الخميس، فبراير 12، 2015

في مواجهة الخوف من العلمانية


في مواجهة الخوف من العلمانية

ثبات المبادئ القومية وشموليتها سر بقاء الرسالة الخالدة

تمر أقطار الوطن العربي بمحنة كبرى تهدد وحدة مجتمعاتها بالتفسخ والتفتيت، كما تهدد وحدة الدولة السياسية بالانهيار، وإذا انهارت وحدة الدولة والمجتمع ستعود الأمة إلى عصر الدويلات الطائفية التي يكفر بعضها البعض الآخر، وستتعالى متاريس التقاتل والتذابح بين تلك الدويلات تسابقاً على حيازة كرسي إمارات (الفرقة الوحيدة الناجية من النار). وفي مواجهة هذه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، كان لا بُدَّ من رفع وتيرة الصراخ من أجل وضع حد لأعاصير التدمير التي تحدثها تيارات الإسلام السياسي في بنية المجتمع العربي.

ومن المعروف أن صياغة النظرية القومية، وتأسيس الأحزاب والحركات التي تعمل من أجل تحويلها إلى عمل ميداني، جاءت بالأساس منذ أكثر من قرن من الزمن لكي تعالج إشكاليات كثيرة تركتها مظاهر الدول الدينية من جهة، ومظاهر التفتيت التي تركتها الدويلات الطائفية من جهة أخرى. ووجدت النظرية القومية أن الخلاص من تراث تلك المظاهر لإعادة الحياة لوحدة مجتمعية عربية يمر عبر نظام سياسي جديد، عنوانه المبادئ العلمانية. ففي العلمانية نقض لأكثر أمراض الأمة وعلى رأسها الطائفية. ولذلك ومن أجل علاج أمراض الطائفية كان لا بد من استخدام العلاج العلماني، وليس هناك من علاج أكثر جدارة منه حتى الآن، ومع أنها لم تكتمل حتى الآن فإن تجربة النظام القطري أثبتت طوال سني نشأتها الحديثة أنها تستطيع بناء أساس لدولة حديثة تحل مبدأ الولاء للوطن بديلاً لمبدأ الولاء للدين أو للمذهب الديني.

ولكن أكثر ما واجه، او يواجه، النظرية القومية، كانت مظاهر العداء للفكر العلماني من قبل رجال الدين والمتدينين. وهنا دخل الفكر القومي بأزمة ذاتية لا يستطيع فيها الدخول لحل مشاكل الأمة على الأسس العلمانية، والأسوأ منها أنه يخشى مواجهة الجماهير بالدعوة لتلك المبادئ والترويج لها خشية من اتهام دعاته بأنهم يروجون لفكر علماني يتسم بـ(الكفر). وخوفاً من تلك التهمة يحجم كثير من القوميين لإشهار تأييدهم لمبادئ العلمانية.

ومن أجل الإسهام في حل لهذه المشكلة جئنا بمقالنا هذا.

 

أولا: لا بُدَّ من نصرة مبدئية للفكر القومي العربي

الرسالة مجموعة من المبادئ والمُثُل، والمبادئ والمُثُل فيها من درجات الثبات ما يعصمها من الوقوع في شراك المتغيرات المرحلية. وإذا كانت المتغيرات تحتل المساحة الكبرى في مبادئ الرسالة، فيعني أن الرسالة ليست خالدة.

واستناداً إليه، كيف تكون الرسالة القومية خالدة إذا لم تكن منابع مبادئها مبنية على قواعد وأسس ثابتة؟

فللنظرية القومية التي نعرفها، وتربينا على قواعدها، أسس ومبادئ، ومن أهم تلك المبادئ أنها إنسانية شاملة. وإنسانية القومية تصبح أكثر وضوحاً عندما ترتبط بالعدالة والمساواة بين أبناء القومية الواحدة أولاً، وعندما ترتبط مع القوميات الأخرى بعيداً عن مبادئ التعصب للعرق ثانياً، وعندما تعتبر التعددية في المعتقدات الدينية حقاً من حقوق البشر ثالثاً.

وليس هناك من نظريات حديثة تصلح لتوفير العدالة والمساواة بين البشر سوى المبدأ العلماني الذي يعمل على فصل الدين عن الدولة مع الاحتفاظ بحرية الاعتقاد الروحي الماورائي للأفراد والجماعات مهما تعددت انتماءاتهم العرقية.

 

ثانياً: تهافت المخاوف التي يثيرها المبدأ العلماني؟

وأما القول بأن المبدأ العلماني يثير مخاوف المتدينين لأنه مرتبط بالإلحاد كما يروِّج له، فهذا ليس خطأً بالمتدينين وإنما هو من أخطاء الحركات القومية، أي تلك الحركات التي لا تستطيع الدفاع عنه بموضوعية. أي إذا كان هناك خوف من المبدأ العلماني فعلى القوميين أن يزيلوا أسبابه بتوضيح مبادئه ومراميه، وليس أن يتجنبوه كونه يشكل مصدر خوف عند العامة من الناس، أو عند الصفوة من رجال الدين.

إن الخوف والتخويف من المبدأ العلماني يتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم الذي يأمر بحرية الاعتقاد قائلاً:) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)، (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا * أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وإذا شاء أحدهم الكفر (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).

وإذا كان القرآن الكريم قد أجاز حرية الاعتقاد، وحصرمهمة النبي بالتبليغ فقط ومنعه من حساب الناس وإنزال العقاب بهم، لأن الحساب شأن من شؤون الله، فإن الفكر القومي لم يخرج عن ذلك، بل أجاز حرية الاعتقاد أيضاً، واعتبر أن حساب المواطنين لا يقع على عاتق الدولة، بل اعتبر أنه لا فرق بين مواطن وآخر إلاَّ بمدى قربه أو بعده عن مصالح المجتمع، وهذا مطابق لما جاء في الحديث النبوي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى).

 

ثالثاً: في العلمنة لرجل الدين حقله الذي يختلف عن حقل رجل السياسة:

وأما أسباب الخوف منه عند العامة من الناس، فلأنه يجري تخويفهم من قبل الصفوة من رجال الدين من المبدأ العلماني. ولرجال الدين مصلحة كبرى في ذلك. ففي تطبيق المبادئ العلمانية إلغاء لدور رجال الدين الدنيوي، وهذا ما يدفع بهم إلى خارج الحياة السياسية. وأما السبب في ذلك، فلأن لرجل الدين حقله، ولرجل السياسة حقله أيضاً. وإذا اختلط حقل رجل الدين بحقل السياسة فهذا يعني أن ما يفتي به رجل الدين سيكون مقدساً. وإذا تعددت فتاوى رجال الدين، على تعددية انتماءاتهم الدينية والمذهبية، فستتكاثر القرارات السياسية المقدسة. وهذا التكاثر، مستنداً إلى مفاهيم الفرقة الضالة والفرقة المنصورة، سيؤدي إلى تكفير بين هذا النهج السياسي و ذاك.

 

رابعاً: ثورية النظرية القومية انقلاب على المفاهيم السطحية الدينية وليس رضوخاً لها:

فمن أجل أن يحافظ دعاة النظرية القومية على نقائها من تأثير الثقافة الشعبية السطحية، التي تعتبر العلمانية إلحاداً، أن يحددوا بداية ما هو أساسي في قواعد العلمانية وفي أسسها ومبادئها، ومن أهم تلك الأسس والمبادئ أنها تعترف بحرية الاعتقاد الديني لكل المواطنين وتشكل حماية لهم.

ولهذا على القوميين الذين يؤمنون بأنه لا خلاص للوحدة الاجتماعية لمواطني الدولة القومية، إلاَّ بالنظام المدني العلماني، عليهم بدلاً من أن يجتنبوا الكلام عن العلمانية خوفاً، وهذا لن يحل المشكلة بل يبقيها جمراً تحت الرماد، أن يدرسوا إيجابياتها ويعمموها ثقافة شعبية. لأن من أهم رسالات القوميين أن يرفعوا الشعب إلى مستوى الثقافة الجديدة وتخليصهم من الأفكار القديمة، لا أن يسلكوا وسائل التقية، واستخدام وسائل اللف والدوران مع العامة هروباً من الاصطدام بها. والعكس من ذلك يعني أن من واجبات القوميين أن يرفعوا سقف الثقافة الشعبية لا أن ينزلقوا إلى متاهاتها، وأن يخضعوا لمجاملة الناس على حساب دورهم الثوري في التغيير، هذا مع العلم أنه لا تغيير في المجتمعات إذا لم يرافقه تغيير في الثقافة.

 

ليست هناك تعليقات: