الخميس، يونيو 07، 2012

تهافت مشاريع الإمبراطوريات الدينية (الحلقة الأولى)


لأهمية الدور الذي تلعبه حركات الإسلام السياسي في هذه المرحلة،، أضع بين أيدي القراء الكرام المهتمين بالشأن القومي، هذا البحث عسى أن يسد ثغرة في الثقافة القومية حول هذه المسألة الحساسة. ويشكل بحثنا هذا الفصل الرابع من كتاب (تهافت الأصوليات الإمبراطورية).
تهافت مشاريع الإمبراطوريات الدينية
الحلقة 1/ 4

تمهيد
من خلال تعريف مفاهيم النزعة الإمبراطورية توصلنا إلى أن هناك ما يجمع بين النزعات المادية والسياسية وبين النزعات الدينية، فكل من النزعتين تعمل على تصدير نفسها إلى خارج حدودها القومية تحت ذرائع تصدير القيم التي اعتقدت أنها تصلح للبشرية في كل زمان ومكان، وأنهت التاريخ عند حدود تلك القيم. فراحت تروِّج لها بأثواب جميلة وجذَّابة.
فالنزعات المادية السياسية، كما مرَّ معنا في فصل تهافت النزعات الإمبراطورية الأميركية، رفعت لواء تصدير الحضارة الصناعية التي بهرت العالم، وتصدير مفاهيمها البراقة للديموقراطية. بينما النزعات الدينية، عملت على تصدير نفسها، ولا تزال تعمل تحت لواء خلاص الأنفس في الآخرة.
فتحت أي أهداف تُصدِّر النزعات الإمبراطورية الدينية نفسها؟
بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، نشطت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في أوساط جماعة الإخوان المسلمين في عدد من الأقطار العربية؛ ولدى بعض الحركات الإسلامية في الهند، مثل الدعوة التي تزعَّمها أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي، وقد بدت ذات طبيعة متشددة تماماً. وبعد ظهورها تميَّز القرن العشرون بتحولات أثَّرت على مجرى الواقع السياسي والفكري الإسلاميين. فكان من أهمها المسألتان القومية والديموقراطية، ولحقت بهما مسألة إلغاء الخلافة الإسلامية.
كانت الخلافة تعبيراً عن رمز سلطوي يدير شؤون الدولة الأممية الإسلامية، وكانت تعبيراً عن النظـام السياسي للدعوة الإسلامية. فترك الفراغ المفاجئ فيها بلبلة في أوساط النخب المثقفة ووضعها أمام مأزق لم تكن قد أعدَّت نفسها لمواجهته.
وكان النزاع بين شكل النظام الإسلامي الأممي وشكل النظام القومي من أهم مظاهر تلك الإشكاليات، الذي يتمثَّل بالنزاع بين شريعة الوحي كقانون إلهي وبين شرائع النُظُم السياسية القادمة من الغرب كقوانين وضعية من صنع البشر.
إن إقامة دولة الإسلام هدف ثابت عند الحركات الإسلامية، يهيمن على نشاطها ويطبع علاقاتها بالأنظمة الحاكمة بطابع الريبة إن لم يكن طابع العداوة والتصادم؛ فانقسمت الحركات الإسلامية المعاصرة إلى فريقين:
-فريق المتصلبين الذي يرى أن الجهاد هو الوسيلة الباقية بعد أن فشلَت سائر الوسائل، وإن التغيير لم يبق منوطاً بإصلاح الأوضاع.
-وفريق المعتدلين الذي يميل إلى العمل الاجتماعي الطويل، الرامي إلى تأهيل الأفراد والجماعات بالتربية الإسلامية و بالتقويم الأخلاقي.
وانحصرت مواقف تلك الحركات في رفض الأنظمة الحاكمة وتكفيرها، وكانت المقاصد المطلوبة تغييرها. فأصبحت العلاقة مطبوعة بالتصادم حيناً، وبالمهادنة أحياناً أخرى، ولا يصلح عامل الزمن إلا للتربص وإتمام الاستعداد للإطاحة بالطرف المقابل. وقد تولَّد عن ذلك الصراع ثنائية النضال والقمع، والإرهاب والإرهاب المضاد، وهذا ما لا يزال من الوقائع المستمرة. وإذا كانت ثنائية الصراع محصورة بين تلك الحركات والأنظمة حتى الآن، فإن مظاهر الصراع بينها وبين الحركات القومية وقفت عند حدود صراع الأفكار الذي لم يخل من تكفير الداعين إلى الفكر القومي.
كانت الحركة الإسلامية، منذ أواخر القرن 19م، قد مهَّدت لحركة إصلاحية بشعارات متقدمة نسبياً عن التيارين: السلفي العربي والسياسي العثماني، وتمحورت حول مسألة الانفتاح على الفكر العلمي  الغربي، من دون أن تمس ما له علاقة بفكرة الجامعة الإسلامية، لتدعيم فكرة التضامن الإسلامي.
أما في مرحلة الخلافة العثمانية، فقد ارتبطت الهوية القومية بالملة الدينية، وأصبحت دعوة المسلمين العرب إلى القومية العربية، كأنها توحي بأن الإسلام أصبح هو العروبة. هذا السبب زرع الخوف عند أتباع الأديان الأخرى، ووضع إشكالية أمام الفكر القومي العربي، الذي أصبح من مهماته أن يقدِّم حلولاً يزيل بها تلك المخاوف. فالمهمة صعبة في جو ثقافي مُشبَع بالتراث الديني الإسلامي، الأمر الذي يتطلب الوقت الكافي لإحداث التغيير المطلوب، لأنه من غير الموضوعي تجاوز التأثيرات التي يتركها النظام الثقافي على البنى الاجتماعية والفكرية والسياسية لمجتمع ما.
صحيح أن للإسلام تأثيرات واسعة تركت كثيراً من السمات والأنماط الثقافية المميزة داخل المجتمع العربي- الإسلامي؛ لكن التاريخ أثبت، أيضاً، أن المرجعية الإسلامية (الجامعة الإسلامية) لن تشكَّل  الأساس المرجعي  السياسي الموحِّد؛ و ليست هناك مرجعية إسلامية موحِّدة تُجمع عليها المذاهب الإسلامية.
لكل هذا، أصبح من مهمات الفكر القومي العربي أن يقدم تعليلاً مقبولاً لدى المسلمين العرب أولاً، وأن يطمئن أصحاب الأديان الأخرى ثانياً، وأن لا يكون متعارضاً مع التحليل العلمي الاجتماعى للظواهر الثقافية والاجتماعية وتأثيراتها ثالثاً.
كان الإسلام عميق الجذور. فلم تستطع الأفكار القومية الجديدة أن تحدث مكاناً للقوانين الحديثة في التشريعات الجديدة، ووقف الإسلاميون في  وجه كل محاولة للعلمنة. ووقف المفكرون المسيحيون، وإلى جانبهم قلة قليلة من المسلمين ممن كانوا يحلمون بإنشاء دولة عربية علمانية، لا تقوم على أساس ديني، إلاَّ أن تلك الدعوة لم تلق تشجيعاً من قبل غالبية سكان البلدان الإسلامية. وهكذا لا يمكن الفصل التام، بسهولة، بين الإسلام والقومية العربية.
إن الإغراق في وهم انتزاع حالة ثقافية من مجتمع ما، وكأنها قطعة من آلة يمكن استبدالها بأخرى، يتساوى مع وهم الإغراق باستحالة تغيير تلك الحالة وكأنها ثابتة إلى الأبد، فالحالة الاجتماعية والثقافية هي مشروع دائم للتغيير.
فكلما أصبحت بعض سمات نظام ثقافي متخلفة عن الزمن تأخذ طريقها نحو الاضمحلال، وكلما جاءت سمات أخرى تحاكي روح العصر، فأنها تحل مكانها. فليس كل سمات النظام الثقافي السابق مرفوضة، بل إن بعضها يبقى ذا قيمة وأثر، خاصة إذا كانت لا تتعارض مع مصلحة المجتمع.

أولاً: الأممية الإسلامية ذات بعدين:
عقائدي وسياسي.
أُدخِل المفهوم العقائدي للجامعة الإسلامية بتأثيرات المسلمين من غير العرب، بشكل أساسي، مستندين إلى الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية13). أو استناداً  إلى الحديث  النبوي «لا فضل لعربي على أعجمي إلاَّ بالتقوى».
أما المفهوم السياسي، فقد اتخذ، منذ القرن التاسع عشر، شكل الدعوة إلى «الجامعة الإسلامية»؛ وكانت دوافعه: الرغبة في استخدام روابط الأخوة والتضامن الإسلامي في معركة تجديد الإسلام ونهضة المسلمين. كما أدَّت ملاحظة هذا التيار، أن  مشاكل المسلمين واحدة ومتقاربة، ليحسبوا أن علاج أوضاعهم سيتوفر بمنهج إسلامي واحد أو مناهج متقاربة. وشكَّلت، أيضاً، ضرورة التصدي للقوى الاستعمارية، أحد الدوافع المباشرة للمناداة بالوحدة الإسلامية.
عرف شعار الجامعة الإسلامية تيارات متعددة، تمايزت مواقفها الفكرية والعملية، تبعاً لتعدد مواطنيه، واختلاف المواقف الاجتماعية والفكرية لروادها. فهو عند الوهابية مختلف عما هو لدى العثمانيين، وعند هؤلاء الأخيرين مختلف، أيضاً، عما هو لدى التيار الإسلامي المتنور كما يمثله جمال الدين الأفغاني.... لكنه على الرغم من التمايز بين التيارات، نجد أن هناك ما يجمعها، وهو اعتبار الأخوة والتضامن الإسلامي، أي الرابطة الإسلامية، هو الأساس.
وعلى العموم، وقف الإسلاميون ضد الأيديولوجيات المستوردة، وهاجموا الثقافة الحديثة،كما آمنوا بأن التشبه بالغرب دلالة على التغريب. لذا دعا تيار الجامعة الإسلامية إلى وحدة سياسية إسلامية، قاعدتها الشريعة الإسلامية، واعتبار الرابطة الإسلامية الرابطة الوحيدة بين أبناء المجتمع الإسلامي. لهذا  كانت الدولة العثمانية تمثل المرجعية الإسلامية الوحدوية للعرب المسلمين، على الرغم مما كانت تمارسه من اضطهاد اجتماعي وسياسي واقتصادي، وتمييز عرقي وطبقي. ولأن المشرق العربي، كان قريباً من مركز السلطة العثمانية، وتحت إشرافها المباشر؛ فكانت علاقات التنافر معها متساوية مع علاقات التجاذب. فالحاجة إلى الحماية من الخارج، والشعور العقائدي بالوحدوية الدينية الإسلامية، كانت تشكَّل عوامل الانجذاب العربي باتجاه المحافظة على وحدة الامبراطورية العثمانية. لكن ممارسات السلطة القمعية، بوجهها المباشر، كانت تثير المشاعر العدائية عند سكان المنطقة ضد الدولة، مما كان يعزز الاتجاهات الانفصالية عنها.
وقياساً على ارتباط القومية بالملة؛ وارتباط القومية العربية بالدين الإسلامي، ارتبطت الوطنية بالولاء للطائفة عند الأديان الأخرى، وكان يتعزز هذا الشعور كلما طال أمد حل تلك الإشكالية.
لم تكن الحركة الإصلاحية الدينية، التي تدعو إلى الجامعة الإسلامية، هي الوحيدة التي احتلَّت الساحة الفكرية، قبل انهيار الدولة العثمانية وبعده فحسب،  وإنما نشأ تياران إلى جانبها، وهما: التيار الليبرالي، والتيار العلماني.
-التيار الليبرالي الذي أسَّسه رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873م). وانفتح على التراث الغربي، وتحوَّلت الليبرالية، على يدي طه حسين، إلى إعمال للعقل في نقد التراث الأدبي، ونقد الأوضاع الاجتماعية. وظهر كُتَّاب إسلاميون، يُكفِّرونه، ويضعون الإسلام في مواجهة العقل والعلم والنظم الديموقراطية، ويُظهرون جوانبه الإلهية. فانتهت الليبرالية وسادت موجات التكفير لكل فكر جديد؛ وأصبح كل اجتهاد بدعة.
-أما التيار العلماني فشطح كثيراً تجاه الحضارة الغربية؛ وبدأت النظم العلمانية الغربية كالاشتراكية أو القومية تظهر كبديل عن النظام الإسلامي. وقد خلَّف هذا التيار ردود فعل لدى الأصولية الإسلامية، فأظهرت العداء الشامل للغرب. وفي المقابل تحوَّل التيار العلماني إلى المادية والإلحاد والطعن في الإسلام والمسلمين؛ وهكذا انتهى فجر  النهضة الإسلامية العربية الحديثة لصالح الأصولية الإسلامية، وسادت روح المحافظة الدينية.
1-نشاط الحركات والأنظمة الإسلامية استغلَّ كوسيلة من وسائل الاستعمار:
كان للمد القومي العربي، وتنامي تيار دول عدم الانحياز، رافداً للحركات التحررية القومية، تأثير مهم على بناء الاستراتيجية الإمبريالية.
فمنذ الخمسينيات من القرن العشرين، سعت المملكة العربية السعودية، بتشجيع من حليفتها أميركا، إلى احتواء تصاعد المد القومي العربي عن طريق تدعيم التضامن الإسلامي. واعتمدت على نظامين يستمدان شرعيتهما من العقيدة الإسلامية، وهما: الباكستان والمغرب الأقصى، وتشكل منهما حلف وقف في وجه دول عدم الانحياز.
ومنذ ذلك الحين أخذت مظاهر الحركة الإسلامية تتنامى بصيغة المؤتمرات والندوات الإسلامية، وظهور المؤسسات مثل منظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والمراكز الإسلامية التي انتشرت في المدن الغربية الكبرى، وصدور عدد كبير من الكتب والدوريات عن الحركة الإسلامية السياسية.
إذا كانت الإمبريالية قد احتوت الأنظمة الإسلامية على قاعدة ترابط المصالح، فإنها تنظر إلى الحركات الأصولية الإسلامية بمنظار الاطمئنان، وليس بمنظار الخوف، والسبب في ذلك  يعبر عنه نيكسون بأن «تأثير الأصوليين على شعوبهم لا يقوم على جاذبية ما يدعون إليه بقدر ما يقوم على تأييد ما يدعون إلى ضده، أي ضد الوضع الراهن الذي لا يقدم حلاً لمشاكل الحاضر، كما لا يقدم أملاً في الحل في المستقبل»، فهي وإن عرفت كيف تهدم، لكنها عاجزة عن معرفة كيف تبني. وبالتالي يكفي الاستفادة منها ما دامت تقف في مواجهة الأفكار القومية والوطنية الليبرالية واليسارية/الشيوعية.
وإلى جانب ذلك، ساعدت جملة من العوامل، على المستويين القومي والإسلامى، على بزوغ فجر الصحوة الإسلامية، وتفجير طاقات الحركات الأصولية، ومن هذه العوامل:
2-الحركات الإسلامية استفادت من التراجعات التي واجهت المشروع القومي:
منذ نكسة 1967م، أصابت الجماهير العفوية ردة فعل حادة، ومراجعة نقدية عند التيارات القومية والوطنية واليسارية، وردة ثأرية من قبل الحركات اليمينية والرجعية ومنها الحركات الأصولية الإسلامية.
في تلك المرحلة كان الاقتصاد المصري قد شارف على الإفلاس، وزادته النكسة العسكرية تثقيلاً، الأمر الذي ساعد على إيقاظ عملية الإحياء الإسلامي. فكثرة الضحايا وتوزعها في القرى والأرياف المصرية كانت مادة خصبة للإسلام الشعبي المتأثر بالطرقية الصوفية، مثل: حلقات الذكر في المساجد، واحتفالات الزار، وهي «بمجملها طرق عمل تحمِّس المتعبد وتوثِّق عراه بالإسلام على أساس وجداني مؤثر»، هذه الطرق والوسائل، راحت تنافس الإسلام الرسمي للأزهر.
وانعكست تأثيرات النكسة، بخلفياتها السياسية والفكرية والأيديولوجية، على أقطار المغرب العربي أيضاً، وكانت لها مفاعيل مزدوجة في الخليج والجزيرة العربية، فحصلت ردة ضد القوى القومية الناشئة، واشتدَّت أكثر عندما انخرطت الأنظمة التقدمية في مشروع التسوية مع الأنظمة المحافظة/ الرجعية في قمة الخرطوم، في مقابل الحصول على مساعدات مالية منها، وخاصة من السعودية والكويت. وما دامت تلك المساعدات لا توضع في خدمة الصراع العسكري بين العرب والعدو الصهيوني، فإن تقديم المساعدات التي أقرتها قمة الخرطوم لن تضير المصالح الاستراتيجية الإمبريالية شيئاً.
لم تكن نكسة حزيران العامل الوحيد في انتشار موجة الإحباط النفسي عند أوسع القطاعات الشعبية العربية، فقد سبقتها حالة من التراكم الإحباطى، ومنها:
- فشل المشاريع الوحدوية.
-الصراعات العربية- العربية بين الدول التقدمية.
-العجز عن التلاقي بين المجتمع والسلطات في الميادين الاجتماعية والديموقراطية.
-عجز الأنظمة عن إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية.
كانت جدلية الصراع بين السلطة والمجتمع تشهد تراكمات متواصلة. فلا السلطة كانت قادرة على إيجاد حلول للمشاكل، ولا المجتمع كان قادراً على السكوت عن استلاب حقوقه. فعجز السلطة كان يقابله المزيد من المعارضة، وكان المستفيد من هذا الصراع، غالباً، قوى عديدة، منها: الليبرالي و الأصولي والثوري والمحافظ والبورجوازي... الذي كان يستثمر الحالة الصراعية لمآرب سياسية.
فكلما كان الحس المطلبي يزداد، وتتحرك التيارات السياسية لتصعيد الحركة المطلبية، كانت السلطة تخشى على مواقعها من السقوط، فتلجأ إلى الرد على المعارضة بوسائل القمع، فتتصلب المعارضة بمواقفها، وينمو الصراع ويتصاعد بحركة جدلية متنامية.
ففي هذا الجو استفادت الحركات الأصولية من آثار النكسة العسكرية في العام 1967م، كما أنها كانت تستفيد من حالة الصراع السلطوي- المجتمعي أيضاً.
وبسبب ذلك تصادمت الأنظمة مع الحركات الإسلامية، كما حصل في سورية ومصر، مثلاً، في صدامهما مع حركة الإخوان المسلمين التي كان لها مشروعها  السياسي الذي يتناقض كلياً مع العلمانية. فهدفها كان يعني، ليس إزاحة النخب الحاكمة فحسب، و إنما تغيير  النظام السياسي بأكمله أيضاً.
في مثل هذه الحالة، يصبح من  غير المفيد أن  نحدد  على من تقع مسؤولية استمرار الصراع: فالسلطة تستخدم وسائل القمع وتغييب الديموقراطية، والحركات الإسلامية، التي فيما لو نجحت في تحقيق مشروعها، فإنها لن تكون أقل رحمة بمعارضيها، خاصة وأن مشروعها لا يسمح بالحرية في النقد والمعارضة لأنه،كما تحسب، مشروع إلهي.
وإن التصادم بين السلطة، في مرحلة ما قبل حزيران، وبين الحركات السلفية، ترك فجوة عميقة من العداوة دفعت بتلك الحركات إلى أن تعود إلى النشاط، بعد مرحلة النكسة، مستعيدة مشروعها السياسي، ومستفيدة من الإخفاقات التي منيت بها التيارات والقوى والأنظمة القومية والوطنية والعلمانية.
لقد تضافرت عوامل الفشل القومي العام مع الفشل القطري الخاص. فالأول كان عاجزاً عن تشكيل وحدوية دفاعية تشكل حماية للأقطار العربية من العدوان، وعجز عن استثمار الثروة العربية للصالح القومي العام. أما الثاني فعجز عن توفير علاقة سليمة بين واجبات السلطة وحقوق المجتمع.
وبهما تضافرت تلك العوامل، وأنذرت بولادة معارضة تعمل على المطالبة بتصحيح الخلل. أما سبب العجز فيعود في تقديرنا إلى أن التيارات والحركات والأحزاب القومية كانت لا تزال في مرحلة الصياغة النظرية إذ لم تمر عليها أكثر من ثلاثة عقود، ولم تكن تجربتها السياسية بعد قد تجاوزت عقدين من الزمن، حتى واجهها الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية فحاولت معالجتها  بأقل ما يمكن من الإمكانيات المادية، والعنصر البشري غير المؤهل، وهذا لا يكفي لبناء أنظمة سياسية ناجحة.
أما الحركات الإسلامية، فكانت مستندة إلى تلك القاعدة الشعبية ذات الثقافة الإسلامية. كما أنها التقت بتراث الحركات الوطنية، وكانت شريكة أساسية لها في الحصول على الاستقلال السياسي في مختلف الأقطار العربية، حيث كان أكثرها قد اتخذ من الجهاد مبدأ  أساسياً  في نضاله ضد الاحتلال الأجنبي، مثل: الثورة المهدية في السودان، المقاومة السنوسية في ليبيا، ثورة عبد القادر الجزائري وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر، والجمهورية الإسلامية في ريف المغرب الأقصى، وانتفاضة فلسطين (1936-1939م)، ونشاط المجلس الإسلامي في القدس، ومشاركة الإخوان المسلمين في مصر والشام في معركة فلسطين 1948م.
وبدلاً من استيعابها والحوار معها فقد تجاهلت  أغلب الأنظمة الوطنية بعد الاستقلال الحركات الإسلامية، وقاومتها باسم الحداثة، لكنها فشلت في التحديث، ولم تنجح في تهذيب هذا الثقافة وتطويرها.
كانت كلها أسباب، ساعدت الحركات الإسلامية في أن تتخذ من تقاليدها وتراثها ومن قاعدتها الشعبية العريضة، وعقائدها السياسية الإسلامية، دوافع تحسب نفسها من خلالها أنها ليست البديل للأنظمة الليبرالية القومية والوطنية فحسب، و إنما هي النظام الأصيل أيضاً. فالأنظمة الليبرالية منعتها من هذا الحق، وها هي اليوم، بعد إثبات الفشل الذي أصيبت به تلك الأنظمة، لأنها ذات شرائع وضعية، تعود لكي تستعيد الحق الذي سُلب منها، ولكي تباشر النضال من أجل بناء نظام تقوم دعائمه على شرائع إلهية.
كثيرة هي القوى التي وجدت في الحركات الإسلامية وسيلة في سبيل استخدامها، أو الاستفادة من الزخم الذي تتميَّز به، لمنافسة الاتجاهات القومية والوطنية حول القواعد الشعبية لتفكيكها وإضعاف قوة تأثيرها وشرذمتها بين هذه التيارات أو تلك.
وبالإجمال، أخذت الصحوة الإسلامية المعاصرة تطل، بقوة متصاعدة لافتة، على المسرح السياسي العربي، منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين.
3- الصحوة الإسلامية المعاصرة: واقعها واتجاهاتها
بعد انهيار المرجعية الوحدوية السياسية  الإسلامية العثمانية، اتخذت الاتجاهات الوحدوية مسارين متمايزين: مسار الوحدوية الإسلامية، ومسار الوحدوية القومية.
لقد انكفأ مسار الوحدوية الإسلامية أمام الموجة الوحدوية القومية، نخبوياً وشعبياً؛ لكن هذا الانكفاء لم يصل إلى حدود الإلغاء، بل كانت بعض الحركات الإسلامية السياسية، مثل حركة الإخوان المسلمين، تحمل لواء الوحدوية الإسلامية، واصطدمت بسلسلة من الصراعات القاسية، وغير المتكافئة مع السلطات السياسية، ذات الاتجاهات القومية أو الوطنية الليبرالية. وتعود أسباب الانكفاء إلى عوامل عدة، ومن أهمها:
-القوة والزخم اللتان اكتسبتهما الاتجاهات القومية والوطنية، في أعقاب الحصول على الاستقلالات السياسية، حزبياً وشعبياً ورسمياً.
-قوة المؤثرات الفكرية السياسية الجديدة، مثل مفاهيم  الشعب/ الجماهير، والدستور والديموقراطية.
باستثناء ظاهرة حركة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي لم يعرف هذا المحور حركات أصولية منظمة وفاعلة إلا منذ بداية السبعينيات من القرن 20م.
تكاد تكون الأنظمة السياسية، في كل من مصر وسوريا والعراق، متشابهة في اتجاهاتها القومية، بشكل عام، بتجاربها ومحاولاتها الوحدوية السياسية. كانت هذه الاتجاهات في موقع القوة اللافتة، طوال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. لكن بعد وفاة عبد الناصر، استمر الوضع في كل من العراق وسوريا حاملاً الدعوة إلى القومية، ولو بأساليب سياسية مختلفة. ولهذا أصبح التناقض بينها وبين الحركات الأصولية الإسلامية خطاً سائداً. إذ كانت أسس  التناقض بينهما قائمة على مستويين: مستوى الهوية، أهى إسلامية أم قومية ؟ ومستوى هوية النظام السياسي هل يكون قائماً على الشريعة الإسلامية، أم على الأسس العلمانية ؟
على صعيد الأنظمة السياسية القومية، فقد نصَّت دساتيرها، فيما يختص بالإسلام: على أنه دين للدولة، واعتبار الفقه الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع، وهذا يعني أنه ليس المصدر الوحيد. أما بالنسبة إلى القومية، فقد نصَّت على أن الشعب- المصري، السوري، العراقي- هو جزء من الأمة العربية، وهدفه تحقيق الدولة العربية الواحدة.
يتناقض هذا المنحى، بلا شك، مع الدعوات السلفية، سنية وشيعية، لأنها لا تعترف بغير الشريعة الإسلامية  مصدراً للتشريع، بل تعتبره المصدر الوحيد، كما أن الدولة الإسلامية هي النظام السياسي الوحدوي والوحيد، وليس أي نظام غيره.
انتعشت منذ الخمسينيات، خاصة في مصر وسوريا والعراق، مؤسسات لها علاقة بتطوير المجتمع والسلطة: حينذاك انتشرت مفردات الثقافة الجديدة، مثل: سلطة الشعب، الجماهير، الاشتراكية. بحيث مهَّدت لفك الطوق السياسي عن الطبقات الشعبية الذي فرضته النخبة التقليدية الحاكمة، وأدَّى إلى تغييرات في بنية السلطة السياسية، التي أصبح عمادها: أعيان مدينيون، ضباط طموحون، أساتذة حزبيون...
لكنه على الرغم من أن التحولات السياسية ، قد أوصلت الطبقات الشعبية إلى السلطة، فإنها أدت أيضاً إلى «اندماج أيديولوجيا الدولة الشعبوية في صلب الثقافة السياسية». وهي بحد ذاتها، أصبحت تشكل عوامل احتكاك مع الحركات الأصولية، لأنها ترفض كل الاتجاهات الوضعية لأنها تتناقض مع سلطة الخليفة، ومع مبدأ الحاكمية لله، ولان دساتيرها غير مستقاة من المصادر الإسلامية الأساسية: الكتاب والسُنَّة.
فالتحديث في بني السلطة السياسية قاد إلى صراع دائم بين الحركة الأصولية والسلطات الحاكمة، لكن بشكل محدود في الخمسينيات والستينيات. أما بدءاً من السبعينيات فأتخذ الصراع أشكالاً أخرى.
 كان هدف إقامة الدولة الإسلامية يحتل مقدمة الأهداف المرسومة للحركات الأصولية، معتدلين ومتصلبين، وهي عملت لإتمامه على مراحل للأسباب التالية:
-التفاوت الكبير في ميزان القوى بين الحركات الإسلامية والأنظمة، التي كانت تمثل العائق الأساسي في طريق تحقيق المشروع الإسلامي.
-حالة المجتمع الإسلامي وما به من أوضاع التخلف، فكان لا بد من تقديم السعي إلى إصلاح المجتمع على السعي لتحكيم الشريعة.
لكن المتصلبين، لا يختلفون حول الهدف النهائي عن المعتدلين، وإنما يتعارضون معهم بالوسيلة التي تحقق الهدف. يرى المتصلبون«أن الجهاد هو الوسيلة الباقية بعد أن فشلت سائر الوسائل، وإن التغيير لم يبق منوطاً بإصلاح الأوضاع». أما ا المعتدلون فيميلون إلى تأهيل الأفراد والجماعات بالتربية الإسلامية وبالتقويم الأخلاقى.
بعد نكسة حزيران 1967م، أخذت الرجعية العربية تتصرف على قاعدة أن المد القومي العربي قد أنهك. وبعد قبول مصر، وبعدها سوريا، بقرارات مجلس الأمن الدولي التي  تدعو لتسوية الصراع العربي-الصهيوني، أخذت المنطقة تعيش مناخ مرحلة التعايش السلمي الذي اتفق عليه الجباران: السوفياتي والأميركي.
بعد وفاة عبد الناصر في العام 1970م، استغلَّ أنور السادات نشاط الحركة الإسلامية، وتوقها للظهور، بعد أن غابت فترة من الزمن تحت تأثير الأجواء العلمانية والحماسة القومية وآمال التحديث. فعمل على الاستفادة من زخمها، فأخرج الإخوان المسلمين من السجون لمواجهة التيارات القومية واليسارية. كما لعبت الدول الرجعية دورها، أيضاً، عن طريق مدِّ هذه الجماعات بالمال والسلاح لضرب حركة التقدم، وبخاصة الديمقراطية والاشتراكية.
ترافقت تلك الخطوات مع أحداث كان لها تأثير مهم في استنهاض المزيد من الحركات الأصولية في  كل من سوريا ولبنان، من أهم أسبابها:
-اتجاه نظام السادات نحو عقد صلح منفرد مع «إسرائيل».
-اندلاع الأحداث الدموية في لبنان منذ العام 1975م.
-إسقاط نظام شاه إيران في العام 1979م، حينما  استولى رجال  الدين على السلطة السياسية، وأسسوا دولة إسلامية، كان لها تأثيرات بالغة وإيجابية على تنشيط الحركة الأصولية في لبنان.
ففي لبنان كانت الحركة الإسلامية السنية، بشكل عام، تتلوَّن تارة بألوان قومية (الناصرية، منظمة التحرير الفلسطينية)، وتارة أخرى بألوان طائفية- سياسية محلية (الارتباط بالزعماء المحليين). ولكنها لم تنسج علاقات استراتيجية، مع الحركة السياسية الإسلامية في الخارج، لكنها نجحت في إقامة علاقات محدودة مع إيران.
أما الشيعة في لبنان، فلم تعرف حركات أصولية منذ البداية. فكانت أول إطلالة لها طائفية-سياسية أكثر منها دينية. أما منذ أوائل الثمانينات، وبتأثير من الأيديولوجية الخمينية، وُلد أول مشروع سياسي ديني، راح ينشط تحت اسم «حزب الله».
منذ تلك اللحظة التقت الحركتان الأصوليتان، الشيعية والسنية، في الدعوة إلى تأييد سلطة رجال الدين في إيران؛ إلا أن إقامة نظام حكم إسلامى، فوراً، في لبنان لم تكن تلاقي صدى متماثلاً عند جميع أعضاء هذا التيار.
وفي سوريا  ظهرت حركة الإخوان المسلمين، منذ نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، واصطدمت بالسلطة، منذ أواخر الخمسينيات، بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا. منذ ذلك الحين، تأثرت الحركة في سوريا بمثيلتها في مصر، خاصة بعد أن أعلن سيد قطب أفكاره، الداعية إلى حاكمية الله، وتكفير الأنظمة القائمة. فانقسمت الحركة في سوريا إلى تيارين: الأول يدعو إلى المهادنة، والثاني يدعو إلى الصدام مع السلطة.
أما في العراق، وعلى الرغم من تأثير التغيير الذي حصل في إيران في العام 1979م، والذي أنعش بعض الآمال عند الأصولية الشيعية، إلا أنها لم تستطع أن تضع مشروعاً سياسياً مستقلاً عن التأثيرات الإيرانية، بل إن هذا المشروع قد أُعلن من خارج العراق.
وفي الأردن  بدأت الحركة الإسلامية منذ أوائل الخمسينيات بانطلاق حزب التحرير الإسلامي، داعياً إلى بناء دولة إسلامية تبايع خليفة من واجباته: إقامة الحدود وسد الثغور.. والحكم بما أنزل الله. لكن الحكومة الأردنية عملت على احتواء الحركة الإسلامية، وجعلت منها حركة معتدلة.
وفي المغرب العربي خاضت الحركات الدينية، حروب الاستقلال جنباً إلى جنب القوى الوطنية. لكنها اصطدمت مع السلطة الليبرالية، وتصالحت مع العائلية التاريخية.
ففي ليبيا تأسست أول حكومة وطنية في العام 1952م، وتبنى الملك ادريس السنوسي الطريقة السنوسية، وكانت بنية النظام الملكي قائمة على التحالف بين السلفية- الطرقية والتنظيم القبلي، فورثته ثورة الفاتح من سبتمبر من العام 1969، متأثرة بالثورة الناصرية. فجمع النظام الجديد بين العقيدة القومية والإسلامية، فهو وحدوي عربي، وفي الوقت نفسه داعية للوحدة الإسلامية. فلهذا السبب لم تنشأ في ليبيا حركة أصولية.
أما في (المغرب الأقصى- تونس- الجزائر)، فقد كانت للحركة الأصولية مظاهر، ليست هي ذاتها في كل من الأقطار الثلاثة، مع وجود خصائص مشتركة بينها، ومنها:
-فيما له علاقة بموقفها من العروبة والإسلام، تكاد تكون نصوصها الدستورية متشابهة. فهي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة التي  تضمن حرية ممارسة الأديان، وتتعهد بضمان حرية كل فرد في ممارسة شؤونه الدينية.
-تأثرت الأقطار الثلاثة بالليبرالية الغربية، وحصلت حركة تفاعلات واسعة بينهما.
-لم تعرف الأقطار المغربية صدامات بين المذاهب الإسلامية، لأنها تكاد جميعها تنتمي إلى مذهب واحد، هو المذهب المالكي والمنهج الأشعري.
لذا نشأت الحركات السلفية، في هذه المنطقة، إما بحالة توافق أو مصالحة مع السلطة أو بحالة تناقض معها. فحالة التوافق أو التناقض كانت قائمة على قاعدة مدى قرب السلطة أو بعدها عن المجتمع، أي إذا كانت السلطة تقوم بوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية. لذا تميزت علاقة السلطة مع الحركات السلفية على الشكل التالي:
ففي تونس، اعترفت الحركة الإسلامية بالدولة على اعتبار أنها مختارة من الشعب، لكنها لا تعترف بشرعيتها الدينية  لأنها لا تحكم بالإسلام. والتقت مع المجموعة القومية على التأكيد على حكم الشعب، وليس على طريقة «الحاكمية».
وبالإجمال، فإن الحركة الإسلامية في تونس تسير على خطى التدين العقلاني الإسلامي، وذلك بتطعيمها التدين بمكاسب التراث العقلاني، وخاصة مبادئ المنهج الاعتزالي «الداعي إلى التحرر من ظواهر النص، والى الأخذ بالتأويل المقاصدي لاستبيانه الشرعية المنطقية لأحكام التنزيل».
وفي المغرب الأقصى انقسم العلماء والطرق الصوفية، فاسترضت الدولة العلماء. أما الطرق الصوفية فتغلغلت بين القبائل. لذا كانت علاقة الفقهاء والمتصوفة متوترة، إذ إن العلماء يمثلون السلطة السياسية، والمتصوفة يمثلون السلطة الروحية وهم مع الشعب.
إلاَّ أن المغرب الأقصى يتميَّز بوجود ترابط بين الإسلام وسلطة العرش فمن الإسلام يستمد العرش المغربي شرعيته الأولى. و الجماعات الإسلامية  لا تطعن بشرعيته، كما أن الشعب لا يفهم أن لا يحكمه الملك. وبذلك، تحولت إلى حركة تدعو إلى التحديث:
-فالجديد لم يعد بدعة، بل إنه يُقبل أيضاً عندما تقره المصلحة العامة».
-وإن التآخي بين الأمم الإسلامية، لم يعد ممكناً تحقيقه ضمن وحدة سياسية.
-والفقه الإسلامي مادة لتشريع مدني، على أن لا يعني ذلك «لادينية الدولة»، أو دولة دينية، بل أن تصبح الحكومة الإسلامية حارساً على الأخلاق والفضيلة.
-كانت «سلفية الإطار ليبرالية المضمون». تدعو إلى «الإخاء الإسلامي»، وليس«الجامعة الإسلامية». أي الدفاع عن الإسلام الذي يوفر للفرد حرية العقيدة وحرية الفكر، ويعترف للأمم بحقها في تقرير مصيرها واختيار النظم التي تريدها.
لكن الحركات الإسلامية المعارضة بدأت تظهر منذ السبعينيات من القرن العشرين، بصور من العنف، ضد بعض أطراف المعارضة، وضد الماركسيين الذين أخذوا يهاجمون الدين. ومنذ ذلك الحين برز التيار الإسلامي السري الداعي إلى إقامة الدولة الإسلامية، وانقسم إلى جماعات تكفِّر بعضها البعض. وفي المقابل نشأت مجموعات أخرى التي تضم «جماعة التبليغ»، والطريقة الصوفية البوتشيشية، اللتان لا تظهرا اهتماماً بالسياسة.
وبالإجمال استطاعت السلطتان في المغرب الأقصى وتونس، أن  ترجِّحا سيطرة السياسي على الديني، أو إجراء مصالحة بينهما لصالح السياسي؛ فلم تحصل تطورات  في بنى الحركات الأصولية تدفع باتجاه الصدام مع السلطة.
أما في الجزائر فأخذت  الحركات الأصولية تشكِّل خطراً حقيقياً على النظام الليبرالي الذي تأسس بعد حرب التحرير، بحيث أسهمت عدة أسباب في بلوغ هذه الحركات نقطة الصدام مع النظام. إذ قصَّر النظام الجديد بحل إشكاليتين أساسيتين:
-رفضه مشاركة أي طرف سياسي بالسلطة، وبذلك غيَّب الديمقراطية.
-وعجزه عن حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الجزائري.
وعلى العموم، استفادت الحركات السياسية الإسلامية، في الوطن العربي، من الحالة الثقافية الشعبية الإسلامية، واستغلَّت حالات الاحباط الشعبي المتولد عن فشل التجارب الوحدوية  القومية، أو عن الأخطاء  التي ارتكبتها الأنظمة القطرية، وراحت تفسر أسباب ما حصل على أساسها.
وفي المقابل، لم تجد التيارات القومية والوطنية، ما تدافع به عن أسباب النكسات فحسب، وإنما أيضاً كانت في موقع الناقد لما يحصل. وهي في الوقت ذاته لم تستطع أن  تنظم نفسها في حركة معارضة هادفة وفاعلة، لكي تقدِّم البديل القومي والوطني في سبيل مواجهة النكسات والعمل في سبيل تصحيح الأخطاء التي وقعت.
بين هذين التيارين: القومي والإسلامى، كانت الأكثرية الساحقة من الجماهير الشعبية، المصابة بالاحباط، تفتش عن تعليل وتفسير لما كان قد حصل.
لم تكن الوحدوية، داخل الوجدان الشعبي، قد ميَّزت هويتها بعد على غرار الانقسام الحاصل بين الأحزاب والحركات السياسية، فهي تارة وحدوية إسلامية؛ وتارة أخرى وحدوية قومية.
أما الأنظمة القطرية، وتياراتها الثقافية فوقفت موقف الذي يقاوم الثقافة الإسلامية باسم الحداثة، لكنها فشلت في التحديث ولم تنجح في تهذيب تلك الثقافة وتطويرها.
ولكل هذا، استفادت المشاريع الخارجية من حالة الصدام بين الحركات الإسلامية، والحركات القومية.
ففي مواجهة ما حُسِبَ أنه استفزاز مُوَجَّه، من التغريبيين المنتصرين لحضارة الغرب ضد الأصوليين المنتصرين للتراث التشريعي الإسلامي، نشأت عدَّة حركات إسلامية أصولية منظمة. ولأن دور الحركات المنظَّمَة هو الأكثر تأثيراً وفاعلية، سنسلِّط بعض الأضواء على أهمها، ومنها: حركة الإخوان المسلمين، وحركة الثورة الإسلامية في إيران.

ليست هناك تعليقات: