الاثنين، نوفمبر 30، 2020

الحياة نعمة من الله ومدة عمر الإنسان صنع يديه

 


الحياة نعمة من الله

ومدة عمر الإنسان صنع يديه

مقدمة نقدية في الموروث الديني:

من الثابت أن الفقه الديني يلزم الإنسان بأن يؤمن بـ(قضاء الله وقدره). وعن هذا جاء في بعض التعريفات ما يلي: «الإيمان بالقضاء والقدر هو التصديق الجازم بقضاء الله وقدره، وإنّ كل ما يقع في الأنفس والآفاق من خير أو شر إنما يتم بقضاء الله وقدره، وعلمه المسبق، فقد كتب الله الأقدار قبل خلق الخليقة فلا يخرج شيء عن إرادته ومشيئته في الأرض أو في السماء». وقد استند الفقه إلى نصوص من القرآن، ومنها ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

ما جاء في النص القرآني، وما جاء في الفقه أيضاً، من أن الأفعال التي تصدر عن الإنسان إنما هي بتقدير من الله، قمنا بتحليله في مقالات سابقة وتوصلنا فيه إلى نتيجة تفيد أن الله إذا قام بحساب الإنسان على فعل أمره به أن يفعله، يتنافى مع قيم العدالة التي خلقها فيه، لأنه لا يجوز حساب الإنسان على فعل لم يقم به بمحض إرادته. ومن المؤكد أن المحاكم المدنية والدينية أيضاً، والتي بدورها استندت إلى تلك القيم، تحكم على الإنسان في الحياة الدنيا بالعقاب على العمل الذي قام به بعد أن تتأكد بالدليل الدامغ أنه قام به بمحض إرادته، فهل من المنطقي أن يكون الإنسان أكثر عدالة من الله؟

ومن ضمن هذه القاعدة، وبناء عليها، هل قدَّر الله كم هو عمر الإنسان وحدد نهاية لحياته؟ أم أن طول هذا العمر أو قصره فعل من أفعال البشر؟

يقول الفقه الديني بناء على مسلمات النص القرآني إنما الأعمار بيد الله، ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. ولمناقشة هذا سنورد بعض نماذج الموت ونتساءل: هل هي بتقدير من الله؟

-الجنين الذي يُتوفى في رحم أمه قبل ولادته.

-الإنسان الذي يُقدم على الانتحار.

-الذي يموت غرقاً في سفينة أو تحطم طائرة.

-من يموت من جراء الحروب.

-من يموت في حادثة سطو أو سرقة.

-من يموت جوعاً لأنه لم يجد ما يأكله، أو من يموت مريضاً على أبواب مستشفى رفض استقباله...

-ومن.... ومن ... وإلخ...

وما هو رأي الفكر الديني في هذة القلة القليلة من الأمثلة؟

وعن ذلك، ولأن القضايا الغيبية مجرد تكهنات لا ترقى لمستوى اليقين، ولأن لكل إنسان ذي بصيرة حقاً في التفسير والاستنتاج في مسائل غيبية، سنحاول أن نسهم بدورنا لعلَّنا نصيب، أو قد نخطئ؛ ولكننا على الأقل سنعطي للعقل الذي وهبناه الله حصة ودوراً لأن الله عندما خلق العقل في الإنسان فإنه لم يميِّز أحداً عن أحد في مستوى العقل، إلاَّ ما استطاع المجتمع، بشتى مؤسساته، أن يطوِره فيه من مدارك عقلية؛ أو ما استطاع فيه الإنسان منفرداً من تطوير تلك القدرات. فالله فطر في الإنسان خلايا دماغية لتلك القدرات، وترك للإنسان نفسه ولمجتمعه أن ينميها. فضعفها أو قوتها هي فعل من عمل الإنسان، لأن الله لم يخلق إنساناً عاقلاً، وآخر جاهلاً. فتنمية العقل وإبقاء خلايا الدماغ جامدة ليست من قدر الله أو مشيئته.

ولأنه ليس للقضايا الغيبية حدوداً واضحة من اليقين، لا يستطيع إنسان ما أن يتهم استنتاجات الآخرين بالقصور باستخدام براهين قاطعة بالدليل. ولذلك يُعتبر الجدل فيها، إذا ما استمر، سفسطة لأنك تقول فيها ويقولون.

وأما عن ظاهرة الموت، ولأنها لا تزال غامضة، تبقى لغزاً عصياً على الحل، وعن ذلك انتشر القول الشائع (تعددت الأسباب والموت واحد).

وبناء على فهمنا للمصطلحات أعلاه، وأمام من يعتبرون أن أسبابه تعود إلى حكمة إلهية لا يعرفها إلاَّ الله، نتساءل: ما هي الحكمة الإلهية من وراء ظواهر الموت التالية:

-موت جنين في رحم أمه: وهذا الموت قد يكون بسبب الإجهاض، أو استخدام العنف ضد المرأة الحامل، أو بسبب أمراض موروثة لم تتم معالجة أسبابها عند الأجداد أو الآباء والأمهات. أو بسبب خطأ يقوم به طبيب، أو تقصير من مستشفى، أو، أو ... فهل نعفى من المسؤولية كل من كان السبب؟ وهل على الفقه أن يدافع عن كل هؤلاء ويتجاهل أخطاءهم ويُعتِّم عليها؟ فيصبح هؤلاء أبرياء ويبقى المتهم الوحيد هو الله؟ هل هو أمر بالإجهاض، أو أمر باستفحال المرض، وأمر الأطباء بالخطأ، وطلب من المستشفيات أن يمنعوا مريضاً من العلاج لأنه لا يملك تكاليفه؟

-من يموت انتحاراً: على قاعدة النص القرآني، القائل: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. يستتبع التساؤل: هل أمر الله إنساناً بالانتحار ليموت في الساعة المحددة له؟ وإذا لم يأمر بذلك، لماذا لم يمت بالوسيلة التي حدَّدها له الله؟

-من يموت من جراء الحروب: وهذا يجوز في مناقشته ما يجوز على الموت انتحاراً. ويقتضي إعادة التساؤل: هل قضى الله بأن يموت الملايين من البشر في الحروب؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، فمن يتحمل مسؤولية اندلاع الحروب، الله أم الذين افتعلوها من البشر؟

-من يموت في حادثة سطو أو سرقة، ومن يموت جوعاً لأنه لم يجد ما يأكله، أو من يموت مريضاً على أبواب مستشفى رفض استقباله... ومن.... ومن ... وإلخ... وهل تلك الوسائل مما حددها الله في (اللوح المحفوظ)؟

هل من أجل موت إنسان في فترة زمنية محددة، قدَّر الله أن يتعرَّض لحادث سرقة، أو قدَّر أيضاً أن يحجب الطعام عنه ليموت جوعاً. أو أوحى لموظف الاستقبال في المستشفى أن يقفل بابه في وجه الإنسان المريض لكي يموت مرضاً في الوقت الذي حدَّده الله لوفاته؟

أسئلة ممنوعة في عرف رجال الدين، ولكن العقل الذي خلقه الله في الإنسان اكتسب فطرة القفز فوق الأسئلة الممنوعة، ويلِّحُ على الإتيان بأجوبة واضحة حتى ولو صدمت المؤسسات الدينية.

 

خلق الله الإنسان وخلق له العوامل التي تحافظ على الحياة في جسده:

ما سقناه من أمثلة أعلاه، كلها تساؤلات تصب في موضوع الموت وأسبابه وتوقيتاته ووسائله، وهذا ما سنبدي فيه رأياً مبنياً على قواعد الإيمان التي نعتقد بها. وأما تلك القواعد، فهي قواعد مادية، وقواعد روحية – نفسية:

-القواعد المادية: إن حياة جسد الإنسان محدودة بالوقت الذي يفقد العوامل التي تحافظ على صحة الخلايا التي يتكون منها. وفعل تغذية هذه العوامل لكي تبقى أقرب ما يمكن للسلامة، عائد للإنسان نفسه، خاصة أن الله الذي خلق الجسد من مليارات الخلايا، خلق معها عوامل تغذيتها مما تنتجه الطبيعة من مأكل ومشرب. كما خلق المواد الأولية التي يحتاجها الجسد، وما على الإنسان مهمة أكثر من إنتاجها مما يحيط به من المواد التي تختزنها الأرض من زراعات، وما خلقه من حيوانات على البر وفي البحر. فإذا أحسن الإنسان استثمار تلك المواد وزوَّد حاجات جسده المادية بها، فإنه يؤخر بذلك من سرعة تلف الخلايا، وهو سيسهم في إطالة أيام حياته الجسدية. وإذا أساء استخدام ما هو مكلَّف به، يسهم في تقصير عمر خلايا جسده، وهذا يعني التعجيل بموتها. وتلك حقيقة أثبتتها الأبحاث الطبية بشكل مؤكد، بحيث إنه كلما تطورت ثقافة الإنسان الصحية، وكلما تطورت وسائل الطب، كلما ارتفع معدل مدة الحياة بين البشر.

-القواعد الروحية والنفسية، وما بينهما من قواعد اجتماعية: ولأن الجانب الروحي، وما له علاقة بالنفس غير المنظورة، وما ينتجه تفاعلهما من قواعد اجتماعية تنظم علاقات البشر؛ وإن كان الله قد خصَّ الدماغ في جسد الإنسان، كموجود منظور، للقيام بوظائف العوامل الروحية والنفسية، فإن الله أيضاً اعتبر أن الأوامر، التي تصدر من الدماغ لتنظيم وظائف الجسد، تقوم أيضاً باختزان المعارف، وتعمل على تنظيمها لتقوم بوظائف فكرية روحية ونفسية واجتماعية. وتلك الوظائف هي التي ترشد الإنسان الفرد إلى القيام بالمهام التي أوكلها الله إليه للعناية بنفسه، وعياً فكرياً وعلمياً، ليؤخر تلف الخلايا الجسدية بما يعني المحافظة على الحياة أطول فترة ممكنة. وكما أنه يعمل على تنظيم علاقته بالمجتمع الإنساني المحيط به لأن الفرد بنفسه لا يمكنه أن ينجز كل الوظائف الضرورية لاستمرار الحياة؛ بل لا بُدَّ من أنه يحتاج إلى جهد من الآخرين لمساعدته، وكما أن الآخرين بحاجة إلى دوره. وهكذا كل من يقصِّر بأداء دوره، فهو كأنه يسيء إلى نفسه كما يسيء إلى الآخرين أيضاً.

وإذا كان الله قد خلق في الإنسان المقدرة على صنع أفعاله، ويأتي من ضمن هذه الأفعال مقدرته على المحافظة على حياته، يكون الله بذلك قد وضع بيد الإنسان، فرداً ومجتمعاً، قدرة على التحكم باستمرار الحياة إلى الأمد المحدد لتلف تلك الخلايا. وإذا أساء استخدام هذه القدرة، فلا شك بأنه سيضع حداً لها بالموت.

إن سلامة الخلايا عائد إلى توفير العوامل المحددة لنموها من المواد الغذائية، وهي عملية معقدة جداً لا يمكن لإنسان مهما بلغ من الوعي الصحي والمقدرة الجسدية والعقلية أن يستطيع الإحاطة بها. ولكن توفير الحد الأدنى منها يسهم في منع تلف الخلايا، وهذا يعني إطالة محدودة بعمر الإنسان. وكلما ارتفعت نسبة التوفير التي تفوق الحد الأدنى، ترتفع نسبة إضافة مدد زمنية على حياة الإنسان. فالله خلق تلك الشروط والعوامل، ورتَّب على الإنسان مسؤولية توفيرها.

واستناداً إلى هذه الرؤية، أيضاً، نعتبر أن كل من يموت بسبب غير سبب تآكل الخلايا التي حدد الله مدة زمنية لهذا التآكل، فيكون ذلك من صنع يد الإنسان. أو قد يكون من صنع يد إنسان آخر، كالإجهاض، والمرض، وحوادث السير، والحروب، والسرقة، و.. و..

 

من غير المنطقي استخدم معايير إنتقائية بالنسبة لخلق الأفعال:

يقول الفكر الديني إن كل الأفعال هي من خلق الله، ولكن حينما تواجهه إشكالية بعض أشكال الموت، التي ذكرنا بعضاً منها، يحمِّل أوزارها للإنسان نفسه. وهذا دليل على أن الفكر الديني يناقض نفسه بنفسه. وهذا يقود إلى أن الإنسان إذا كان مسؤولاً عن بعض الأعمال يعني أن الله حباه المقدرة على فعلها، وهذا لا ينتقص من قدرة الله، وهذا الاعتراف يعني أن الله، على قاعدة أنه لكل ﴿نفس مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. يمكنه أن يخلق في الإنسان المقدرة على صنع كل الأفعال (الخير منها أو الشر).

فالمعايير يجب أن تكون واحدة في خلق الأفعال. وهذا ما توصلنا إليه في رؤى سابقة.

والقاعدة التي ننطلق منها للقياس، هي أن الله خلق الإنسان وخلق في نفسه القيم العليا، التي تدعو للخير، وهذا يعني أن الله خلق الخير فقط، والشر بهذا المعنى هو أن الإنسان لا يعمل الخير، أي كل من يوفِّر له السعادة الذاتية، والسعادة للمجتمع. وبهذا يكون الله قد ترك للإنسان حرية القيام بهذا العمل الذي إذا أتقنه يكتسب السعادة لنفسه، ولمجتمعه، وإذا أخفق فيه، انعكس شراً على نفسه وعلى مجتمعه.

 

ومن غير المنطقي أن نختلق أسباباً وهمية لظاهرة الموت:

وبناء على ذلك، كيف نفهم الحياة، وكيف نفهم الموت؟

خلق الله الإنسان من جسد وروح، وخلق في الطبيعة العوامل الأولى لاستمرار الحياة، من جنس وطعام. وفطر فيه غريزة المحافظة على استمرار الحياة بممارسة الجنس، وغريزة الطعام للمحافظة على الجسد بالتفتيش عما يغذيه ويساعده على الاستمرار. ولهذا  عندما يفقد الإنسان غريزة الجنس، أو لا يمارسها، فسوف تنقرض البشرية. وإذا تكاسل ولم يفتش عما يأكله، أو عما يشربه، فسوف يؤدي به الكسل إلى اهتراء خلايا الجسم نتيجة عدم إمدادها بعوامل النمو، التي هي الحياة بذاتها.

وأما الموت فهو نهاية لحياة البشر الجسدية، فالإنسان ليس خالداً من حيث تكوينه المادي، بل إنه لاستمرار الحياة في خلاياه، مستلزمات وشروط، تقصر مدة الحياة أو تطول تبعاً لتوفيرها. والخلود الإنساني هو عبارة عن انتقال الحياة الروحية وتطورها وتصاعد هذا التطور. وبهذا المعنى عندما خلق الله الإنسان على هذا الكوكب فلآماد محدودة مرتبطة بتوفير العوامل البيويولوجية التي تحافظ على سلامة خلايا الجسد من الاهتراء.

باستثناء طبيعة الفناء المخلوقة في الجسد، والمتعلقة بإمداد خلاياه بنسغ العوامل المادية، فإن الإنسان مسؤول بشكل مباشر عن استمرار الحياة في الجسد أو موته. وينتهي دور الله، كما نعتقد، عند خلق ظروف الحياة البشرية. وإن الله يملك المقدرة والإرادة على خلق الكون بمثل هذه الطريقة، أو بغيرها، إذا أراد ذلك.

إن كل اعتقاد عن الحياة أو الموت غير ذلك، يعني هروب من ينتدب نفسه لهذه المهمة من تحميل المسؤولية للإنسان الفرد، والإنسان المجتمع، ليلقيها على الله.

 

الأربعاء، نوفمبر 25، 2020

تهافت المشاريع الدينية الغيبية بداية انبعاث الأمل في التغيير

 

تهافت المشاريع الدينية الغيبية بداية انبعاث الأمل في التغيير

في 25/ 11/ 2020  حسن خليل غريب

بعد أن أُسقطت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في العام 1917، كانت الحرب العالمية الثانية التي جرت أحداثها في الأربعينيات من القرن العشرين نهاية للإمبراطوريات التقليدية في التاريخ، وهي الإمبراطوريتان الإنكليزية والفرنسية، اللتان وإن كانتا السبب في دحر مشروع الإمبراطورية النازية ودفنه قبل أن يُبصر النور، فقد دُفنت آمالهما في استعادة مكانتهما في التاريخ.

كانت أهداف الحرب العالمية الأولى إسقاط الإمبراطورية العثمانية ليصفو الجو أمام الإمبراطوريات الرأسمالية الأوروبية الغربية، والتي بسبب إنهاكها بحربين عالميتين جاء من يرث المنهج الإمبراطوري بديلاً عنها، فقد شهدت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ولادة مشروعين دوليين كبيرين، مشروع الاتحاد السوفياتي، ومشروع الإمبراطورية الأميركية.

ماتت الإمبراطوريات التقليدية، العثمانية والإنكليزية والفرنسية، وتمَّ وأد المشروع الإمبراطوري النازي، وخلفتها ولادة إمبراطوريات العصر الحديث، روسيا وأميركا. وبهذا وبسرعة فائقة تقل عن نصف قرن من الزمن، لم يعرفها تاريخ الإمبراطوريات القديمة، ماتت ثلاث إمبراطوريات، وتم وأد الرابعة قبل أن تكمل مشوارها من جهة، وولادة إمبراطوريتين كبريين جديدتين من جهة أخرى.

في غضون نصف قرن من التاريخ تقريباً ماتت إمبراطوريات وعاشت إمبراطوريات أخرى. ولشدة شبق بعض قادة الشعوب لحكم العالم، لم تتوقف أحلام من ورثوا مناهج الإمبراطوريات التقليدية، فقد دخلت إمبراطوريتا العصر الحديث، أميركا وروسيا، في سباق من التنافس والصراع، فسقطت إمبراطورية الاتحاد السوفياتي في العام 1991، لتنفتح الشهية الأميركية بحلم حكم العالم من دون شريك، خاصة بعد أن أصبحت الأبواب مشرَّعة أمام مالولايات المتحدة بغياب المنافس الروسي.

ولذلك انطلق المشروع الأميركي تحت مسمى (نحو قرن أميركي جديد) والذي وضع منهجاً له تأسيس إمبراطورية أميركية على مقاييس الأيديولوجيا الصهيونية، التي تقضي بالتمهيد لمعركة الخير والشر في معركة هرمجدون في فلسطين تمهيداً لظهور (المسيح المخلص) كما يعتقد بها التيار المسيحي المتصهين الذي إما أنه يتقارب بالأهداف مع الصهيونية العالمية، وإما أنه من صنع تلك الصهيونية. وليس من الغريب أن يصرِّح أحد الرؤوساء الأميركيين، قائلاً: (إن الرب كلَّف الشعب الأميركي بأن يخلِّص العالم).

تحت شعار تصدير المشروع المذكور، بدأ تنفيذه في العام 2003 باحتلال العراق تحت حجة إسقاط محور الشر، الذي هو مصطلح تلمودي قديم. فماذا جرى، منذ احتلال العراق؟

من أجل تنفيذ مشروع ذلك الإسقاط، كان لا بدَّ من إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية تتقاتل فيما بينها ليصفو الجو لتنفيذ المشروع من دون عوائق تُذكر، ولذلك غذَّى أصحاب المشروع نزعة أطماع الدولتين الإقليميتن إيران وتركيا بوعدهما بحصص دسمة في المشروع. وكان من غير المألوف أن تتشارك في تنفيذ مشروح واحد ضد الوطن العربي، مشاريع سياسية متناقضة يكفر فيها أحدهما الآخر، ويستبيح أرضه وعرضه.

  توافق في المصالح وتناقض في الأهداف:

ليس من الغريب فقط أن يتم التوافق بين ثلاثة مشاريع متناقضة، بل من المريب أن يضمهم تنفيذ مشروع واحد أيضاً.

وأما تناقضاتها فهي من الحدة التي لا يمكن أن تلتقي، لأن لكل منها، كما تزعم، مشروع إلهي تعلنه جهراً وليس سراً. ولذلك يستطيع حتى الغبي أن يتعرَّف على نوايا الآخر، وعلى قراءة مخططه بوضوح. وهذا ما يطرح التساؤل التالي: إذا كان كل منهما يعرف حقيقة خطورة مشروع الآخرين ضد مشروعه، فعلى ماذا يتفقون إذن؟

 -فالمشروع الأميركي، بغض النظر عن أنه مشروع رأسمالي، وقد تلتقي في معظم الأحيان مصالحه مع أكثر من قوة اقتصادية يتقاسمون فيها المصالح، وقد تتناقض تلك المصالح فيعيدان تصويب قواعد المحاصصة. وأما لأنه يستند بشكل أساسي إلى مشروع أيديولوجي ديني، وكأن تنفيذه جاء بأمر من الرب فهنا يكمن مصدر الخطورة فيه. ولأنه يستند إلى أيديولوجية (شعب الله المختار) بصفته ينفذ أيديولوجيا (اليمين المسيحي المتصهين)، فهو لا يمكن أن يقبل ربَّاً آخر.

-وأما المشروع الإيراني فهو قائم على أسس ظهور المهدي المنتظر، الذي غيَّبه رب الإسلام الشيعي كما يزعمون أنه سوف يظهر مع جديد لإنقاذ العالم ونشر العدل فيه، وهو مشروع يتناقض مع أي مشروع آخر إلى الحد الذي يتم تكفير من يرفضه من المشاريع الإسلامية السياسية الأخرى، فكيف به إذا كان المشروع خليطاً من عقيدة مسيحية يهودية، كالمشروع الأميركي؟

-وأما المشروع التركي، فيرفض هذا وذاك من المشروعين المذكورين أعلاه، لأنه يستند إلى وجوب بناء مشروع إلهي يتناقض معهما إلى حدود تكفيرهما معاً. ولا يجوز شرعاً، كما يعتقد أصحاب المشروع، أن يتم تأسيس أي نظام لا يحكم بـ(شرع الله)، كما ينص عليه القرآن والسنة النبوية.

ولأن أهداف تلك المشاريع واضحة وجلية عند أطراف التحالف، لا نبالغ إذا قلنا أن هذا التحالف هو تحالف مريب.

لماذا التوافق حول تنفيذ المشروع المريب؟

على الرغم من أن أطراف التحالف الشاذ يدركون التناقض الشديد بين المشاريع الثلاثة، إلاَّ أنهم انخرطوا في تنفيذ المشروع الأميركي، ولكن كل منهم يضمر الانقلاب على صاحبه عندما يستأنس عوامل القوة الكافية لتنفيذ مشروعه الخاص.

فبالإضافة إلى أن تحالفهم شاذ استراتيجياً لكنهم ارتضوا التحالف المرحلي، من أجل التعاون على تذليل العوائق التي تحول دون تنفيذ المشاريع الخاصة لأن إمكانيات مشروع واحد من المشاريع الثلاثة يعجز عن التنفيذ بمفرده.

وإذا كان الأمر يتعلَّق بما بدأوا بتنفيذه منذ العام 2011، ففيه وزَّع المشروع الأميركي الأم، كما جاء في وثائق الرئيس أوباما، الأدوار بينهم. بحيث يستقطب النظام الإيراني المكون الشيعي، والذي كان مرسوماً له أن يحصل على هلاله في المشرق العربي. وأن يستقطب النظام التركي المكون السني ليحصل على هلاله في المغرب العربي. وتشكل حصيلة الهلالين إضعاف للعرب جميعاً، مما يقضي على أي حلم عربي بالوحدة. ولأن الولايات المتحدة الأميركية تعتقد بأن الأولوية في مشروعها هو تفتيت الوطن العربي على أسس طائفية، وهذا لا يتم بغير مساعدة النظامين الطائفيين الإيراني والتركي. ولأنها تمتلك من قوة السلاح والمال ما يفوق بمئات الأضعاف مما يمتلكه النظامان الإيراني والتركي، كانت تخطط، بعد نجاح المشروع، لاحتوائهما معاً تحت مظلة أوامرها ونواهيها. على أن تكون (العصا لمن عصا).     

المشاريع الغيبية من أخطر مشاريع الإمبراطوريات في التاريخ:

كل الإمبراطوريات في التاريخ السحيق وصولاً إلى مشاريعها في عصرنا الراهن، تُعدُّ خطيرة على حاضر الشعوب ومستقبلها. ولعلَّها أشد خطورة هي تلك التي تستند إلى عقائد دينية غيبية.

إن الإمبراطوريات ذات الأهداف التوسعية لأهداف اقتصادية يمكن مقاومتها بشكل جماعي من قبل مواطني الدول التي تمَّ احتلالها، وهي تلقى إجماعاً باستثناء قلة من المنتفعين الذين غلبت عليهم أهواؤهم بضمان مصالحهم على حساب مصالح أبناء أوطانهم. وبالإجمال لن تستطيع الإمبراطوريات التوسعية لأسباب اقتصادية أن تضمن وجود حواضن شعبية لها، وهنا يكمن سر ضعفها، وهذا ما حسب له المشروع الأميركي حساباته.

أما الإمبراطوريات ذات المشاريع الغيبية الدينية فتجد حواضن شعبية ممن يؤمنون بنصرة الدين على حساب نصرة الوطن، أو نصرة المذهب على حساب نصرة الدين. وتظهر خطورتها في أنها تجد من يحمي احتلالها في الأقطار العربية من المتعصبين مذهبياً، ويعمل على استمالة الآخرين من أبناء مذهبهم من الذين يرفضون الاحتلال، تحت وابل من التهديد والوعيد، بنار الدنيا ونار جهنم الآخرة.

وأما خطورة هذا النوع من الإمبراطوريات على الصعيد الوطني المتعدد الانتماءات الدينية أو المذهبية، أو على الصعيد العالمي، فإنها تؤسس لحروب دائمة لن تتوقف حتى ينتصر إله واحد من آلهة المتصارعين. ولهذا بيَّت كل منهم الشر للانقلاب على حليفه في الوقت المناسب.

ولأنها تمتلك عوامل الإيمان بأنها تمتلك مشروعاً إلهياً، ولأن المنجرفين في تيار المتعصبين لها يعتقدون بالنصر الإلهي لها، تتعقد الأمور أكثر إلى الدرجة التي يسهل فيها الموت (في سبيل نصرة الله) كما يزعمون. وكذلك يُشرِّعون القتل في سبيل (نصرة إلههم المزعوم).

 

وضع التحالف في هذه المرحلة يبشِّر بالقطيعة مع المشروع المريب:

بعد انكشافه وتهافته في أقل من عشر سنين، وإذا كان تهافت المشروع جلَّي وواضح، بعد فشل تطبيقه، إلاَّ أنه لم يمت، بل يعمل أطرافه المشاركة فيه ليس على إلغائه بل إلى تأجيل تنفيذه انتظاراً لمتغيرات جديدة وانتظاراً لإعادة تنفيذه في الظروف المناسبة. ولهذا السبب على جميع القوى، على مستوى الأقطار العربية، كما على المستوى الدولي، وبالأخص منهم الذين يدركون مدى خطورة المشاريع الغيبية المتناقضة الثلاثة، أن يعملوا متآزرين ومتضامنين من أجل نشر ثقافة بناء أنظمة وطنية مدنية، التي تضمن تغييراً في علاقات تلك الأنظمة لكي تسير عملية التغيير بسهولة وسلاسة. ومن أهم الشروط التي عليهم أن يستندوا إليها، أنظمة وشعوباً، هي في نشر مبادئ العدالة والمساواة بين جميع مواطني الدولة من دون تمييز بالنسبة للدين أو المذهب أو العرق، والتي هي بها، وبها وحدها، يتم تجريد المشاريع الغيبية من الذرائع التي تتلطى بها في التحريض ضد الأنظمة القائمة، وتعتبر أن قوانينها الوضعية هي السبب في التواطؤ على مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير الشعبية وحرمانها من حقوقها. ولذلك تستثمر الفقر والحاجة  عند البشر لإدخالهم في آمال غيبية.

علم النفس الاجتماعي خير مرشد لتطوير مناهج أنظمة الاستغلال:

يفهم علم النفس الاجتماعي أن البشر يلجأون إلى الاستنجاد بالقوى الغيبية في أوقات الأزمات والمحن، خاصة إذا لم تتوفر وجود أجوبة وضعية مقنعة على تساؤلاتهم، ولا تمتلك حلولاً لمشاكل تلك الشرائح المعيشية. ولأن غياب مبادئ العدالة الاجتماعية من مناهج الأنظمة الحاكمة تؤدي إلى الإفقار والعوز وعدم معالجة الأزمات الحادة التي تعاني منها الشرائح الشعبية الواسعة، وتداويها بالقمع على من يرفض مناهجها تُعتبر من أهم الذرائع التي تسيطر بها على عقول العامة من البشر.

ولأن الحركات الدينية السياسية، والتي يقع في القلب منها أطراف التحالف الشاذ المشار إليه أعلاه، تستغل قصور الأنظمة الرسمية لتعبئة أوسع الشرائح الاجتماعية حاجة بثقافة الهروب والاستنجاد بالقوى السياسية الدينية الغيبية.

لكل ذلك، تقع على عاتق الأنظمة العربية الرسمية مسؤولية معالجة أسباب انقياد أوسع الشرائح الاجتماعية المحتاجة للوسائل الغيبية بحيث تقع فريسة بين براثن أصحاب الدعوات الإمبراطورية الغيبية، وذلك بسحب ذرائع الحاجة والعوز بتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية بين موطني الدولة.

كما تقع على عاتق الحركات الثورية عبء نشر الثقافة المدنية الجديدة، ورفض ثقافة التواكل والتسليم التي تقوم حركات الإسلام السياسي بترويجها أولاً، وبالعمل الدؤوب من أجل وضع الأنظمة الرسمية أمام مسؤولياتها ثانياً.

السبت، نوفمبر 21، 2020

استقلال لبنان 2020 عيد مقاعده خالية من المحتفلين

                                                                استقلال لبنان 2020

عيد مقاعده خالية من المحتفلين

يحتفل اللبنانيون في هذا العام بعيد استقلالهم من الانتداب الفرنسي، بما كان يعنيه عيد استقلال يُدخل البهجة في قلوبهم، ويحيي الآمال في نفوسهم ببناء لبنان لا يكون ممراً للاستعمار وممنوع فيه أن يكون له مستقراً,. وإذا كانوا سيحتفلون هذا العام فإنما يتآكلهم الخوف من كثرة من يمرون منه، ومن كثرة من يستقرون على أرضه، إلى الدرجة التي ضاق الخناق فيه على صدورهم حتى وصلوا من كثرة المارين والمستقرين إلى وضعهم في قلب مآوي الفقر، وحوانيت المرض، وشوارع التسول، والتفتيش في حاويات القمامة عما تركه لهم أغنياء السلطة من فضلات.

 لا يظهر أن اللبنانيين سيحتفلون بعيد الاستقلال لأنه ليس عيدهم، بل هو عيد الذين قيدوه في لوائح القوى الخارجية التي تقدمه ذبيحة لمصالحهم ومصالح الأحزاب التي تأتمر بأوامرهم لقاء أجر يُنعمون بالقليل منه على أنصارهم يضمنون بها لقمة من العيش تكاد لا تشبع أمعاءهم في الوقت الذي يتضوَّر فيه جار لهم، أو أخ أو أخت رفضوا أن يأكلوا من سحت استجداه أمراؤهم من الخارج.

لن يحتفل اللبنانيون بعيد استقلالهم هذا العام، لأنه ليس استقلالاً، بل هو عقد وقَّعه أمراء الطوائف مع أمرائهم في الخارج. وراحوا يتبارون حول من يستطيع الحصول على (السحت الحرام) من أمراء الخارج المجبول بالعبودية والرقيق. وبدلاً من قيد مندوب سامي واحد أصبح في لبنان مندوبين ساميين بعدد طوائفه. وبدلاً من أم حنون واحدة أصبح لكل طائفة أماً حنونة.

في لبنان قبل الاستقلال كان للبنان مندوب يتكلم الفرنسية. وبعد الاستقلال استوردت كل طائفة مندوباً سامياً لها، البعض منهم يتكلم الفرنسية، والثاني يتكلم الإنكليزية، والثالث يتكلم بلكنة عربية، والرابع يتكلم التركية، والخامس يتكلم الفارسية...وكاد لبنان أن يتحول إلى مشهد سوريالي لتعدد القوى التي تصادر القرار الوطني المستقل.

في ظل هذا الواقع السوريالي، باع أمراء الطوائف الوطن من أجل ما يزعمون أنه حماية طوائفهم، فخسروا الوطن ولم تربح الطوائف شيئاً. لقد ضاع الوطن وتقاسمته القوى الخارجية واستقرت على أرضه جهاراً نهارا. وأمراء الطوائف سرقوا الوطن لملء جيوبهم وخدمة أنصارهم، وبقي القسم الأكبر من كل الطوائف جائعاً منهوكاً مريضاً، يفتش البعض منهم عن لقمة خبز في حاويات القمامة.

ولحرص المؤسسات الدينية على استمرار العلاقة مع أمراء الطوائف خدمة لمصالحها، فقد حمت سرقاتهم بالقول إنها رزق من الله أغدقها على أغنياء السلطة من غير حساب، وتناسوا أنه ما أصاب امرؤ من ثروة إلاَّ وكان من أموال الفقراء، والكادحين وصغار الكسبة والعمال والفلاحين، ومن عائدات الضرائب على شتى أنواعها. فأكلوها وأكلت معهم المؤسسات الدينية من دون حساب.

ومن يريد من تلك المؤسسات أن يبرئ نفسه فليفقأ في عين الشعب حصرمة وينشر خطاباً دافع فيه رجل دين عن الفقراء، وحثَّ فيه رجل سياسة على أن يرد ما نهبه من أموال الفقراء. أو على الأقل أن يُنهيه عن استكمال مشاركته في الفساد، وفي أضعف الإيمان أن يبرر سكوته عن فساد أمراء السلطة، وغير ذلك فإن الفاسد والساكت عنه يُبحران في قارب واحد.

واختصاراً،

إن الشعب اللبناني لن يشارك بالاحتفال بعيد استقلال أتخمه وارثوه بالأوزار والخطايا الشيء الذي لا يُحصى ولا يُعدّ. فقد ارتكبوا جريمتين كبريين، وهما:

-الأولى: أنهم شوَّهوا معنى الاستقلال وفسروه بأنه استغلال الشطار لكدح الكادحين، وعرق العمال والفلاحين. فاستقلوا بقرارهم في النهب والفساد، ونهشوا في لحم اللبنانيين ولم يتركوا حتى العضم الذي عرقوه، كما تعرق النمل العضام.

-الثانية أنهم نقلوا لبنان من دلف انتداب واحد إلى مزاريب انتدابات متعددة الجنسيات. ولذلك ضاع لبنان 2020 بين معارك الآخرين وتصفية حساباتهم على أرضه. فازداد اللبنانيون جوعاً على جوع، ومرضاً على مرض، وحاجة على فاقة...

والأدهى من كل ذلك، ينتظر اللبنانيون عام الـ 2021، بخوف على خوف، بينما أمراء السلطة أفاقوا واستفاقوا كأهل الكهف يمسكون بتلابيب نظام طائفي سياسي أكل التاريخ عليه وشرب، وهم الآن لا يبصرون أسمال الفقراء، ولا يسمعون أنين المرضى، ويسكتون عن آلاف الجرائم التي ارتكبوها.

واستنتاجاً،

والحال على هذا المنوال، لم يبق أمام الشعب المغلوب، إلاً أن يملأوا الشوارع لإقفال بوابات الهروب أمام الفاسدين واللصوص. ولعلَّ الشعب بذلك يؤسس لاحتفالات استقلال حقيقية في العام القادم، على أن يكون استقلالاً جميلاً خالياً من أمراء للطوائف. وإذا كانت الدنيا لا تؤخذ بالتمنى فإن غلاب الشعب هو الحل الأمثل، والأقرب إلى الواقع. اللهم إذا ظل مؤيدو أحزاب السلطة سادرين في سكوتهم وصمتهم، فعلى الأقلية أن تحتفظ بحقها في متابعة النضال والكشف عن الفساد وملاحقة اللصوص أينما حلوا وأينما رحلوا أو عملوا على تخليص رؤوسهم من القطع.


الأربعاء، نوفمبر 11، 2020

من أين يبدأ بايدن بالدخول إلى ملفات الوطن العربي؟

 

من أين يبدأ بايدن بالدخول إلى ملفات الوطن العربي؟

استقراء تاريخي واحتمالات للمستقبل

يتساءل الكثيرون عن المتغيرات التي قد تحصل في منطقة الشرق الأوسط في عهد جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، وانقسموا بين متفائل ومتشائم، بين من يتطيَّر منه أو من يراهن علىه. ولأن اهتمامنا يكاد ينحصر فيما سيحصل في المنطقة العربية والدول الإقليمية المجاورة لها في المرحلة القادمة،  سيقتصر مقالنا على هذا الجانب دون غيره.

الثوابت الاستراتيجية الأميركية تُلزم كل الرؤوساء الأميركيين بتنفيذها:

بعد العام 1948، عام تقسيم فلسطين، رست الاستراتيجية الأميركية على ثابتين اثنين: أمن النفط العربي، وأمن (إسرائيل). وكل ما حصل من متغيرات ومشاريع لاحقة، كان لأجل حماية هذين الثابتين. وعلى كل من الحزبين، الجمهوري والديموقراطي، أن يلتزما بهما ويعملان على حمايتهما. ولأن احتلال العراق، كان يمثل المدخل لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، فقد كان الهدف من تنفيذ المشروع هو حماية أمن النفط و(أمن إسرائيل)، بوسائل تفتيت المنطقة على قواعد خطوط الجغرافيا الطائفية. وقد أقرَّ الكونغرس الأميركي المشروع المذكور، في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. ولذلك بدأ تطبيقه على أيدي جورج بوش الإبن، الرئيس الجمهوري، وتابعه الرئيس أوباما خلفه الديموقراطي. وهلمَّ جراً، بحيث يتابع الخلف ما بدأه السلف بغض النظر عن انتمائه الحزبي. وهذا ما سوف نقوم باستقرائه في مقالنا هذا، للإجابة على السؤال من أين سيبدأ جو بايدن فيما له علاقة بمنطقة الشرق الأوسط، هل يتابع من حيث انتهى أوباما، سلفه الديموقراطي؟ أم من حيث انتهى ترامب، سلفه الجمهوري؟

الاستراتيجة الأميركية واحدة في عقيدة الديموقراطيين والجمهوريين:

بايدن يمثَّل دولة واحدة ويعمل لمصلحة شعار (أميركا أولاً)، كما مثَّلها سلفه دونالد ترامب. لا فرق بينهما لأنهما يُترجمان استراتيجية واحدة تضعها حكومة خفية، وعلى حزبيهما أن يقوما بتنفيذها بفارق واحد أن يُترك له حرية اختيار وسائل التنفيذ. ولهذا أينما ذهبت غيوم الحزبين عليها أن تمطر خيراً وفيراً على النظام الرأسمالي الأكثر توحشاَ في العالم.

من هي الحكومة الخفية؟

يقف وراء الحكومة الخفية أصحاب الشركات الكبرى، والذين من أجل الاستمرار في سيادة رأس  المال، ترافق بناء مشروعهم الإيديولوجي مع هدف الهيمنة على القرار السياسي الداخلي، وهذا يقتضي السيطرة على صانعي القرار السياسي، ومفصلهم الأساسي رؤساء الجمهورية. وتضم الحكومة الخفية أربعة أطراف، وهي: اليمين الرأسمالي الأميركي، وتيار المبشرين الأميركيين المتطرفين، ذوو العلاقة الوثيقة مع اليمين الرأسمالي، والذي يروِّج أن للأمة الأميركية رسالة إلهية عليها أن تبلغها إلى العالم على قاعدة الصراع بين الخير والشر. واليمين اليهودي المتطرف، الذي يدعم اليمين »الإسرائيلي« المتطرف. و»تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية«.

ومن أجل إحكام سيطرتها على القرار السياسي في أميركا، ومنذ العام 1919،رعت عائلة روكفلر »مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك«، وتحوَّل فيما بعد- إلى مؤسسات عديدة من أجل وضع الدراسات السياسية والاستراتيجية التي ترشد الشركات الكبرى لتحصين مصالحها. ولذلك استقبلت آلاف المؤهلين لصناعة التفكير وقامت بتوظيفهم وإغرائهم. وأنشأت مئات المؤسسات التي تحمل أسماء أصحابها، كمثل: روكفلر، وراند، وكارنيجي وكان من أهم وظائفها: اكتشاف ورصد الفضاءات التي تخدم المصالح الكبرى. وإقامة علاقات تقارب مع دوائر القرار السياسي.

بالإضافة إلى مؤسسات الأبحاث، حفرت النخب الاقتصادية الأميركية علاقة متينة مع عدد من المبشرين الدينيين للتواصل المباشر مع الناخب الأميركي بما للتبشير الديني من تأثير بالغ الأهمية.

تلك من البديهيات التي لم يختلف عليها المحللون. ونعيد تكرارها من قبيل التمهيد للدخول في عنوان المقال الحالي، (من أين يبدأ بايدن؟).

يبدأ بايدن من المسلَّمة الاستراتيجية (أميركا أولاً) كما بدأها ترامب، ومن قبله كل الرؤوساء الذين حكموا أميركا منذ بداية تأسيسها. وماذا تعني مسلَّمة (أميركا أولاً)؟

تعني ضمان مصلحة كل أغنياء أميركا من جمهوريين وديموقراطيين، من مالكي الثروة الصناعية والزراعية والعقارية ورؤوس الأموال المكدَّسة في صناديق المصارف. وحتى ملكية المصارف ذاتها. وهنا نعني أميركا الطبقة الغنية، وليست أميركا الشعب. ولهذا لا تعترف الحكومة الخفية بمصالح الأميركيين، من غير الطبقات الرأسمالية، سوى بالمقدار الذي يتم توظيفهم فقط لخدمة الرأسماليين. وما تنفقه تلك الطبقة من موارد الدخل القومي الأميركي عليهم ليس أكثر من إبقاء الشرائح الواسعة من الشعب على قيد الحياة. ولهذا أغرقوهم بالجوانب المطلبية والخدمية، وقلَّما تتم المحاسبة الشعبية لحيتان الإدارة السياسية على مواقف تتجاوز حدود تلك المطالب.

استناداً إلى ذلك، فقد تابع أوباما استراتيجية جورج بوش الإبن، وبدأ عهد ترامب الجمهوري حيث انتهى عهد أوباما الديموقراطي. وسيبدأ عهد بايدن الديموقراطي حيث انتهى عهد ترامب. وأما كيف ولماذا؟

لقد ابتدأت أزمة الشرق الأوسط المعاصرة باحتلال العراق، وكان قرار الاحتلال متًّخذاً منذ عشرات السنين من قبل الحكومة الخفية، على أسس استراتيجية تتلخص بالتالي: (بناء إمبراطورية أميركية تحكم العالم). ولهذا بدأت في تفكيك منظومة الدول الأوروبية التي كانت ملتحقة بالإمبراطورية السوفياتية، ومرَّت بأفغانستان لتجريدها من أي تأثير سوفياتي أولاً، وإلحاقها بالإمبراطورية الأميركية ثانياً. واستخدموا الإسلام الديني السياسي بداية (تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لاذن)، الذي بعد إلحاق الهزيمة بالجيش السوفياتي، انفتحت شهيته على إطلاق دولة دينية إسلامية مستقلة، وبها خرج من العباءة الأميركية فأصبح إسقاطه حاجة أميركية. واستكمل المشروع الإمبراطوري الأميركي حلقاته الأخيرة بإسقاط النظام الوطني في العراق لأكثر من سبب، ومن أهمها أنه حليف سابق للاتحاد السوفياتي، هذا إضافة إلى أنه كان يسعى لقيام وحدة عربية ببناء دولة حديثة، بما تشكله من تهديد لمخطط (كامبل بانرمان).

ومن العراق كان من المخطط له إسقاط الخطوط الجغرافية لاتفاقية سايكس بيكو، واستبدالها بخطوط الجغرافيا الطائفية لأنها تشكل أكثر الوسائل انسجاماً مع أهداف منع قيام وحدة عربية. وفي العراق انغرزت سرفرات الدبابات الأميركية، وأرغمت قوات الاحتلال الأميركي على الانسحاب الذليل. وعلى الرغم من أن مشروع الانسحاب من المصيدة العراقية كان قد اتُّخذ من قبل الحزب الجمهوري، فقد قام الرئيس أوباما الديموقراطي بتنفيذه في العام 2011. وبذلك يكون أوباما قد بدأ من حيث انتهى مشروع جورج بوش الإبن، سلفه الجمهوري.

لقد سحب أوباما الجيش الأميركي من العراق، وراح يستكمل مشروع سلفه، والذي كان من الواضح أنه مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يعمل على تفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية، تضم كل أقطار الوطن العربي، ولا تستثني من خرائطها تفتيت الدولتين الإقليميتين، إيران وتركيا.

ومن غرائب الأمور، التي ربما تدل على مدى سذاجة النظام السياسي في كل من إيران وتركيا، أنهما انخرطا بكل ثقلهما في تنفيذ المشروع ابتداء من العام 2011. ولما ظهرت علامات الفشل في تنفيذ المشروع المذكور، كما خططت له الحكومة الخفية في أميركا، خاصة بعد إسقاط نظام الإخوان في تونس ومصر، وعجزه عن النفاذ في سورية بسبب التدخل الروسي. وما إن شارفت نهاية عهد أوباما، بما خلَّفه من إخفاقات في تنفيذه، حتى كان الحزب الجمهوري قد وضع اللمسات الأخيرة في العمل من أجل ردم تلك الإخفاقات. وقد انتخب دونالد ترامب، فوعد بتصحيح ما لحق بتنفيذ المشروع من أخطاء وعوائق.

تصحيح أخطاء أوباما كانت بداية لعهد ترامب:

من أكثر الأخطاء لفتاً للنظر، كان في التسهيلات الكثيرة التي أعطاها أوباما للنظام الإيراني، ومن أهمها: فتح له بوابات العراق على مصراعيها، والتوقيع على اتفاقية خاصة بالملف النووي الإيراني، بما رافق هذا التوقيع من الإفراج عن مئات المليارات من الدولارات التي كانت محتجزة في المصارف الأميركية.

فتح بوابات العراق أمام النظام الإيراني، أتاح له فرصة كبيرة في سرقة ثروات العراق. وإذا أضيفت لها مئات المليارات المفرج عنها، يعني امتلاك النظام الإيراني ثروة هائلة، راح ينفقها على تنفيذ مشروعه الخاص في الاستيلاء على الوطن العربي بإنفاق فائض الثروة على مناصريه في أربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء)، ناهيك عن زرع آلاف الشبكات الأمنية والدعائية في مختلف أقطار الوطن العربي، وفي الخارج. وبالوصول إلى هذا السقف، لانحسب أن هذا الأمر مما كان يريح الديموقراطيين لأن أوباما يكون بمثابة من باع دماء الجنود الأميركيين وأرواحهم إلى النظام الإيراني الذي (سرق كل شيء في العراق، وهو لم يدفع فلساً واحداً)، كما صرَّح ترامب.

ولذلك نحسب أن أوباما، تحت رعاية الحزب الديموقراطي، كان يخطط لانتزاع ما حققه النظام الإيراني من مكاسب فيما لو نجحت هيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية. وإن الحزب الديموقراطي استعان بالنظام الإيراني، في تلك المرحلة، من أجل تنفيذ مشروع يعود لمصلحة (أميركا أولاً)، وليس لمساعدة النظام الإيراني على بناء مشروعه المستقل، والاسئثار بثروات العراق. ولذلك كانت الاستعانة بالدور الإيراني مسألة مرحلية، على ذلك النظام أن يعود من بعد إنجازها إلى العمل تحت سقف المصلحة الأميركية وليس فوقه.

لم تكن تلك الامتيازات التي أغدقها أوباما على النظام الإيراني هي الخطأ الوحيد، بل كانت إثارة مخاوف دول الخليج العربي الوجه الآخر، التي وصلت إلى حدود خلخلة أسس الصداقة بين البلدين، وكادت أن تطيح بها.

ولما لم يتمكن الحزب الديموقراطي أن يفعله فيما لو نجحت هيلاري كلينتون، فقد جاء دونالد ترامب ليبدأ من حيث انتهى إليه عهد أوباما.

بايدن سيستكمل خطوات ترامب في تقليم أظافر النظام الإيراني، وإعادة العراق لمشروع النهب الأميركي:

 لقد أسس ترامب لملفين أساسيين اثنين، وهما: تحجيم الدور الإيراني في العراق لتجفيف سرقة أمواله التي ساعدته على توسيع مشروعه المستقل من جهة، وإعادة العلاقات مع الدول الخليجية إلى سابق عهدها بعد أن اهتزَّت في عهد أوباما من جهة أخرى. وقد استخدم في تنفيذهما أقصى العقوبات على النظام الإيراني إلى سقف التهديد العالي النبرة.

والسؤال المطروح الآن: من أين سيبدأ بايدن؟

إن بايدن لن يضحي بإبقاء العراق بين أيدي النظام الإيران ليسرق كما يشاء وكيفما يشاء. كما أنه لن يعيد العلاقات مع دول الخليج العربي إلى نقطة الصفر كما أوصلها أوباما، بل سيعمل على تمتين الصداقة معها، وهو يعلم أن المحافظة عليها لن يكون بأقل من تقليم أظافر النظام الإيراني ونزع فتيل البارود الذي يصنعه مشروع (ولاية الفقيه)، وهذا ما سيفرض عليه استكمال مخطط ترامب.

ولهذا شاء بايدن أم أبى، فإن ملف النظام الإيراني لن يعود إلى مرحلة أوباما، بل سوف سيتابع بطريقة لا تحتمل التأجيل أو المساومة، خطى ترامب الرئيس الجمهوري، وإن كان بوسائل أخرى. وبمثل هذا الاحتمال ستذهب مراهنات النظام الإيراني على نتائج الانتخابات الأميركية أدراج الرياح، وعليه أن لا ينام هو أو أنصاره أينما كانوا على فراش بايدن الذي يتوهَّم أنه فراش من حرير.

هل يستفيد العرب من دروس المرحلة السابقة؟

وهنا، بعيداً عن التفاؤل بقدوم بايدن أو التشاؤم منه، يمكننا مناقشة مسألة الدور العربي من زاويتين اثنتين: دور الأنظمة الرسمية العربية، ودور ثورة تشرين الأول في العراق.

1-لقد فرض الاشتباك الخليجي مع إدارة أوباما، بعد تسليمه العراق للنظام الإيراني، وتوقيعه الاتفاق النووي، موقفاً خليجياً كان لافتاً بجرأته عندما رفض الإجراءات الأميركية، وهدد باللجوء إلى مصادر دولية أخرى. ولكن جاء ترامب ليصحح تلك العلاقات، بوسيلة أقل ما يُقال عنها أنها تدل على الفجاجة والوقاحة عندما أعلن (حماية دول الخليج مقابل أجور مرتفعة) من جهة، وأعلن مواقف حادَّة من النظام الإيراني لم تتم ترجمتها إلى فعل ملموس من جهة أخرى.

لم تكن تلك الإجراءات مما يجب أن ترضخ له دول الخليج، أي (الحماية بالإيجار)، لأن الإدارة الأميركية، بجمهورييها وديموقراطييها، يهمها أن يستمر البعبع الإيراني من أجل ابتزاز الدول الخليجية، والتي ربما لن يحيد عنها الرئيس بايدن. وهذا يقتضي تعديل شروط العلاقات بين الإدارة الأميركية وتلك الدول، والتي يجب أن تقوم على تبادل المصالح المتكافئة، وليس على تبادل الخدمات المأجورة بالابتزاز والتخويف من نظام تم تدعيم أركانه من قبل الإدارة الأميركية، سواء أكان هذا التكليف يحمل هوية الجمهوريين منهم أم من الديموقراطيين.

إنها فرصة أمام دول الخليج العربي، أن ترفض المعادلة الأميركية التي تستند إلى قاعدة تخليصها من الخطر الإيراني بأن تلجأ إلى حماية صهيونية من خلال توقيع اتفاقيات التطبيع مع العدو الصهيوني، يعني نقلها من وضع سيء إلى وضع أسوأ منه. بل اعتبار الأمن القومي العربي وحدة لا تتجزَّأ، من مشرق الوطن العربي إلى مغربه. بحيث تتم حمايته من قبل عدوين كل منهما أكثر سوءاً من الآخر.

2-أما عن وضع ثورة تشرين في العراق، فنحن ندرك، استناداً إلى ما نحسب أن بايدن سيبدأ في معالجة وضع العراق من الحدود التي وصل إليها ترامب، أي أنه لن يتراجع عن هدف استعادة ثروات العراق لمصلحة (أميركا أولاً)، وإن ذلك قد يتم بوسائل أخرى غير تلك التي استخدمها سلفه ترامب. وهذا الاحتمال يقتضي أن تدرك ثورة الشباب أن الإدارة الأميركية لا تعمل من أجل إعادة الثروات العراقية لمصلحة الشعب العراقي، وإن كانت تتبنى شعارات الثورة، بل على تخليصها من شباك النهب الإيراني إلى شباك النهب الأميركي. وإنما على الثورة أن تستفيد من تخليص العراق من نظام إيراني عنصري مذهبي يعمل على اجتثاث هوية العراق الوطنية إلى هوية فارسية تحت خيمة (حماية المذهب) الخادعة. وذلك باعتماد سياسة تخليص العراق كلياً من الاحتلالين معاً بإسقاط العملية السياسية القائمة على تفتيت العراق طائفياً وعرقياً.

الخميس، نوفمبر 05، 2020

القيم العليا فطرة إنسانية ونقيضها الامتناع عن العمل بها

 

القيم العليا فطرة إنسانية ونقيضها الامتناع عن العمل بها

استراحة فكرية بعيداً عن هموم السياسة اليومية

وفي البدء خلق الله القيم العليا، فمن طبَّقها يكون قد لبَّى سُنَّة الله، ومن لم يُطبقها فقد خالف طبيعة الخلق والأهداف. تطبيق القيم العليا هو القاعدة، والامتناع عن تطبيقها يعني حصول الضد منها. وإذا رمزنا إلى القيم العليا بالخير، فنقيضها سيكون الشر حتماً. فالخير هو الطبيعة الأساس وعدم ممارسته يكون نقيضه الشر. فالخير موجود، وأما الشر فليس موجوداً. فالشر هو الامتناع عن تطبيق قيمة الخير. أي الشر هو انعدام القيم العليا، كما اللون الأبيض انعدام للون.

إن القيم العليا تعني كل ما له علاقة بتربية الإنسان الجسدية والروحية والأخلاقية والاجتماعية تربية سليمة، وذلك بالمحافظة على صحة خلاياها من التلف. وكل ما يتنافى مع تلك القيم، ويصدر بالضد منها، فهو تقصير من الإنسان بتطبيقها. وهنا لا يمكننا القول بأن الله خلق الخير والشر وترك للإنسان حرية الاختيار بينهما، لأن الشر غير موجود بذاته بل هو التقصير بفعل ما يوفر للإنسان سعادته على الصعيدين الجسدي والروحي.

لم يخلق الله نزعتي الخير والشر في نفس الإنسان، وإنما خلق نزعة الخير فيه، وهو ما اصطُلح على تسميته بالقيم العليا. ولهذا ليست ثنائية الله والشيطان، أو الخير والشر، مما يفسر عمل الإنسان. لأنه لا يجوز التشكيك بالوحدانية الإلهية، فالله لن يخلق له منازعاً في الكون، أي كل ما له علاقة بإله يخلق الخير، وشيطان يوسوس بالشر.

ففكرة تلازم الشر بوجود الشيطان، منافٍ لوحدانية العلة الأولى. ولأن العلة الأولى لا تخلق نفساً تحمل خلايا فعل الخير، وفي المقابل منها تخلق خلايا فعل الشر، لأن فكرة الألوهية تحمل الخير فقط.

عندما خلق الله غريزة الخير فمن أجل سعادة الإنسان، ولم يخلق فيه ما يعكِّر صفو تلك السعادة. وأما ما يعكِّرها فهو عدم تطبيق الشروط الموضوعة للسعادة. والامتناع عن ذلك يعني فقدان عوامل السعادة. وبناء على ذلك وعندما يفقد الإنسان السعادة، يعني ذلك توليداً لنقيضها وهو إلحاق الأذى بتلك العوامل وهذا ما نعني به الشر. وإذا دعوت إنساناً إلى الامتناع عن عمل الشر، فهذا لا يتناسب مع حقائق خلق الإنسان، وخلق عوامل سعادته معه. ولكن تربية الإنسان الصحيحة تُبنى على قاعدة تنويره بأهمية السعادة كشرط لازم لحياة سعيدة. وتربيته على إدراك ضرورة تطبيق ما وفَّره الله له من عوامل السعادة. وإذا عكست الآية بتخويفه من نتائج الأعمال الشريرة، فكأنك تبدأ بالعملية التربوية بشكل معكوس ومناف لطبيعة الخلق والتكوين. وأما القاعدة الصحيحة، كما نعتقد بها، فهي الحث على توفير سبل السعادة، أي بتوفير طرائق تطبيقها، والتحذير من أن عدم تطبيقها يعني التعاسة. لذلك تكون استثارة عوامل الخير فيه هي الأجدى والأقرب لطبيعة التكوين البشري المادي والروحي.

فقيم الخير موجودة بالإنسان بالقوة، وعلى الإنسان أن يعمل على إظهارها بالفعل. وهذا ما يمكن أن نسميه الجانب الإيجابي بالعملية التربوية، فتكرارها ترسخ في الذاكرة، وتكون أكثر جدوى من تخويفه. فعملية التربية الروحية يجب أن ترسِّخ الجانب الإيجابي، لكي يبقى الإنسان مشدوداً إلى تطبيق كل ما هو إيجابي. وأما العملية التربوية السلبية فتقوم على التخويف من آثار عمل الشر الذي ليس موجوداً بالفعل؛ وكلما ازداد منسوب تكرار التخويف تغرس في ذاكرة الإنسان الهلع والرعب، كبديل للاطمئنان النفسي والسلام الداخلي في الإنسان. إن تعزيز منسوب السلام الداخلي يعني التفكير الدائم بأفضل الطرق لبلوغ السعادة، والحثّ على تطبيق القيم العليا. وكلما ازداد منسوب التخويف، يزداد معه منسوب الاضطراب ويترافق معه غياب السلام الداخلي في الإنسان.

وكل هذا عليه أن يترافق مع تحميل الإنسان المسؤولية السلبية على ما يهمله من واجباته تجاه جسده وعقله من تطبيق لمبادئ القيم العليا ووسائل ذلك التطبيق. وإن حثَّه على الدعاء لله لكي يساعده أو أن يخفف عنه عبء ما يعاني منه، لهو الدعوة إلى الاتكالية وهذه تتناقض مع ما غرسه الله في الإنسان من عوامل ووسائل ومحضه حرية التصرف. فالإنسان عندما يكثر الإهمال تستفحل فيه المتاعب، فيختار أقصر الطرق لعلاجها وهو الإكثار من الدعاء، والإكثار من الاتكالية.

وهذا ما ينطبق على منهج التسليم، وهو يقوم على ما يعبِّر عنه الفكر الديني هو بأن تسلِّم أمرك لله. وتلك آفة أخرى تنهك الإنسان. وعن ذلك، فإن منهج التسليم يعفي الإنسان من مسؤولية أفعاله، ويرمي الوزر على الله بالزعم أنه أراد أن يحصل؛ وإنه في ذلك ما فيه من أخطاء فادحة تقع فيها وسائل التربية الدينية.

وما ينطبق على منهجي التواكلية، والتسليمية، ينطبق أيضاً على منهج التقليدية. وهذا المنهج يستند إلى أن بلوغ الإنسان لسعادته يمر عبر تقليد رجل دين يزعمون أنه أكثر إدراكاً من الفرد العادي بما شرَّعه الله. وفي هذا ما فيه من استهتار بالمسؤولية الفردية، وبما فيه من تشكيك من قدرة الله أن يخلق في كل إنسان عقلاً بالقوة بشكل يتساوى فيه جميع البشر، بغض النظر عن حجمه ولونه وبيئته الطبيعية. وتلك المساواة، كقيمة عليا، تعني أن كل فرد يمكن أن عاقلاً ومدركاً وله قوة العمل والتمييز بنتائج ما يفعل.

إن أقصر الطرق، وأسرعها للوصول إلى نتائج إيجابية تساعد على بلوغ الإنسان سعادته، هو بتلقينه وتعليمه وتدريبه على تنمية ملكاته العقلية لكي لا يحتاج إلى تقليد من هو أكثر إدراكاً منه. وأما ما يمكن أن يشاع بأن الكثيرين من البشر قاصرون عن امتلاك مدارك عقلية، فهذا يتنافى مع وجود دماغ له المقدرة على إدراك الكثير من شؤون حياته ووسائل الوصول إلى سعادته. وإذا نظرنا إلى الواقع نرى فيما يقولون به من وجود أكثرية المجتمعات البشرية قاصرة عن التفكير لهو صحيح. ولكن نحن نعتقد بأن هذا الواقع ليس مبنياً على خلل في تكوين الإنسان، وإنما هذا إهمال واضح تاريخي وطويل يتحمل مسؤوليته المجتمع بأكمله، بدءاً بأسرته الصغيرة، وقومه الأقربين، انتهاء بوجود دولة عصرية حديثة بتكوينها السياسي والاجتماعي، مروراً بالمؤسسات الدينية التي اعتنت بالإنسان كما هو كائن تاريخي، وليس كما يجب أن يكون منذ بداية تكوينه. ولذلك لم تفكر في يوم من الأيام أن ترتقي بوسائلها وأهدافها إلى مستوى تحميل مسؤولية بناء الإنسان بناء جديداً، للإنسان نفسه وللمؤسسات الاجتماعية والدينية، باعتبار أن أقصر الطرق لبلوغ الإنسان لسعادته يبدأ بإعادة بنائه على أسس جديدة قائمة على إكسابه المدارك والمهارات التي تساعده على بناء جنته على الأرض أولاً، والتي هي نسخة واقعية عن جنة متخيَّلة في مرحلة ما بعد الموت.