الثلاثاء، فبراير 14، 2017

دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثانية)

دونالد ترامب ليس مجنوناً
(الحلقة الثانية)
(2/ 3)
البعد الثاني: احتمال حصول متغيرات في سياسة أميركا.

لا شك بأن دونالد ترامب، الرئيس الجديد، قد ظهر بثوب جديد، وخطاب جديد، ونقد جديد، وتوجيهات جديدة، وأوامر تنفيذية جديدة. وعلى الرغم من كل ذلك، ظلَّت الشكوك تساورنا في مدى جديته في التغيير. وليس هذا فحسب، بل ما تزال الشكوك تساورنا في مدى استجابة القوى الإقليمية لأي تغيير محتمل هذا إذا حصل. وبالتالي تساورنا الشكوك أيضاً في إمكانية عودة عفاريت الفوضى التي عمَّت معظم أقطار الوطن العربي إلى قماقمها. والأكثر أهمية مما ذكرنا هو مدى استعداد القوى الرافضة لكل ما يجري لاستقبال أي تغيير إذا حصل في مصلحتها،  وما هو مدى استعدادها لمواجهة أي جمود في الوضعين الدولي والإقليمي.
وإذا كان من غير المنطقي أن نضع كل البيض في سلة احتمالات التغيير بالسياسة الأميركية، فمن غير الواقعي أن لا نضع بعض البيض فيها. لأن وضع البيض كله يمكن أن يتكسَّر إذا خابت الآمال في حصول تلك المتغيرات، وإذا حصلت نكون جاهزين لتوظيفها في خدمة قضايا الأمة الاستراتيجية. ولكن هل هناك احتمالات في بعض التغيير؟
نقول عن تلك الاحتمالات اختصاراً، إن صناعة القرار الأميركي ليست موكولة لرئيس، بل هي من صلاحيات الحكومة الخفية الحاكمة. وكانت آخر طبعة لها قد ظهرت في ثوب اليمين الأميركي المتطرف تحت خيمة جورج بوش الإبن، ومن أهم مهماتها أن تستولي على كرسي حكم العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن بدأ حلمها بالأفول على يد المقاومة الوطنية العراقية. وبأفول الحلم سقطت إدارة جورج بوش الإبن، لتظهر بماكياج آخر بصورة أوباما. وليس من المستغرب أن نعتقد بأن رئيسين أحدهما جمهوري والآخر ديموقراطي يمكن أن يعملا على تطبيق استراتيجية واحدة، فلأنهما صنيعتان للمذهب الرأسمالي، ويعملان لمصلحته. ولأن السلف استمر في تطبيق الاستراتيجية الموحدَّة ولكن باختلاف الوسائل، أي بالانتقال من وسيلة (الصدمة والترويع) إلى وسيلة (القفازات الناعمة)، أي بالانتقال من ضفة الوعيد الخشن إلى ضفة الوعيد الناعم. وكل هذا كان يعني أن جورج بوش وأوباما رئيس واحد مأمور بتنفيذ سياسة الولايات المتحدة الأميركية. وقد فشل الإثنان في إيصال سفينة أميركا إلى الشاطئ الآمن. فقد امتلأت الجعبة الأميركية بالإشكالات والمشاكل، ولم يستطع أي من الرئيسين أن يحتوى منطقة الشرق الأوسط كما تمَّ التخطيط لها قبل احتلال العراق.
إلى ماذا استندت حركة الحزب الجمهوري النقدية؟
بدأت تظهر معالم تلك الحركة منذ العام 2005، عندما اقتنعت إدارة جورج بوش بفشل احتلال العراق. ومنذ ذلك التاريخ أخذت قامات كبيرة من أصحاب المشروع تتهاوى واحدة تلو الأخرى، التي بلغت ذروتها في سقوط الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة في العام 2008. ولما غرقت إدارة الديموقراطيين بالأخطاء المتتالية، برئاسة أوباما، تلقف الجمهوريون الفرصة من أجل إعادة صياغة استراتيجيتهم مستفيدين من أخطائه وأخطاء سلفه الجمهوري. ولذلك حمَّلت الحركة النقدية أوزار الأخطاء لكل من الإدارتين. وإنه بمراجعة ملفات قامات إدارة جورج بوش التي حُمِّلت مسؤولية ارتكاب الأخطاء لاستطعنا أن نخمِّن إلى أي مدى وصلت فيه الحركة النقدية في صياغة خططها التصحيحية. وهنا يمكننا استعراض عناوين الاستراتيجية العامة التي وقعت فيه الأخطاء، وهي:
1-على صعيد استراتيجية الصدمة والترويع: فقد دفعت أميركا نتيجة تطبيقها بلايين الدولارات، ومئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين جسدياً ونفسياً. ولما كانت حسابات البيدر أقل بكثير من حسابات الحقل فقد أعلنت إدارة أوباما أنها لن تدع أميركا تنزلق مرة أخرى في حروب خارجية بشكل مباشر. وهذه الاستراتيجية ذاتها هي التي أعلنتها الحركة النقدية التي يقودها ترامب. وأبرز مثال على ذلك هو غزو أفغانستان الذي أسقطوا فيه نظام (القاعدة)، ولكنهم من دون كسب أفغانستان لأنها ما تزال تعيش فصولاً متواصلة من التدمير والفوضى. وكانت مغامرة احتلال العراق هي الأشد كارثية على الوضع الأميركي، إذا دفعت أميركا الثمن البالغ من أموالها وأرواح جنودها وأجسادهم وقواهم العقلية والنفسية. وأما النتيجة فهي أنها سلَّمت ثروات العراق وإدارته السياسية والعسكرية للنظام الإيراني على طبق من فضة. وقد انتهز النظام المذكور أثمن فرصة أُتيحت له، واعتبر أن بوابات تصدير ما زعم أنها (ثورة إسلامية) قد فُتحت له على مصراعيها. ومنها ابتدأت موجة الرعب تجتاح دول الخليج العربي بصورة رئيسية، الأمر الذي أطاح بعلاقات الصداقة القديمة بينها وبين أميركا. وكانت النتيجة النهائية أن أميركا دفعت كل شيء، ولكن إيران هي التي حصدت كل شيء.
2-على صعيد تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد: فقد باءت بالفشل الذريع، ويصبح هذا الأمر أكثر وضوحاً، بإعادة تسجيل النقاط التالية:
-في تنفيذ المرحلة الأولى في تونس ومصر وليبيا، فيما يختص بإيصال حركة الإخوان إلى الحكم في كل من تونس ومصر، فقد عاشت الإدارة الأميركية شهر عسل للاحتفال بالنصر أشهراً معدودات، ما فتئت أن خرجت من الاحتفال صفر اليدين بعد إسقاط حكم الحركة في كل من تونس ومصر. هذا ناهيك عن أن إسقاط نظام القذافي في ليبيا قد عاد بفوائده على بعض الدول الأوروبية، بينما خرجت منه أميركا صفر اليدين.
-في تنفيذ مرحلته الثانية في سورية، فقد انعكست القضية السورية بشكل مأساوي إلى حد لا يُوصف تدميراً وخراباً وقتلاً وتهجيراً، عجزت فيه أميركا عن الحصول على تقسيم فعلي للدولة السورية. وما استطاعته هو استغلال الحركة الكردية للقيام بعمل انفصالي الأمر الذي أثار موجة العداء مع تركيا. هذا ناهيك عن النتيجة الأكثر إيلاماً وهي توفير أسباب اليقظة الروسية وجرها إلى ميدان ملء الفراغ الذي تركه انهيار الاتحاد السوفياتي.
-في تنفيذ مرحلته الثالثة في اليمن: فقد كان سكوت الإدارة الأميركية عن التدخل الإيراني في اليمن أحد العوامل الرئيسية في خسارة صداقة السعودية. وعلى الرغم من ذلك، لم يتقسَّم اليمن، والوضع الأمني فيه حتى الآن ينذر بالكوارث. وهذا خطأ آخر ارتكبته إدارة أوباما في مغامرة تنفيذ مشروع (حدود الدم)، أي مشروع الشرق الأوسط الجديد.

3-على صعيد حكم العالم بقطبية واحدة:
بعد أن اطمأنت الإدارات الأميركية المتعاقبة على انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي يعني انهيار آخر عائق أمام الاجتياح الأميركي للعالم، أعلن فوكوياما باسم الأميركيين الجدد نهاية التاريخ. ونام اليمين الأميركي المتطرف على وسادات من حرير. ونتيجة لما حصل، ولعوامل متعددة، فقد استفاقت روسيا على المخاطر الجديدة التي ستواجهها إذا لم تملأ الفراغ الهائل الذي تركه انهيار الاتحاد على الأمن العالمي، ويأتي في الأولوية من الأمن الروسي وأمن حلفائها الدوليين. وبدلاً من استمرار إدارة أوباما في تنفيذ مشروع جورج بوش، فقد وفَّر لروسيا ظروف يقظتها. وهذا فشل آخر ذريع أشارت إليه حركة الحزب الجمهوري، والذي أعلن عنه ترامب، وصرَّح بوجوب تصحيحه.
ما قمنا بالإشارة إليه أعلاه، كانت محطات توقفت عنده الحركة النقدية الجديدة التي يمثلها دونالد ترامب الرئيس الأميركي الجديد.
ومن أجل تقريب الصورة إلى أكثر ما يمكن من الوضوح، نقسِّم الحركة النقدية التي تراكمت في ذاكرة الحزب الجمهوري، والتي يمثلها دونالد ترامب إلى القضايا الاستراتيجية التالية:
الحركة النقدية لاستراتيجية (نهاية التاريخ) التي شوَّه تيار الأميركيين المحافظين معناها الذي رسمه فوكوياما، والذي قصد فيه أن تلك النهاية تعني وقوف العالم عند حدود الديموقراطية الأميركية التي إذا سادت سينعم العالم بالسلم الدولي المتلازم مع حماية الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وبعد أن صُدم بما أخذ يتسرَّب من جرائم كبرى للاحتلال الأميركي، انفصل عنهم. وهذا ما فعله غيره من أقطاب سياسيين وعسكريين.
وهنا سنقارب بين أهم معالم الحركة النقدية مع الشعارات التي أعلنها دونالد ترامب على الشكل الافتراضي التالي:
-ظلَّ شعار مصلحة (أميركا أولاً) ثابتاً من ثوابت الحركة النقدية للحزب الجمهوري، ولكن التغيير الذي حصل هو بالانتقال من تنفيذ مشروع (القرن الأميركي الجديد) من خارج أميركا بالقوة العسكرية، إلى تنفيذه من داخلها على قاعدة إصلاحات داخلية يلمس الأميركيون جدواها على أن يتم التدخل الخارجي على قاعدة الخدمات المدفوعة الأجر التي تعود على الأميركيين بالمنفعة. وهذا وإن اختلف تنفيذ الشعار الاستراتيجي بالوسائل إلاَّ أنه ظل شعاراً مركزياً واستراتيجياً أميركياً. وبدلاً من تصديره بقوة السلاح، تعتقد حركة الإصلاح الجديدة في الحزب الجمهوري، أنه يمكن تصديره بقوة السياسة والاقتصاد. ويأتي في هذا الافتراض الصوري، خوف أميركا من الغرق من جديد في حروب خارجية خسرت فيه تريليونات الدولارات وعشرات الآلاف من الخسائر البشرية من دون الحصول على أرباح مجزية. هذا بالإضافة إلى خسارة أصدقائها من دون أن تربح أصدقاء آخرين.
وإسناداً إلى خروج الاستراتيجية الأميركية من نفق الخسارات المتتالية،  سيكون من أهم معالم التغيير الافتراضية، الانتقال من سياسة تغيير الأنظمة في الخارج على قاعدة الصدمة والترويع، التي أثبتت فشلها الذريع، إلى سياسة المحافظة على أصدقاء أميركا، وتوفير حمايتهم لقاء أجور مدفوعة.
-واستناداً إلى إقلاع أميركا عن سياسة الصدمة والترويع بالخروج من نفق الحروب الخارجية، يعني هذا أيضاً الخروج من نفق استراتيجية الفوضى الخلاقة، الاستراتيجية التي كانت إدارة جورج بوش تستخدمها في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. وأما السبب فهو أن أميركا قد خسرت أصدقاءها من أجل تنفيذه، ولكنها لم تربح نظاماً واحداً من الأنظمة التي تم تطبيق استراتيجية الفوضى الخلاقة فيها. ولهذا السبب فقد أعلنت الحركة النقدية، كما تدل سياقات الأحداث، وكما تدل البراهين الافتراضية من قراءة تصريحات ترامب وقرارته التنفيذية، على أن الفوضى الخلاقة التي استدعت توظيف الإرهاب الديني في الدول المشمولة بالمشروع، قد ارتدَّت سلباً ليس على الدول المشمولة لوحدها، بل وصلت إلى قلب الدول الغربية، ومنها القلب الأميركي. وإلاَّ ما هو تفسير الدافع الذي جعل ترامب يصدر قرار حظر دخول رعايا سبع دول إلى الأراضي الأميركية. لإننا نرى أنه ليس هناك أي منطق سياسي أو تجاري يستطيع أن يفترض بأن ترامب، والرأسمالية الأميركية، يهوى قطع العلاقة مع مئات الملايين من المستهلكين للمنتوجات الأميركية عندما يحظر على رعاياها الدخول إلى أميركا؟
-إن فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد، يعني فشل التحالف مع الدول المستفيدة منه سياسياً وأيديولوجيا، بالشكل الذي شاركت فيه إدارة جورج بوش أولاً، وجاراه فيه خلفه أوباما ثانياً، عندما فتحا كل أبواب تسهيلات المشاركة مع النظام الإيراني في تنفيذه. فماذا كانت النتيجة؟ والجواب على ذلك جاء في تصريحات ترامب عندما اعتبر أن أميركا دفعت، وإيران هي التي جنت الأرباح الطائلة، سواءٌ أكان في العراق، أم كان على صعيد مزيد من انتشار النفوذ الإيراني وتعميقه في دول عربية أربعة، هذا ناهيك عن تسلله من أبواب وشبابيك معظم الدول العربية. وهذا يعني أن أميركا حصدت الخسائر السياسية والاقتصادية، بينما ربحها النظام الإيراني الذي أعلن نجاح مشروعه الإمبراطوري في الوطن العربي.
-وبين هذا الإخفاق أو ذاك، وبين احتمال متغير في السياسة الأميركية الجديدة، في هذه الزاوية أو تلك، فلن ننسى الإخفاق الذريع في تطبيق استيلاء أميركا على العالم بقطبية حاكمة واحدة. لأن شبق الغرور الأميركي قد أثار مخاوف الدول الكبرى واستثارها لتسريع خروجها من نفق تسليم رقبة العالم لها، مما يعني تسليم رقبتها لأميركا بالكامل. ولهذا ولكبح المزيد من الصراعات مع العالم الآخر، فقد أعلن ترامب مواقفه الإيجابية من التعاون مع روسيا. وإن هذا الأمر ما يزال قيد الاختبار.
إستنتاجات
بعد استعراض عوامل المتغيرات الافتراضية في السياسة الأميركية، التي ما تزال مسجلة في القيود النظرية،  وبانتظار خروجها إلى دائرة التطبيق العملي، يمكننا على أساسها الانتقال إلى البحث عن أنجع السبل التي على النظام العربي الرسمي أن يسلكها للاستفادة من هذه الفرصة. وإذا كانت المراهنة ضعيفة على حسن سلوك الأنظمة، فإن القوى العربية الثورية، وفي المقدمة منها قوى المقاومة العربية في العراق وغيرها، أن تدرس فرص الاستفادة من المتغيرات إذا جصلت، وتحصين مناعتها في الخندق المقاوم إذا لم تحصل. وهذا سيكون موضوع بحثنا في الحلقة الثالثة والأخيرة من بحثنا هذا والتي ستكون تحت عنوان: (البعد الثالث: عوامل مواجهة المرحلة الجديدة في الوطن العربي).


ليست هناك تعليقات: