سلسلة مفاهيم شاذة في معاجم أنظمة الطائفية السياسية (المفهوم الثاني):
سقوط
مفهوم الأمن الوطني الواحد، لمصلحة أمن ميليشيات الأحزاب الطائفية
مع الفوارق بالدرجة والوضوح، وليس بالمفهوم النوعي العام، حلَّت ميليشيات الأحزاب الطائفية في كل من لبنان والعراق، محل المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدَّة وأمسكت بالقرار الأمني إلى جانب المؤسسات المشتركة. وقد برز نفوذ الميليشيات في مظهرين أساسيين، وهما:
-المظهر
الأول:
فرض اعتراف الدولة، مباشرة أو مداورة، بشرعية تلك الميليشيات كأمر واقع. وأصبح لكل
ميليشيا أجهزة أمنية واستخباراتية ومواقع تدريب على السلاح، هذا ناهيك عن تخزينه،
وبالكميات والنوعيات. وهي ذات صلاحية باستيراد السلاح من الجهة التي تريد.
-المظهر
الثاني:
كل حزب من أحزاب السلطة الطائفية حصة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، تأمر
بتعيينهم من بين أنصارها من الموثوق بولائهم لأحزابها أكثر من ولائها للدولة.
وبمثل هذا الوجود يستطيع أي حزب طائفي أن يعرقل أية خطة أمنية أو عسكرية أو حتى
مخابراتية لا تتم من دون موافقته عليها. وهذا الوجود هو بمثابة (احصنة طروادة)
للأحزاب الطائفية، وهو الأمر الذي يعيق المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدة من
تنفيذ أية خطة لها صلة بالمحافظة على السلم الأهلي، أو بحماية حدود الدولة
الجغرافية. إذ يصبح هذا السلم على كف عفريت طائفي، إذا تمَّ تجاوز مصالح هذا الحزب
أو ذاك. ففي هذه الحالة تستطيع الآحزاب الطائفية لا أن تهدد السلم الأهلي فحسب،
وإنما تهدد وحدة تلك المؤسسات أيضاً. وهذا يشكل أحد أشد المخاطر على المؤسسات
الرسمية المنوط بها حماية الأمن الداخلي وأمن السلم الأهلي، لأنه إذا عجزت
قياداتها تحت ضغط الأحزاب عن إلزام المنتسبين إليها بتنفيذ الأوامر، فسوف تتفتت
وقد يتقاتل أبناء المؤسسات الواحدة، وينزلون إلى خنادق متقابلة.
تلك تجربة عرفتها أحداث الحرب الأهلية الدامية التي
حصلت في لبنان بعد العام 1975، حينذاك انقسم الجيش اللبناني إلى ألوية طائفية، كل
لواء منها محسوب على طائفة يأتمر بأوامر زعمائها، وأصبح أحد أدوات الميليشيات
المسلحة يأتمر بأوامر قيادة تلك الميليشيات وبما يضمن مصالحها.
وأما في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، ووكيله
الاحتلال الإيراني، فتكاثرت الميليشيات حتى داخل الطائفة الواحدة، وقد عرفت
الشيعية السياسية خاصة أكبر عدد من الميليشيات التي أعلنت ولاءها للنظام الإيراني،
والتزمت جانب الدفاع عنه شريطة إعطائها الحرية بأعمال السرقة والنهب وفرض الخوات،
وتقاسم العائدات مع ذلك النظام. وعن ذلك، كشفت آخر التقارير أن الميليشيات تقاسمت
مناطق النفوذ في كل محافظات العراق. تلك الميليشيات حلَّت مكان الدولة، وشكلت
دويلات ميليشياوية تدير مؤسسات أمنية وعسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية تحمي
سرقتها للثروات الطبيعية والسيطرة على مفاصل الحياة الاقتصادية.
وأما عن تزوير المفاهيم فحدِّث ولا حرج، فقد زعمت
تلك الميليشيات أنها وطنية بامتياز خاصة عندما اضطربت العلاقة بين النظام الإيراني
وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. حينذاك نُسبت لتلك الميليشيات أنها عضو فيما
يسميه النظام الإيراني (محور المقاومة والممانعة) لتطهير الأرض العربية من الوجود
الأميركي.
وعن واقع تلك الميليشيات نجد من الضروري إلقاء
أضواء خاصة عنها، لما لها من علاقات وثيقة مع أطماع النظام الإيراني في الوطن
العربي، وزيادة نفوذ قوته الإقليمية الخاصة في مجرى الصراع الذي يجري تحت اسم
مشروع الشرق الأوسط الجديد. وبما له علاقة بتمويل الميليشيات الأخرى في أقطار
عربية أخرى غير العراق.
كان الإعلان عن انتساب تلك الميليشيات في العراق
وغيره إلى (محور المقاومة والممانعة) المزعوم يشكل غطاء وهمياً لأهداف خطيرة ضد
الأمة العربية. ونحن نحسب أن تلك الميليشيات ما كانت لتنتسب إلى ذلك المحور لولا
وجود أسباب أخرى، ذات منافع خاصة ومجزية لزعمائها وكوادرها الأساسيين. وتلك
الأسباب تعود للدفاع عن مصالح مالية هائلة تحصل عليها قيادات الميليشيات. ومن
المفيد التفصيل في بعض وقائعها لما له علاقة بالسؤال القائل: إذا كان ضرع النظام
الإيراني قد جفَّ نتيجة الحصار الاقتصادي الأميركي الخانق، فكيف يستطيع هذا النظام
تقديم مساعدات لحلفائه وأصدقائه في العراق واليمن وفلسطين وسورية ولبنان؟
بحثاً عن جواب على السؤال، نختصره بنتيجة سريعة
نقوم بتفصيل بعض جوانبها. والنتيجة السريعة هي أن (محور الممانعة والمقاومة) تحول
إلى محور للمقاولة في العراق وعلى حساب آلام الشعب العراقي ونهب ثرواته الطبيعية،
وهذا ما أكدته الوقائع والمعلومات، والتي تدل على ما يلي:
-يشكل
الحرس الثوري الإيراني خلية أزمة للتنسيق بين شتى الميليشيات الموالية لنظام ولاية
الفقيه يتم استخدام بطاقة Qi
Card من قبل شخصيات الميليشيات المدعومة من إيران الذين يديرون مخطط
"موظفين أشباح" (فضائيين) على نطاق واسع لسرقة مئات الملايين من
الدولارات من الرواتب الحكومية، وقد سُجِّل حوالي 70.000 جندي (فضائي).
-كل ميليشيا
لها قيادة تشرف على عملياتها العسكرية والأمنية والاقتصادية وتنظم شؤونها في شتى
الحقول. ولعلَّ من أهمها: (عمليات
التضليل الروتينية لنقاط التفتيش، والاحتيال المصرفي، والاختلاس من الرواتب
الحكومية).
وغالباً ما تضم الحكومات العراقية (أشخاصاً
لهم صلات ببعض أسوأ مشاريع الكسب غير المشروع التي ابتليت بها البلاد). (إن أولويتهم القصوى هي الحفاظ على نظام عراقي يتم فيه بيع كل
شيء). (الفساد ليس مجرد مشكلة سياسية أساسية، ولكنه المحرك الأهم
لمعظم المشاكل الأمنية). إذ (تبدو الحياة السياسية في العراق وكأنها حرب عصابات،
في كل وزارة حكومية، يتم تخصيص أكبر الغنائم بالاتفاق غير المكتوب على فصيل أو آخر.(
(الفساد هو الطريق الثالث للسياسة العراقية: لمسه يمكن أن يقتلك أنت أو أقاربك
بسهولة). (عام 2014، عندما استولى داعش على المدن، كانت النتيجة الرئيسية هي ظهور
سلالة جديدة الميليشيات التي ساعدت في هزيمة داعش، والمعروفة مجتمعة باسم الحشد
الشعبي. والحشد اتحاد فضفاض للجماعات المسلحة، اعترف
رئيس الوزراء حيدر العبادي بها كجزء من قوات الأمن في البلاد، ويتقاضون رواتب
منتظمة مثلما يحصل عليه الجنود وضباط الشرطة). ومن أهم تلك الجماعات هي كتائب حزب الله
التي (بنت إمبراطورية اقتصادية، من خلال شق طريقها إلى الشركات الشرعية والعقود
الحكومية). و(الشركات العادية والبنوك تم طردها من قبل أولئك الذين يدعمون الأحزاب
السياسية والميليشيات الرئيسية).
-تسيطر كل ميليشيا على محافظة من محافظات العراق، بحيث تشكل
المرجعية الآمرة الناهية في جغرافية سيطرتها، ابتداء من الأمن الداخلي انتهاء
بالأمن الاقتصادي، الذي هو الغاية من تشكيلها، وهو تكديس الثروات بالنهب والفساد
والخوات، بحيث تتقاسم الأرباح مع قيادة الحرس الثوري الإيراني، ويذهب القسم الضئيل
منها إلى أفراد القاعدة الأمنية من جنود ورتباء وقادة مجموعات لتضمن ولاءها
وسيطرتها عليها.
-وما
وصل من تقارير يدل على أن المساعدات التي تُصرف إلى عملاء نظام ولاية الفقيه في
الأقطار العربية تكون نتيجية مساعدتها في تأسيس شركات وهمية بالتعاون مع
الميليشيات العراقية تجبي عائداتها لمصلحة تقوية نفوذها في أقطارها. وقد كشفت
المعلومات أن حزب الله اللبناني قد حاز على نصيب وفير من عائدات شركاته ومؤسساته
في العراق، وخاصة في محافظة البصرة الغنية بالنفط ومرافئ التهريب. هذا ناهيك عن
أنه يلتزم تهريب أموال قيادات الميليشيات نقداً إلى لبنان من أجل تبييضها، والتي
بلغت كما أشارت التقارير عشرات المليارات من الدولارات. وقد تكشف تقارير لاحقة عن
تفاصيل أكثر، وهذا ما يفسِّر مظاهر الغنى الفاحش التي يبدو عليها وضع الحزب المالي
في لبنان. وذلك بتقديمه الرواتب المرتفعة في وضع لبنان المالي المنهار، وخاصة في
حالة انهيار الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها. كما يفسر الوضع المالي لأنصار
حزب الله في لبنان من الذين يستلمون مساعدات مالية بشكل مباشر، أو عبر توفير فرص
فتح شركات لهم للمقاولات في العراق.
-بانتظار
صدور تقارير أكثر وضوحاً، وأكثر تفصيلاً، قد تنكشف وسائل تمويل أصدقاء نظام ولاية
الفقيه في أكثر من قطر عربي، من المرجَّح أن تكون مساعدتهم تتم عن توفير فرص لهم
في شركات المقاولات في العراق.