الخميس، مارس 30، 2017

المفهوم العلماني في منظور الحركات الإسلامية

دراسة عن المسألتين الديموقراطية والعلمانية
(الحلقة الخامسة)
رابعاً: المفهوم العلماني في منظور الحركات الإسلامية

مدخل إلى ردود فعل الإصلاحيين في الحركة الإسلامية:
عجز النظام السياسي الإسلامي طوال مرحلة حكمه للدولة الإسلامية عن توفير مبدأي العدل والمساواة بين رعايا الدولة على المستويين الطبقي والإثني الديني والإثني المذهبي، ويشمل ذلك أول تجربة لهذا النظام بعد وفاة الرسول وصولاً إلى آخر حلقاته في العهد العثماني. ومن أجل الدخول في نقد آراء الفقهاء المسلمين في العصر الذي دخل فيه العالم عصر الدولة المدنية الحديثة، كان لا بُدَّ من أن نلقي نظرة على ما هو المقصود من مبدأيْ العدل والمساواة، ليشكل المدخل الرئيسي لحركة العلماء المسلمين الإصلاحية.
إن العدل والمساواة مبدآن قديمان لأنهما يعبِّران عن قيمة إنسانية عليا في أي نظام حياتي يخضع له البشر. ولم تأت الثقافات الجديدة بتعريفات لهما تُعَدُّ قفزة نوعية في تاريخ الفكر الإنساني. لكن ما يكسبهما أهمية في سياق بحثنا هذا، هو أنه منذ تأسست الدولة الإسلامية وحتى انتهاء آخر مظاهرها، الامبراطورية العثمانية، كانا يكتسبان مفهومين نسبيين. فما كان يبدو عدلاً ومساواة في داخل طبقة من المسلمين لم يكن كذلك عند طبقة أخرى. وما كان يبدو عدلاً ومساواة بين المسلمين لم يكن يعني ذلك عند أصحاب الديانات الأخرى. وما كان يبدو عدلاً عند أصحاب المذهب الحاكم كان ظلماً عند أصحاب المذاهب الأخرى. ومن هنا تبدأ الإشكالية الحقيقية، لماذا ؟
وأما على الصعيد الطبقي فيدافع الأغنياء عما وصلوا إليه من ثروات بالنص القرآني التالي: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (البقرة: من الآية212).
وأما على صعيد التمييز بين المذاهب فكانت هوية الحكم المذهبي تسمح بتطبيق فقه المذهب الذي يعتنقه، وهذا ما يُخوِّله بإغداق الامتيازات على فقهاء المذهب ونخبه الاقتصادية. وفي كثير من الأحيان كان الظلم والتمييز يلحق بالمذاهب الأخرى. وبالعودة إلى تاريخ الصراع على الخلافة بدءاً من الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية والدولة الفاطمية، وكذلك بين الدولتين الصفوية والعثمانية، مليئة بالشواهد المأساوية عن هذا الجانب.
وأما على صعيد التمييز بين الأديان فيظهر بصورة مبدأ «أهل الذمة» الذي يعطي الامتيازات للمسلمين على حساب النصارى واليهود. فإنما يعتقد المسلمون بعدالة هذا المبدأ استناداً إلى نصوص القرآن الكريم؛ لكن في المقابل ينفي الكتابيون عدالته، لأنهم كفئة من مواطني الدولة، غير مشمولين بعدالته. ويؤيد هذا ما جاء في سورة التوبة من النص القرآني: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31).
ولهذا في ظل الدولة الدينية، فإن ما يعدُّ مبدأ عادلاً عند فئة من المواطنين لن يكون بالضرورة عادلاً بالنسبة لفئة أخرى؛ فمبدآ العدل والمساواة عند المسلمين وفي دولة إسلامية، هو غيره عند المسيحيين أو اليهود أو غيرهم من الأديان الأخرى. وإذا كانت الدولة الإسلامية تميز المسيحيين واليهود بأنهم أصحاب كتاب سماوي فإن ما عداهم يُعتبرون من الكفار. لكل هذا تولَّدت إشكاليات متتالية برز التناقض فيها بحدة عندما شعر المسيحي بالقوة التي تسانده في موقفه الرافض لمبدأ «الذمية»، بعد أن كانت كالجمر المستكين تحت الرماد، طوال ثلاثة عشر قرناً ونيف، كانت فيه الدولة الإسلامية قادرة على لجم المعترضين على مبدأي العدل والمساواة المطبَّقين على رعاياها من غير المسلمين.
في الوقت الذي كان فيه المسيحيون العرب غير قادرين على تجاوز الإشكالية، وجد بعض المسيحيين اللبنانيين مخرجاً حينما اتجهوا نحو الدعوة إلى مبدأ القومية العلمانية، الذي سبق وأن وجد فيه الغرب حلاً لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة. وحينئذٍ خضع مبدآ العدل والمساواة، لمعايير أخرى تقوم على مبدأ ضمان الحقوق السياسية لجميع المواطنين من دون تمييز بين طبقة وأخرى، ودين وآخر.

المؤثرات الفكرية-السياسية الغربية، ثورة فصلت بين الديني والسياسي
كانت الطفرة الحضارية في أوروبا، في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد وصلت إلى أقصى آمادها، من بعد أن بدت الصورة أمام الأوروبيين، في خلال القرون الوسطى، واضحة في أن الطغيان الديني على السياسي كان عاملاً مؤثراً بين التخلف والتقدم. فلذلك استطاع الفكر الأوروبي أن يحقق فصلاً بين الديني والسياسي.
دفعت هذه النتيجة بالقوميين، تحديداً، إلى الدعوة للفصل بين الديني والدولة؛ ولئن ظهرت بدايةً تحت شعار  «الدين لله والوطن للجميع»، إلاَّ أنها اكتسبت مضامينها العلمية بعد أن أخذت تناقش مبادئ سياسية، مثل: الديموقراطية والعلمانية والاشتراكية والقومية، وهي المبادئ ذاتها التي انخرط الإسلاميون السلفيون والإصلاحيون في مناقشتها وتحديد المواقف منها.
لم يستطيع العلماء المسلمون الإصلاحيون، إنكار مدى عمق التخلف والعجز الذي عانى منه المسلمون والعرب من النظام السياسي والاقتصادي للامبراطورية العثمانية، فكانت دعواتهم متأثرة برياح الفكر السياسي الأوروبي، وقائمة على إصلاح هذا النظام. ولذا فقد قاموا بالدعوة إلى إصلاح ذلك النظام بتزويج مسألتين: العودة إلى أصول الإسلام والسلف الصالح من جهة، والاستفادة من القفزة الحضارية العلمية للغرب من جهة أخرى.
ليست المشكلة محصورة في حل إشكالية المساواة في الحقوق السياسية بين المسلمين والمسيحيين فحسب، وإنما ستظهر أيضاً إذا استقرأنا تاريخ العلاقات المذهبية بين الفرق والمذاهب الإسلامية. ومن خلال هذا الاستقراء سنرى  أكثر من محطة حُرِم فيها مذهب أو أكثر ليس من حقوقه السياسية فقط، وإنما حُرِم من ممارسة حقوقه الفقهية أيضاً.
ب- العلمانية نتاج فكري غربي أسقطت مهمة التشريعات الدينية لصالح التشريعات المدنية: فالعلمانية وليدة للصراع الطويل والشديد بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا، جاءت كجملة من التدابير النظامية والقانونية، «استهدفت فك الاشتباك بين السلطتين، باعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة، بما يضمن حياد هذه تجاه الدين، أي دين، ويضمن حرية الرأي الفكري والعقيدة الدينية، ويمنع رجال الدين عن إعطاء آرائهم واجتهاداتهم صفة مقدسة باسم الدين، ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة»([1]).
فالعلمانية فصلت بين الممارسة الدينية، التي عدّتها ممارسة شخصية، والممارسة السياسية التي نظرت إليها كممارسة اجتماعية، ورفضت معاملة المواطن من خلال انتمائه لطائفة معينة، لكن دون أن تعادي الإيمان الديني أو تنادي بالإلحاد([2]). فالعلمانية كفكر سياسي غربي، كانت له انعكاساته على شتى التيارات النخبوية العربية والإسلامية، فكيف كانت هذه الانعكاسات؟ لنسرد بعض النماذج:
في بداية انعكاس تأثير الفكر القومي على العرب، منذ أواسط القرن 18، أخذت تبرز إلى العلن مناهج تنويرية في الفكر الإسلامي، تعمل على لِّم الشمل الإسلامي، متحصنة بالمسألة القومية، في سبيل مواجهة الغزو الغربي الجديد.
-جمال الدين الأفغاني:
كان جمال الدين الأفغاني رائداً لهذه الدعوة (1255-315 1هـ/1839-1897م)  الذي أكَّد أن التعصب بنسبته إلى العصبية، هو عقد الربط في كل أمة، يلِمُّ شملها، ويوحدها بالدفاع عن نفسها. وكون التعصب-بحسب الأفغاني- له حد اعتدال وطرفا إفراط و تفريط، فاعتداله هو المطلوب. وينبعث عن التعصب قوة لدفع الغائلات عن الأمة، لا يختلف شأنه إذا كان مرجعه ديني أو جنسي، فإذا طغى الإفراط والمغالاة على التعصب الديني أو الجنسي يتحول إلى ظلم وجور. فتحت وطأة الضغط الفكري- النفسي للغرب، نفر بعض العرب المسلمين من العصبية الدينية لكي يستبدل بها رابطة الجنس، فقدَّم الأولى ولم يكن قد بنى الثانية. لكن إذا كانت العصبية الدينية ضرورية لكان على المسلمين أن يرعوها بالعدل، ويأتي ذلك بحفظ الحقوق لأربابها وإحكام الألفة في المنافع الوطنية بين  المسلمين و بين أبناء أوطانهم من الأديان المختلفة، لأن المصالح مشتركة ومتبادلة ([3]) .

-أبو المعالي أبو الفتوح:
رجَّح البعض «الولاء للإسلام وليس لشيء آخر. فأساس الرابطة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، هي الولاء للإسلام، وليس لقومية أو وطن أو أسرة... وليس معنى ذلك أن ولاء الإنسان لقومه أو حبه لهم، أمر يمقته الإسلام، ولكن إذا تعارض ذلك الولاء مع إقامة أحكام الدين، فعلى المسلم أن يكون ولاؤه لدينه ولربه»([4]). ويرى دعاته: «أن تعميق دعوة القومية ما وُجِدَ أساساً إلا للقضاء على وحدة المسلمين»([5]).
-الدكتور محمد عمارة:
- هناك من يرى أنه لا تعارض بين الإسلام والقومية، فهو يحسب أن «التوحيد الذي حققه الإسلام للجماعة العربية الأولى كان ذا طابع قومي، ومتسماً بملامح عربية واضحة... والقرآن الكريم يذكر القوم الذين وحَّد الدين الجديد بينهم، وضمَّ صفوفهم، وألَّف بين قلوبهم، يذكِّرهم بحالهم يوم أن كانوا قبائل وشيعاً يتنازعها ويستبد بها سلطان الفرس والروم ونفوذهم»([6]).
تصب هاتان الرؤيتان  في منهج الموقع الوسط، الذي يحاول التوفيق بين الإسلام والعروبة، لكن على أن تكون القيادة فيها للإسلام كعقيدة روحية وسياسية. فالإسلام كأساس يتفاعل مع الحضارات الإنسانية، ومع التعددية الدينية لأهل الكتاب بالعدل، تربطهم مع مواطنيهم المسلمين علاقات الود والمصلحة والجنس.

-الشيخ محمد مهدي شمس الدين:

يرى بعض علماء الدين المسلمين أن العلمانية هي بدعة استخدمها الاستعمار في معركة شرسة ضد الإسلام فغزت «مؤسسات التعليم والثقافة من جهة، فأحكمت سيطرتها عليها، وتسللت إلى مؤسسات التشريع والقضاء من جهة أخرى». ولهذا يعتقد محمد مهدي شمس الدين  «أن الإسلام يوجد فيه نظام حياتي كامل لا يترك مجالاً لأي نظام آخر، ولا يدع منفذاً للشعور بالحاجة إلى تنظيم جانب من جوانب الحياة، لأن الشريعة الإسلامية، بقواعدها الكلية العامة وبالفقه الذي بني على أصليها الكبيرين (الكتاب والسُنَّة)، شاملة مستوعبة لكل ما تقضي به سنة الحياة إلى نظم وأحكام»([7]).


مرتضى المطهري:
أصبحت مسألة تضخيم الذات عقيدة ثابتة عند معظم العلماء، فيقول مرتضى مطهري مثلاً: إننا  «نملك تراثاً فكرياً ضخماً وغنياً وأننا لسنا بحاجة إلى أي مصدر آخر للفكر...»([8])!!!

-الشيخ القرضاوي:
فالمسيحية، كما يحسب القرضاوي، تقبل قسمة الحياة بين الله وبين قيصر، وهي تعترف أيضاً بثنائية الحياة كما جاء في قول السيد المسيح «أعط لقيصر ما لقيصر وما لله لله»، فتاريخ الفكر الغربي «لم يعرف الله الذي نعرفه نحن (المسلمون)، محيطاً بكل شيء، مدبراً لكل أمر، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب من علمه ذرة... (إنما) إله الفكر الغربي إله آخر، مثل إله أرسطو، الذي لا يعلم شيئاً غير ذاته، ولا يدري عما في الكون شيئاً، ولا يدبِّر فيه أمراً، ولا يحرك ساكناً».
ويستطرد قائلاً، بأنه ليس في المسيحية تشريع لشؤون الحياة: إنما روحانيات وأخلاقيات، أما الإسلام فهو عقيدة وشريعة ، فالمسيحي إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيراً، ولا قليلاً لأنه لا يعطل قانوناً فرضه عليه دينه، ولا يشعر بالتناقض بين عقيدته وواقعه.
ففي المسيحية سلطتان: دينية ويمثلها البابا، ودنيوية يمثلها الملك أو رئيس الجمهورية، أما في الإسلام فإذا فصلت السلطتان يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده. وتاريخ الكنيسة غير تاريخ الإسلام: فتاريخ الكنيسة، مع العلم والفكر والحرية، تاريخ مخيف، مشهور بالاضطهاد والقتل ومحاكم التفتيش..
وبعد أن يعدد القرضاوي  هذه المطاعن يتساءل: «فهل الإسلام كان كذلك ؟ وهل يمكن أن يؤاخذ بمثل ذلك ؟ ليجيب: "إن وقائع التاريخ وحقائق الإسلام تجيب بالنفي».
فمن أجل هذا لا يتصور القرضاوي للعلمانية أن تنجح في بلد إسلامي، لأنها مناقضة لطبيعة الإسلام، الذي تدين به الشعوب المسلمة، ومناقضة لمضامينه وسلوكه وتاريخه، ولا يوجد أي مبرر لقيامها، كما وجد ذلك في الغرب النصراني([9]).
لكن على الرغم من ذلك، فإن وقائع التاريخ الإسلامي لم تجب بالنفي على وجود مطاعن، كما يحسب القرضاوي، مثلاً، لأن هذا التاريخ شهد عدداً من محطات الصراع الدموية بين السلطة السياسية- الدينية الإسلامية وخصومها من أتباع مذاهب أخرى غير مذهب السلطة، بلغـت  حدودها  حدود  الثأر و الانتقام، و هنا «نلاحظ الآثار  السلبية والمؤذية لحرية الفكر من جراء الانحياز الذي تبديه الدولة لمذهب ديني معين»([10]).
لكن إذا كان حل إشكالية العدل والمساواة، بين المسلمين والمسيحيين، أو في داخل دولة تتعدد فيها المذاهب الدينية، للمحافظة على وحدتها السياسية، يكمن في المبدأ القومي العلماني، فإن تيار الإصلاحيين المسلمين، وعلى الرغم من دعوتهم إلى التآزر والوحدة بين أبناء الوطن الواحد، وعلى الرغم من أن بعضهم يعتقد بأن الإسلام لا يضيق صدره بالوطنية أو القومية إلاَّ أن ذلك مشروط، كما يحسب الشيخ يوسف القرضاوي، بأن لا يتضمنا محتوى يعادي الإسلام أو «ينافيه كالإلحاد أو العلمانية...»([11]).
وإذا كان الإلحاد ينافي قيم الإسلام، فإنه أيضاً ينافي قيم المسيحية، لذلك فهو مرفوض لأنه ينافي قيم العلمانية أيضاً وأيضاً. فالعلمانية تحترم المعتقدات الدينية لكل الأديان لأن الأنظمة المدنية التي تستنير بالعلمانية تتعهد باحترام كل المعتقدات الدينية. وأما لماذا تنافي العلمانية الإسلام، كما يحسب القرضاوي، فهذا أمر مستغرب. وهنا نتساءل: إذا كانت مقاييس الإسلاميين على هذا المنوال فهذا يعني أن المسيحية فيها ما يتناقض مع الإسلام، وفي الإسلام هناك ما يتناقض مع المسيحية. وبناء عليه تبقى الحركات الإسلامية رافضة ليس للعلمانية فحسب، بل هي ترفض حق الأديان الأخرى في ممارسة معتقداتها بحرية. ولهذا علينا أن نلقي نظرة على الكيفية التي نادى بها الغربيون بالمبدأ العلماني وعملوا على تطبيقه في أنظمتهم السياسية.
وإن ما يطرحه أنصار هذا التيار من إبراز لإيجابيات لا طائل تحتها، ونفيهم لوجود سلبيات، ليس إلاَّ تضخيم غير مبرر للذات، وهو يلعب دوره الكبير والمؤثر في تعميق حالة الاغتراب التي قد يعيشها المسلم العربي، تقوده إلى الخوف من الاستفادة من أي جانب من جوانب الحياة الحضارية الإنسانية، على مستوى الفكر والعلم.

-أحمد شوقي الفنجري:
تبقى الحقوق السياسية لغير المسلمين منقوصة في ظل نظام سياسي إسلامي، حتى إن أقصى ما يمكن الاعتراف لهم به لا يرتقى إلى درجة تحقيق المساواة العادلة على الإطلاق؛ وما يقوله إسلامي معتدل لهو خير دليل؛ فهو يقول: إن «أهل الذمة»  أو الأقليات غير المسلمة في دولة الإسلام لها حقوق المسلمين نفسها: مساواة في حق العمل... مساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، ولهم أيضاً حق الانتخاب والترشيح لكل مجالس الدولة، وكل هيئات الإدارة والحكم. ولهم أن تكون منهم نسبة من الوزراء تتناسب مع عددهم. «ولكن ليس لهم حق رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء»([12]).
ما ذكرنا من بعض أقوال الفقهاء أو الباحثين الإسلاميين، ممن نعدهم من المعتدلين، فإن هناك الكثيرين ممن لا يقبلون من المسلمين وغيرهم إلاَّ التقيد التام والصارم بتشريعات الإسلام في الدنيا والآخرة، تحت طائلة الحساب ليس في الآخرة فحسب، وإنما في الدنيا أيضاً بحيث وصلت أحكامهم الصارمة، تحت شعار (إما الإسلام أو السيف)، إلى تكليف كل مسلم بأن يطبِّق ما يعتبرونه الأحكام الإلهية بحق كل من هو غير مسلم، بل بحق كل ما هو مسلم مرتد، أو بحق كل مسلم لا يتمم أصول الإسلام وفروعه.

في نتائج البحث
لم تكن العلمانية، ولن تكون، نظرية فكرية جامدة، تملك الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل التبديل والتغيير والتطوير؛ إنما كانت، وما زالت، إحدى النظريات الفكرية- السياسية، التي توصَّل المفكرون السياسيون إليها نتيجة حاجتهم لحل إشكاليات حصلت  في التاريخ والفكر السياسيين، والتي تدور حول تحديد الأفضلية في تسيير شؤون البشر الدنيوية: أتكون للديني بمنهجيته الثابتة، أم للسياسي بمنهجيته القابلة للتطور ؟
واجه الغرب هذه الاشكالية التاريخية- السياسية، في أثناء حكم الكنيسة والذي أثبت فشله؛ وواجه المسلمون مثلها أيضاً، فبرز تيار العقل في الفكر الإسلامي عند المعتزلة وعند المفكرين والفلاسفة المسلمين مثل الغزالي وابن رشد والجاحظ وأبو العلاء المعري...ثم قاوم العلماء المسلمون أنفسهم، منذ أواسط القرن19م، الأفكار الرجعية الجامدة، ومهَّدت كتاباتهم للأفكار القومية والاشتراكية، وأسَّسوا للاتجاهات العقلانية ولإمكانية الانفتاح على الأفكار الجديدة القادمة من الغرب.
لكل ذلك كانت العلمانية مشروعاً فكرياً لحل إشكالية المساواة في الحقوق السياسية بين المسلمين وغيرهم من رعايا دولة واحدة، مهَّد الطريق إليها المثقفون المسيحيون العرب، لأنهم وحدهم كانوا يشعرون بعبئها.
لا يمكن أن نحصر دور المثقفين المسيحيين من خلال تأثرهم  بنشاطات الارساليات الأجنبية وبالثقافة الغربية، ونمو دورهم الاقتصادي مع توسع الرأسمالية الأوروبية في المشرق العربي، إنما كان العامل الديني ذا تأثير فعالا في تفكيرهم، لأنهم كانوا يشعرون بأنهم رعايا في دولة ذات أكثرية إسلامية تنتقص من حقوقهم السياسية. ومن هنا كانت الموضوعات التي عالجوها، كفصل الدين عن الدولة، ومحاربة الحكم الاستبدادي ذات علاقة وثيقة بوضعهم. وكان اتجاههم للعروبة، في وقت كانت تسود فيه الفكرة القومية في أوروبا، نشداناً للمساواة مع المسلمين العرب للتخلص من حكم إسلامي غير عربي ([13]).
فسواء كانت المسيحية تنص على جمع الديني مع السياسي، أم أنها تقر بما لقيصر لقيصر وما لله لله، فإنها لن ترضى أن يكون قيصر مخالفاً للتعاليم المسيحية؛ ولهذا فإن الفصل بين السلطتين ليس إلاَّ لمنع استخدام الأوامر الإلهية ستاراً يرتكب فيه المؤمنون بها ما لا يُرضي الله، وما لا يحقق العدالة والمساواة بين كل رعايا الدولة. في مثل هذه الحالة، عندما  يتولى السلطة سياسي علماني تمكن مناقشته إذا أخطأ، وتنتفي المعصية عن الذي يناقش لأنه ليس الراد على أولي الأمر، في الفكر الوضعي، راد على النبي والراد على النبي هو راد على الله تعالى.
لم يأت الفكر الأوروبي، منذ بداية انطلاقته، ردَّاً على الإسلام، بل جاءت ردَّاً على التعاليم المسيحية التي كانت تعمل على التفرقة بين المذاهب المسيحية بالذات. بل كانت ثورة في وجه الكنيسة التي احتكرت السلطات الدينية والزمنية، واعتبرت سلطة بابا روما ناطقة باسم الله. ولو أن الكنيسة لم ترفع مبدأ (الفرقة الوحيدة الناجية من النار)، فإنما في تعاليمها مارست ما يشبه ذلك المبدأ عندما اتهمت وحاكمت كل من يخرج عن سلطة البابا بتهمة الهرطقة. لذلك اعتبرت كل سلطة دينية لا تعترف بسلطة البابا سلطة الهرطقة بالدين المسيحي. ولأنها كانت تحتكر السلطتين الدينية والدنيوية، فهي حكماً ضد أي فكر علماني يسلبها تلك السلطات. وبهذا تساوت مبادئ التشريعات المسيحية مع مبادئ التشريعات الإسلامية الرافضة للعلمانية، أي فصل الدين عن الدولة. وهنا سننقل بعض النصوص التي ترفض ذلك، من العهدين القديم والجديد للكتاب المقدس عند المسيحيين.
جاء في سفر تثنية التشريع، الفصل الثالث عشر: » (1) إذا قام بينكم متنئ (2) وقال لك تعال إلى آلهة غريبة فنعبدها. (3) فلا تسمع كلام هذا المتنبئ (5) وذلك المتنبئ أو رائي الحلم يقتل ]حتى ولو كان أخوك أو ابنك أو ابنتك أو زوجتك أو صديقك[ « : الكتاب المقدس (العهد العتيق، المجلد الأول): المطبعة الكاثوليكية: بيروت:  ص 322.
 وجاء في العهد الجديد ما يلي: (34) لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض سلاماً، لم آت لألقي سلاماً لكن سيفاً. (35) أتيت لأفرق الإنسان عن أبيه والإبنة عن أمها والكنة عن حماتها. (37) من أحبَّ أباً أو أماً أكثر مني فلن يستحقني. ومن أحبَّ ابناً أو بنتاً أكثر مني فلن يستحقني. (38) ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلن يستحقني. (39) من وجد نفسه يهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي يجدها. (40) من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني. ]راجع، الكتاب المقدس (العهد الجديد: إنجيل متى: الفصل العاشر: المطبعة الكاثوليكية: بيروت: د. ت: د. ط: ص 17.   
وعلى الرغم من اعتقاد المسلمين أن الإسلام دين ودولة، فإنه ليست هناك نصوص ثابتة تحدد مضامين النظام السياسي للدولة الإسلامية، باستثناء دولة المدينة التي أسسها الرسول وقادها.
إن إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، فيما يتعلق بالحقوق السياسية للأقليات الدينية داخل أنظمة دينية، هي إشكالية عامة تواجه النظام الإسلامي كما تواجه النظام المسيحي أيضاً. ولأن أفراد المجتمعات/ الدول/ الأنظمة السياسية على اختلافها، ليسوا  من دين واحد، وإنما في كل مجتمع أكثرية وأقلية، ولأن لكل أصحاب دين ثوابت مقدَّسة، يصبح من الضروري أن تخضع علاقات الأكثرية والأقلية إلى قوانين ومقاييس متحركة. فكيف يمكن أن نتصور هذه القوانين والمقاييس؟
إذا استبعدنا إشكالية التناقضات بين المذاهب المتفرعة عن دين واحد-وهو مستحيل- فإنه لا بُدَّ للأكثريات الدينية الحاكمة في دولة ما، من أن تجد حلاً، يتساوى فيه مواطنوها من جميع الأديان والمذاهب أمام القانون بالحقوق والواجبات.
فلو افترضنا، مثلاً، أن الأكثريات الدينية، غير المسلمة، الحاكمة في دولة ما، أرادت أن تعامل غير المنتسبين إلى دينها، من الأديان الأخرى، معاملة الذميين كما يعتقد الإسلام، وهي معاملة بالمثل، فهل يرتضي المسلمون هذا الوضع؟ أم أن عليهم أن يفكروا في تطوير الاعتقاد بمبدأ «أهل الذمة»  حماية لأبناء دينهم الخاضعين لسلطات سياسية غير إسلامية؟
نشأت العلمانية، كمبدأ سياسي، وترعرعت في أوروبا، في بيئة مسيحية؛ وكان السبب من وراء ابتكارها إيجاد حل لذلك الصراع الدموي الطويل بين المذاهب المسيحية من جهة، وبين السياسيين ورجال الدين من جهة أخرى. ولم تكن الغاية منها، عند واضعيها والمنادين بها من المفكرين الغربيين، إعلان العداء للإسلام والمسلمين؛ ولم يخطر ببال أحدهم هدف علمنة الشرائع الإسلامية، بقدر ما كانوا هم بحاجة إلى حل فنشطوا  في التفتيش عنه، وجاء الحل في وجوب الفصل بين الديني والسياسي لأن مشاكلهم كانت ناتجة عن طغيان رجال الكنيسة في أحكامهم الدينية والدنيوية، والتي أسبغوا عليها هالة «المقدسات».
فالعلمانية كانت حاجة مسيحية أوروبية، أولاً وأخيراً؛ وعندما تيسَّر لها أن تخرج من دائرتها، التي نشأت فيها، إلى المشرق العربي- الإسلامي، وهو الذي كان يعاني بشكل أو بآخر من طغيان الديني على السياسي، وجدت فيه النخب الثقافية العربية، وبينها بعض علماء المسلمين، والمسيحيين العرب بشكل خاص، متنفساً فكرياً حسبوا أنه قد يحقق لهم حلاً لإشكالية المسلم و «الذمي»؛ وكانت الأصوات التي ارتفعت تأييداً ليست موجهة، بالأساس، ضد الشريعة الإسلامية، ولكن أهدافها كانت تصب في سبيل حل إشكالية سياسية عانى منها أهل الكتاب وبعض المذاهب الإسلامية على حد سواء.
هل كانت العلمانية موجَّهَة لحل إشكالية الثنائية السياسية، إسلامية-مسيحية فقط؟ إذا كان ذلك كذلك، فعلى أية قاعدة كان يمكن حل الإشكالية الإسلامية – الإسلامية بين مختلف المذاهب الإسلامية، خاصة وإن التاريخ الإسلامي كان مشحوناً بالصراعات المذهبية؟ 
ليست العلمانية إطاراً فكرياً سياسياً لحل الاشكالية، الإسلامية- المسيحية فحسب، وإنما هي أيضاً مشروع لحل الاشكاليات الإسلامية- الإسلامية.
لم يثبت أن العلمانية هي مبدأ سياسي استعماري، بالقدر الذي يمثل اتجاهاً فكرياً سياسياً نظرياً اكتشفه المفكرون الأوروبيون لحل إشكالياتهم الخاصة. ونحسب نحن أنه، إذا جُرِّد من بعض خصوصياته، و إذا دُرِست مشاكلنا الذاتية على ضوئه، لربما يشكل الحل الملائم لإشكالياتنا الدينية والمذهبية.
فإذا كانت هناك خصوصية للعلاقة بين العروبة والإسلام، لاقتران التكوين القومي بالدعوة الإسلامية، فإنها لا تتعارض مع الاتجاه نحو العلمنة. فالعروبة كمفهوم تقدمي تعارض التنظيم الاجتماعي والسياسي القائم على أساس الطوائف والانقسامات الطائفية؛ «وهي تشدد على ضرورة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية والإقليمية للمواطن»([14]).




([1]) العيسمي، شبلي: العلمانية والدولة الدينية: دار الشؤون الثقافية. بغداد: 986 1: ص 19.
([2]) الكيالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (ج 4): م. س: ص 179: (المادة: العلمانية).
([3]) الافغاني، جمال الدين: "التعصب "أضواء على التعصب: مكتبة الفكر الاجتماعي: دار أمواج: بيروت: 983 1: ط 1: ص 27-39.
([4]) أبو الفتوح، أبو المعاطي: حتمية الحل الإسلامي: مطبعة الجبلاوي: القاهرة: 977 1: ص 68.
([5]) م. ن: ص 208.
 ([6])عمارة، د. محمد: فجر اليقظة القومية : دار الوحدة: بيروت: 1984 : ص 50.
([7]) شمس الدين، محمد مهدي: العلمانية: المؤسسة الجامعية: بيروت 1980: ط 1: ص 86-87.
([8]) المطهري، مرتضى: الحركات الإسلامية في القرن الأخير: دار الهادي: بيروت: 1982: ط1: ص 121: (ترجمة صادق العبادي).
([9]) القرضاوي، يوسف: م. س: ص 53 -57 و59- 60.
([10]) العيسمي، شـبلي: العلمانية والدولة الدينية: م . س: ص 33.
([11]) القرضاوي، يوسف: م. س: ص 44.
([12]) الفنجري، أحمد شوقي: كيف نحكم بالأسلام في دولة عصرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب: مصر: 1990: ص 126.
([13]) مراد، سعيد: الحركة الوحدوية في لبنان بين الحربين العالميتين (1914هـ/1946م): معهد الإنماء العربي: بيروت: ط1: ص 74.

([14]) موسوعة السياسة (ج4): م . س: ص :179 (المادة: العلمانية). 

ليست هناك تعليقات: