الصفحة المدنية من مقاومة الاحتلال في العراق
أصبح من نافل القول إن المقاومة العسكرية في العراق قد أنجزت مهماتها الرئيسية بإرغام الاحتلال الأميركي على الانسحاب، حيث اعتبرته الولايات المتحدة الأميركية حاجة ضرورية لمنع انهيار الإمبراطورية الأميركية نتيجة الخسائر الجسيمة التي تكبدتها بالأرواح والأموال. ولم يبق أمام المقاومة العسكرية من مهمات إلاَّ ملاحقة فلول ما تبقى من جنود أميركيين في قواعد تحميها قطاعات من الجيش الحكومي العراقي. إذن، تحوَّل (الحامي الأميركي) إلى محمي من قبل من جاء ليحميهم. وهذا أكثر المشاهد تعاسة وذلاًّ للإمبراطوريات في التاريخ. وهذا أكبر دليل على نهاية النزعة الإمبراطورية القائمة على العدوان والحروب، والعمل على إبقائها حيَّة بوسائل الخداع السياسي. وإذا كانت تجربة العراق لن تهدد بنيان الولايات المتحدة الأميركية كدولة، إلاَّ أنها دقت مسماراً كبيراً في نعشها كإمبراطورية. ولذلك راحت أميركا تلتفُّ على خروجها من العراق بوسائل أخرى، لعلَّ تدعيم العملية السياسية التي يقودها عملاؤها من أهمها.
وإذا كانت تراهن أكبر دولة في العالم على حكومة يقودها المالكي لكي تعيد تثبيت أرجلها في العراق، فلننظر للحجم الهزيل الذي تحوَّلت له تلك الدولة المرهوبة الجانب. وهذا العامل يحدد صورة العراق في هذه اللحظة، وسوف يرسم لها صورة للمستقبل القريب، أي المرتبط بنهاية العام الحالي. ففي المشهد الراهن نرى كم يتخبط هؤلاء العملاء بمآزق عرفوا كيف بدأت، لأنها كانت من صنع أيديهم، ولكنهم لن يعرفوا كيف تنتهي لأنها مبنية على أوهام أميركية يعملون على تسويقها بتركيب أرجل من خشب لعملائهم.
من أجل إسقاطها، وإلى جانب نضالها العسكري ضد (فلول) الاحتلال، يحتل شعار (إسقاط حكومة الاحتلال) موقعاً أساسياً في برامج المقاومة الوطنية العراقية. فالتعبئة ضد الحكومة العراقية الحالية ليس على إسقاطها بشخوصها فحسب بل على إسقاط نهجها القائم على التبعية للاحتلال أولاً، ونهجها في ممارسة كل أنواع الفساد الإداري والأمني والاقتصادي ثانياً. وإنه بإسقاط تلك الحكومة حسب التعريف أعلاه إسقاط لكل أوهام الاحتلال بإعادة إنتاج نفسه تحت صيغ ومسميات خادعة.
وعن ذلك، وإذا كانت مخاطر الاحتلال لم تلامس إلاَّ عقول القلة من النخب السياسية التي وعت منذ البداية تلك المخاطر، فإن خطورة استمرار حكومة الاحتلال قد ترسَّخت في وعي كل العراقيين، وشمل الوعي هذا حتى من يخدمون في أجهزة (حكومة الاحتلال) ومؤسساتها. وبمعنى أدق وعى العراقيون، بكل تلاوينهم الدينية والسياسية والجهوية، مخاطر استمرار تلك الحكومة بمنهجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني من جهة، ومخاطرها على بقاء العراق وطناً له قراره الوطني المستقل من جهة أخرى.
يخوض العراقيون اليوم معركة المواجهة مع (فلول) عملاء الاحتلال على قاعدتيْ الوحدة والاستمرار. وإذا كانت المواجهة العسكرية للاحتلال فرض كفاية يقوم بأودها القادر على حمل السلاح، فإن المواجهة المدنية لـ(فلول) العملاء، هي فرض عين على كل عراقي لأن شروط ممارستها تقع في ميسور كل واحد منهم.
أما عن وحدوية المواجهة فتظهر في حركة الشارع العراقي، ضد حكومة الاحتلال، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. لا فرق بين موصلي وبصراوي وبغدادي فسوط الجوع والفقر والبطالة والموت يلسع الجميع من دون تمييز. ولا فرق بين نجفي وكربلائي، ولا فلوجي أو رمادي، ولا بغدادي، ولا تكريتي أو كركوكي أو سليمانوي. لا فرق بين عربي أو كردي أو آشوري أو تركماني... فليس للرغيف جهة ينتمي إليها، ولا هوية لنور الكهرباء أو قطرة المياه. الجميع ينزلون إلى الشارع ويهتفون، يقاومون بنادق أجهزة الأمن وسياط السجانين، فلم يعد لديهم ما يخسرون.
لم يبق خارج المواجهة، في هذه المرحلة، إلاَّ قلة من أجهزة الأمن الذين يتصدون للحراك الشعبي ليس بسبب مناهضتهم للمطالب لأنها مطالب أهلهم وجيرانهم، بل إنهم يعملون على حماية (العملية السياسية) التي يعني انتهاؤها وإسقاطها نهاية لامتيازاتهم الوظيفية والمادية. ونحن نحسب أنهم لن يصمدوا طويلاً على مواقفهم المناهضة لمطالب الشعب، لأنهم بينما يتصدون للحراك الشعبي لا يمكنهم أن يتناسوا أن أقارباً لهم وجيران، يكابدون المرارة القصوى للحصول على الحد الأدنى من موجبات العيش الكريم. وهؤلاء، كما نحسب لن يطول بهم الصبر كثيراً وهم يحسبون أن عيونهم سترى كل يوم معالم الظلم والجوع والعطش والمرض في عيون أولئك الأقارب والجيران.
وأما عن استمرارية المواجهة، فكان يكفي أن يمر شهران ينزل فيهما الشعب العراقي إلى الشارع للبرهان على أن الحركة اكتسبت صفة الديمومة. وقد مرَّ حتى الآن على الحراك أشهر عديدة، وهو يتصاعد كماً ونوعاً، وهذا برهان كافٍ على أن الحراك اكتسب شرط الاستمرارية. وإن استمرار الحراك لا شك بأنه قد وفَّر عوامل إيجابية ومتغيرات كمية، لعلَّ من أهمها عاملين:
-العامل الأول: إن العراقي قد تجاوز عامل الخوف من الموت أو السجن أو الاعتقال. ولمن لا يشاهد بسالة المتظاهرين وشجاعتهم بالتصدي لقوى الأمن الحكومية، فهو يتابع من يكتبون على مواقع الأنترنت بأسمائهم الحقيقية ممن شقوا عصا الطاعة لخطر الموت أو الاعتقال.
-العامل الثاني: إن المُجنَّد العراقي، سواءٌ أكان في أجهزة الشرطة أم في سلك الجيش، ليس له أي مصلحة طبقية أو وطنية في قمع المتظاهرين، لأن من بينهم الأب أو الأخ أو الصديق أو الجار من جهة، ولأن شعاراتهم هي شعاراته، فهو من الذين اكتووا بلهيب الحر والمرض والعطش من جهة أخرى. وهو وإن كان مرغماً على تنفيذ الأوامر فإنه لن يكون بقسوة من له مصلحة في إيقافها، فكيف يكون الأمر إذا كانت مصلحته ذات علاقة وثيقة باستمرار الحراك الشعبي.
وهنا، لا بدَّ من الاستنتاج بأنه لن يطول صبر هذه الطبقة لتتخلى عن لعب دور الشرطي للعملية السياسية التي يخدم تحت رايتها، فهو ينتظر أول فرصة لعصيان الأوامر. فالمستقل قريب والخلاص أصبح سهل المنال. والمرحلة الآن مملوءة بعوامل الشحن النفسي الذي سيبلغ أقصى مدياته كلما اقترب موعد الاستحقاق النهائي. وذلك الموعد يخبيء الكثير من المفاجآت التي لن تُفرح قلب عدو العراق والأمة العربية. ولن يكون من أهمها تراكم الحالة التراكمية النضالية المدنية الدائرة في العراق الآن ستبلغ درجة الغليان، وفي درجة الغليان لا بُدَّ من الانفجار الذي سيقلب الأوضاع من حال إلى حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق