الأحد، فبراير 28، 2010

مراجعة كتاب (مركزيــة الأنـا)

-->
مراجعة كتاب (مركزيــة الأنـا)

غادة علي كلش

-->

توطئـــة

هل الدخول إلى الإنسان مجازفة تحفها مخاطر الاصطدام بالعتمة؟

أعتقد أنني لا أخاف الدخول في هذه المجازفة، لأنني أحمل أدوات حقيقة لمواجهتها. فأنا أحمل فانوساً خفيف الضوء، ولكن برؤية عميقة. إنه دخول يبحث في كينونة الإنسان، وفي تفسير أناه.
كيف هي، وكيف تشكل الكينونة "أنانها" الواحدة في المجتمع؟
كيف يحصل ذلك، ولا سيما وأن الإنسان يتألف من أعضاء مختلفة؟ وكل عضو منها له "أناه" الخاصة. فالإنسان "كأنا" واحدة، إذاً، فيه "أنانات" عديدة، يصعب فهم الطبيعة العملية لكل واحدة منها بمفردها.
إنني أسعى، من وراء هذا الدخول، إلى وصف عملية الأداء الذاتي للإنسان في محاولة لشرح مفهوم "الأنا الواحدة"، من خلال طبيعة تكوينها، أو من حيث كونها تتَّسم بالفطرة الاجتماعية. هذه الطبيعة التي تتشكل من عمل كل أعضاء جسم الإنسان، بما لها من اختلاف في أشكالها وأدوارها ومشاعرها.
ولعل الأفكار التي أسوقها، هنا، تلتقط صورة جديدة ومختلفة عن مفهوم كينونة الإنسان، كما تتصوره الاتجاهات التقليدية. ولعلها، أيضاً، تنجح في تدوين تفاصيل واضحة عنها، وذلك على الرغم من تطابق مساراتها الحسية، والفطرية والعملية، وتناقضها في آنٍ واحد.
- I -
أسئلة كثيرة راودت ذهني وتراوده، في شكلها وتفاعلها ومضمونها وانفعالها هي أسئلة تطال فعل كينونتي كإنسان.
أنا أتساءل: ما هو تعريف تلك الكينونة؟ أين تبتدئ وأين تنتهي؟ من يقودها؟ ومن يوجِّهها؟
كيف أحرّك كل أعضائي، التي هي أدوات أستخدمها، في حين لا أستطيع تحديد (الأنا / العامل) التي تعطي الأوامر بتحريكها، كما أني لا أستطيع تحديد مركزها والأدوات التي تستخدمها؟ كيف أستطيع تحديدها، وهي ما أحرك بها كل أعضائي، وأوجّه بها نفسي متى أشاء، بحيث يتم التحريك والتوجيه من خلال المحدد المادي والإرادي المتاح لي، بينما لا أستطيع أن أفهمها أو السيطرة عليها في مواقف عديدة؟
حين أتصور أني مالكة لنفسي وموجّهة لها، لماذا أضع تصوري الشخصي خارج نفسي الموجّهَة من نفسي؟
أين هو "شخصي" بين أعضائي وجسدي؟ أين هي "الأنا"؟ وهل هناك، فعلاً، "أنا" رئيسة مالكة آمرة منفصلة عن مجموع الإنسان؟ هل هناك، فعلاً، إنفصال مادي وفكري وعضوي بينها وبين سائر أعضاء الجسم؟
تُرى، إذا كانت هذه اليد هي يدي، كيف أستطيع أن أحركها بسرعة أو بتلقائية أو بنظام، من غير أن يكون لي يدٌ أخرى تحركها، أو مركز عضوي واحد آمر من المفترض أن تكون الأنا فيه؟
وإذا كانت هذه العين هي عيني، كيف أستطيع أن أنظر بعيني إلى عيني؟ هل بين العين والدماغ أوجد "أنا": الذات الواحدة الموجودة؟ هل أوجد في العين فقط، أو في الدماغ وحده؟
تُرى، إذا كنت أنا الناظر إلى المنظور بواسطة العين، فمن أكون أنا ها هنا بالتحديد؟ وفي أي مركز أتواجد حتى يحق لي أن أقول: هذه عيني التي تساعدني على النظر، وحتى يتسنى لي أن أفيد من فعله؟
ثم إن أنا وضعت يدي خلف ظهري، كيف أكون قد وضعتها من غير أن أفترض أنني حملت اليد بأداة تخصني ثم حرّكتها بواسطتها؟
أما قلت أن اليد هي يدي؟ أعني إذا وضعت اليد على مكان ما، فمن يكون واضعها؟ هل أكون أنا الفاعل؟ ولكن من أكون أنا كفاعل من غير اليد؟ هل أكون الدماغ؟
ولكن إذا كنت دماغاً، فكيف أقول إنه دماغي؟ هل الدماغ يحمل اليد ويحركها وينقلها من موضع إلى آخر مدى لحظات الحياة؟ هل الدماغ هو اليد الذي إذا بُتِرَت، ظل هو في موضعه وهيئته كائناً عضوياً سليم العمل، وظللت أنا الذات الواحدة المحسوسة خارج اليد المبتورة، وخارج الدماغ المعافى، وخارج كل الأعضاء التي أضعها في خدمتي تابعة كالآلة؟
وإن أنا تلفظت بعبارة: هذا صوتي. وسمعت صوتي، فمن أكون حينئذٍ؟ ومن أي عضو أتلفظ بهذا القول؟
أقول بالطبع بواسطة العضو الحنجرة. ولكن إلى أي كيان تعود "ياء" النسبة في كلمة صوتي؟ هذا صوتي، فصوت من هذا بالتحديد؟
هل هو صوت الدماغ؟ ولكنني لست دماغاً، طالما أنني أقول عن الدماغ إنه دماغي!!!
هل هو صوت القلب؟ وهنا، أيضاً، أقول عن القلب إنه قلبي.
إذن، من أنا؟ وما هي هذه الأنا، ومن هي؟ كيف يعيش الإنسان بأعضائه التي تقوم بخدمته من غير أن يحدد ماهيته وعمله؛ وأين يأتي موقعه ودوره بين أعضائه؟
هل إذا استطعت أن أتصور الأنا منفصلة عن الأعضاء، أستطيع أن أحدد شكل هذه "الأنا" بدونها؟
مثلاً، إذا قلتُ: هؤلاء رأسي وأذنيَّ وقلبي وعينيَّ وحنجرتي، وهؤلاء صدري وبطني وأطرافي وعظامي وأوردتي ودمائي، فأين أصبح أنا بين كل تلك الأعضاء؟ وما وماذا أكون، ومن أكون؟
أين المركز الذي أدير به أعضائي؟ ولماذا يبقى غير واضح المفهوم، وغير محدد؟ ولماذا يبقى غير محسوس؟ ولماذا يبقى هناك انفصال بينه وبين الأعضاء؟
الأعضاء محسوسة، وأعمالها أيضاً. بينما المركز الذي يديرها ويوجهها ويعطيها الأوامر، وينسِّق بينها، يبقى غائباً لا يمكن مشاهدته بالحس ولا باللمس؟ هذا المركز هو الذي نطلق عليه إسم "الأنا".
- II -
أنا، أي هناك جزء مني، يعطي الأوامر إلى أعضاء هي أعضائي. لكن هناك انفصال بينه وبينها: فهي محسوسة ملموسة، تقوم بأعمال منظورة، أما هو فيبقى غير مرئيٍ، بل بعيد عن الحس واللمس.
أنا، بالطبع، شخصية واحدة في الحياة، وأعيش مع الكائنات الأخرى، ومع المجتمع، بمثل تلك الشخصية. ولكن هل أنا "أنا" واحدة أسيطر، من مكان خفيٍّ، على كل ما يقال إنه جزء مني؟
لست مقتنعة بوجود انفصال حقيقي بين الأنا، كشخصية مُوَحَّدَة، وبين كياني الإنساني المتعدد. بل أرفض وجوداً "لأنا" وهمية غير مرئية؛ لذات مُبْهَمَة مستقلة عن وحدويتي.
إذن، ماذا عندي من أفكار؟ وبماذا أريد أن أدافع عن قناعتي؟
بداية، أنا لا أبحث عن سر الروح، فالروح أمر مجهول، والوصول إلى معرفته أمر مستحيل. وإنما أبحث عن مركزية رئيسة للأنا، وعن طبيعتها المتعددة.
أنا على يقين أنني إنسان واحد: له عينان وشفتان وقلب ويدان ورئتان ولسان ودماغ إلخ.
لكن هل نتصور إنساناً من غير أعضائه؟ فإذا قلنا: لا نستطيع، لا بد من أن نتساءل: أين هو موقع هذا الإنسان من هذه الأعضاء؟
من هنا أستطيع أن أحدد هدفي من البحث، والذي يتلخص بالسؤال التالي: كيف تتشكَّل كينونة للإنسان واحدة متَّحدة في الظاهر، بينما هي متعددة في الدور والشكل والإحساس؟
إن الإنسان مخلوق كائن واحد، لكنه كائن منوّع: متعدد الأعضاء والمشاعر والأفعال. لذلك هو واحد مملوء بالتناقض. فعنصرا الوحدة والتناقض في الإنسان يشكلان سمة أساسية من سمات شخصية الإنسان. من هنا نرى أن مظاهر الشخصية الواحدة مستمدة من الهيئة العضوية المتشكلة القائمة على الاختلاف والائتلاف معاً: على اختلاف أحجام الأعضاء وأشكالها وأدوارها، وعلى ائتلاف مساراتها وأعمالها.
من هنا نرى أن الإنسان يحمل في داخله جوهراً نفسياً من جهة، ومظهراً عملانياً وحسياً محدداً من جهة أخرى. ينبغي، في مثل هذه الحالة، إدراك هذا التكوين وتفسيره، من أجل فهم كينونة الإنسان النفسية وتحديدها؛ تلك الكينونة التي تقوم على مظاهر وعوامل بعضها فكري وبعضها الآخر حسي، بحيث يتداخل بعضها بالبعض الآخر، وتتعارض أحياناً وتتوافق أحياناً أخرى.
إنني، هنا، لا أفصل بين مفاهيم الدين التي تعلمناها في الكتب السماوية من جهة، والتي عرفناها من اللغة والتاريخ من جهة أخرى، عن البحث الذي أقوم به. لكن ما هو الذي يميز بحثي هذا عن كل تلك المفاهيم؟
إن بحثي هذا يعمل، من خلال دلالته وقراءته وفهمه، على قاعدة الانطلاق من المحسوس قدر الإمكان- للبحث عن طبيعة كينونة الإنسان في تنوعها العملي والحسي والمادي والوظيفي؛ بمعنى كيف تؤدي هذه الكينونة وظائفها من خلال تعدد آلاتها / أعضائها، وتكون بالتالي شخصية إجتماعية واحدة منسجمة متوحدة؟
إن السؤال الذي أرفعه، حول هذه النقطة، هو: هل تعيش الأعضاء لخدمة الإنسان؟ وهل هي مجرد أعضاء تتميّز عن الإنسان بالأهمية والمكانة أو المسؤولية أو الوجود الذاتي؟ وكيف هو الإنسان، وما هو وضعه من غير أعضائه؟ كيف نحدد مقدرته، ومصدر هذه المقدرة، على إعطاء الأوامر للأعضاء وتوجيهها؟ أو في أن يقف ضد أدوارها ورغباتها، على الرغم من أنه ليس هو هي، وليست هي هو؟
إن أول سؤال يواجهني، على طريق البحث والخوض في مجاهل الذات الجوانية / الباطنية، هو:
ألا نستطيع القول إن الأعضاء كلها هي ذاتها الإنسان الواحد، أي هي الإنسان؟
ألا نستطيع القول إن الإنسان الواحد هو ذاته الأعضاء كلها، أي هو الأعضاء؟
إلى أين أصل إذا نفيت وجود أقسام مفترضة في كيان الإنسان الواحد، من قبيل: قسم الأنا الشخص الذي يدير الأنا- النفس. وقسم الأنا الجسد الذي يحارب الأنا- الشخص. والأنا النفس معاً؟
إلى أين أصل إن افترضت أنني مع أعضائي جميعاً إنسان واحد، كما أظهر أمام الآخرين؛ وكما أحس بذاتي؟ وما الذي قد أكتشف؟ وإلاما قد أنصرف؟
فلنبدأ أولاً بأول: إذا كنت، أمام الآخرين، أبدو مع أعضائي إنساناً له شخصية واحدة، بما يميزها من طباع وأفكار وأخلاق، وبما توحي للآخرين من صفات معيَّنَة وملامح محددة. فلا أرى في هكذا تصور أي تعارض بالفعل والفكر والمنطق بين ما أقول وبين المفاهيم النفسية والاجتماعية السائدة، لأن الإنسان، نظرياً ومادياً ومعنوياً، هو ذلك الشخص الواحد، أو الشخصية الواحدة أمام البشر الآخرين. وإذا كنت أمام نفسي (أنا مع أعضائي جميعاً) إنساناً واحداً، فإنني لا بد من أن أكشف عن أمور مبهمة في ماهية نفسي، وفي طبيعة تعدد "أناناتي"، أي تنوعها وتوحدها في كيان واحد.
إذا قلت مستنتجة إن الأعضاء جميعاً هي الإنسان بحد ذاته، أي هي التي تجسد هيئة وشكلاً ومادة ودوراً وإحساساً وحركة وسمة ومنهجاً، كينونة الإنسان، كشخصية مستقلة في الحياة والمجتمع. فمعنى هذا أنه لا يوجَد "أنا أخرى" تستقل عن الأعضاء، وتسيطر عليها، وتدّعي ملكيتها. فالأنا الكلية الواحدة، إذاً، التي تأخذ شكل الإنسان وشخصيته، هي ذاتها في الحالتين: الأعضاء جميعها، بتكوينها المادي المحسوس. بمعنى أن الإنسان هو أعضاؤه بذاتها، تلك الأعضاء المخلوقة بهيئتها ودورها وعملها الحسي والواعي، بحيث ينتفي وجود الانفصال المفترَض بين ما يسمّى "الجسد" المستقل عن النفس، أو ما يُسمّى "النفس" المستقلة عن الجسد.
- III -
أنا الآن أمام رؤية تحليلية مجردة، قد اتَّضح أمامي الالتباس الناجم عن الإحساس ب"الأنا" الخفية. واتَّضح أمامي، أيضاً، أن فهمنا التقليدي لها هو فهم خاطئ. فهي، أي الأنا، بالمفهوم التقليدي، بعيدة تماماً عن الغاية المرسومة لها أصلاً.
فإذا قلت: أنا فلانة وهذه عيني، أو هذا قلبي؛ وذلك فلان وذلك رأسه. تعتبر هذه التسميات، المستخدمة للإشارة إلى شخص ما من مسلَّمات المنطق، خاصة وأننا من خلالها ننسب أفعالاً وصفات محددة إلى إنسان محدد، وبنسبة هذه الأفعال إلى صاحبها، نكون كمن يحدد موقع هذا الشخص الدنيوي والديني معاً. من هنا أنا أتجاوز هذه النقطة المهمة في المسألة المطروحة. وأرى أن هناك خطأ ما في تصورنا التقليدي، الذي يعترف بوجود "شخص محسوس" يدير أعضاء جسمه ويحركها ويفهمها ويجهلها في آنٍ معاً، لكنها لا تكون هي هو. وأرى، أيضاً، أنه لا وجود لجسد مستقل، و لاوجود لنفس مستقلة أيضاً، كما أنه لا وجود لعقل باطني غير منظور ولا مرئي إلخ..
أنا الآن موجودة بأعضائي كلها، بمعنى أن أعضائي تشكِّل "أناي" المادية والمجتمعية الواحدة، وهي تعني في جوهر حقيقتها أن الإنسان بشقيْه: الغير محسوس وأفعاله المحسوسة، ليس كلاً واحداً فحسب، بل هو بكل أعضائه على اختلاف أحجامها وأشكالها وأدوارها ومشاعرها وطاقاتها وحدودها. لذلك يتوجب عليَّ معرفة طبيعة عمل شِقّي الغير منظور والغير محسوس. ويتوجب عليَّ أن أفسِّر كيف تُنتج أعضائي جميعها صفاتي الشخصية التي تميزني في المجتمع. أي كيف تكون الأعضاء هي ذاتها الكائن الإنساني الواحد الذي يراه الآخرون ويعايشونه؟
ولكن كيف تستقيم تلك النظرة إلى الإنسان ككائن اجتماعي "أنا إجتماعية"، أي "أنا" غير فردية، مع كونه إنسان فرد " أنا فردية" يتألف من أكثر من "أنا"، أي أكثر من عضو يؤدي دوره بشكل ووظيفة مختلفة عن وظائف الأعضاء الأخرى؟
إن الإنسان ككائن اجتماعي هو كناية عن أنا غير فردية، تتألف من أكثر من "أنا"، أي أكثر من عضو. ولكنها تشكل، في الوقت ذاته، كينونة إنسانية لا وجود فيها لأجزاء "نفسية وجسدية ووعيانية ولاوعيانية"، بل إن الأعضاء مؤتلفة، بأحجامها وأدوارها ووظائفها ومشاعرها، ومتناسقة وتتكامل مع بعضها البعض. وهي، بمجموعها، تحمل لقب الإنسان.
لكل عضو شكل و"أنا" وشعور ودور، الأمر الذي يدعونا إلى أن لا نقتنع بوجود شخص محسوس يدير كينوته الذاتية كيفما شاء، ويكون هو صاحبها. فأنا عندما أشير إلى الإنسان، أكون قد أشرت إلى كل أعضائه من دون استثناء، أي: الدماغ والأذن والعين والأنف والفم والقلب والرئة والحنجرة واللسان والرِجْل واليد والمعدة والأمعاء والكِلية، وباختصار إلى كل عضو في جسم هذا الإنسان الذي أشير إليه، فأرى أن كل عضو فيه يختلف عن الآخر: بموقعه الفيزيولوجي في الجسم، وبدوره وتفاعله المباشر وغير المباشر مع العالمين الداخلي والخارجي.
إن الإنسان هو مخلوق فريد: متوحِّد ومتعدد معاً. إنه ليس شيئاً آخر يستقل عن أعضائه وهيئته. إنه متعدد بأعضائه، ومتوحِّدٌ معها، أي أنه يديرها ويوجهها. إنه بحد ذاته- هو الأعضاء باختلاف أشكالها وأحجامها ومشاعرها وأدوارها في الحياة. ومن هنا نرى أن أعضاء جسم الإنسان ليست أدوات له، بل هي الإنسان بالفعل والفكر والحس والانفعال والتفاعل والنشأة والمصير.
إن هدفي من هذا البحث هو محاولة تفسير كيف تتكون صفات الإنسان لتجعل منه شخصاً واحداً. وكيف تتشكل أعضاؤه، "أنانات" لها أدوار باطنية وظاهرة، تنفعل وتعمل، تتنوّع فتتناقض وتتعاضد. وأنا لن أنخرط في التفكير حول ما خُلِق الإنسان من أجله في الدنيا احتساباً لليوم الآخر. ولن أقترب من الأبجدية المنطقية التي تشير إلى أن القلب (×) هو قلب فلان، أو أن اليد (×) هي يده؛ إن عدم اقترابي من هذه الإشارت لن ينفي حقيقة فكرية تقول إنه بدونها وبدون دلالاتها لا تستقيم للمعرفة واللغة والفكر والفقه والحساب استقامة. إن تعابير: هذا قلبي وهذه يدي، وتلك عيونهم وجلودهم تثبت اختلاف كل إنسان عن الآخر، في باطنه وظاهره، ومصيره وحسابه.
إن أفكاري تتجه إلى فهم كيف يؤدي الإنسان وظائف الإحساس والفكر والعمل، وكيف يصيب ويخطئ. وهي تهدف، أيضاً، إلى وصف الكيفية التي يؤدي بها الإنسان عمله في الحياة، وكيف يفعِّل عطاءه العملي والمهني والفكري والنفسي من غير أن تظهر تلك القوة، التي بواسطتها يوجه الإنسان نفسه، إلى العلن، فيبقى أداؤها غير منظور في الوقت الذي تظهر فيه تأثيراته في أعمال الإنسان وانفعالاته، وهذه الأفعال والانفعالات تحدد، بدورها، السمات الشخصية والمميزة للفرد.
أنا أريد أن أعرف فرادة وحدة الإنسان وفرديته، أمام ذاته وأمام المجتمع؛ على الرغم من تعددية الوظائف التي تقوم أعضاؤه بها. وكيف تكتسب هذه الشخصية طابعها المتعدد الأهواء والرغبات والآراء والأفعال.
ويمكنني القول بأن كل عضو من أعضاء الإنسان ليس مُلْكاً له أو مُداراً منه. فالإنسان المخلوق بشكل وحجم مختلف عن سائر الأعضاء وأشكالها وأحجامها، وهو مخلوق لدور يختلف عن أدوارها منفردة؛ فلا الدماغ، على سبيل المثال، هو مُلْكٌ للحنجرة أو الأذن أو القلب أو اليد، ولا هي، بدورها، مُلْكٌ له. فإذا افترضنا أن الدماغ يملك سائر الأعضاء، فهو يحتاج، قطعاً، إلى عمل كل الأعضاء، وإلى مكوناتها المادية ومحدداتها الحيوية، ولا يمكنه أن يعيش منفصلاً عنها. ويُقاس الأمر ذاته على العضو القلب، والعضو العين، والحنجرة، واليد، وكل الأعضاء بدون استثناء.
لا سبيل إلى الشك أن الإنسان هو نفس واحدة، وقد خُلق بروح واحدة. فهو كإنسان مخلوق من روح ومن مادة يتوحَّد بجانبيه تحت كتلة مادية منظورة. بمعنى أنه يتشكل من أعضاء متنوعة الشكل والحجم والوظيفة. فالإنسان هو "أنانات" عديدة ومحدَّدَة، لكنها "أنانات" متوحِّدَة في "أنا" واحدة مفتوحة على كل المسافات الموجودة في الحياة. إن الإنسان ليس كائناً من غير أعضائه. إنه هو الكائن / الذات، التي هي الأعضاء، والتي هي الإنسان، الذي هو هو.
إن الإحساس بالأنا الفكري والسمعي والبصري والذوقي والحركي واللمسي، وسوى ذلك، هو إحساس فردي عائد إلى كل عضو بمفرده. وهو إحساس جماعي عائد إلى مجموعة عمل الأعضاء التي تتناسق وتتفاعل وتتعاون مع بعضها البعض. فالأنانات الفردية الخاصة هي التي توحِّد الإنسان بالتحامها واتصالها مع بعضها البعض. وهي، بالتالي، تولِّد الأنا العامة الواحدة.
تكتسب "الأنا الخاص" معناها من دور وعمل كل عضو بمفرده، ويدل هذا الدور والعمل على العضو الصادر عنه. أما "الأنا العام" فيعود إلى تجمُّع مجموعة أدوار وأعمال أعضاء الجسم، التي تشكِّل بمجموعها الشخصية المتميزة عن غيرها.
فالأنا، هنا، جزئية وكليَّة معاً، فهي جزئية من استقلالية كل عضو بعمله. وكليَّة لأن كل عضو يشارك في رفد الأعضاء الأخرى وأدوراها، فتتشكل، من خلال تجميع تلك الأدوار والأعمال "الأنا الجماعية، "الأنا الإنسان" الواحد.
أنني لن أسعى لإلغاء مفهوم "الأنا الشاملة المسيطرة والمالكة " للأنانات الجزئية"؛ لأنني، أصلاً، أعد هذا الإلغاء غير منطقي؛ وإنما أحاول أن أثبت مفهوماً محدداً لحقيقة "الأنا الشاملة" ضمن الاتحاد البنيوي للأعضاء، كأجزاء في جسم واحد، وضمن ائتلافها الوظيفي الذي يجعل منها كتلة متعاونة، يكمل بعضها وظائف البعض الآخر.
فما هي الذات؟
الذات هي إحساس بوجود الأنا. والأنا هنا ليست واحدة بل متوحِّدة. وليست جسداً منفصلاً عن الحواس. وليست الحواس منفصلة عن الجسد. بل هي هيئة عضوية واحدة، فلا وجود لكيان مستقل يدعى الجسد، وليس الجسد منفصلاً عن الإنسان ككائن متوحد.
ترى ما هو الجسد؟ وهل له وجود مستقل؟ وهل هو أدنى رتبة أو درجة من النفس، كما هو سائد في المفاهيم التقليدية؟
بنظرة متفحصة في التكوين المادي للأعضاء، نرى أنها تشكل مجموع الجسد، بما تعنيه من لحم وجلد وأوردة وأنسجة وعظام. وهي بمجموعها تؤلف ما نطلق عليه اسم "الجسد". أي أنها تُعدُّ المادة الجسدية التي لا يمكن فصلها عنه، ولكنها لن تكون كائناً آخر له هويته المستقلة.
فما الذي يبقى إذا افترضنا عدم وجود طبقة جلدية ولحم وعظام في تكوين كل عضو بمفرده؟ وينطبق الافتراض على كل البنية العضوية لكل الأعضاء التي تتكامل في بناء جسم الإنسان السوي والجميل؟
هنا يجدر بنا النظر في هذه المسألة وفقاً للمنطق، والجزم بأن ما يسمى الجسد ليس إلا تكويناً ضمنياً يدخل في صلب البنية العضوية الفردية والجماعية، التي يتشكل بها الإنسان.
ملاحظـــة:
إنتهت إعادة الصياغة عند الصفحة 26. أما الجزء الباقي فهو واضح أكثر، على الرغم من أن هناك ضرورة لإعادة صياغة بعض الجمل المتفرقة. وهي قليلة.
أرجو أن تكون إعادة الصياغة للقسم الأول من البحث واضحة.
وأتمنى عليك أن تتابعي الكتابة والقراءة لأن الاستمرار في التجربة أمر مهم في امتلاك ناصية الوضوح في التعبير عن الأفكار.
وأخيراً أتمنى لك التوفيق.

-->

ليست هناك تعليقات: