الخميس، نوفمبر 05، 2020

القيم العليا فطرة إنسانية ونقيضها الامتناع عن العمل بها

 

القيم العليا فطرة إنسانية ونقيضها الامتناع عن العمل بها

استراحة فكرية بعيداً عن هموم السياسة اليومية

وفي البدء خلق الله القيم العليا، فمن طبَّقها يكون قد لبَّى سُنَّة الله، ومن لم يُطبقها فقد خالف طبيعة الخلق والأهداف. تطبيق القيم العليا هو القاعدة، والامتناع عن تطبيقها يعني حصول الضد منها. وإذا رمزنا إلى القيم العليا بالخير، فنقيضها سيكون الشر حتماً. فالخير هو الطبيعة الأساس وعدم ممارسته يكون نقيضه الشر. فالخير موجود، وأما الشر فليس موجوداً. فالشر هو الامتناع عن تطبيق قيمة الخير. أي الشر هو انعدام القيم العليا، كما اللون الأبيض انعدام للون.

إن القيم العليا تعني كل ما له علاقة بتربية الإنسان الجسدية والروحية والأخلاقية والاجتماعية تربية سليمة، وذلك بالمحافظة على صحة خلاياها من التلف. وكل ما يتنافى مع تلك القيم، ويصدر بالضد منها، فهو تقصير من الإنسان بتطبيقها. وهنا لا يمكننا القول بأن الله خلق الخير والشر وترك للإنسان حرية الاختيار بينهما، لأن الشر غير موجود بذاته بل هو التقصير بفعل ما يوفر للإنسان سعادته على الصعيدين الجسدي والروحي.

لم يخلق الله نزعتي الخير والشر في نفس الإنسان، وإنما خلق نزعة الخير فيه، وهو ما اصطُلح على تسميته بالقيم العليا. ولهذا ليست ثنائية الله والشيطان، أو الخير والشر، مما يفسر عمل الإنسان. لأنه لا يجوز التشكيك بالوحدانية الإلهية، فالله لن يخلق له منازعاً في الكون، أي كل ما له علاقة بإله يخلق الخير، وشيطان يوسوس بالشر.

ففكرة تلازم الشر بوجود الشيطان، منافٍ لوحدانية العلة الأولى. ولأن العلة الأولى لا تخلق نفساً تحمل خلايا فعل الخير، وفي المقابل منها تخلق خلايا فعل الشر، لأن فكرة الألوهية تحمل الخير فقط.

عندما خلق الله غريزة الخير فمن أجل سعادة الإنسان، ولم يخلق فيه ما يعكِّر صفو تلك السعادة. وأما ما يعكِّرها فهو عدم تطبيق الشروط الموضوعة للسعادة. والامتناع عن ذلك يعني فقدان عوامل السعادة. وبناء على ذلك وعندما يفقد الإنسان السعادة، يعني ذلك توليداً لنقيضها وهو إلحاق الأذى بتلك العوامل وهذا ما نعني به الشر. وإذا دعوت إنساناً إلى الامتناع عن عمل الشر، فهذا لا يتناسب مع حقائق خلق الإنسان، وخلق عوامل سعادته معه. ولكن تربية الإنسان الصحيحة تُبنى على قاعدة تنويره بأهمية السعادة كشرط لازم لحياة سعيدة. وتربيته على إدراك ضرورة تطبيق ما وفَّره الله له من عوامل السعادة. وإذا عكست الآية بتخويفه من نتائج الأعمال الشريرة، فكأنك تبدأ بالعملية التربوية بشكل معكوس ومناف لطبيعة الخلق والتكوين. وأما القاعدة الصحيحة، كما نعتقد بها، فهي الحث على توفير سبل السعادة، أي بتوفير طرائق تطبيقها، والتحذير من أن عدم تطبيقها يعني التعاسة. لذلك تكون استثارة عوامل الخير فيه هي الأجدى والأقرب لطبيعة التكوين البشري المادي والروحي.

فقيم الخير موجودة بالإنسان بالقوة، وعلى الإنسان أن يعمل على إظهارها بالفعل. وهذا ما يمكن أن نسميه الجانب الإيجابي بالعملية التربوية، فتكرارها ترسخ في الذاكرة، وتكون أكثر جدوى من تخويفه. فعملية التربية الروحية يجب أن ترسِّخ الجانب الإيجابي، لكي يبقى الإنسان مشدوداً إلى تطبيق كل ما هو إيجابي. وأما العملية التربوية السلبية فتقوم على التخويف من آثار عمل الشر الذي ليس موجوداً بالفعل؛ وكلما ازداد منسوب تكرار التخويف تغرس في ذاكرة الإنسان الهلع والرعب، كبديل للاطمئنان النفسي والسلام الداخلي في الإنسان. إن تعزيز منسوب السلام الداخلي يعني التفكير الدائم بأفضل الطرق لبلوغ السعادة، والحثّ على تطبيق القيم العليا. وكلما ازداد منسوب التخويف، يزداد معه منسوب الاضطراب ويترافق معه غياب السلام الداخلي في الإنسان.

وكل هذا عليه أن يترافق مع تحميل الإنسان المسؤولية السلبية على ما يهمله من واجباته تجاه جسده وعقله من تطبيق لمبادئ القيم العليا ووسائل ذلك التطبيق. وإن حثَّه على الدعاء لله لكي يساعده أو أن يخفف عنه عبء ما يعاني منه، لهو الدعوة إلى الاتكالية وهذه تتناقض مع ما غرسه الله في الإنسان من عوامل ووسائل ومحضه حرية التصرف. فالإنسان عندما يكثر الإهمال تستفحل فيه المتاعب، فيختار أقصر الطرق لعلاجها وهو الإكثار من الدعاء، والإكثار من الاتكالية.

وهذا ما ينطبق على منهج التسليم، وهو يقوم على ما يعبِّر عنه الفكر الديني هو بأن تسلِّم أمرك لله. وتلك آفة أخرى تنهك الإنسان. وعن ذلك، فإن منهج التسليم يعفي الإنسان من مسؤولية أفعاله، ويرمي الوزر على الله بالزعم أنه أراد أن يحصل؛ وإنه في ذلك ما فيه من أخطاء فادحة تقع فيها وسائل التربية الدينية.

وما ينطبق على منهجي التواكلية، والتسليمية، ينطبق أيضاً على منهج التقليدية. وهذا المنهج يستند إلى أن بلوغ الإنسان لسعادته يمر عبر تقليد رجل دين يزعمون أنه أكثر إدراكاً من الفرد العادي بما شرَّعه الله. وفي هذا ما فيه من استهتار بالمسؤولية الفردية، وبما فيه من تشكيك من قدرة الله أن يخلق في كل إنسان عقلاً بالقوة بشكل يتساوى فيه جميع البشر، بغض النظر عن حجمه ولونه وبيئته الطبيعية. وتلك المساواة، كقيمة عليا، تعني أن كل فرد يمكن أن عاقلاً ومدركاً وله قوة العمل والتمييز بنتائج ما يفعل.

إن أقصر الطرق، وأسرعها للوصول إلى نتائج إيجابية تساعد على بلوغ الإنسان سعادته، هو بتلقينه وتعليمه وتدريبه على تنمية ملكاته العقلية لكي لا يحتاج إلى تقليد من هو أكثر إدراكاً منه. وأما ما يمكن أن يشاع بأن الكثيرين من البشر قاصرون عن امتلاك مدارك عقلية، فهذا يتنافى مع وجود دماغ له المقدرة على إدراك الكثير من شؤون حياته ووسائل الوصول إلى سعادته. وإذا نظرنا إلى الواقع نرى فيما يقولون به من وجود أكثرية المجتمعات البشرية قاصرة عن التفكير لهو صحيح. ولكن نحن نعتقد بأن هذا الواقع ليس مبنياً على خلل في تكوين الإنسان، وإنما هذا إهمال واضح تاريخي وطويل يتحمل مسؤوليته المجتمع بأكمله، بدءاً بأسرته الصغيرة، وقومه الأقربين، انتهاء بوجود دولة عصرية حديثة بتكوينها السياسي والاجتماعي، مروراً بالمؤسسات الدينية التي اعتنت بالإنسان كما هو كائن تاريخي، وليس كما يجب أن يكون منذ بداية تكوينه. ولذلك لم تفكر في يوم من الأيام أن ترتقي بوسائلها وأهدافها إلى مستوى تحميل مسؤولية بناء الإنسان بناء جديداً، للإنسان نفسه وللمؤسسات الاجتماعية والدينية، باعتبار أن أقصر الطرق لبلوغ الإنسان لسعادته يبدأ بإعادة بنائه على أسس جديدة قائمة على إكسابه المدارك والمهارات التي تساعده على بناء جنته على الأرض أولاً، والتي هي نسخة واقعية عن جنة متخيَّلة في مرحلة ما بعد الموت.