب: من الآية50).
ردَّاً على عدم اعتراف عدد من الفقهاء المسلمين بشرعية المساواة في فرص التعليم بين الرجل والمرأة تقف نظيرة زين الدين لتعارض ما ذهبوا إليه في النهي عن تعليم المرأة مستندين إلى أحاديث تُروى عن الرسول. وفي ردها تنقل عدداً من الأحاديث المذكورة، ومنها: «عن الترمذي الحكيم عن ابن مسعود أن النبي r   قال: مرَّ لقمان على جارية في الكُتَّاب، فقال: لمن يُصقَلُ هذا السيف؟. وأخرج الترمذي الحكيم من هذا الحديث أن فيه إشارة إلى علَّة النهي عن تعلُّم الكتابة؛ وهي أن المرأة إذا تعلَّمتها توصَّلت بها إلى أغراض فاسدة، وأمكن توصُّل الفَسَقَة إليها على وجه أسرع ... من توصُّلهم إليها بدون ذلك. لأن الإنسان يبلغ بكتابته في أغراضه إلى غيره ما لم يبلغه رسوله، لأن الكتاب أخفى من الرسول، فكانت أبلغ في الحيلة وأسرع في الخداع والمكر، فلأجل ذلك صارت المرأة بعد الكتابة كالسيف الصقيل الذي لا يمر على شيء إلا قطعه بسرعة. فكذلك هي بعد الكتابة تصير لا يُطلَب منها شيء إلا كان فيها قابلية إلى إجابته إليه على أبلغ وجه وأسرعه».
وتنقل، أيضاً، الحديث التالي: «روى الحاكم وصحَّحه البيهقي،أن النبي   r قال: لا تُنزِلوهنَّ في الغرف ولا تُعلِّموهنَّ الكتابة. وعلموهن الغزل».
وحتى اليوم يبرر بعض الإسلاميين تعليم المرأة بشروط، وذلك أن تطابق مواد التعليم فطرة المرأة. يقول البهي الخولي: «إننا لا ننكر أن للمرأة عقلاً كعقل الرجل، ولا نجحد أنها تفهم كما يفهم الرجل من العلوم والآداب... ولكن القضية هي أننا نريد أن نوزِّع استعداداتنا الفطرية على أنواع العلوم والمعارف... إن المرأة خُلِقَت لتكون زوجةً وأماً... هكذا فطرها الله، وفي إرادته الخير كله. فأي خير نجنيه إذا نحن ثقَّفناها بغير ثقافة الزوجة والأم؟ لقد دخلت الفتاة كلية الزراعة وكلية العلوم وكلية الصيدلة فماذا جنت بنجاحها؟...لم تجنِ إلا أنها خرجت من نطاق الأنوثة التي خصتَّها بها الطبيعة إلى استرجال هي أول من يُنكِرُه...».
لكن ما هو نوع التعليم المسموح به للمرأة، وما هو الغير مسموح به؟ هنا يستطرد الخولي قائلاً: «وإذا كانت الظروف تدعونا إلى أن يكون من الفتيات طبيبات أو مدرِّسات، فلا بأس بذلك، فإننا نستحسن أن يكون الطبيب الذي يعالج المرأة امرأة مثلها؛ والمدرس الذي يعلِّمها امرأة مثلها أيضاً... أما تعليم الكيمياء والهندسة العليا، والزراعة والفلك وما إليها فضرب من التزيُّد لا يكون إلا على حساب المهمة الأصلية التي أُعِدَّت لها الفتاة».
لكنه يأتي من يستند إلى النص، أيضاً، لِيُضَيِّق الخناق، ليس على المرأة فحسب، وإنما ليضع تشريعاً يَحِدُّ فيه من حرية التعلم على الرجل أيضاً. وهنا يقول شكري أحمد مصطفى -أمير إحدى جماعات الإخوان المسلمين- إن الإسلام «يُحَرِّم تعليم الكتابة في الجماعة المسلمة إلا بقدر الحاجة العملية الواقعية لما يتَّصِل بالكتابة؛ وتعلُّم الكتابة الزائدة حرام». ويتابع قائلاً: «إن النبي r قد أمر بتعليم بعض المسلمين الكتابة في حدود الحاجة». ويُبرِّر شكري ذلك فيقول: «إن البشرية كلها الضالَّة، التي دمَّرها الله تعالى، لم تكن تزهو إلا بالعلم، ولم تكن تتعالى على الله إلا بثمرة هذا العلم المتقدِّم الصلة بعبادة الله وحده؛ قال الله تعالى:)إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( (يونس:24).
أما العلم في الإسلام فهو قوله تعالى: )أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ( (الزمر:9). ]يعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[ (الروم:7)».

هناك تعليق واحد:

المهندس محمد حسين الحاج حسن يقول...

استاذنا الكريم .....
بعد التجربة الخلاقة لقوى الاستغلال والاحتلال الغربي والشرقي لبلادنا .... الدين صانع العبودية للشعوب ، ورجال الدين مصاصي دماء الشعوب وما الحلف غير المقدس بين الامبريالية وقوى الاقطاع الديني ,,, وعودة الغرب الاستعماري لبلادنا من الابواب الواسعة بعد خروجه من الطاقات او النوافذ ...الا تأكيد على وحدة المصالح بين رجل الدين والاستعمار والتجارب امامنا : العراق مع الولي الفقيه اي نائب المهدي ،، ليبيا مع النبي ساركوزي ،، تونس ،..، مصر مع مرشدها الروحي ،، اليمن .... وسوريا قادمة على الطريق وبقية الاقطار بالخليج هم قواعد امريكية بفتاوي اسلامية؟؟؟ على اساس وحدة الرأس المال البترولي .
المهندس محمد حسين الحاج حسن بعلبك---لبنان