الأربعاء، نوفمبر 11، 2020

من أين يبدأ بايدن بالدخول إلى ملفات الوطن العربي؟

 

من أين يبدأ بايدن بالدخول إلى ملفات الوطن العربي؟

استقراء تاريخي واحتمالات للمستقبل

يتساءل الكثيرون عن المتغيرات التي قد تحصل في منطقة الشرق الأوسط في عهد جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، وانقسموا بين متفائل ومتشائم، بين من يتطيَّر منه أو من يراهن علىه. ولأن اهتمامنا يكاد ينحصر فيما سيحصل في المنطقة العربية والدول الإقليمية المجاورة لها في المرحلة القادمة،  سيقتصر مقالنا على هذا الجانب دون غيره.

الثوابت الاستراتيجية الأميركية تُلزم كل الرؤوساء الأميركيين بتنفيذها:

بعد العام 1948، عام تقسيم فلسطين، رست الاستراتيجية الأميركية على ثابتين اثنين: أمن النفط العربي، وأمن (إسرائيل). وكل ما حصل من متغيرات ومشاريع لاحقة، كان لأجل حماية هذين الثابتين. وعلى كل من الحزبين، الجمهوري والديموقراطي، أن يلتزما بهما ويعملان على حمايتهما. ولأن احتلال العراق، كان يمثل المدخل لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، فقد كان الهدف من تنفيذ المشروع هو حماية أمن النفط و(أمن إسرائيل)، بوسائل تفتيت المنطقة على قواعد خطوط الجغرافيا الطائفية. وقد أقرَّ الكونغرس الأميركي المشروع المذكور، في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. ولذلك بدأ تطبيقه على أيدي جورج بوش الإبن، الرئيس الجمهوري، وتابعه الرئيس أوباما خلفه الديموقراطي. وهلمَّ جراً، بحيث يتابع الخلف ما بدأه السلف بغض النظر عن انتمائه الحزبي. وهذا ما سوف نقوم باستقرائه في مقالنا هذا، للإجابة على السؤال من أين سيبدأ جو بايدن فيما له علاقة بمنطقة الشرق الأوسط، هل يتابع من حيث انتهى أوباما، سلفه الديموقراطي؟ أم من حيث انتهى ترامب، سلفه الجمهوري؟

الاستراتيجة الأميركية واحدة في عقيدة الديموقراطيين والجمهوريين:

بايدن يمثَّل دولة واحدة ويعمل لمصلحة شعار (أميركا أولاً)، كما مثَّلها سلفه دونالد ترامب. لا فرق بينهما لأنهما يُترجمان استراتيجية واحدة تضعها حكومة خفية، وعلى حزبيهما أن يقوما بتنفيذها بفارق واحد أن يُترك له حرية اختيار وسائل التنفيذ. ولهذا أينما ذهبت غيوم الحزبين عليها أن تمطر خيراً وفيراً على النظام الرأسمالي الأكثر توحشاَ في العالم.

من هي الحكومة الخفية؟

يقف وراء الحكومة الخفية أصحاب الشركات الكبرى، والذين من أجل الاستمرار في سيادة رأس  المال، ترافق بناء مشروعهم الإيديولوجي مع هدف الهيمنة على القرار السياسي الداخلي، وهذا يقتضي السيطرة على صانعي القرار السياسي، ومفصلهم الأساسي رؤساء الجمهورية. وتضم الحكومة الخفية أربعة أطراف، وهي: اليمين الرأسمالي الأميركي، وتيار المبشرين الأميركيين المتطرفين، ذوو العلاقة الوثيقة مع اليمين الرأسمالي، والذي يروِّج أن للأمة الأميركية رسالة إلهية عليها أن تبلغها إلى العالم على قاعدة الصراع بين الخير والشر. واليمين اليهودي المتطرف، الذي يدعم اليمين »الإسرائيلي« المتطرف. و»تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية«.

ومن أجل إحكام سيطرتها على القرار السياسي في أميركا، ومنذ العام 1919،رعت عائلة روكفلر »مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك«، وتحوَّل فيما بعد- إلى مؤسسات عديدة من أجل وضع الدراسات السياسية والاستراتيجية التي ترشد الشركات الكبرى لتحصين مصالحها. ولذلك استقبلت آلاف المؤهلين لصناعة التفكير وقامت بتوظيفهم وإغرائهم. وأنشأت مئات المؤسسات التي تحمل أسماء أصحابها، كمثل: روكفلر، وراند، وكارنيجي وكان من أهم وظائفها: اكتشاف ورصد الفضاءات التي تخدم المصالح الكبرى. وإقامة علاقات تقارب مع دوائر القرار السياسي.

بالإضافة إلى مؤسسات الأبحاث، حفرت النخب الاقتصادية الأميركية علاقة متينة مع عدد من المبشرين الدينيين للتواصل المباشر مع الناخب الأميركي بما للتبشير الديني من تأثير بالغ الأهمية.

تلك من البديهيات التي لم يختلف عليها المحللون. ونعيد تكرارها من قبيل التمهيد للدخول في عنوان المقال الحالي، (من أين يبدأ بايدن؟).

يبدأ بايدن من المسلَّمة الاستراتيجية (أميركا أولاً) كما بدأها ترامب، ومن قبله كل الرؤوساء الذين حكموا أميركا منذ بداية تأسيسها. وماذا تعني مسلَّمة (أميركا أولاً)؟

تعني ضمان مصلحة كل أغنياء أميركا من جمهوريين وديموقراطيين، من مالكي الثروة الصناعية والزراعية والعقارية ورؤوس الأموال المكدَّسة في صناديق المصارف. وحتى ملكية المصارف ذاتها. وهنا نعني أميركا الطبقة الغنية، وليست أميركا الشعب. ولهذا لا تعترف الحكومة الخفية بمصالح الأميركيين، من غير الطبقات الرأسمالية، سوى بالمقدار الذي يتم توظيفهم فقط لخدمة الرأسماليين. وما تنفقه تلك الطبقة من موارد الدخل القومي الأميركي عليهم ليس أكثر من إبقاء الشرائح الواسعة من الشعب على قيد الحياة. ولهذا أغرقوهم بالجوانب المطلبية والخدمية، وقلَّما تتم المحاسبة الشعبية لحيتان الإدارة السياسية على مواقف تتجاوز حدود تلك المطالب.

استناداً إلى ذلك، فقد تابع أوباما استراتيجية جورج بوش الإبن، وبدأ عهد ترامب الجمهوري حيث انتهى عهد أوباما الديموقراطي. وسيبدأ عهد بايدن الديموقراطي حيث انتهى عهد ترامب. وأما كيف ولماذا؟

لقد ابتدأت أزمة الشرق الأوسط المعاصرة باحتلال العراق، وكان قرار الاحتلال متًّخذاً منذ عشرات السنين من قبل الحكومة الخفية، على أسس استراتيجية تتلخص بالتالي: (بناء إمبراطورية أميركية تحكم العالم). ولهذا بدأت في تفكيك منظومة الدول الأوروبية التي كانت ملتحقة بالإمبراطورية السوفياتية، ومرَّت بأفغانستان لتجريدها من أي تأثير سوفياتي أولاً، وإلحاقها بالإمبراطورية الأميركية ثانياً. واستخدموا الإسلام الديني السياسي بداية (تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لاذن)، الذي بعد إلحاق الهزيمة بالجيش السوفياتي، انفتحت شهيته على إطلاق دولة دينية إسلامية مستقلة، وبها خرج من العباءة الأميركية فأصبح إسقاطه حاجة أميركية. واستكمل المشروع الإمبراطوري الأميركي حلقاته الأخيرة بإسقاط النظام الوطني في العراق لأكثر من سبب، ومن أهمها أنه حليف سابق للاتحاد السوفياتي، هذا إضافة إلى أنه كان يسعى لقيام وحدة عربية ببناء دولة حديثة، بما تشكله من تهديد لمخطط (كامبل بانرمان).

ومن العراق كان من المخطط له إسقاط الخطوط الجغرافية لاتفاقية سايكس بيكو، واستبدالها بخطوط الجغرافيا الطائفية لأنها تشكل أكثر الوسائل انسجاماً مع أهداف منع قيام وحدة عربية. وفي العراق انغرزت سرفرات الدبابات الأميركية، وأرغمت قوات الاحتلال الأميركي على الانسحاب الذليل. وعلى الرغم من أن مشروع الانسحاب من المصيدة العراقية كان قد اتُّخذ من قبل الحزب الجمهوري، فقد قام الرئيس أوباما الديموقراطي بتنفيذه في العام 2011. وبذلك يكون أوباما قد بدأ من حيث انتهى مشروع جورج بوش الإبن، سلفه الجمهوري.

لقد سحب أوباما الجيش الأميركي من العراق، وراح يستكمل مشروع سلفه، والذي كان من الواضح أنه مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يعمل على تفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية، تضم كل أقطار الوطن العربي، ولا تستثني من خرائطها تفتيت الدولتين الإقليميتين، إيران وتركيا.

ومن غرائب الأمور، التي ربما تدل على مدى سذاجة النظام السياسي في كل من إيران وتركيا، أنهما انخرطا بكل ثقلهما في تنفيذ المشروع ابتداء من العام 2011. ولما ظهرت علامات الفشل في تنفيذ المشروع المذكور، كما خططت له الحكومة الخفية في أميركا، خاصة بعد إسقاط نظام الإخوان في تونس ومصر، وعجزه عن النفاذ في سورية بسبب التدخل الروسي. وما إن شارفت نهاية عهد أوباما، بما خلَّفه من إخفاقات في تنفيذه، حتى كان الحزب الجمهوري قد وضع اللمسات الأخيرة في العمل من أجل ردم تلك الإخفاقات. وقد انتخب دونالد ترامب، فوعد بتصحيح ما لحق بتنفيذ المشروع من أخطاء وعوائق.

تصحيح أخطاء أوباما كانت بداية لعهد ترامب:

من أكثر الأخطاء لفتاً للنظر، كان في التسهيلات الكثيرة التي أعطاها أوباما للنظام الإيراني، ومن أهمها: فتح له بوابات العراق على مصراعيها، والتوقيع على اتفاقية خاصة بالملف النووي الإيراني، بما رافق هذا التوقيع من الإفراج عن مئات المليارات من الدولارات التي كانت محتجزة في المصارف الأميركية.

فتح بوابات العراق أمام النظام الإيراني، أتاح له فرصة كبيرة في سرقة ثروات العراق. وإذا أضيفت لها مئات المليارات المفرج عنها، يعني امتلاك النظام الإيراني ثروة هائلة، راح ينفقها على تنفيذ مشروعه الخاص في الاستيلاء على الوطن العربي بإنفاق فائض الثروة على مناصريه في أربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء)، ناهيك عن زرع آلاف الشبكات الأمنية والدعائية في مختلف أقطار الوطن العربي، وفي الخارج. وبالوصول إلى هذا السقف، لانحسب أن هذا الأمر مما كان يريح الديموقراطيين لأن أوباما يكون بمثابة من باع دماء الجنود الأميركيين وأرواحهم إلى النظام الإيراني الذي (سرق كل شيء في العراق، وهو لم يدفع فلساً واحداً)، كما صرَّح ترامب.

ولذلك نحسب أن أوباما، تحت رعاية الحزب الديموقراطي، كان يخطط لانتزاع ما حققه النظام الإيراني من مكاسب فيما لو نجحت هيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية. وإن الحزب الديموقراطي استعان بالنظام الإيراني، في تلك المرحلة، من أجل تنفيذ مشروع يعود لمصلحة (أميركا أولاً)، وليس لمساعدة النظام الإيراني على بناء مشروعه المستقل، والاسئثار بثروات العراق. ولذلك كانت الاستعانة بالدور الإيراني مسألة مرحلية، على ذلك النظام أن يعود من بعد إنجازها إلى العمل تحت سقف المصلحة الأميركية وليس فوقه.

لم تكن تلك الامتيازات التي أغدقها أوباما على النظام الإيراني هي الخطأ الوحيد، بل كانت إثارة مخاوف دول الخليج العربي الوجه الآخر، التي وصلت إلى حدود خلخلة أسس الصداقة بين البلدين، وكادت أن تطيح بها.

ولما لم يتمكن الحزب الديموقراطي أن يفعله فيما لو نجحت هيلاري كلينتون، فقد جاء دونالد ترامب ليبدأ من حيث انتهى إليه عهد أوباما.

بايدن سيستكمل خطوات ترامب في تقليم أظافر النظام الإيراني، وإعادة العراق لمشروع النهب الأميركي:

 لقد أسس ترامب لملفين أساسيين اثنين، وهما: تحجيم الدور الإيراني في العراق لتجفيف سرقة أمواله التي ساعدته على توسيع مشروعه المستقل من جهة، وإعادة العلاقات مع الدول الخليجية إلى سابق عهدها بعد أن اهتزَّت في عهد أوباما من جهة أخرى. وقد استخدم في تنفيذهما أقصى العقوبات على النظام الإيراني إلى سقف التهديد العالي النبرة.

والسؤال المطروح الآن: من أين سيبدأ بايدن؟

إن بايدن لن يضحي بإبقاء العراق بين أيدي النظام الإيران ليسرق كما يشاء وكيفما يشاء. كما أنه لن يعيد العلاقات مع دول الخليج العربي إلى نقطة الصفر كما أوصلها أوباما، بل سيعمل على تمتين الصداقة معها، وهو يعلم أن المحافظة عليها لن يكون بأقل من تقليم أظافر النظام الإيراني ونزع فتيل البارود الذي يصنعه مشروع (ولاية الفقيه)، وهذا ما سيفرض عليه استكمال مخطط ترامب.

ولهذا شاء بايدن أم أبى، فإن ملف النظام الإيراني لن يعود إلى مرحلة أوباما، بل سوف سيتابع بطريقة لا تحتمل التأجيل أو المساومة، خطى ترامب الرئيس الجمهوري، وإن كان بوسائل أخرى. وبمثل هذا الاحتمال ستذهب مراهنات النظام الإيراني على نتائج الانتخابات الأميركية أدراج الرياح، وعليه أن لا ينام هو أو أنصاره أينما كانوا على فراش بايدن الذي يتوهَّم أنه فراش من حرير.

هل يستفيد العرب من دروس المرحلة السابقة؟

وهنا، بعيداً عن التفاؤل بقدوم بايدن أو التشاؤم منه، يمكننا مناقشة مسألة الدور العربي من زاويتين اثنتين: دور الأنظمة الرسمية العربية، ودور ثورة تشرين الأول في العراق.

1-لقد فرض الاشتباك الخليجي مع إدارة أوباما، بعد تسليمه العراق للنظام الإيراني، وتوقيعه الاتفاق النووي، موقفاً خليجياً كان لافتاً بجرأته عندما رفض الإجراءات الأميركية، وهدد باللجوء إلى مصادر دولية أخرى. ولكن جاء ترامب ليصحح تلك العلاقات، بوسيلة أقل ما يُقال عنها أنها تدل على الفجاجة والوقاحة عندما أعلن (حماية دول الخليج مقابل أجور مرتفعة) من جهة، وأعلن مواقف حادَّة من النظام الإيراني لم تتم ترجمتها إلى فعل ملموس من جهة أخرى.

لم تكن تلك الإجراءات مما يجب أن ترضخ له دول الخليج، أي (الحماية بالإيجار)، لأن الإدارة الأميركية، بجمهورييها وديموقراطييها، يهمها أن يستمر البعبع الإيراني من أجل ابتزاز الدول الخليجية، والتي ربما لن يحيد عنها الرئيس بايدن. وهذا يقتضي تعديل شروط العلاقات بين الإدارة الأميركية وتلك الدول، والتي يجب أن تقوم على تبادل المصالح المتكافئة، وليس على تبادل الخدمات المأجورة بالابتزاز والتخويف من نظام تم تدعيم أركانه من قبل الإدارة الأميركية، سواء أكان هذا التكليف يحمل هوية الجمهوريين منهم أم من الديموقراطيين.

إنها فرصة أمام دول الخليج العربي، أن ترفض المعادلة الأميركية التي تستند إلى قاعدة تخليصها من الخطر الإيراني بأن تلجأ إلى حماية صهيونية من خلال توقيع اتفاقيات التطبيع مع العدو الصهيوني، يعني نقلها من وضع سيء إلى وضع أسوأ منه. بل اعتبار الأمن القومي العربي وحدة لا تتجزَّأ، من مشرق الوطن العربي إلى مغربه. بحيث تتم حمايته من قبل عدوين كل منهما أكثر سوءاً من الآخر.

2-أما عن وضع ثورة تشرين في العراق، فنحن ندرك، استناداً إلى ما نحسب أن بايدن سيبدأ في معالجة وضع العراق من الحدود التي وصل إليها ترامب، أي أنه لن يتراجع عن هدف استعادة ثروات العراق لمصلحة (أميركا أولاً)، وإن ذلك قد يتم بوسائل أخرى غير تلك التي استخدمها سلفه ترامب. وهذا الاحتمال يقتضي أن تدرك ثورة الشباب أن الإدارة الأميركية لا تعمل من أجل إعادة الثروات العراقية لمصلحة الشعب العراقي، وإن كانت تتبنى شعارات الثورة، بل على تخليصها من شباك النهب الإيراني إلى شباك النهب الأميركي. وإنما على الثورة أن تستفيد من تخليص العراق من نظام إيراني عنصري مذهبي يعمل على اجتثاث هوية العراق الوطنية إلى هوية فارسية تحت خيمة (حماية المذهب) الخادعة. وذلك باعتماد سياسة تخليص العراق كلياً من الاحتلالين معاً بإسقاط العملية السياسية القائمة على تفتيت العراق طائفياً وعرقياً.