الثلاثاء، يناير 31، 2017

مفهوم العلاقة بين العولمة والعالمية:(1/ 2)

مفهوم العلاقة بين العولمة والعالمية:
مقاربات وإشكاليات مع الثقافة الدينية
(الحلقة الأولى)
(1/ 2)
نقلاً عن كتابنا (الردة في الإسلام) الذي نشرته دار الكنوز الأدبية بيروت في العام 1999.
لمن يريد العودة إلى الهوامش فليراجع الكتاب المذكور.

لو تطلعنا من شاشة التلفزيون، أو امتطينا صهوة موجة إذاعية، أو لو حككنا أزرار الأنترنيت، أو رفعنا سماعة الهاتف، أو حجزنا مقعداً على متن طائرة تقلُّنا، بساعات، إلى أقصى مكان في المعمورة... لوجدنا أن العالم من أدناه إلى أقصاه قد أصبح بحجم قرية صغيرة... لأنه أصبح باستطاعة الإنسان، بلمسة زر، أن يُطِلَّ بسرعة على ما كان يحسبه أبعد من البعيد...
من هنا نرى من الأفضل البدء في الكلام عن العولمة -التي يرفضها البعض بالكامل، و يقبلها البعض الآخر من دون تحفظات- انطلاقاً من الاتجاهات النقدية التي تحاول أن تفهم القوانين التي تحكم العولمة، وهي تدرك سلفاً أن العولمة هي عملية تاريخية، حقاً، لكن ليس بمعنى التسليم بحتمية القيم التي تُعيد إنتاج نظام جديد للهيمنة من قبل القوى الكبرى.
نحن نرى أن أفضل الناظرين، بشكل إيجابي، إلى العولمة يقف في موقع رد الفعل وليس الفعل حقاً. فهل كُتِبَ علينا أن نُمثِّل، دائماً، دور الرادِّ على الفعل؟ فها نحن نرفض العلمانية كرد فعل ضد مظالم الاستعمار، ونرفض الديموقراطية من الزاوية ذاتها وها نحن نرفض العولمة انطلاقاً من ردود الفعل ذاتها.
إننا نجد في الواقع أن الغرب يمثَّل -بالنسبة إلينا في هذا العصر- مصدر إنتاج المبادئ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... وهي ليست غير النسخة التي يطبِّقها على أرضه وفي أوساطه الاجتماعية؛ و لن ننسى أنها قد أصابت نجاحاً في تغيير الكثير مما كان يعيق المجتمعات الغربية عن بلوغ التغيير الإيجابي من أجل تقدمه الإنساني والتكنولوجي. وقد أصابت هذه المباديء تقدماً كبيراً في بناء الإنسان الغربي بناء جديداً، وأصابت في بناء الصروح العلمية الهائلة.
بدأت تصل إلينا أولى طلائع الإنتاج الفكري السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي -التكنولوجي، منذ أوائل القرن 18م=12هـ، أي منذ قرنين من الزمن. فاصطفَّت معظم النخب الإسلامية-العربية منذ تلك اللحظة- بين رافض لها بالمطلق أو قابل بالمطلق، والقلة كانت إلى جانب الدراسة والاختيار بعد النقد الموضوعي؛ وها نحن اليوم ننكب جميعاً، قابلين أو رافضين أو ناقدين، على هذا الانتاج (الفكري والتكنولوجي) بشراهة لا مثيل لها.
منذ قرنين من الزمن -وما زلنا- نضع أنفسنا في موقع المستهدَف بالمؤامرة، ويأتي على رأس أسلحة التآمر -كما نحسب- استيراد الانتاج الفكري، الذي يصَدِّرُه الغرب إلينا. فنحن لم نستقبل ما كان يأتي ،بل رفضنا أن نستقبل، لأننا اخترنا موقع الراد على الفعل، وكل دورنا أن ندرأ المؤامرة القادمة من الغرب، لأننا نلعب دائماً دور الضحية ونحسب أن كل ما يُصَدَّر إلينا موبوء بالجراثيم التي تستهدفنا؛ فيبقى الغرب هو الجلاد دائماً ونبقى نحن الضحية إلى أجل غير معروف. فبتنا والحالة هذه في موقع الدفاع السلبي: أي أننا نمتنع عن الإنتاج من جهة، ونقاوم الإنتاج القادم إلينا من الخارج تحت ذريعة أن ما عندنا يكفي ونخاف عليه من التلُّوث. فلو كان ما نتوهَّمه صحيحاً لما كنا في هذا المستوى من التخلف والجهل.
نحن لا ننكر أن الغرب، ببعض اتجاهاته الفكرية والثقافية وبكل حركاته الاقتصادية ومشاريعه السياسية الرسمية، يعمل لتأمين مصلحته بشكل مباشر، لكننا لن نقتنع أن يكون كل ما يصل إلينا منه موبوء ومُثقَل بأوزار المؤامرة.
ألم تحلَّ العلمانية مثلاً أهم إشكالية كان الغرب يرزح تحت وطأتها قروناً عديدة؟ ألم تكن إشكالية الصراع بين الإيمان الساذج للكنيسة وبين عقل الفلسفة تربك مسيرة الحضارة في الغرب، بل وتدفعها إلى الوراء؟ لكنه لما انتصرت الفلسفة، أي كل أنواع التفكير الحر الذي لا يُقِرُّ مبدأ إلغاء التفكير الآخر بدوافع القدسية، لم تنهزم الكنيسة، والدليل على ذلك أنها حتى الآن ما زالت تلعب دوراً فاعلاً في البناء الروحي للإنسان، وتلعب دور الضمير المراقب على السلطات الزمنية. فالعلمانية «قامت لا على العداء للدين، ولا على إنكار القيم السماوية المُنزَلَة، بل قامت على معارضة الكنيسة كمؤسسة فكرية تعرقل حرية التفكير، وتلاحق العلماء وتُكفِّرهم في أقوالهم العلمية، وتحرق كتبهم…».
لما انعتق فكر العلماء والفلاسفة من إرهاب محاكم التفتيش الكنسية؛ ولما كُتِبَت السلامة لمؤلفاتهم من الحرق والمنع والتحريم؛ ولما أيقن الفيلسوف والمفكر والعالم والناقد العاقل أن رقابهم أصبحت بعيدة عن مقصلة التكفير، أخذت رقعة العلوم-سواء الإنسانية منها أم التكنولوجية- تتَّسع، فأعطت ثماراً يانعة للتقدم والحضارة الغربية أولاً، وتقدم الحضارة الإنسانية ثانياً.
يقول ول ديورانت: «إننا مدينون [في الغرب] لفلاسفة القرن18م-وربما للفلاسفة الأكثر عمقاً في القرن17م بالحرية النسبية التي ننعم بها في الفكر والكلام والعقائد… وبسببهم استطاعت ديانتنا [المسيحية] أن تتحرَّر أكثر فأكثر من الخرافة البليدة الكئيبة، واللاهوت الذي يبتهج بالتعذيب… وبسبب هؤلاء فإننا هنا الآن [في الغرب] نستطيع أن نكتب دون خوف ولا وجل، ولو مع شيء من اللوم».
أما عندنا-في المجتمع العربي والإسلامي-فما زلنا نعيش مراحل محاكم التفتيش، بشكل أو بآخر، بصورة أو بأخرى؛ وهذا بيان لمجموعة من الكُتَّاب والمثقفين والفنانين العرب صدر في العام 1989م=1409هـ، حيث عبَّروا فيه عن واقع الحال قائلين: «تواصل قوى الظلام جهادها ضد العقل والمدافعين عنه، فتحرق الكتب، وتُعدِم كل من كتب كتاباً لا يعجبها، وتبيح دم كل مثقف عرف المسؤولية، تاركة الجهل يأخذ مداه الكامل… وها هي تتحرك طليقة في الشوارع والمدن والقرى مستقوية بأعداء العقل والإنسان الذين يريدون لشعوبنا أن تظلَّ غارقة في ظلمات الجهل والخرافة».
كما هي العادة، انهالت على العلمانية -كمبدأ سياسي يفصل الدين عن الدولة، من جهة؛ وكونه آتٍ إلينا من الغرب من جهة أخرى- شتى أنواع التهم؛ فكانت، بحدها الأدنى، أنها تتنافى مع الشريعة الإسلامية وهي مُرسَلَة بمهمة تآمرية ضد الإسلام والمسلمين؛ وفي حدها الأقصى اتهام السائلين عنها والقائلين بها بأنهم كفرة مُلحِدون. أما في أحسن الأحوال فقد وُصِمَت بأنها مبدأ صالح للغرب المسيحي فقط لأن المسيحية تُقِرُّ (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، أي أن المسيحية هي دين للآخرة وليس للدنيا؛ وتتعارض العلمانية مع الإسلام لأنه دين ودنيا، فلا يمكن فيه الفصل بين الدين والسياسة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المسلمين، لم يعطوا للغرب-ولأنفسهم أيضاً-أنموذجاً فكرياً، يصلح لبناء نظام سياسي إسلامي يُحتذى به لقيادة البشر في الدنيا و يوصلهم إلى الآخرة بأمان من جهة، ونستطيع أن ننافس فيه الأفكار القادمة من الغرب من جهة ثانية. كما أنه لم يتيسر بين أيدينا-عبر التاريخ الإسلامي كله-نموذجاً لنظام سياسي إسلامي نستطيع الاتفاق على أنه كان صالحاً لقيادة المسلمين بشكل سليم أولاً، ولكي نقوم بعولمته في سبيل تصديره للغرب المسيحي فيشكِّل له تحدياً في عقر دار مبادئه التي يُصدِّرها إلينا ثانياً. كما أنه ليس بين الأنظمة الإسلامية القائمة حالياً ما يقنع قطاعاً واسعاً من المسلمين أنفسهم لكي يكون المثال المُحتذى، فكيف يمكننا إقناع الغرب المسيحي، وغيره من بلدان الشرق البوذية، مثلاً؟
حملت الدعوة الإسلامية عدداً من القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتنظيم شؤون البشر، وإن ممارسة الحكم على أساسها  -وعلى شرط أن تدعمها مرجعية إسلامية مركزية تحمل قوة إلزام كل الفرق-يُمهِّد الطريق أمام حكم عادل، بما يعني العلاقة بين الحاكم والمحكوم، «إلا أن ذلك هو من باب الحقائق الفكرية، ونعلم أن الواقع المشهود في التاريخ العربي-الإسلامي، للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، لم يقارب هذه الآفاق المثالية، إلا في فترات وجيزة… كان من باب الومضات الاستثنائية في الحقبة الطويلة من الاستهتار بالحقوق، ومن تعطيل الحريات والإبقاء على الأمية والسفاهة».
ألم يوفِّر الغرب المسيحي مئات من السنين من جهد علمائه وفلاسفته وعقلائه عندما استفاد من تجربة العقل الإسلامي-العربي وإنتاجه منذ أخذ ينقل تراثنا وإنتاج عقول علمائنا وفلاسفتنا؟
ألم تعط مباديء الديموقراطية للشعوب الغربية المسيحية وغيرها فسحة واسعة لنقد ما لا يصلح لها من قوانين وأنظمة حكم؟ ألم تُصبِح الشعوب الغربية سيدة نفسها وسيدة أنظمتها السياسية بفعل تلك المبادئ؟
أما نحن، وحينما ابتدأ الغرب ينتج فكراً متطوراً متقدماً مستفيداً من تراثنا وإنتاجنا، ثم أخذ يُصدِّرُه إلينا أو كنا نحن نسافر إليه لاستيراد إنتاجه، فقد أخذتنا ردات الفعل المتباينة: بين قابل ورافض و ناقد وكانت مسألة المبدأ الديموقراطي من أهم تلك المبادئ التي أثارت اهتمامنا وأكثرت موجات الجدل من حولها؛ وهو كنموذج حي يمكن أن يشكِّل أبرز ما سنعمل على دراسته كحالة من حالات التفاعل الاجتماعى والفكري دار الجدل من حولها في أوساط أمتنا.
كان الأكثر مرونة بين الإسلاميين هو الذي أقرَّ بهذا المبدأ لكن على أساس أنه ليس ابتكاراً مسيحياً غربياً، بل إن الشريعة الإسلامية هي التي كان لها قصب السبق في وضعه، ويستند هذا الفريق إلى أن مبدأ الشورى في الإسلام هو القاعدة المبدئية للديموقراطية. وإذا كان الكلام صحيحاً-كما يحسب قائلوه-فلماذا نأخذ، إذن، عن الغرب مبادئ كنا نحن واضعوها؟ فهل من الصحة بمكان أن الإسلام قد وضع أسس المبادئ الديموقراطية؟
نحن نحسب أن هذا الرد ليس أكثر من رد فعل ساقه قائلوه كمبرر للامتناع عن أخذ ما ليس ذا أصول عقيدية إسلامية. وسنرى، لاحقاً، عدم صحة تأويل من تأَوَّل أن الشورى في الإسلام هي مبدأ موازٍ للمبدأ الديموقراطي. أو على الأقل لم يُجمِع الإسلاميون على صحة هذا التأويل.
كانت الردود، حين استقبال المبادئ الديموقراطية، ذات الأصول الغربية، متباينة ومتباعدة. كانت ردود فعل من حملوا سلاح النص الديني الأكثر تناقضاً؛ فهي قد تراوحت بين من يزاوج بين الشورى الإسلامية والديموقراطية الغربية استناداً إلى نصوص دينية إسلامية، وبين من يُكَفِّرُ القائلين بالديموقراطية مستندين في تكفيرهم إلى نصوص دينية إسلامية أيضاً.
وتأتي العولمة أخيراً وليس آخراً لتستفزَّنا، فنقف، كما جرت العادة في صف الرَّاد للفعل، وليس مُنتِجُه… فهل لم نعد نملك سوى ردود الأفعال؛ وهل لم يبق لدينا إلا أن نُصاب بوهم المؤامرة ضد واقع حضاري ندَّعي أننا نتملكـه؟ إن المؤامرة كما نحسب ليست موجَّهة ضد حضارة نمتلكها، لأننا اليوم لا نمتلك إلا التخلف والجهل؛ لكننا نملك كنوزاً مادية لا نستطيع استثمارها بسبب هذا التخلف؛ ونحن أيضاً نُعدُّ سوقاً استهلاكياً واسعاً لا يشبع، ويأكل مما لا ينتج؛ فالغرب يمتلك العلم الذي يؤهله لاستثمار كنوزنا ويعيد إنتاجها ويبيعنا إنتاجه فيربح على وجهين: وجه نهب كنوزنا، ووجه بيعها لنا ثانية. فالمؤامرة بهذا المعنى ليست ضد حضارتنا في هذا العصر لأنه ليست لدينا حضارة، بل المؤامرة هي لإبقائنا هكذا من دون حضارة، لكي نبقى عاجزين عن الاستفادة مباشرة من ثرواتنا أولاً، وإعادة إنتاج السلع الضرورية منها ثانياً.
إن هاجس المؤامرة يسكن عقلنا وخطابنا اليومي؛ وإننا نعترف بوجود المؤامرة، لكننا ضيَّعنا اتجاهاتها، فعلينا أن نصحح هذه الاتجاهات أولاً، ونعمل مستفيدين من الحضارة الغربية، لأننا لن نجد خياراً آخر، في سبيل بناء أرضية حوارية جادَّة تجعلنا نقبل الحوار الموضوعي مع الفكر الآخر فنأخذ منه ما يساعدنا على بناء قوة حضارية ذاتية مبنية على التطور السياسي-الاجتماعي-التكنولوجي، مما يصل بنا إلى مستوى الإسهام الفعلي في تقدم الحضارة العالمية الحديثة. وهنا لا بُدَّ من التمييز بين العالمية والعولمة:
عالم: جمعها عوالم، ويشتق منه فعل (عَولَمَ)، والاسم منه (عولمة). وفكرة العالم هي إنسانية وكونية، «فإذا مُـثِّلَ العالم فإنما يُمَـثَّلُ لإنسان كأقرب ما يكون منه، وأبعد ما يكون عنه في وقت واحد».
كل قيمة عليا هي إنسانية/ عالمية… ولكي يكتسب أي مبدأ سياسي، اجتماعي، أو اقتصادي… صفة الإنسانية/ العالمية لا بُدَّ له من أن يُنشَرَ في خارج الدائرة التي نبت فيها إلى الدائرة الأقرب مباشرة، فالأبعد…حتى يَعِمَّ كل بقعة في العالم البشري؛ وهكذا يُسبَغُ على هذه القيمة صفة العالمية، ويصبح فعل نشرها «عولمة». فالعولمة هي العمل على تصدير القيمة/ المبدأ إلى العالم الأبعد، فإذا انتشر وقُبِل اكتسب صفة العالمية.
فالعالمية هي صفة لكل قيمة عليا، والقيم العليا مفطورة عند كل إنسان بالقوَّة، وتصبح قيمة بالفعل، جليَّةً واضحةً، كلما بدأ الصراع بين القيمة ونقيضها في سبيل القضاء على النقيض. فهل يمكن لعالمية القيم أن تتحقق؟
يمكن أن تكتسب المبادئ والقيم صفة الشمولية في القبول النظري، لكنها قد لا تكتسب صفتها الشاملة في التطبيق لأكثر من سبب. أما إذا حققت شموليتها في التطبيق، فهذا حلم أصبح حقيقة، وهذا يُعَدُّ إنجازاً جميلاً و رائعاً. لكن الواقع الإنساني شيء آخر، من حيث اختلاف مستوى المجتمعات في الثقافة والوعي…
ولكي لا نسبح في محيط الأمل اللا واقعي، أو نغرق في لُجَّة اليأس القاتم، يكفينا العمل في سبيل تأسيس قيم إنسانية - عالمية مقبولة على الصعيد النظري الذي يحمل إمكانية التطبيق؛ ومن ثم العمل على مقاربة هذه القيم من واقع التعدديات الثقافية والدينية بين المجتمعات شيئاً فشيئاً عن طريق الحوار القابل للتعديل والتطوير وليس عن طريق الوهم بتحقيق ذلك عن طريق القسر والإكراه.
تُعَدُّ العالمية صفة من صفات الأديان السماوية، بشكل خاص، ويندرج عدد من القيم الإسلامية في دائرة العالمية. فأين يقع الإسلام في العالم المعاصر؟ وأين يمكن مقاربة بعض ما يُعَدُّ أنه قيم إسلامية عليا مع التعدديات الدينية والثقافية في هذا العالم؟
عمل الغرب، ويعمل-بحسه المادي (الربح والخسارة)-على تصدير السلع الاستهلاكية؛ ويعمل على تسويق هذه السلعة بواسطة ثقافة اقتصادية هدفها الأول فن الترويج للسلعة؛ ويستخدم، إلى جانب ذلك، قواه العسكرية، طامساً ما أنتج وصدَّر من حضارة فكرية ذات أبعادٍ إنسانية. فحصل من جراء ذلك التباس شديد في مفهوم العولمة.
استنبط الغرب - التاجر أسلوباً اقتصادياً قائماً على ثقافة إعلانية تدعمها وسائل الإعلام المتعددة الوجوه والأغراض. واستدعى هذا الأسلوب في سبيل إنجاحه عولمة لمفاهيم سياسية/ اجتماعية/ اقتصادية تصبُّ في دائرة ثقافة الاستهلاك السُلَعي، فيؤسس بهذا ثقافة للمستهلك كتابع للمنتج كل همه أن يلاحق السلعة الأفضل من خلال الدعاية والإعلان…وليس من همٍّ لثقافة الاستهلاك غير أن تكون جذَّابة في الشكل، جاذبة للمستهلك بسهولة. فيَعِدّ نفسه بسلعة تُيسِّر له الرفاهية والراحة فيصبح مستهلكاً مُترَفاً أكثر منه راغب في ثقافة الإنتاج.
من هنا كانت العولمة، التي نأنف منها، فعل تصدير اقتصادي يستخدم عدداً من مبادئ السياسة والاجتماع لأغراض الربح التجاري. ولكننا يجب أن نُزِيلَ الالتباس الحاصل بين العولمة -بمفهومها الاقتصادي الاحتكاري الاستعماري- وبين العولمة بمفهومها الفكري العالمي/ الإنساني.
إن في العولمة، كما نحسب،  فعلاً إيجابياً، أيضاً. ويمكنها أن تكون كذلك إذا كانت فعل تصدير للقيم الإنسانية العالمية الفاضلة.
-فالمسيحية، منذ أن نشأت على أرض فلسطين، عملت على عولمة مبادئها وتعاليمها، فوصلت إلى أوروبا، ثم انتشرت في أصقاع الأرض.
-والإسلام، منذ نشأته في الجزيرة العربية، عمل في سبيل عولمة مبادئه وتعاليمه، فوصل إلى الصين شرقاً وجنوب أوروبا غرباً.
-وكل فلسفة قديمة كانت أم حديثة، منذ سقراط وحتى الآن، كانت تتعولم بطريقة أو بأخرى: تعولم أرسطو في الشرق الإسلامي، ثم انتقل إلى الغرب المسيحي بوسائط عربية إسلامية. وعولمت الفلسفة الأوروبية نفسها فانتشرت من أدنى الكرة الأرضية إلى أقصاها، ولاقت صدىً واسعاً في الشرق العربي-الإسلامي منذ قرنين من الزمن.
-ومنذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة، في العام1945م=1364هـ، بفعل التقاء شعوب العالم بأدوات حكومية- في اجتماعات دورية؛ وبفعل انفتاح شعوب العالم على بعضها البعض -بفعل التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات- وُلِدَت مجموعة من المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما أبرز إلى الواجهة حاجة المجتمع الدولي لتوحيد المفاهيم حول هذه المصالح… فنشأت الحاجة إلى عولمة القوانين التي تضمن توحيد الرؤى السياسية والفكرية في أكثر من حقل يطمئن فيه المرء -أياً كانت جنسيته أو دينه أو اتجاهاته الثقافية والسياسية- على حريته وحياته وحقوقه أينما انتقل في أرجاء هذا العالم الفسيح.
ولأن البحث واسع جداً، ولأن طبيعة بحثنا محدودة تحديداً منهجياً، حول مسألة الردة عن الدين، فلا يمكننا إلا أن نُطِلَّ فقط على ما يمس جوهر هذا البحث ويخدمه من خلال ما اصطُلِحَ على تسميته بـ«حقوق الإنسان».
ليست من السهولة صياغة تعريف دقيق للعولمة، نظراً إلى تعدد تعريفاتها، والتي تتأثر أساساً بانحيازات الباحثين الأيديولوجية، واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً وقبولاً. كما أن هناك تنوُّع ضخم في الظواهر التي تتعلق ببحث مفهوم العولمة: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الأيديولوجيا….
وفي سبيل الاقتراب من صياغة تعريفات للعولمة لا بد من الاستناد إلى عمليات ثلاث تكشف عن جوهرها: «العملية الأولى تتعلق بانتشار العولمة بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس. والعملية الثانية تتعلق بتذويب الحدود بين الدول. والعملية الثالثة هي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات…».
لقد جرت أول محاولة لعولمة قانون موحَّد لحقوق الإنسان، منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في العام 1948م=1367هـ، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان الإعلان المذكور منطلقاً لإصدار ثلاثة صكوك تضفي عليه القوة القانونية، وهي: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العام 1966م =1386هـ. والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في العام ذاته. ثم صدر البروتوكول الاختياري. وفي العام 1979م=1399هـ صدرت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
للإعلان العالمي سلطان معنوي. أما العهدان فهما معاهدتان مُلزِمتان للدول التي تصدِّقهما بتوقيعها.
أثار الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة شتى الهيئات في الشرق العربي-الإسلامي، ودفعها في أعقاب الحرب العالمية الثانيةإ لى إصدار أكثر من خمسة عشر مشروعاً، ترجع المبادرة في صياغة معظمها إلى هيئات علمية من الجامعيين والدارسين ورجال الحقوق، وإلى بعض المنظمات الإقليمية: مثل رابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، وإلى بعض الرابطات الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان.
يشترك معظم هذه المشاريع بطابع الخصوصية المرجعية التي تمتاز بها عن النصوص الأممية، إلا أن بينها ميادين تطابق عديدة. وما يُميِّز هذه المشاريع عن النصوص الإسلامية فارق جوهري، بحيث تمتاز النصوص الإسلامية في منعها حق الارتداد. وإن ما يُميِّز المواثيق الدولية أنها تنطلق من مبدأ النظام الطبيعي، وتنظر إلى الإنسان في واقعه الإنساني، وفي حاجياته المادية… بينما المواثيق الإسلامية تنظر إلى الإنسان بشمولية ذاته، وتنظر إليه من جانب احتياجاته المادية والروحانية. ففيها تُعَدُّ الحقوق مِنَّةً ربانيَّة، والحريات تخويلاً إلهيا….
جاءت المواثيق الدولية لتسبغ على عدد من القوانين -التي لها علاقة بحقوق الإنسان- صفة العالمية؛ وصِيغَت في سبيل ذلك- آليات تضمن التزام الناس بها.
وعلى العموم، علينا أن نأخذ بالحسبان أن هيئة الأمم المتحدة تُشكِّل إطاراً دولياً عالمياً يُمثِّل أوسع تمثيل شتى الاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم؛ ويأتي على رأس هذه الاتجاهات -والتي هي ميدان بحثنا- مسألة التعددية الدينية وما تؤمن به من مبادئ تتناول حقوق الإنسان.
فعلى أية اتفاقية دولية لها علاقة بحقوق الإنسان أن تراعي القواسم المشتركة والاتجاهات المختلَف حولها لشتى أديان البشر على الكرة الأرضية، آخذة بعين الاهتمام القيم الإنسانية العامة. وإنه إذا تضمَّنَت هذه الاتفاقيات والعهود خصوصيات كل دين، ولكل دين نصوصه المقدَّسة، لامتنعت الصفة العالمية عنها… ولأصبح من المستحيل عولمتها/ أنسنتها. فهل العولمة تتحقق في ظل تعددية النصوص المقدَّسة؟
لو كانت عولمة النصوص المقدَّسة ممكنة لقام كل دين، في شتى أصقاع الأرض، بعولمة قِيَمِه وخصوصياته. وما ينطبق في مثل هذه الحال- على الأديان السماوية يصح، أيضاَ، على الأديان الرئيسة الأخرى، وعدد منتسبي بعضها لا يقلُّ عن عدد منتسبي الأديان السماوية بل يفوقها عدداً.
فعلى الرغم من كل ما يُشغِل عقول الباحثين والمفكرين من هواجس موضوعية حول ما يجري في عالمنا المعاصر، ويأتي على رأسها محاولات الدول الرأسمالية الكبرى، التي تُسخِّر كل القيم الثقافية في سبيل تسويق بضائعها المادية، فإنه يمكن لهؤلاء الباحثين والمفكرين، أن يُميِّزوا بين العولمة الإيجابية -ذات الطابع الإنساني التي تعمل لتصدير القِيَم الإنسانية، وبين العولمة السلبية ذات الأهداف التسويقية التجارية الاحتكارية.
قد تدفع المفكرين والباحثين، إلى تغليب جانب السلبية في تقييمهم مسألة العولمة، هي تلك التجربة التي تكون قد دلَّت «على أن الدول المشاركة في العضوية في منظمة الأمم المتحدة، لا تتساوى بينها في قابلية العمل بمواثيق المنظمة، وليست على درجة واحدة في نوعية القوانين الحاكمة، ولا في شمول الوعي السياسي، وفي مراتب انتشار التعليم، وتقلُّص الأمية؛ بالإضافة إلى ما بينها غالباً- من التفاوت في الموارد الطبيعية والمالية، ومن القدرة على تسخير الوسائل الكافية لنشر التعليم وحفظ الصحة، ولتوفير فرص العمل، ولضمان الحق في السكن وضمان الأسرة، إلى غير ذلك من الواجبات المُيسَّرَة لتمتع المواطن بحقوقه.
إن وجود فوارق في مستويات الاقتصاد والتقدم الاجتماعي والثقافي ليس مبرراً كافياً للوقوف سلباً في وجه العمل لنشر قيمة من القيم الإنسانية وتعميمها. فالاعتراف بحقوق الإنسان -كقيمة عليا- هي مسألة نظرية، فإما أن تؤيدها أو أن ترفضها لحسن أو لقبح عقلي فيها فهذه مسألة منطقية. أما أن ترفضها لصعوبة تطبيقها في مجتمع لا يمتلك شروط تطبيقها فهذه مسألة مختلفة جداً، ويكون الأمر مُستَغرباً جداً.
إن الخلاف غالباً حول العولمة، التي لها علاقة بحقوق الإنسان، لا تدور بين تحسين أو تقبيح عقلي وعملي؛ فمواطن الخلاف هي غير ذلك تماماً؛ فمحاسن حقوق الإنسان -عقلياً ونظرياً- هي أمر ليس موضوع خلاف، وإنما الخلاف يدور حول مضامين هذه الحقوق. فكيف يحصل هذا؟
في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا البحث، سنحاول أن نجيب عن السؤال بالكلام عن إمكانية مقاربة النص الإسلامي مع نصوص العولمة، تحت العنوان التالي:

(إشكالية مقاربـة النص الديني مع انتشار العولمـة/ الأنسنـة)

ليست هناك تعليقات: