الأحد، أكتوبر 11، 2020

بعد مرور عام على انتفاضة 17 تشرين

 

بعد مرور عام على انتفاضة 17 تشرين



تراكم نضالي شعبي وانهيارات في بنية النظام الطائفي السياسي

دراسة مساهمة في تسجيل تاريخ الانتفاضة

حتى هذه اللحظة لا تزال التساؤلات ترتفع حول مصير انتفاضة 17 تشرين، بين مراهن على أفولها ومراهن على نتائجها، بين متفائل وبين متشائم. فهل هناك من نقطة ضوء تبدو في آخر النفق؟

الذين يراهنون على أفولها هم أولئك الذين انكشفت عوراتهم التي لا حدود لها بالبشاعة والإجرام، هم أمراء الطوائف ممن سرقوا ونهبوا وباقوا بكل المحرمات الشعبية. ومراهنتهم على أفولها ليست قائمة على أسباب موضوعية بأكثر منها مراهنات سرابية وذلك خوفاً من انكشاف عوراتهم أكثر وكثر أمام أنصارهم والمستفيدين من فتات سرقاتهم ونهبهم خوفاً من جوع وإملاق.

وأما الذين يراهنون على نتائجها الإيجابية فهم الذين قرأوا التاريخ وتمعنوا في سياقاته في حالات مشابهة لما يجري، وتأكدوا أن الشعب إذا جاع فلن (يستطيع حتى الله أن يظهر لهم بغير صورة رغيف الخبز) كما قال غاندي، الفيلسوف الهندي العقل المدبر للثورة الهندية السلمية في مواجهة الاحتلال البريطاني.

وبين متشائم ومتفائل، لا مكان للتخمينات القائمة على التمنى، (ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا)، إذ طالما يتحرَّك الشباب بثقافة جديدة، من دون استسلام للأمر الواقع، سيكون مصير الانتفاضة مرتبطاً بتلك الحركة، ودائماً سيكون (في الحركة بركة)، ولا شيء غيرها.

ففي حركة الشباب، بغض النظر عن أعدادهم في المراحل الأولى، ستُمطر على لبنان زخات من التغيير، لعلَّ من أهمها بعد مرور سنة هو مقدار الرعب الذي دبَّ في نفوس أمراء النهب والسرقة، وكلما انكشف حجم سرقاتهم، كلما اقترب أنصارهم من مرحلة تحطيمهم كأصنام ربضوا على عقول أولئك الأنصار وصدورهم.

المسافة التي اجتازتها الانتفاضة، في هذا العام، تُقاس بمقدار ما هدمته من جدران الماضي:

إذا كانت خرائطه كاملة، يبتدئ البناء الجديد بهدم البناء القديم جداراً جدارا. ولذلك بعيداً عن التمنى، لنحاول إحصاء غلال الانتفاضة خلال عام. وعن هذا الأمر، لن يكون مقياسنا كم جنت حتى الآن، لأن مقدمات التغيير تكون بمقدار ما هدمته من عوائق عن طريقها. وعن ذلك أخذ بناء النظام الطائفي السياسي في لبنان يشهد مجموعة من الانكشافات والانكسارات والتراجعات الملموسة والظاهرة للعيان، إذ أخذت بعض جدرانه تنهار واحداً تلو الآخر، أو على الأقل أخذت أركانها تتخلخل.

أولاً: على صعيد انكشافات النظام الطائفي السياسي:

تتمثل الانكشافات بمجموعة من المظاهر التي لن تجد من يستطيع إخفاءها من جديد، أو التستر عليها، أو الدفاع عنها، ومن أهمها نعدد ما يلي:

1-المظهر الأول: انكشاف هيبة أمراء الطوائف على حقيقتها، حيث أصبحوا عاجزين عن الدفاع عن جرائمهم، لا بل أخذوا يرفعون شعارات الانتفاضة نفسها، وأخذ البعض منهم يتنصل من مسؤولية الفساد، ويُلقي المسؤولية على شركائه الآخرين. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى الرعب الذي انتابهم جميعاً بعد أن عرَتهم الانتفاضة من أوراق التوت التي تستر جرائمهم الأكثر من أن تُحصى. ومن أهم البراهين على ذلك أنهم أقلعوا عن اتهام المنتفضين بتهمة العمالة للسفارات، وسؤالهم عن ثمن المنقوشة التي يسدون بها جوعهم. وبذلك تكون الانتفاضة في عامها الأول، قد أسقطت الهالة القدسية التي غلَّفوها بشعارات (حماية الطائفة) التي كانت تغطي عوراتهم، لأن الأكثرية الساحقة من أبناء الطوائف جميعاً عرفت الجوع والفاقة ونقص في الخدمات، وزيادة في البطالة. وهذا المظهر إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن كل أمراء الطوائف كانوا يكذبون على أبناء طوائفهم، وإن صحَّ زعمهم أنهم يحمون أبناء طائفتهم لما كان بينهم غني حتى التخمة، وجائع حتى العظم. ولذلك، وبما لا جدال حوله فقد ظهروا جميعهم بأنهم أكثر من أكلوا حقوق طوائفهم، ولم ينفع تغطية هالتهم القدسية استخدام وسائل البلطجة التي مارسها حراسهم على المنتفضين.

لقد برهن استخدامهم للبلطجية الزيف الذي كانوا يغطون بها ديموقراطية انتخاباتهم النيابية التي ظهرت بلباسها الحقيقي (ديموقراطية البلطجة والمال الحرام). تلك الديموقراطية، التي هي وسيلة حق، فيما لو تمَّ تطبيقها بمعايير صحيحة، ولكنهم شوَّهوا صورتها بحمايتها بالأزلام والأموال، والوعد بتنفيعات أنصارهم من دون غيرهم للإمساك بنتائجها. وأما تنفيع الأنصار وحشدهم للدفاع عنهم، فهي ليست أكثر من وسائل ميليشياوية ورثوها في الحروب الأهلية في المراحل السابقة. في تلك المراحل كانت الميليشيا الأقوى، رجالاً ومالاً وسلاحاً، هي التي تفرض نفسها على الميليشيات الأخرى من منافسيها أم كانوا من أنصارها وأزلامها.

2-المظهر الثاني: انكشاف خضوع أمراء الطوائف لأوامر السفارات، وتلقي الأموال منها باعتراف الكثير منهم بشكل واضح وعلني. والاعتراف خير الأدلة على إدانتهم.

هذا الانكشاف يحصل في الوقت الذي خجلوا من سؤالهم للمنتفضين الفقراء من أين أتوا بثمن المنقوشة التي يأكلونها في ساحات الاعتصام، أو ثمن قنينة الماء التي تسد عطشهم في حرارة الصيف. وبان، أيضاً، للقاصي والداني براءة الفقراء من تهمة (العمالة للسفارات)، في الوقت الذي ظهرت حقيقة أولئك الأمراء بأنهم الوحيدون الذين يخضعون للخارج ويُسلموا مفاتيح لبنان إلى الخارج تسليما. وإذا أردنا أن نأتي بالدلائل، فهي أكثر من أن تُحصى، ومن اهمها ما اعترف به هؤلاء بشكل واضح وصريح وعلني.

3-المظهر الثالث: خلافاً لما يزعمون بأن النائب منهم يمثِّل اللبنانيين، كل اللبنانيين، انكشفوا أمام اللبنانيين جميعاً أن (كرعوب كل نائب منهم معلَّق بطائفته)، ولا شيء غير طائفته. لا بل إنهم يخضعون لأوامر زعمائهم الذين لا يمثِّلون كل أبناء طائفتهم. وفي الوقت الذي كانوا يغطون به كذبهم بتحالف البعض منهم مع بعض أمراء الطوائف الأخرى، فلم تكن أهداف تلك التحالفات أكثر من واجهة لتبادل المصالح الضيقة على قاعدة أعطني فأعطيك، واستر على عوراتي أستر على عوراتك.

من أكثر الانكشافات وضوحاً وأسفاً، أن مبدأ (حماية الطائفة) كانت من أكثر الأكاذيب التي جرَّعوها للناس البسطاء. تشاركت فيها النخبة السياسية مع المؤسسات الدينية المستفيدة من إغراءات مال السلطة السياسية، بينما في حقيقة الأمر أن الحماية الحقيقية كانت في حماية مصالحهم، والتي أكدت الوقائع أنهم جمعوا الثروات الهائلة، والتي إن صرفوا منها على أبناء طوائفهم، لم تكن أكثر من أجور للمحظيين من أزلام هذا الزعيم أم ذاك، أو يصرفون من فتاتها لحراسهم من الفقراء. هؤلاء الحراس الذين حوَّلوهم إلى بلطجية ووضعوهم في مواجهة أنسبائهم من المحتاجين لرغيف الخبز. ولأن الأكثرية من أبناء طوائفهم يكادوا يموتون من الجوع والبطالة والمرض، أصبح مبدأ (حماية الطائفة) من أكثر المبادئ انكشافاً، وكان من الأصح أن يُقال بـ(مبدأ حماية زعماء الطوائف ومؤسساتهم الدينية والسياسية).

4-المظهر الرابع: مزيد من إنكشاف هرمية الفساد من فوق إلى تحت. التي على الرغم من مخالفتها للدستور الذي كانت مواده تنص على ممارسة التوزيع الطائفي للسلطات لمرة واحدة، فقد تحوَّل المرحلي إلى ثابت في مفاهيم الأحزاب الطائفية الحاكمة. ولو بدأنا بالتوزيع الطائفي من فوق لوجدنا أن هرمية السلطة بسلطاتها الرئاسية والتشريعية والتنفيذية، تتقاسمها الطوائف بشكل سافر، بتوزيع الرئاسات الثلاث بين الطوائف الأكثر عدداً، ونياباتها بين الطوائف الأقل عدداً. وتتوسع رقعته نزولاً إلى وظائف الفئة الأولى بحيث تستفيد منها الطوائف جميعاً على قواعد المحاصصة بينهم.

كانت الكوتا الطائفية في المؤسسات الرسمية عبارة عن نصِّ يعالج قضية مرحلية، يقوم على المحاصصة بين الطوائف من أجل نزع المخاوف التي كانت تساور البعض منهم على أن يتم إلغاؤها لاحقاً لبناء نظام مدني يتساوى فيه اللبنانيون جميعاً بالحقوق والواجبات. ولكن النص المرحلي تحوَّل إلى عرف دائم استمرأ فيه أمراء الطوائف لذة حصر التعيين بالوظائف بين أيديهم. ولذلك خضعت آليات التوزيع، بأوامر من الرأس السياسي الأعلى للطائفة، واسفاد منها المحازبون والأنصار فقط، ولن يستطيه الوصول إليها أحد غيرهم، وخاصة منهم الذين لا يعلنون الولاء للأسياد.

إن هرمية السلطة وتوزيعها حصصاً يجعل من الدولة مزرعة بالمعنى الكامل لمفهوم المزرعة. يتحول فيها الزعيم إلى راعٍ لا تردعه قوانين ولا تشريعت سوى تلك التي تضمن مصالح رأس الهرم وأتباعه في إقطاعية طائفية استولوا على مقدراتها، وتحديد مصيرها.

وستناداً إليه، وإذا كانت الوظائف كلها خاضعة للمحاصصة، فسوف يكون ولاء الموظف لأمير طائفته، كـ(ربٍّ لنعمته). وسوف يعمل لتمرير ما يريده منه هذا الأمير أم ذاك.وبمثل هذا المفهوم يصبح من النادر أن ترى موظفاً يعمل للمصلحة العامة سوى بالقدر الذي يخدم فيه زعيمه الطائفي السياسي.

ولأن كل أمير سياسي طائفي يحتاج إلى ضمان حمايات من القبضايات الميليشوية فهو يحتاج أيضاً إلى تمويلهم، والتمويل بحاجة إلى سرقات. وباستثناء التمويل الخارجي للإمارات الطائفية، ولأنه ليس غير الدولة تُعتبر البقرة الحلوب الأساسية لهم، يلجأ الأمراء إلى اتباع وسائل الفساد، من رشوة وتهرب ضريبي، وتلزيم المشاريع لمن يخصص قسماً من أرباحه لأميره... ولهذا عبَّر أحد القضاة عن تلك الحالة قائلاً: أينما مددت يدك في زوايا الدولة المزرعة لخرجت ملآنة بملفات الفساد والإفساد.

وإذا كان أمراء الطوائف يملأون كراسي الرئاسات الثلاث، كرأس لهرم السلطة، فإنهم نزولاً بحاجة إلى مساعدين لهم يملأون المواقع في السلطة التشريعية والسلطة القضائية.

وأما عن السلطة التشريعية، فلن يستطيع أحد الوصول إلى مقاعدها سوى بتسميته في لوائحهم الانتخابية، ومن شذَّ منهم عن عصا الطاعة فلا مكان له في نعيم مجلس النواب. وإذا ما عرفنا أيضاً أن ثلثي مجلس النواب من أصحاب الرساميل ورجال الأعمال لعرفنا كيف ستكون وجهة إقرار القوانين. وهنا تكمن أهم مساوئ النظام الديموقراطي في لبنان.

وأما عن السلطة القضائية فتكوينها لا يشذُّ أيضاً عن تركيب أية مؤسسة سياسية أو إدارية. ولأنها تخضع للمحاصصة أيضاً، فسوف يكون القضاة من عجين تلك السلطة وسوف ينفذون أوامر من أمر بتعيينهم في وظائفهم، بحيث تضمن أحكامهم مصالح (أولياء نعمتهم).

وإذا عرفنا أن لكل أمير طائفي حصة في كل إدارات الدولة، ومن ضمنها السلطة القضائية، فلن يجرؤ أحد على محاسبة أمراء السلطة الطائفية، لأنهم محميون بالقضاء. ومن هنا، وإذا أردت أن تحاسب الصغار على فسادهم، فعليك أن تحاسب أمراءهم على تعويدهم على الإفساد. وإذا أردت أن تحاسب الموظف على فساده فعليك أن تحاسب أميره الذي يحميه لأنه يتقاضى منه الحصة الأكبر من سرقاته.

 

ثانياً: الانكسارات فتتمثَّل في مجموعة من المظاهر والوقائع، ومن أهمها:

1-غياب خطباء الأحزاب الطائفية عن المنابر، وانقطاع دابر مواكبهم المحمية: لقد ارتاحت الشوارع في لبنان من ضجيج صفارات مواكب السيارات الرسمية، تلك التي كانت تُقفَل الشوارع أمام العامة لكي تسهل السير أمام المسؤولين، ولا ضير إن تأخر العامة عن أعمالهم. كما خلت المنابر من آلاف الخطب التي كان المسؤولون من أحزاب السلطة ينشرون فيها ثقافة الاستزلام. وانكفأوا إلى جحورهم مرغمين أمام نقمة الشباب الذين تصدوا لهم أينما حلوا أو رحلوا. ولعلَّ في ذلك إفادة لهم لكي يقلِّدوا المسؤولين في دول العالم المتمدن حيث يتجول رؤوساء وزرائهم على الدراجات الهوائية للانتقال من مكان إلى آخر.

2-غياب ملحوظ لمثقفي السلطة عن وسائل الإعلام: كانت وسائل الإعلام تستضيف العشرات من مثقفي السلطة، الآكلين من خبز أحزابها، الضاربين بسيوفها. ولعلَّ هؤلاء بانكفائهم، إما أنهم خجلوا من أنفسهم لأنهم خانوا مطالب أبنائهم وأقربائهم وفقراء الطبقات التي وُلدوا فيها. وإما أنهم أحسّوا أخيراً بآلام شعبهم، أو انكفأوا أمام نظرات الغضب التي كانت تبدو ظاهرة في وجوه من استمعوا إلى أكاذيبهم وتفاهاتهم في الدفاع عن الأحزاب التي استأجرتهم كمحايدين.

3-سقوط حكومتين واعتذار الثالثة قبل أن تبصر النور: أسقطت الانتفاضة في الأيام الأولى وزارة الرئيس سعد الحريري، وضغطت من أجل أن يُكحَّل الرئيس حسان ذياب وزارته ببعض الوزراء كمستقلين ولكنهم محازبين للسلطة من غير المكشوفين أمام الرأي العام، الأمر الذي أدى إلى إسقاطها بعد أن ذابت ثلوجها، وبانت مروجها. وأخيراً وليس أخيراً، وعلى الرغم من أن تكليفه تمَّ تحت ضغوط خارجية فرنسية لكن شروطها كانت تستجيب لمطالب الانتفاضة، فقد استقال الرئيس المكلف مصطفى أديب، قبل أن تبزغ حكومته إلى النور خوفاً من رئيسها الذي قدَّم استقالته قبل أن يلقى مصير حكومة الرئيس حسان ذياب. والحبل على جرار السقوط والإسقاط إذا لم يتم تشكيل حكومة تستجيب لمطالب الانتفاضة.

4-رفع محامو الانتفاضة عشرات الشكاوى ضد معظم مسؤولي أحزاب السلطة: وإن كان بعض القضاة يحتفظون بها في أدراج مكاتبهم لحماية أولياء نعمتهم، إلاَّ أن عيون الانتفاضة ساهرة ولن تنساها مهما طال الزمن.

5-إحالات ولو شكلية لبعض رموز إدارة الفساد أمام القضاء: تحت ضغط الانتفاضة والإعلام المؤيد لها، فقد أُرغمت حكومة الرئيس ذياب على تقديم بعض الأضاحي من المسؤولين الكبار في الدولة ممن تحميهم بعض أحزاب السلطة الحاكمة، لأمرائهم وتغطية لجرائمهم. ولكن أي خلل سيحصل، وهو سيحصل طالما بقيت التشكيلات القضائية لم يتم إقرارها، سيظل تحت رقابة محامي الانتفاضة، وكذلك تحت رقابة المحامين الوطنيين من الذين أعلنوا وقوفهم ضد الفساد الذي استشرى في كل زوايا النظام الطائفي السياسي.

 

ثالثاً: ما بعد انتفاضة تشرين، لن يعود إلى ما كان قبلها:

ما قبل انتفاضة 17 تشرين، التي كانت نتيجة للتراكمات التي أٍَّسَّستها حراكات السنوات الست الماضية، كانت وقائع الفساد مخبأة فيما يشبه العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت. ولما وُجد فتيل إشعالها أحدثت انفجاراً نووياً هائلاً دمَّر الجزء الأكبر من مدينة بيروت، وراحت من بعده تتوالى ردات زلزالية أخرى. ولهذا كانت انتفاضة 17 تشرين بمثابة الفتيل الذي أحدث انفجاراً في العنبر الرقم 12 الذي عشِّشت فيه أمنيوم فساد النظام.

انكشافات مخجلة، وانكسارات متواصلة، وتراجعات لم تعهدها مرحلة ما قبل انتفاضة 17 تشرين. كلها من أهم المتغيرات التي راحت تهدد جسد النظام الطائفي السياسي في لبنان بالانهيار. وهذه تمثِّل حصيلة سنة كاملة من عمر انتفاضة 17 تشرين، وهذا يُعتبر بداية لانهيارات متواصلة في المستقبل. وبعملية الهدم التي تحصل ستبنى الانتفاضة جدراناً، إذ لا يمكن العودة إلى الوراء طالما ظلَّ حراك المنتفضين حياً يُرزق. وسيكون كذلك لسببين رئيسين، وهما: حمايته الشعبية في لبنان والحماية الدولية من جهة، واكتسابه الكثير من الخبرات، ووضوح رؤيته النظرية والعملية من جهة أخرى.

أولاً: الحراك وحمايته من قمع أجهزة السلطة وقمع بلطجة أحزابها:

1-الحماية الشعبية: لأن أهدافه وشعاراته تستجيب لمصالح أوسع الجماهير الشعبية. ولأنها خبرت مصداقيته فقد فرض نفسه كهم يومي في ذاكرة الجماهير الشعبية. وقبل تفجير الانتفاضة قلَّما كنت ترى عائلة تقف مسمَّرة أمام نشرات الأخبار، وأما بعد الانتفاضة فقد عافت تلك الأسر المسلسلات الروتينية، وراح تتابع أخبار الانتفاضة ساعة بساعة. وقلَّما كنت ترى الأسر اللبنانية تهتم بمناقشة ما يجري، وبعد الانتفاضة راحت تلك الأسر تناقش قضايا الفساد التي ارتكبها النظام الطائفي السياسي. وقبل الانتفاضة كانت كل أسرة تدافع عن أمير طائفتها، ومن بعدها ارتفعت علامات الذهول من خطورة ما ارتكبه هؤلاء الأمراء. وهلمَّ جرَّاً من مظاهر عديدة كمثلها إن دلَّت فتدلُّ على أن الثقافة الشعبية التي تم  تدجينها على نمط الثقافة التقليدية التي كانت لا تستطيع أن تفهم بأن تكون طائفة من دون زعيم، فتحوَلت الثقافة الجديدة للدعوة الشعبية بأن تكون المواطنة هي الزعيم الأوحد لكل الطوائف.

وإذا كان علينا أن نخرج بخلاصة، فعلى شباب الانتفاضة وشاباتها أن يثقوا بأن انتفاضتهم وفَّرت لهم حاضنة شعبية تستطيع توفير الحماية الحقيقية لهم.

2-حماية المثقفين الوطنيين: وتمثلها قطاعات واسعة من النُخب السياسية والثقافية والإعلامية والحقوقية، وأساتذة الجامعات. هذا ناهيك عن عدد من وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي.

كانت معظم وسائل الإعلام منكفئة عن الاهتمام بقطاعات واسعة من المثقفين الوطنيين، إلى الدرجة التي كان يُخيَّل للبعض أن المثقفين، وخاصة تلك التي قدَّمنا أسماءها في بداية المقطع، غائبين عن الاهتمام بشؤون الوطن، وخاصة هموم الشعب المغلوب على أمره. ولكن بعد الانتفاضة، وبعد أن تكاثرت وسائل الإعلام التي وضعت الانتفاضة على جدول برامجها، راحت تستقطب الآلاف من المثقفين الوطنيين على شاشاتها، فتحوَّل المشهد الجديد إلى انتفاضة نخبوية للمثقفين الوطنيين، فكانوا على تعدد اختصاصاتهم، ذخيرة على غاية من الأهمية، وانكشف الواقع عن وجود نقمة نخبوية كبيرة كانت تنتظر أن تنفتح أمامها وسائل الإعلام لكي يأخذوا دورهم الذي طالما تمنوا أن يلعبوها. وإذا كان هناك مما علينا أن نسجَّله، فنقول لشباب الانتفاضة وشاباتها أن هناك حاضنة من المثقفين الوطنيين على غاية من الأهمية، لأنها سوف تشكل للانتفاضة حاضنة واعية متبصِّرة ترسم لها مساراتها الواعية التي تحميها من الوقوع في الخطأ.

3-حماية الرأي العام العربي والدولي: باستثناء أحزاب وقوى حركة التحرر العربية المؤيدة للانتفاضة الشعبية في لبنان، أخذت تطفو في الآونة الأخيرة مظاهر تأييد دولي للانتفاضة، ولعلَّ مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون هي الأبرز والأهم فيها. وإن كان تأيدد المنظمات المدنية الدولية هي الأكثر مصداقية، نعتبر المبادرة الفرنسية من أهم المبادرات الدولية. ولننا نشكك بمصداقية الأنظمة الرسمية، سوف نعتبر المبادرة الفرنسية مهمة ومؤثرة إلى المرحلة التي يُشتمُّ منها أنها أخذت تنحو باتجاه ضمان مصالحها على حساب مصلحة الشعب اللبناني.

لقد حملت مبادرة ماكرون أكثر أهداف الانتفاضة أهمية، التي إذا تمَّ تطبيقها نعتبر أنها تقدُّم مهم في تاريخ الانتفاضة. وإلى الحين الذي تظهر فيها التواءات عنها، على الانتفاضة أن تتابع سيرها لتحقيق ما سوف تغفل المراحل اللاحقة تطبيقه.

وإذا كان ما يجب أن نوجز به هذا المقطع، نعتبر أن الحماية الدولية، في مراحلها الراهنة، تشكل حماية مهمة للانتفاضة خاصة ضد قمع سلطة الأحزاب الحاكمة من جهة، وفي الضغط على تطبيق البنود الخاصة بمكافحة الفساد من جهة أخرى. وهي من أهم الحمايات في هذه المرحلة.

 

ثانياً: الطفرة النوعية العملية والنظرية:

منذ انطلاقة الشباب الأولى في العام 2014، كان عديدها لا يتجاوز العشرات من الشباب الذين وعوا خطورة المتاهات التي تحفرها أحزاب السلطة الحاكمة للدولة اللبنانية. وتصاعدت الانطلاقة لتبلغ المئات في أحسن أحوالها. كان العديد في ذلك الوقت يدفع إلى التساؤلات والاستهجان، وخاصة من قبل أحزاب السلطة من جهة، والأغلبية العظمى من الشعب اللبناني من جهة أخرى.

وأما استهجان أحزاب السلطة فهو أنهم كانوا ينظرون إلى تلك المظاهر ولا يكترثون بها، وكانوا يراهنون على أن أولئك هم شلة من الشباب المغامر الذين لن يمر وقت طويل حتى تُبحَّ أصواتهم فينكفئون. وأما تساؤل الأغلبية العظمى من الشعب الذي اعتبرت أن شعارات الحراكيين تعبِّر عن وجعهم، فكانوا يائسين من وصولهم إلى أية نتيجة.

وأما بين الاستهجان والاستغراب، فكان التفاؤل الأكثر سائداً بين أولئك الشباب، تصب في مجرى مفاهيمهم للتغيير على القواعد الثابتة التالية:

-يبدأ التغيير بقلة مؤمنة، ويزداد عديدها كلما كانت شعاراتهم وأهدافهم تعبِّر عن أهداف الأكثرية الشعبية التي تعاني من تسلُّط الطبقة الحاكمة، وهذا ما حصل في 17 تشرين.

 

1-تراكم التجربة العملية والطفرة النوعية في 17 تشرين: علينا أن لا ننسى أن انتفاضة 17 تشرين، كانت تتويجاً لحراك شبابي ابتدأ منذ ست سنوات مضت. وإذا كان من الواجب أن نتكلم عن تراكم التجربة، فعلينا أن لا نغفل تاريخية التجربة. ولذلك، يمكننا تسجيل النقاط التراكمية التالية:

أ-تمدد الانتفاضة أفقياً وعامودياً: بالإضافة إلى تعدد القوى واللجان المنخرطة في النشاطات، وبعد أن كانت نشاطاتها تكاد تكون منحصرة في العاصمة بيروت، فقد امتدت أفقياً لتشمل معظم المدن الكبرى في شتى المحافظات. وبعد أن كانت محدودة بقطاع ضيِّق من الشباب فقد امتدت لتضم إلى صفوفها عشرات من الحراكات المدنية على مساحة الأراضي اللبنانية، ومن شتى أطيافه. وبعد أن كان عددها محدوداً بالمئات، تجاوزته لتصبح بالآلاف، وأحياناً كثيرة بعشرات الآلاف. ومن جراء التوسع الأفقي والعامودي، اكتسبت انتفاضة 17 تشرين، تجارب كثيرة، بالتنسيق فيما بينها حول تعدد الوسائل اليومية وتحديد الأهداف المرحلية.. وامتلكت إصراراً أكبر على الاستمرار.

بـ-ازدياد أعداد القادة الميدانيين: أنتج الحراك قيادات شعبية موثوقة واحتضنها والتف من حولها. وإذا كانت المراحل السابقة تشهد صعود بعض القيادات في ساحات محدودة، وقد أثبتت التجارب أهليتهم في الاستمرار، فقد أنتجت انتفاضة 17 تشرين المزيد منهم في مختلف الساحات.

جـ-توسع رقعة الوسائل الإعلامية التي تخدم أهداف الانتفاضة: بانضمام شابات وشباب ممن هم مؤهلون لإعلام وسائل التواصل الاجتماعي، فقد شهدت مرحلة 17 تشرين تطوراً إعلامياً مشهوداً له بالكفاءة، الأمر الذي أخذ إعلام الانتفاضة ينتشر بسرعة كانت تساعد على التنظيم والحشد، أو بأقل الإيمان متابعته من قبل شريحة لا يُستهان بها من الشعب اللبناني. هذا ناهيك عن أن رقعة وسائل الإعلام قد أخذت تتوسع وانضمت بعض محطات التلفزيون إلى قافلة الوسائل التي أعطت مساحات من الوقت لمتابعة يوميات الانتفاضة، هذا بالإضافة إلى اللقاءات مع المتخصصين في شتى الشؤون النظرية التي تخدم أهداف الانتفاضة. وكان من الملفت للنظر، أنه حتى وسائل الإعلام التابعة لأحزاب السلطة كانت تشارك مرغمة في نقل بعض الآراء المخالفة لتوجهات تلك الأحزاب واتجاهاتها.

2-التراكم النظري والطفرة النوعية في انضمام نخب من المثقفين الوطنيين: عندما ابتدأ الحراك الشبابي قبل ست سنوات فقد ابتدأ لأن الحراك كانت له أسبابه الموجبة، وهو امتلاك القوى التي أسٍّست له رصيداً من الملفات التي تؤشِّر على وجوج الفساد في شتى زوايا دولة النظام الطائفي السياسي، والتي على أساسها انطلق الحراك من أجل الضغط على الأحزاب الحاكمة فيه للقيام بإصلاحات تصب في مصلحة الشعب اللبناني. ولكن بعد انتفاضة 17 تشرين، وبعد أن وجد آلاف من المثقفين الوطنيين ضالتهم فيها، حققت الانتفاضة بوجودهم طفرة ثقافية نظرية واسعة لكثرة ما بذله هؤلاء المثقفين من جهود في تغذية التراكم النظري في شتى الحقول المعرفية التي تحتاجها أية انتفاضة إصلاحية أو تغييرية جذرية. ولكل تلك العوامل، فقد تراكمت الخزينة النظرية، وأصبحت ملكاً للانتفاضة التي تخدم أهدافها، ومن أهمها:

أ-الحيازة على الملفات الكبرى حول الفساد. وهذه الملفات تكفي مؤونة لعمل القضاة لسنوات هذا إذا توفَّر العدد المؤهل والنزيه للنظر فيها بحيادية مهنية ورسالية وأحكام عادلة.

بـ-حيازة ملفات ودراسات عن مجمل قضايا الإصلاح المرحلية. وخاصة منها تلك التي تبدأ بمعالجة مزاريب الفساد والإفساد التي تُعدُّ الخطوة الأولى لمنع انهيار الدولة المالي، والغوص في مسائل الإصلاح المالي والاقتصادي.

جـ- وإذا كانت الأزمة الاقتصادية الحادة تستدعي الإسراع بإيجاد الحلول المرحلية السريعة من أجل إنقاذ لبنان من مجاعة حقيقية، فإن الانتفاضة تمتلك الرؤية الواضحة لإنقاذ الدولة من السقوط النهائي، لكنها لن تكتفي بإصلاح مؤقت، لأنه سيبقى مهدداً طالما ظلَّت أحزاب السلطة الحاكمة متمسكة بمصالحها السياسية والاقتصادية، فإن الانتفاضة ترى أن الحل الاستراتيجي لإنقاذ لبنان لا يمكن أن يكون سوى عبر تحقيق العناوين الرئيسة التالية:

-الأولى: تغيير الثقافة الشعبية التي تجاوز عمرها سنين الهرم والتخلف، واستبدالها بثقافة شابة تتوافق مع متغير العصر.

-الثانية: إسقاط نظام الطائفية السياسية بشكل جذري وحاسم، واستبداله بنظام المواطنة والدولة المدنية.

-الثالثة: نقل لبنان من واقع مجتمع الاستهلاك إلى سقف مجتمع الإنتاج بتعزيز الصناعة والزراعة، وهو المنهج الوحيد الذي ينقذ لبنان اقتصادياً وسياسياً، وينتقل به من منهج المنفعة المصرفية والخدمات إلى منهج بناء الدولة المحصَّنة من الاستناد إلى صندوق النقد الدولي بوظيفته الاستعمارية القائمة على إغراق الاقتصاد الوطني بالقروض التي تُثقل كاهل المواطن بالديون.

وأخيراً،

بين هذا وذاك من دراستنا هذه التي نرجو أن تمثِّل جزءاً من تسجيل تاريخ حقيقي لواقع انتفاضة 17 تشرين، نناشد أبناء الانتفاضة وبناتها إلى الإمساك بالنواجذ بانتفاضتهم، لأنها تمثِّل الضمير الشعبي لأنها تعبِّر عن حقوق الجماهير اللبنانية المقهورة. كما عليهم أن يحرصوا على حمايتها من أهداف ومخططات إحباطها من قبل أحزاب السلطة الحاكمة وصولاً إلى اليوم الذي يتمنون فيه إعلان موتها. وعليهم أن يعوا أن لكل ثورة ضمير، وانتفاضتكم هي ضمير الثورة، فإذا مات الضمير تموت الثورة. وليكن شعاركم الدائم: إن انتفاضة 17 تشرين لن تموت، بل ستبقى أمانة في رقاب الوطنيين الصادقين.