الاثنين، مارس 18، 2019

دراسة عن الحراك الشعبي العربي الحلقة الخامسة


دراسة عن الحراك الشعبي العربي
الحلقة الخامسة
(5/9)
رابعاً: نظرة توثيقية لمشاريع الشرق الأوسط الجديد:

ولأن تحويل نظرية المؤامرة إلى مشروع تنفيذي مرَّ بمراحل دراسة طويلة ابتدأت منذ الخمسينيات من القرن العشرين، تاريخ دخول الولايات المتحدة الأميركية إلى القلب من قضايا الشرق الأوسط. وبلغت ذروة نضوجها في عهد حكم اليمين الأميركي المتطرف، الذي كان بوش الإبن رأس أداته التنفيذية باحتلال العراق. نرى من المفيد، ومن أجل توضيح الصورة أكثر، أن نلقي نظرة مكثَّفة على تأصيل تاريخي لتطور المشروع وتطويره حتى وضعه في صيغته النهائية.
إن المؤامرة ضد الأمة العربية هي فعل دائم في مشاريع الغرب والصهيونية، ابتدأت منذ اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، كمشروعين متلازمين مع الحرب العالمية الأولى. ولما شكلت الدولة القطرية نقطة البدء في إعادة الوعي القومي العربي عن طريق البعث والناصرية، يعني ذلك أن اتفاقية سايكس بيكو، القائمة على أسس التقسيم الجغرافي، لم تنجح في تطبيق أهدافها. فكان لا بُدَّ أمام التحالف الغربي الصهيوني من ابتكار صيغ جديدة ومشاريع تقسيمية جديدة، اشتهرت بمبدأ (التقسيم على أسس عرقية وطائفية)، أي تفتيت كل قطر عربي إلى دويلات طائفية. وابتدأت أولى مظاهر صياغة المشروع في عهد الرئيس أيزنهاور، إلى أن تم إنضاجه في أواخر القرن العشرين، وابتدأ تنفيذه عبر احتلال العراق في العام 2003. وعن ذلك ولكي يقنعهم بالموافقة على قرار الحرب ضد العراق، خاطب دونالد رامسفيلد المجتمعين لإقناعهم بأهمية العراق والبدء باحتلاله، واصفاً إياه بأنه يمثل مركز الدائرة في موقعه الجغرافي، الذي إذا ما انهار فستنهار الدول المحيطة به كمثل أحجار الدومينو التي ما إن ينهار أحدها فستنهار الأحجار الأخرى.
ولكي تصبح الحقيقة أكثر وضوحاً، ولأن الموضوع لم يتحول حتى الآن إلى ثقافة لدى الأحزاب، وخاصة حزب البعث العربي الاشتراكي، نرى من المفيد تكثيف تأصيله تاريخياً، عبر الإشارة إلى مضمون بعض الوثائق التي تؤكد البدء بتنفيذ المشروع. واختصاراً لن نعود إلى بداية تأسيس المشروع الأم الذي وضعه مؤتمر بانرمان في العام 1907، وأنتج اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، بل سنبدأ بالإضاءة على المرحل التي بدأت منذ السبعينيات من القرن العشرين.
-الوثيقة الأولى: تعود إلى السبعينيات من القرن العشرين، وعن ذلك قال كيسنجر: (إن ازمة الشرق الاوسط ولدت مع الله وتموت معه). ويعني ذلك أنه لا طير يطير بسماء الوطن العربي من دون أن يكون مرصوداً بالعين الأميركية.
-الوثيقة الثانية: تتفق الدراسات على أن المؤرخ والباحث الأميركي البريطاني اليهودي الأصل برنارد لويس، الذي وصف بـ«مهندس سايكس بيكو 2»، يعدّ صاحب أول مخطط مكتوب ومدعم بالخرائط لتقسيم المنطقة. ووضع لويس هذه الخطّة سنة 1980 بتكليف من وزارة الدفاع الأميركية وزبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر.
-الوثيقة الثالثة: لا بد أن نتذكر ما قاله بوش الإبن من على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية (أبراهام لينكولن) في الأول من أيار/مارس 2003: «لقد أمنا حماية أصدقائنا، ومن العراق سنعيد رسم خارطة المنطقة».
-الوثيقة الرابعة: أشارت التقارير الصحفية، بتاريخ 12/ 4/ 2003، إلى أن خبراء الاستراتيجيا الأميركيين يرون أن تغيير النظام في بغداد ينبغي أن يفسح لعملية «اعادة ترتيب» في هذه المنطقة، تمزج ما بين إحلال الديموقراطية والتحديث الاجتماعي واستئصال الارهاب ودعم المصالح الاميركية وضمان أمن (إسرائيل). وبحسب نظرية معروفة بنظرية «الدومينو الديموقراطي» أشار مساعد وزير الدفاع الأميركي بول ولفوويتز ومساعد وزير الخارجية جون بولتن، وهما من المنظرين لهذه العقيدة، إلى أن طموحات واشنطن لن تتوقف عند بغداد، وإن كان استخدام القوة المسلحة غير مطروح بالضرورة بالنسبة لدول أخرى.
-الوثيقة الخامسة: اعتراف «جورج تينيت»، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حتى يوليو من العام 2004، في كتابه «في قلب العاصفة»، قائلاً: إن إطاحة النظام الوطني في العراق كانت مقدمة لإحداث »نقطة تحول في الأنظمة في الشرق الأوسط«.
-الوثيقة السادسة:  في سبتمبر ( أيلول ) سنة 2005 ، تعود إلى ريتشارد هيس ، مدير التخطيط السابق في وزارة الخارجية الأميركية، والذي يصدر إحدى أهم المطبوعات تأثيراً في الشؤون الدولية، التي تصنع فلسفة الأفكار الأولى للسياسات الأمريكية المركزية. لقد نشر هيس مقالا تحت عنوان (تغيير الأنظمة)، واقترح فيه طريقتين مجربتين وناجحتين، كما يقول، لمجابهة التهديد ضد المصالح الأمريكية، الأولى هي تغيير الأنظمة من الخارج، وبالقوة. والثانية هي الاحتواء أو التغيير المتدرج، من الداخل، ولا ثالثة لهاتين الطريقتين تصلح للتخلص من أنظمة تقف موقف الممانعة من مصالح الولايات المتحدة أو تهددها باحتضان أو تهيئة البيئة الصالحة لنشوء الإرهاب ، وتداعياته.
-الوثيقة السابعة: أثناء زيارة كونداليزا رايس إلى بيروت في تموز من العام 2006، أي أثناء العدوان الصهيوني على لبنان، أعلنت قائلة: (هذا الشرق الأوسط الجديد يولد من جديد). قالت ذلك، وكأنها قدمت إلى لبنان واثقة من أن العدوان الصهيوني كان كفيلاً بالقضاء على المقاومة اللبنانية، على أن يعقب إعلان النصر، إعلان آخر بتطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
-الوثيقة الثامنة: في العام 2007، نشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية نصاً تحت عنوان (الشرق الأوسط الجديد، أو حدود الدم). وأرفقت به خرائط تفصيلية عن تقسيم الأقطار العربية.
-الوثيقة التاسعة: بعد انطلاق أول حراك شعبي عربي في تونس، نقلت التقارير المدعمة بالصور ظهور هنري برنارد ليفي، المفكر الصهيوني، في كل ساحات الحراك، بدءاً من الحراك المصري وصولاً للحراك الشعبي السوري. وقد أطلق عليه حينذاك لقب (مهندس الربيع العربي).
-الوثيقة العاشرة: «مؤتمر حول الاستخبارات»، انعقد بتاريخ 27/ 10/ 2015، برئاسة مدير المخابرات الفرنسية، ومدير المخابرات المركزية الأميركية، والمؤتمر نظمته جامعة جورج واشنطن. وكانت قضايا الشرق الأوسط محور البحث، وكان من أهم ما أعلنه المديران، هو أنهما تجاهلا الإشارة إلى أهداف إسقاط الديكتاتورية والمطالبة بالديموقراطية. وبحثا الوضع العربي بالإجمال وليس بحث قضية كل قطر عربي على حدة دليل على شمولية المخطط. وقد اتفقا على أن «الشرق الأوسط الذي نعرفه، (أي القديم) انتهى إلى غير رجعة». وصرح مدير المخابرات الأميركية، قائلاً: إن «الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى وأشكُّ بأن يعود مجدداً». وعن العراق وسورية قال الفرنسي: «العراق وسوريا لن تستعيدا حدودهما السابقة أبداً». ووافقه الأميركي بتأكيده، قائلاً: «نحن نرى أن سوريا مقسمة على الأرض، النظام لا يسيطر إلا على جزء صغير من البلد: ثلث البلد الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. الشمال يسيطر عليه الأكراد، ولدينا هذه المنطقة في الوسط التي يسيطر عليها داعش». وأكد أن «الأمر نفسه ينطبق على العراق»، مضيفاً «لا أعتقد أن هناك إمكانية للعودة إلى الوضع السابق».
وهذا إذا ما أضفنا إلى تلك الوثائق، وقائع ونتائج ما حصل في كل من تونس ومصر، تصبح صورة مشروع الشرق الأوسط الجديد أكثر وضوحاً.
بما يتناسب مع مقاييس مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تبنته إدارة الرئيس جورج بوش الإبن، وعملت على تنفيذه ابتداء باحتلال العراق. وبما يتناسب مع استراتيجية التعاون مع (الإسلام المعتدل) التي رسمها أوباما في جامعة القاهرة في العام 2009، راحت أميركا تفصِّل أثواب الأنظمة العربية، والحليفة لها بالدرجة الأولى، على مقاسات ذلك المشروع. فابتدأت منذ العام 2011 بتغيير نظام زين الدين بن علي في تونس، ونظام حسني مبارك في مصر لأن مواصفاتهما لا تنسجم مع تفتيت الوطن العربي إلى دويلات طائفية، بل نظام يقوده الإخوان المسلمون هو المؤهل لهذا الغرض. وكان البدء بهما قد ضلَّل المحللين لسببين رئيسين، وهما:
-السبب الأول: لم يكن بحسبان أحد أن مشروعاً خطيراً ترعاه أميركا يمكن أن تبدأ في تنفيذه بإسقاط الأنظمة الحليفة لها.
-السبب الثاني: على وقع الإعجاب بأمثولة الـ(بو عزيزي) الذي أضرم النار بنفسه ضد بطش أجهزة الأمن التونسية، خُيِّل لجميع المحللين أن ثورة شعبية فعلية قد ابتدأت، خاصة أن شوارع تونس والقاهرة قد امتلأت بالجماهير الشعبية التي راحت ترفع شعار إسقاط الأنظمة الديكتاتورية. وجاء الدعم الأطلسي الواضح لقيادة الحراك في ليبيا الذي شكَّلت المخابرات الغربية قيادته، ووفَّرت لها ملاذاً آمناً في بنغازي، ليكشف الغطاء عن الدور الأميركي في لعبة إسقاط الأنظمة.
وبوصول حركة الإخوان المسلمين إلى كراسي الحكم في البلدين، التي حصلت تحت غطاء شرعية الانتخابات النيابية، أخذت خيوط اللعبة تنكشف واحداً تلو الآخر. وبإسقاط حكمهم ابتدأت خيوط التناقضات تظهر واحداً تلو الآخر بين السعودية وأميركا.
وهذا غيض من فيض الوثائق المنشورة في أدراج الإدارة الأميركية، ولكن باختصار ينص مشروع الشرق الأوسط الجديد على تقسيم الوطن العربي إلى دويلات طائفية آخذة بعين الاعتبار إحداث تقسيم حسب الحدود الجغرافية لانتشار الطوائف. ومن أهم معالمه تصعيد حركة التيارات الدينية السياسية وتأثيرها في الحراك الشعبي العربي.
لقد كانت عوامل اختراق الانتفاضات جاهزة عند القوى الخارجية، وكانت مخططات انتهاز فرصة اختراق الثورات جاهزة أيضاً، والدليل على ذلك أن القوى الغربية قد استخدمت مجلس الأمن الدولي لتمرير مخططها في ليبيا مثلاً، كما جرت على صعيد الحراك الشعبي في سورية لاحقاً.
لقد سبقت الاختراق الأجنبي للانتفاضات العربية مرحلة تمهيدية تسابقت فيه مئات المنظمات التي كانت تعمل تحت واجهات (منظمات أهلية)، تعني بالتدريب على التحرك من أجل الديموقراطية، كانت تنظم فيه المؤتمرات والدورات التدريبية للشباب في هذا الحقل، وإلى أن يتم إعداد بحث كامل عنها، فهذا ما يدفعنا إلى وضع فرضية تربط بين ما يجري من دعم خارجي للانتفاضات وبين وجود مجموعات، من خريجي الدورات المشار إليها أعلاه، نزلت إلى الشارع وأدارت حملات الأنترنت لتوجيه المتظاهرين والترويج للشعارات.
وأما عن التدخل الخارجي، منذ انطلاقة الانتفاضات، فقد ظهر بشكل أساسي، بالترويج لشعارات تحرير الجماهير المنتفضة من سطوة الأنظمة الدكتاتورية والدعوة إلى إحلال الديموقراطية. كما راحت تعمل على تمرير قرارات مجلس الأمن الدولي تحت ذريعة (حماية المدنيين). ولكن ما كان لأحد أن يصدق الغيرة الغربية والصهيونية على تخليص الجماهير العربية من سطوة الديكتاتورية لأنها هي التي شكلت الحليف الرئيسي لمعظم تلك الأنظمة منذ عشرات السنين. ولكن تلك الغيرة كانت من أجل تمرير السم للجماهير الشعبية بصيغة الدسم الذي تحمله الشعارات المغرية البراقة. ومن أمثال تلك الشعارات (إسقاط الأنظمة الديكتاتورية)، واتخاذ قرارات (حماية المدنيين)، و...
لم تكن مظاهر التعاطف الغربية والصهيونية، وكذلك دول الإقليم المجاور للوطن العربي، صادقة على الإطلاق. سواء بدعم الجماهير سياسياً، أم دعم حركات المعارضة بالأسلحة والعتاد والتمويل. بل كانت مبنية على مخطط تفتيتي لأقطار الوطن العربي، كل قطر على حدة، على طريق تفتيت النسيج الاجتماعي والجغرافي لكل قطر، وصولاً إلى تنفيذ مؤامرة التقسيم على أسس القواعد التي نص عليها مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ولم تكن المؤامرة على الأمة العربية شيئاً جديداً، بل تعود جذورها في التاريخ الحديث والمعاصر إلى أكثر من قرن من الزمن. فالمؤامرة الغربية والصهيونية كانت فعلاً دائماً في مشاريعهما، وإن ابتدأت مع مؤتمر بانرمان في العام 1907، وتطبيقاته التنفيذية في وعد بلفور، واتفاقية سايكس بيكو، التي وضع أسسها النظرية والتنفيذية كل من فرنسا وبريطانيا، فإنها لم تنته لأنها لم تبلغ الأهداف الكاملة منهما. ولذلك، ومنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، استأنفت الصهيونية والولايات المتحدة الأميركية بعد أن ورثت تركة الانتدابين الفرنسي والبريطاني، تنفيذ المشروع على أسس جديدة ووسائل جديدة.
ولذلك نفسر التوافق الأميركي والغربي من جهة ورائدي المشروع الإسلامي الأممي الذي تسهم في تنفيذه كل من إيران وتركيا من جهة أخرى.


ليست هناك تعليقات: