الاثنين، نوفمبر 30، 2020

الحياة نعمة من الله ومدة عمر الإنسان صنع يديه

 


الحياة نعمة من الله

ومدة عمر الإنسان صنع يديه

مقدمة نقدية في الموروث الديني:

من الثابت أن الفقه الديني يلزم الإنسان بأن يؤمن بـ(قضاء الله وقدره). وعن هذا جاء في بعض التعريفات ما يلي: «الإيمان بالقضاء والقدر هو التصديق الجازم بقضاء الله وقدره، وإنّ كل ما يقع في الأنفس والآفاق من خير أو شر إنما يتم بقضاء الله وقدره، وعلمه المسبق، فقد كتب الله الأقدار قبل خلق الخليقة فلا يخرج شيء عن إرادته ومشيئته في الأرض أو في السماء». وقد استند الفقه إلى نصوص من القرآن، ومنها ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

ما جاء في النص القرآني، وما جاء في الفقه أيضاً، من أن الأفعال التي تصدر عن الإنسان إنما هي بتقدير من الله، قمنا بتحليله في مقالات سابقة وتوصلنا فيه إلى نتيجة تفيد أن الله إذا قام بحساب الإنسان على فعل أمره به أن يفعله، يتنافى مع قيم العدالة التي خلقها فيه، لأنه لا يجوز حساب الإنسان على فعل لم يقم به بمحض إرادته. ومن المؤكد أن المحاكم المدنية والدينية أيضاً، والتي بدورها استندت إلى تلك القيم، تحكم على الإنسان في الحياة الدنيا بالعقاب على العمل الذي قام به بعد أن تتأكد بالدليل الدامغ أنه قام به بمحض إرادته، فهل من المنطقي أن يكون الإنسان أكثر عدالة من الله؟

ومن ضمن هذه القاعدة، وبناء عليها، هل قدَّر الله كم هو عمر الإنسان وحدد نهاية لحياته؟ أم أن طول هذا العمر أو قصره فعل من أفعال البشر؟

يقول الفقه الديني بناء على مسلمات النص القرآني إنما الأعمار بيد الله، ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. ولمناقشة هذا سنورد بعض نماذج الموت ونتساءل: هل هي بتقدير من الله؟

-الجنين الذي يُتوفى في رحم أمه قبل ولادته.

-الإنسان الذي يُقدم على الانتحار.

-الذي يموت غرقاً في سفينة أو تحطم طائرة.

-من يموت من جراء الحروب.

-من يموت في حادثة سطو أو سرقة.

-من يموت جوعاً لأنه لم يجد ما يأكله، أو من يموت مريضاً على أبواب مستشفى رفض استقباله...

-ومن.... ومن ... وإلخ...

وما هو رأي الفكر الديني في هذة القلة القليلة من الأمثلة؟

وعن ذلك، ولأن القضايا الغيبية مجرد تكهنات لا ترقى لمستوى اليقين، ولأن لكل إنسان ذي بصيرة حقاً في التفسير والاستنتاج في مسائل غيبية، سنحاول أن نسهم بدورنا لعلَّنا نصيب، أو قد نخطئ؛ ولكننا على الأقل سنعطي للعقل الذي وهبناه الله حصة ودوراً لأن الله عندما خلق العقل في الإنسان فإنه لم يميِّز أحداً عن أحد في مستوى العقل، إلاَّ ما استطاع المجتمع، بشتى مؤسساته، أن يطوِره فيه من مدارك عقلية؛ أو ما استطاع فيه الإنسان منفرداً من تطوير تلك القدرات. فالله فطر في الإنسان خلايا دماغية لتلك القدرات، وترك للإنسان نفسه ولمجتمعه أن ينميها. فضعفها أو قوتها هي فعل من عمل الإنسان، لأن الله لم يخلق إنساناً عاقلاً، وآخر جاهلاً. فتنمية العقل وإبقاء خلايا الدماغ جامدة ليست من قدر الله أو مشيئته.

ولأنه ليس للقضايا الغيبية حدوداً واضحة من اليقين، لا يستطيع إنسان ما أن يتهم استنتاجات الآخرين بالقصور باستخدام براهين قاطعة بالدليل. ولذلك يُعتبر الجدل فيها، إذا ما استمر، سفسطة لأنك تقول فيها ويقولون.

وأما عن ظاهرة الموت، ولأنها لا تزال غامضة، تبقى لغزاً عصياً على الحل، وعن ذلك انتشر القول الشائع (تعددت الأسباب والموت واحد).

وبناء على فهمنا للمصطلحات أعلاه، وأمام من يعتبرون أن أسبابه تعود إلى حكمة إلهية لا يعرفها إلاَّ الله، نتساءل: ما هي الحكمة الإلهية من وراء ظواهر الموت التالية:

-موت جنين في رحم أمه: وهذا الموت قد يكون بسبب الإجهاض، أو استخدام العنف ضد المرأة الحامل، أو بسبب أمراض موروثة لم تتم معالجة أسبابها عند الأجداد أو الآباء والأمهات. أو بسبب خطأ يقوم به طبيب، أو تقصير من مستشفى، أو، أو ... فهل نعفى من المسؤولية كل من كان السبب؟ وهل على الفقه أن يدافع عن كل هؤلاء ويتجاهل أخطاءهم ويُعتِّم عليها؟ فيصبح هؤلاء أبرياء ويبقى المتهم الوحيد هو الله؟ هل هو أمر بالإجهاض، أو أمر باستفحال المرض، وأمر الأطباء بالخطأ، وطلب من المستشفيات أن يمنعوا مريضاً من العلاج لأنه لا يملك تكاليفه؟

-من يموت انتحاراً: على قاعدة النص القرآني، القائل: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. يستتبع التساؤل: هل أمر الله إنساناً بالانتحار ليموت في الساعة المحددة له؟ وإذا لم يأمر بذلك، لماذا لم يمت بالوسيلة التي حدَّدها له الله؟

-من يموت من جراء الحروب: وهذا يجوز في مناقشته ما يجوز على الموت انتحاراً. ويقتضي إعادة التساؤل: هل قضى الله بأن يموت الملايين من البشر في الحروب؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، فمن يتحمل مسؤولية اندلاع الحروب، الله أم الذين افتعلوها من البشر؟

-من يموت في حادثة سطو أو سرقة، ومن يموت جوعاً لأنه لم يجد ما يأكله، أو من يموت مريضاً على أبواب مستشفى رفض استقباله... ومن.... ومن ... وإلخ... وهل تلك الوسائل مما حددها الله في (اللوح المحفوظ)؟

هل من أجل موت إنسان في فترة زمنية محددة، قدَّر الله أن يتعرَّض لحادث سرقة، أو قدَّر أيضاً أن يحجب الطعام عنه ليموت جوعاً. أو أوحى لموظف الاستقبال في المستشفى أن يقفل بابه في وجه الإنسان المريض لكي يموت مرضاً في الوقت الذي حدَّده الله لوفاته؟

أسئلة ممنوعة في عرف رجال الدين، ولكن العقل الذي خلقه الله في الإنسان اكتسب فطرة القفز فوق الأسئلة الممنوعة، ويلِّحُ على الإتيان بأجوبة واضحة حتى ولو صدمت المؤسسات الدينية.

 

خلق الله الإنسان وخلق له العوامل التي تحافظ على الحياة في جسده:

ما سقناه من أمثلة أعلاه، كلها تساؤلات تصب في موضوع الموت وأسبابه وتوقيتاته ووسائله، وهذا ما سنبدي فيه رأياً مبنياً على قواعد الإيمان التي نعتقد بها. وأما تلك القواعد، فهي قواعد مادية، وقواعد روحية – نفسية:

-القواعد المادية: إن حياة جسد الإنسان محدودة بالوقت الذي يفقد العوامل التي تحافظ على صحة الخلايا التي يتكون منها. وفعل تغذية هذه العوامل لكي تبقى أقرب ما يمكن للسلامة، عائد للإنسان نفسه، خاصة أن الله الذي خلق الجسد من مليارات الخلايا، خلق معها عوامل تغذيتها مما تنتجه الطبيعة من مأكل ومشرب. كما خلق المواد الأولية التي يحتاجها الجسد، وما على الإنسان مهمة أكثر من إنتاجها مما يحيط به من المواد التي تختزنها الأرض من زراعات، وما خلقه من حيوانات على البر وفي البحر. فإذا أحسن الإنسان استثمار تلك المواد وزوَّد حاجات جسده المادية بها، فإنه يؤخر بذلك من سرعة تلف الخلايا، وهو سيسهم في إطالة أيام حياته الجسدية. وإذا أساء استخدام ما هو مكلَّف به، يسهم في تقصير عمر خلايا جسده، وهذا يعني التعجيل بموتها. وتلك حقيقة أثبتتها الأبحاث الطبية بشكل مؤكد، بحيث إنه كلما تطورت ثقافة الإنسان الصحية، وكلما تطورت وسائل الطب، كلما ارتفع معدل مدة الحياة بين البشر.

-القواعد الروحية والنفسية، وما بينهما من قواعد اجتماعية: ولأن الجانب الروحي، وما له علاقة بالنفس غير المنظورة، وما ينتجه تفاعلهما من قواعد اجتماعية تنظم علاقات البشر؛ وإن كان الله قد خصَّ الدماغ في جسد الإنسان، كموجود منظور، للقيام بوظائف العوامل الروحية والنفسية، فإن الله أيضاً اعتبر أن الأوامر، التي تصدر من الدماغ لتنظيم وظائف الجسد، تقوم أيضاً باختزان المعارف، وتعمل على تنظيمها لتقوم بوظائف فكرية روحية ونفسية واجتماعية. وتلك الوظائف هي التي ترشد الإنسان الفرد إلى القيام بالمهام التي أوكلها الله إليه للعناية بنفسه، وعياً فكرياً وعلمياً، ليؤخر تلف الخلايا الجسدية بما يعني المحافظة على الحياة أطول فترة ممكنة. وكما أنه يعمل على تنظيم علاقته بالمجتمع الإنساني المحيط به لأن الفرد بنفسه لا يمكنه أن ينجز كل الوظائف الضرورية لاستمرار الحياة؛ بل لا بُدَّ من أنه يحتاج إلى جهد من الآخرين لمساعدته، وكما أن الآخرين بحاجة إلى دوره. وهكذا كل من يقصِّر بأداء دوره، فهو كأنه يسيء إلى نفسه كما يسيء إلى الآخرين أيضاً.

وإذا كان الله قد خلق في الإنسان المقدرة على صنع أفعاله، ويأتي من ضمن هذه الأفعال مقدرته على المحافظة على حياته، يكون الله بذلك قد وضع بيد الإنسان، فرداً ومجتمعاً، قدرة على التحكم باستمرار الحياة إلى الأمد المحدد لتلف تلك الخلايا. وإذا أساء استخدام هذه القدرة، فلا شك بأنه سيضع حداً لها بالموت.

إن سلامة الخلايا عائد إلى توفير العوامل المحددة لنموها من المواد الغذائية، وهي عملية معقدة جداً لا يمكن لإنسان مهما بلغ من الوعي الصحي والمقدرة الجسدية والعقلية أن يستطيع الإحاطة بها. ولكن توفير الحد الأدنى منها يسهم في منع تلف الخلايا، وهذا يعني إطالة محدودة بعمر الإنسان. وكلما ارتفعت نسبة التوفير التي تفوق الحد الأدنى، ترتفع نسبة إضافة مدد زمنية على حياة الإنسان. فالله خلق تلك الشروط والعوامل، ورتَّب على الإنسان مسؤولية توفيرها.

واستناداً إلى هذه الرؤية، أيضاً، نعتبر أن كل من يموت بسبب غير سبب تآكل الخلايا التي حدد الله مدة زمنية لهذا التآكل، فيكون ذلك من صنع يد الإنسان. أو قد يكون من صنع يد إنسان آخر، كالإجهاض، والمرض، وحوادث السير، والحروب، والسرقة، و.. و..

 

من غير المنطقي استخدم معايير إنتقائية بالنسبة لخلق الأفعال:

يقول الفكر الديني إن كل الأفعال هي من خلق الله، ولكن حينما تواجهه إشكالية بعض أشكال الموت، التي ذكرنا بعضاً منها، يحمِّل أوزارها للإنسان نفسه. وهذا دليل على أن الفكر الديني يناقض نفسه بنفسه. وهذا يقود إلى أن الإنسان إذا كان مسؤولاً عن بعض الأعمال يعني أن الله حباه المقدرة على فعلها، وهذا لا ينتقص من قدرة الله، وهذا الاعتراف يعني أن الله، على قاعدة أنه لكل ﴿نفس مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. يمكنه أن يخلق في الإنسان المقدرة على صنع كل الأفعال (الخير منها أو الشر).

فالمعايير يجب أن تكون واحدة في خلق الأفعال. وهذا ما توصلنا إليه في رؤى سابقة.

والقاعدة التي ننطلق منها للقياس، هي أن الله خلق الإنسان وخلق في نفسه القيم العليا، التي تدعو للخير، وهذا يعني أن الله خلق الخير فقط، والشر بهذا المعنى هو أن الإنسان لا يعمل الخير، أي كل من يوفِّر له السعادة الذاتية، والسعادة للمجتمع. وبهذا يكون الله قد ترك للإنسان حرية القيام بهذا العمل الذي إذا أتقنه يكتسب السعادة لنفسه، ولمجتمعه، وإذا أخفق فيه، انعكس شراً على نفسه وعلى مجتمعه.

 

ومن غير المنطقي أن نختلق أسباباً وهمية لظاهرة الموت:

وبناء على ذلك، كيف نفهم الحياة، وكيف نفهم الموت؟

خلق الله الإنسان من جسد وروح، وخلق في الطبيعة العوامل الأولى لاستمرار الحياة، من جنس وطعام. وفطر فيه غريزة المحافظة على استمرار الحياة بممارسة الجنس، وغريزة الطعام للمحافظة على الجسد بالتفتيش عما يغذيه ويساعده على الاستمرار. ولهذا  عندما يفقد الإنسان غريزة الجنس، أو لا يمارسها، فسوف تنقرض البشرية. وإذا تكاسل ولم يفتش عما يأكله، أو عما يشربه، فسوف يؤدي به الكسل إلى اهتراء خلايا الجسم نتيجة عدم إمدادها بعوامل النمو، التي هي الحياة بذاتها.

وأما الموت فهو نهاية لحياة البشر الجسدية، فالإنسان ليس خالداً من حيث تكوينه المادي، بل إنه لاستمرار الحياة في خلاياه، مستلزمات وشروط، تقصر مدة الحياة أو تطول تبعاً لتوفيرها. والخلود الإنساني هو عبارة عن انتقال الحياة الروحية وتطورها وتصاعد هذا التطور. وبهذا المعنى عندما خلق الله الإنسان على هذا الكوكب فلآماد محدودة مرتبطة بتوفير العوامل البيويولوجية التي تحافظ على سلامة خلايا الجسد من الاهتراء.

باستثناء طبيعة الفناء المخلوقة في الجسد، والمتعلقة بإمداد خلاياه بنسغ العوامل المادية، فإن الإنسان مسؤول بشكل مباشر عن استمرار الحياة في الجسد أو موته. وينتهي دور الله، كما نعتقد، عند خلق ظروف الحياة البشرية. وإن الله يملك المقدرة والإرادة على خلق الكون بمثل هذه الطريقة، أو بغيرها، إذا أراد ذلك.

إن كل اعتقاد عن الحياة أو الموت غير ذلك، يعني هروب من ينتدب نفسه لهذه المهمة من تحميل المسؤولية للإنسان الفرد، والإنسان المجتمع، ليلقيها على الله.