بعد أن أفلت مشروع الشرق الأوسط الجديد عفاريت الدول الإقليمية
في
العام 2011، وبعد انطلاقة مشروع الشرق الأوسط الجديد مستغلة انتفاضات الشعب العربي
التي انطلقت من تونس، وتحت دخانها، راحت الإدارة الأميركية تعمل على تنفيذ مشروعها
التفتيتي للوطن العربي، تحت الإشراف المباشر للصهيوني هنري برنار ليفي، الذي عرَّف
الإعلام عنه بأنه (مهندس الربيع العربي).
ومنذ
أن استفاقت الدولة الروسية على خطورة ذلك المشروع لأنه يستهدف اقتلاعها من المنطقة
العربية، راحت تعمل على إفشاله بداية باستخدام حق النقض ضد مشروع قرار لمجلس الأمن
سوَّقته الإدارة الأميركية تحت غطاء (حماية المدنيين السوريين) حينها صرح الرئيس
بوتين، قائلاً: (لقد خُدعنا في ليبيا، ولن نخدع مرة أخرى في سورية).
منذ
تلك اللحظة علق منشار المشروع المذكور في عقدة النجار في سورية، فتأجلَّ تنفيذه،
ولو بعد تدمير هائل تعرَّضت له الدولة السورية. ومن الواضح، أن تراجع ذلك المشروع
كان انتظاراً لظهور فرصة مناسبة أخرى أمام التحالف الأميركي - الصهيوني. ولكن
انطلاقة المشروع فتحت شهية دول الإقليم المجاورة للوطن العربي فوجدت أن التراجع عن
التنفيذ قد يُغلق الأبواب أمامها ولن تجد فرصة أخرى خاصة أن الوهن قد أصاب أقطار
الوطن العربي، بحيث راح كل منها يلعق جراحه ويفتش عن مخرج ليداويها.
وخلال
فترة التأجيل الأميركي – الصهيوني، ربما لمعالجة
الثغرات في التنفيذ، ومن أهم تلك الثغرات أن النتائج أخذت تصب في مصلحة الدولتين
الإقليميتين، إيران وتركيا، وذلك بسبب تقدمهما عليه بنقاط نوعية تتمثل باستطاعتهما
إيجاد حواضن شعبية واسعة في الأوساط الطائفية في الأقطار العربية، يوفرها كل من
تنظيمات ولاية الفقيه والإخوان المسلمين. ولذلك رست صورة المشهد في مرحلة الترقب
الأميركي – الصهيوني، على
الشكل التالي:
-في
الجانب الإيراني: حصَّل الجانب الإيراني في مرحلة تنفيذ المشروع على مكاسب خلال
تسع سنوات ما عجز عنه المشروع الأميركي – الصهيوني طوال عشرات
السنين. ولعلَّ أكثر تلك المكاسب وضوحاً وقوة، الاستيلاء شبه الكامل على العراق،
وعلى الجانب الأهم في القرار السوري بعد القرار الروسي. وفي لبنان استطاع تشكيل
حكومة من لون واحد تمسك بالقرار اللبناني. وفي اليمن عرقل أي مشروع عربي لحل
القضية اليمنية وسيطر على المساحة الجغرافية الأكبر، ومعظم الحجم السكاني فيه.
وسيطر على نصف القرار الفلسطيني المتمثل بدعمه لحركة حماس في غزة.
وبسبب
استئثاره بمعظم ما تمخَّض عنه المشروع من نتائج إيجابية، أصاب العلاقات الأميركية – الإيرانية بعض
الارتباك، الأمر الذي دفع بالنظام للتمسك بقوة بما حصل عليه من نتائج، خاصة أنه
راح يبني آمالاً على استكمال مشروعه الخاص، ووصل به فائض القوة التي امتلكها إلى
الشعور بأنه يمكنه مواجهة حليفه. فحصل الاشتباك على قواعد اقتصادية ناعمة، لم
تُثنه عن المواجهة. وهي لا تزال مستمرة بينهما ولكن بطرق لا تطال سوى القشرة
بالاشتباك الذي ظاهره عسكرياً، وباطنه طريقة العض على الأصابع التي يخسر فيها من
يصرخ أولاً.
-في
الجانب التركي: بعد أن تعرقل تنفيذ المشروع على الأرض السورية، وإسقاط نظام
الإخوان المسلمين في تونس ومصر، وأخيراً في السودان. والقسم الأكبر منه في ليبيا،
أصاب نظام أردوغان الخوف من أن يخسر كل أوراق القوة التي كسبها في المراحل الأولى
لتنفيذ المشروع. ويظهر أنه استغلَّ فترة الإرباك في القرار الأميركي في مرحلة
انشغال إدارة ترمب بالانتخابات الأميركية، فأخذ يشحذ سلاحه من أجل العمل على تنفيذ
ما عجز عن تنفيذه في مرحلة ما بعد العام 2011. ويكون من المفترض أنه أراد أن يستغل
أوراق قوته التي كانت لا تزال كامنة في الزوايا التالية:
-علاقته
المتينة مع حكومة السراج، خاصة أنها تعتمد في قوتها على تنظيمات الإخوان
المسلمين الإرهابية التي تسيطر على طرابلس العاصمة، وذلك استباقاً لمتغيرات جذرية
قد تحدثها حركة الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر. فاستند إليها في إعادة السيطرة
على ليبيا كلها بعد أن استطاعت حركة حفتر منذ العام 2014 تحقيق متغيرات وازنة على
الساحة الليبية.
-لا
تزال حركة النهضة في تونس تحافظ على حيويتها وأوراق قوتها الشعبية على
الرغم من إسقاط حكوتها ذات اللون الواحد. وهي جاهزة للاستفادة مما قد يحصل عليه
حليفها التركي من مكاسب على الأرض الليبية.
-على
الرغم من إسقاط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وتراجع مسروعها في مصر،
إلاَّ أن جمر تأثيرهم لا يزال كامناً تحت الرماد، فهي تنتظر أي تغيير قد يحصل في
ليبيا لتلتقطه وتعيد بناء مشروعها في مصر من جديد.
-وفي
السودان، وعلى الرغم من إسقاط نظام البشير المتحالف مع الإخوان المسلمين،
فإن حاضنتهم الشعبية لا تزال على قيد الحياة، وقد تقوم بحركة صحوة جديدة إذا ما
حصلت متغيرات في المحيط العربي للسودان.
-وأما
في سورية، وفي ظل التواجد الروسي الاستراتيجي في سورية، ظلَّ نظام أردوغان، وسيبقى
شريكاً في القرار السوري، وهذا ما سوف تحافظ إدارة بوتين علىه طالما تخشى من
استعادة استقطابه من قبل الإدارة الأميركية.
إذن
استعادة النظام التركي دوره في إحياء تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد يصبح
مفهوماً من خلال توظيف أوراق القوة التي يمتلكها بمعزل عن الإدارة الأميركية صاحب
المشروع الأساس. وهو قد بدأ بالتنفيذ ابتداء من ليبيا، في مرحلة تُعتبر فيها
الإدارة الأميركية في أضعف حالاتها.
إعادة
تنفيذ المشروع بواجهات إقليمية:
بعد
أن كان المشروع يُنفَّذ بواجهة وقيادة أميركية – صهيونية، ظهرت
الفرصة الثانية في هذه المرحلة، بوجه إقليمي تقوده تركيا. وما زخم التدخل التركي
وحجمه الآن على الأرض الليبية سوى البداية.
كانت
الواجهة الأميركية – الصهيونية عند بداية تنفيذ المشروع في العام 2011،
تستفز المشاعر العربية والإسلامية، ولولا المشاركة الإيرانية والتركية لما كان
تنفيذه ليستقطب قبولاً لما تمثِّله الواجهة الأميركية – الصهيوتية من
قبح يستفز المشاعر الشعبية. ولهذا السبب كانت المشاركة الإيرانية والتركية تشكل
خطورة أكبر على الوضع العربي لأنها تتميز بتوفير عاملين أساسيين لا تتوفر لنسخة
المشروع الأميركي – الصهيوني، وهما:
-يتمثَّل العامل الأول بالحاضنة
الشعبية
التي يوفرها نظام ولاية الفقيه في إيران في قطاع واسع من الشرائح الشيعية في الوطن
العربي. وتلك التي يوفرها نظام الإخوان المسلمين في تركيا في قطاع واسع من الشرائح
السنية فيه.
-والعامل الثاني يتمثَّل بالتجاور
الجغرافي،
وهو وجود إيران على البوابة الشرقية للوطن العربي، ووجود تركيا على بوابته
الشمالية. وهو ما يضمن الإمداد اللوجستي العسكري لهما في مشروعهما لاستقطاع حصة كل
منهما من الأرض العربية.
نجاح تنفيذ المشروع مضمون
بائتلاف دولي – إقليمي:
وإذا
كان من غير الممكن أن يتم تنفيذ المشروع بنسخته الأميركية – الصهيونية من
دون إسناد ومشاركة إقليمية؛ فإنه أيضاً لا يمكن تنفيذه بنسخته الإقليمية من دون
رعاية أميركية – صهيونية.
ولهذه الأسباب لا نرى موجباً لفصل النسختين عن بعضهما، بل هما متكاملتان وتصبان في
نتيجة واحدة، وهو إعادة تفتيت الوطن العربي وتقسيمه حصصاً بينهم. ولكل تلك الأسباب
أيضاً، نحسب أن تنفيذ المشروع تنفيذهبدأ
بواجهات إقليمية، ودعم ومساندة أميركية صهيونية. ومن أهم مظاهرها ثلاثة أشكال:
-الشكل الأميركي الذي
يعتبر أن منع وحدة الأمة العربية، وفرض التفتيت والتقسيم ونشر التخلف، من أهدافه
الاستراتيجية منذ مؤتمر كامبل بانرمان (1905 – 1907).
-والشكل الإيراني، بأهدافه
التاريخية والأيديولوجية، والذي ازدادت وتيرة تنفيذه سرعة وقوة بعد استلامه العراق
من قبل الإدارة الأميركية في العام 2011.
-وأما الشكل التركي،
بأهدافه التاريخية والأيديولوجية أيضاً، والذي كاد يُصاب بالهزيمة بعد أن أفلس
بإخضاع الساحة السورية، فراح يلتف على فشله من خارج تلك الساحة، ولجأ إلى البوابة
الليبية، حيث هي مؤهلة للانفتاح أمامه بواسطة حكومة السراج المدعومة بالميليشيات الإرهابية
التي تربطها أصلاً بحكومة أردوغان روابط عقيدية وثيقة.
وما
الخلافات التي تحصل أحياناً بين أشكال التنفيذ الثلاثة لا علاقة لها بجوهر
الأهداف، وإنما بقشور المتغيرات التي تحصل من هنا أو هناك. ولهذا يتم توزيع
الأدوار دائماً ويبقى الهدف واحداً.
كل
الأدوار في تنفيذ المشروع تصب في خدمة الملك كما في لعبة الشطرنج:
وبناء
على معادلة التكامل بين الأطماع الدولية والإقليمية، تنقسم لعبة الشطرنج إلى أربعة
أدوار، تتوزَّع بين الملك والوزير والقلعة والفيل وعموم البيادق، وكان مبتكر
اللعبة قد حدد دور كل منها. وللمقاربة بين أصولها وأصول الأرضية السياسية التي
تدور عليها أحداث اللعبة، فنرى التالي:
1-الملكان: الثنائية في
الصراع الدولي، بين المعسكرين: الأميركي وحلفاؤه من الدول الكبرى. والروسي وحلفاؤه
من الدول الكبرى أيضاً.
2-الوزيران: ويمثلهما
الدولتان الإقليميتان الأساسيتان تركيا وإيران.
3-القلعتان والفيلان: ويمثلهما بعض
العرب عملاء الملكين والوزيرين، ويأتي في المقدمة منهم حركات الإسلام السياسي:
مشروع ولاية الفقيه، ومشروع الإخوان المسلمين.
4-البيادق: عامة الناس من
الطائفيين المنفعلين بالمشروعين الإسلاميين السياسيين. وهم عادة ما يكونون من
المنفعلين بالوباء الطائفي، أو من المستفيدين من بعض مساعدات لا تكاد تدرأ عنهم
جوعاً أو مرضاً.
تسلسلاً
تصاعدياً، ينحصر دور البيادق، وهم من الحاضنة الشعبية للطائفيين، في حماية
العملاء، ويأتمرون بأمرهم وهم من المحسوبين على الهوية العربية، ويلعبون دور
(أحصنة طروادة) الذين تمَّ توظيفهم لاختراق أمن الدول التي ينتمون إليها. ووظيفة
أحصنة طروادة (حركات الإسلام السياسي) أن يقوموا بحماية الوزراء، وهما النظام
الإيرني والتركي. ودور الوزراء (التركي والإيراني) حماية الملكين (الغربي
والشرقي). وإذا انتهت اللعبة فسيبقى الملك، وتكون النتائج في أن تدفع القلعة
والفيل والبيادق، الثمن ولن يخسر الملك شيئاً. وبهذا يكون المشروع الأميركي – الصهيوني قد
وظَّف العاملين الإيراني والتركي في خدمة المشروع الأم، مشروع الشرق الأوسط
الجديد.
وأما
لماذا يتجددَّ تنفيذ المشروع بواجهة تركية بعد عرقلته لسنوات طويلة؟
لقد
كسب النظام الإيراني كل شيء، ولم يدفع شيئاً. وكاد النظام التركي يخسر كل شيء بعد
أن دفع الشيء الكثير. ومن أجل حفظ التوازن بالحصص في تقسيم الوطن العربي، راح
النظام التركي يفتح بوابات أخرى للعودة إلى ميدان التنافس من أجل استعادة حلم تم
تقويضه في الهلال الذي رُسمت معالمه في بدايات تنفيذ المشروع التفتيتي.
أصبح
من الواضح أن مشروع الشرق الأوسط الجديد، تفرَّع إلى ثلاثة مشاريع متقاربة النوايا
والأهداف، يتم تنفيذها بأدوات عربية وعلى الأرض العربية، يدفع فيها الثمن (البيادق
العربية) تحت قيادة وتحريض حركات الإسلام السياسي. تلك الحركات التي تدعم وتساند
وتقبل كل دعم ومساندة حتى ولو كانت مصادرها من التحالف الأميركي – الصهيوني.
وإن
ما يجب الإشارة إليه، إنه وإن تناقضت مسارات المشاريع الثلاثة في بعض المراحل، كما
هو حاصل الآن، فإن تفتيت الوطن العربي هو النتيجة المؤكدة. وإن ما يظهر الآن من
تناقضات بين المشاريع الثلاثة، هو حول نسبة الحصص. ولأن المشروع الأميركي – الصهيوني هو
المشروع الأم الذي أيقظ المشاريع الإقليمية من سباتها، فهو لن يرضى على الإطلاق أن
تستفرد أية قوة إقليمية بحصة نظيفة من جسد الوطن العربي ما لم تكن تحت سقف خيمته
وإشرافه ورهناً لقراره. وهذا ما تؤكده شروط لعبة الشطرنج، التي تحصر مهمة جميع
الأحجار بحماية الملك. ولذلك وإن استفاقت النزعات التاريخية الفارسية والتركية،
الشيعية والسنية، فغير مسموح لأي إمبراطورية، أو شبه إمبراطورية، أن تقصي المصالح
الغربية – الصهيونية
وتتجاهلها. تلك المصالح التي من أجلها اندلعت حربان عالميتان أكلت أخضر العالم
ويباسه من أجل إسقاط أية قوة في المنطقة العربية لا تخضع لنفوذهما، ومن غير
المسموح لأية سحابة أن تمطر خارج أرض الإمبراطورية الغربية – الصهيونية.
وعلى الجميع أن يعملوا لحماية ذلك الملك، الذي لا يستطيع أن يرى أية قوة تعمل خارج
خيمته. وهذا ما يدفعنا إلى توجيه التساؤل للدولتين الإقليميتن، إيران وتركيا، إلى
متى تركبهما أحلام سرابية غير قابلة للحياة. وإلى دعوتهما إلى الخروج من سرابية
تلك الأوهام، وإعادة تقييم ما ارتكباه من أخطاء في حق جيرانهم العرب. ودعوتهما إلى
الاتزان والعقل ووعي حقيقة ثابتة تنص على أنه لا يمكن لأية قوة في العالم أن تنال
من أمنهما طالما محيطهما العربي محصناً ضد الاختراق، وإنه لا يمكن لأية قوة في
العالم تستطيع اختراق أمن أقطار الوطن العربي طالما كانت محمية بجدران إقليمية
محصنة ضد اختراقها.
دق
ناقوس الخطر إلى من أصيبوا بعمى الأوهام
كما
أصبح من الواضح أن النظام العربي الرسمي تنازل عن سيادته للقرار الوطني، وعمل على
تلزيمه للتحالف الاستعماري – الصهيوني الأم، ووزَّع
ولاءه بين هذه الدولة الإقليمية وتلك. ومن المؤسف حقاً أن بعض هذا النظام كان يدفع
نفقات التنفيذ المالية. كما من المؤسف حقاً أن يدفع الشعب العربي نفقات الأرواح
والدمار.
إن
هذا الوضوح في وقائع الأمور، وإن كان مريراً، وحتى شديد المرارة يجب أن لا يدفع
لليأس، لأن في الأمة من لا يزال يمسك رباطة الجأش والعزيمة على الاستمرار في
مقاومة أكثر المشاريع استهدافاً لوجود الوطن العربي. إنها ثورة الشباب المستمرة
التي ابتدأت طلائعها تظهر في القطر الليبي منذ العام 2018، وفي السودان منذ أواخر
العام 2018، وكذلك في الجزائر. ويتم تتويجهما بثورة الشباب في العراق في أول تشرين
الأول من العام 2019، وانتفاضة الشباب في لبنان في 17 تشرين الأول 2019. هذا ناهيك
عن استمرار الثورة الفلسطينية في حراكها المتعدد الوسائل.
إنها
إشعاعات الأمل التي لن تنطفئ مهما ادلهمَّ الظلام. إنها الجرس الذي لا بُدَّ من أن
يخترق آذان الأنظمة العربية الصماء. إنه الناقوس الذي لا بدَّ من أن يُنذر دول
الجوار العربي بأن أحلامهم ليست مشروعة، بل ما هو مشروع هو عودتهم عن غيٍّهم
والإيمان بأن أمن الوطن العربي هو الضمان الحقيقي لأمنهم.