الخميس، يوليو 30، 2020

قوة الحراك الشعبي تُقاس بقوة مطالبه ومشروعيتها الشعبية

قوة الحراك الشعبي تُقاس بقوة مطالبه ومشروعيتها الشعبية

لقد ابتدأت التساؤلات، في الآونة الأخيرة، تتصاعد عن مصير انتفاضة لبنان التي شهدت أكثر فصولها اتساعاً على مستوى شمولها الساحة اللبنانية، وانتشارها بين صفوف شتى الشرائح الاجتماعية والسياسية والأطياف الدينية.

بعض تلك التساؤلات ازدادت بين أحزاب السلطة الحاكمة، وبعضها الآخر على مستوى الجماهير الشعبية بشتى تلاوينها والتي شملت تلك التي تدين بالولاء لتلك الأحزاب. ومستوى الحراكيين أنفسهم الذين لا يزالوا قابعين في خيم الاعتصام أو أولئك الذين يتحركون في شتى الاتجاهات حيث توجد المؤسسات الحكومية الأكثر ضلوعاً في جرائم الهدر والفساد والرشوة.

إن ظاهرة جديدة في لبنان بحجم تلك الانتفاضة التي هزَّت عروشاً بنتها أحزاب السلطة من جرائم السرقة والنهب والضحك على ذقون الأنصار والمحازبين المنساقة لأطروحاتها الفاسدة، لن يكون من المستغرب أن تكون محوراً لأنظار من هو ضدها ومن هو معها، لمعرفة وضعها الراهن الآن بعد عشرة أشهر من اندلاعها.

فأما أحزاب السلطة فتتمنى أن ينزاح عن كاهلها عبء ثقيل إذا ما استمر فهو يهدد مصيرها السياسي ومصالحها المالية. ولذلك فهي لا تترك منفذاً لضربها إلا وسلكته، سواءٌ أكان على طريق الترهيب بواسطة أدواتها المخصصة لـ(البلطجة)، أو بواسطة مثقفيها من الإعلاميين، أو حتى برشوة أنصارها بصناديق من المؤن التموينية أو بإغرائهم باستمرار دفع رواتبهم ومساعداتهم الهزيلة. وبالطبع بين هذا وذاك يُصرُّ أمراء الأحزاب الحاكمة وقديسيها على إجهاض تلك الانتفاضة التي هزَّت مكانتهم التي وصلت إلى حدود القداسة بنظر أتباعها.

وأما فقراء أنصار أحزاب السلطة فيتساءلون، على الرغم من مرارة ما يتساءلون عنه، عن مصير الانتفاضة ليس كرهاً بها ولكنهم يستجيبون إلى نداء بطونهم الخاوية وعجزهم عن مواكبة الانهيار الهائل في عائداتهم أو رواتبهم على ضآلتها. هؤلاء وإن كانوا يخشون غضب الأسياد والأمراء، لكنهم يدعون من كل قلوبهم أن تستمر الانتفاضة حتى لا يفقدوا الأمل في إزاحة كابوس المجاعة والعوز الآتي إليهم، والذي يزيد من همومهم كل يوم كابوساً على كابوس.

وأما الحراكيون أنفسهم، فهم بدورهم يتساءلون أيضاً، خاصة بعد أن تقلَّصت أعداد المشاركين في نشاطاتهم. وتساؤلاتهم لا تنم عن إحباط لأنهم تجاوزوا مرحلة الإحباط، ولكنها تنم عن الشعور بالخيبة من غياب الفقراء عن النزول إلى الشارع لتدعيم الصوت الوحيد الذي يعبِّر عن آلامهم وحاجاتهم.

وبناء على هذا التقسيم، يُعتبر الصراع الدائر بين أحزاب السلطة كطرف أول وبين الحراك الشعبي كطرف ثاني، بمثابة صراع على من يستطيع كسب الأكثرية الشعبية الصامتة، أو المقهورة على أن تمارس الصمت. والتي بكثرتها إلى جانب هذا الطرف أو ذاك تُعطي الأرجحية بكسب المعركة. فالأكثرية الشعبية تمثل المساحة الرمادية بين المشروعين، مشروع الانتفاضة، ومشروع حماية نظام الفساد والسرقة والنهب. وكل منهما يراهن على أن من يستطيع كسبها إلى جانبه، كأنه يوفِّر عوامل النجاح لطرف في معركته ضد الطرف الآخر.

ولذلك، في المشهد الراهن، تبدو أحزاب السلطة متفوقة بحق القوة لأنها تستطيع حتى الآن أن تدجِّن الأكثرية الشعبية، وتصادر قرارها بفعل عوامل القوة التي تؤثر بها عليها. ولعلَّ من أهم مصادر قوتها على الأكثرية الشعبية موجودة في المزيد من الحقن الطائفي، أو توفير الوظائف للبعض منها، أو بما تستخدمه من ضخ مساعدات ضحلة من حصص التموين أو المساعدات المالية التي تسد بعض الرمق ولكنها لا تغني عن فاقة في مواجهة فاتورة طويلة من الحاجات المعيشية. وفي حسابات القوة تُعتبر أحزاب السلطة، بالنسبة للأكثرية الشعبية، أكثر قوة وتأثيراً من عوامل القوة التي تمتلكها الانتفاضة الشعبية.

وأما مشهد الانتفاضة الشعبية الراهن، فهي وكما امتلكته قوى الحراك الشعبي منذ سنوات سبقت انتفاضة 17 تشرين الأول، فهي لا تزال تمتلك قوة الحق بما تختزنه من صدقية في رفع أهداف شعبية، كانت ولا تزال تلامس عواطف الأكثرية الشعبية وتأييدها، من دون استطاعتها أن تجذب العدد الأكبر منها إلى الشارع كما كانت عليه أعدادها في بداية الانتفاضة قبل عشرة أشهر.

وهي وإن نجحت في ملء الشوارع والساحات بعشرات الآلاف من الشعب اللبناني، ومن شتى الانتماءات الطائفية، ومن شتى المناطق الجغرافية، لكنها لظرف أو أكثر فقد قلَّت أعدادها الآن بما لا يُقاس بما كانت عليه أعدادها في الأشهر الأولى من الانتفاضة الأولى الأم. ولعلَّ في مرحلة الانحسار الشعبي تلك ما أثار شهية المحللين على رفع السؤال: ما هو مصير الانتفاضة الشعبية في ظل هذا الانحسار الشعبي بعد مرور عشرة أشهر على انطلاقة الانتفاضة؟

انطلاقاً من مفهومنا لقوة الحق الذي هو سلاح الحراك الشعبي في مواجهة الحق بالقوة الذي هو سلاح أحزاب السلطة، لا نرى بديلاً عن حتمية الانتصار الذي يقف إلى جانب قوة الحق. ولكي لا نكون رومانسيين في إطلاق الشعارات، بل نؤمن بأن الدنيا لا تؤخذ بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. يدفعنا إلى التأكيد بأن قوة الغلاب تمتلكها الانتفاضة في تعبيرها عن حقوق الشعب المأكولة والمسروقة والمنهوبة، وهي تضعف بمقدار ما يتم إضعاف من يرفع صوت الشعب، وهنا لا تُقاس قوة الحق بعدد من يطالب به، بل بما يمتلك من شرعية إنسانية ووطنية، وبقوة تعبيره عن الحقوق الشعبية بالعدل والمساواة. ولأن صوت الحراك هو صوت الشعب الحقيقي، فهو يمتلك القوة إذن. وهذا ما يُوجب على المنتفضين، على قلتهم الآن، أن يتسلحوا به.

أما وأن قلة العدد فيه ما يُحبط البعض، فعليهم أن يتأكدوا أن من لم ينزل إلى الشارع الآن، سينزل غداً. لأن وطأة الأزمة تزداد وتتفرع، وإن صناديق التموين لن تلبي كل حاجات الفقراء، وهي تسكت بعض الجوع، ولكنها لا تعني شيئا أمام هموم الشعب الأخرى. فعلى ذلك الصوت أن لا ينطوي على نفسه، لأن من لم يسمعه أو هو مقهور على الامتناع عن سماعه، سيبقى صوت الانتفاضة أمنية راسخة لا يتمنى الصامتون أن يسكت، لأنهم سيجدون أنفسهم في يوم ما بين الصارخين في الشوارع والساحات بعد أن ينكشف الضعف والكذب في أخاديع أحزاب السلطة.

إن أحزاب السلطة، ستصل في مرحلة من المراحل إلى الإفلاس الإعلامي والأخلاقي والتبريري، خاصة بعد أن تجف مواردها التي تحصل عليها من الخارج أو من سرقات الداخل، وساعتئذ لن تجد ما يغطي على كذبها بعد أن يتمَّ تجفيف مواردها، وستفقد الشعرة التي كانت تربطها مع الفقراء والمحتاجين. وإننا نعلم أن سرعة التضخم الذي يعاني منه الاقتصاد اللبناني، وخاصة السرعة الهائلة التي تنهار فيه العملة الوطنية، ستجعل ما يتم تقديمه من مساعدات على قواعد طائفية بدون قيمة أو معنى، لأنها لن تكفي أكثر من سد جوعة مؤقته، سوف تذوب بسرعة البرق. ولكن هل كرتونة تموينية ستسدد فاتورة الكهرباء والمستشفى والمدرسة وإيجار المنزل، ووو...

إن قوة الحراك الآن، وفي هذه المرحلة، لا تُقاس بعديده، بل تُقاس بقوة مطالبه ومشروعيتها الشعبية. وإن قتله تحت هذه الحجة أو تلك كأنه قتل للضمير، وقتل الضمير هو خسارة المعركة. وهذا ما يحدونا لوضع صورة لمستقبل الحراك على قاعدة أنه قوي بالفعل بقوة الأهداف التي يرفعها:

-مبدأ الاستمرارية لا جدال فيه على الرغم مما ستتحمله القلة القليلة من أبناء الانتفاضة وبناتها من أعباء وجهود وتضحيات، وتخويف وإحباط وزرع اليأس في النفوس.

-الانتفاضة ليست ضعيفة، بل هي قوية بأكثر مما نتصور، فهي وإن كانت قليلة العدد في الساحات والتظاهرات، لكنها قوية بمن يحيط بها ويحميها من مثقفين ومفكرين وسياسيين وذوي اختصاص، ووسائل إعلامية وطنية، ونقابات لعلَّ نقابة المحامين الأكثرها تأثيراً.

-إن استمرار الانتفاضة يشكل ناقوس النعي الدائم لأحزاب السلطة، والكشف عن جرائمها المعروفة، والعمل على كشف ما ظلَّ مستوراً منها حتى الآن، أشد إيلاماً وأكثر وطأة على المجرمين، وإنهم سيتنفسون الصعداء إذا ما بشرَّهم الناعي بموت الحراك في الشوارع، فعلى الانتفاضة أن تستمر لكي لاتدع أعين المجرمين تغفو للحظة واحدة.

-المحافظة على لامركزية الانتفاضة، وتوسيعها إلى أكثر مما هي عليه الآن، لكي لا تُثبت أن هناك مساحات مملوكة لهذا الحزب المشارك بالسلطة أو لذاك. وذلك تطبيقاً لشمولية الاتهام (كلن يعني كلن).

-العمل على تفعيل وسائل الحراك بوسائل جديدة، ولعلَّ شعارها الأخير بالدعوة إلى العصيان المدني يعابر من معالم التصعيد بالوسائل.

-أن لا يخشى المنتفضون ممن يتفرجون عليهم من على الشرفات، وأن لا يعتبروهم من المعادين لانتفاضتهم، بل هم أكثر ممن يدعون لها بالوصول إلى أهدافها لأنها أهداف لهم. فهؤلاء إلى أن يحين الظرف المناسب ليترجموا دعاءهم من على الشرفات إلى فعل نزولهم للمشاركة في الشوارع، فهم ممن تربوا على ثقافة التواكل والتمني، فهم لا يزالوا ممن يؤمنون بالمثل التالي: (اليد التي لا تستطع كسرها، قبِّلها وادع عليها بالكسر). وهم سوف يغادرون مواقع التواكل إلى مواقع الفعل إذ أنهم سيشاركونكم، وإن جاؤوا متأخرين، بكسر الأيادي، التي كانوا يقبلونها، بأنفسهم.