الاثنين، ديسمبر 28، 2020

أزمة لبنان والدخول في دائرة جهنم المغلقة

 

كيف يستقبل لبنان العام الجديد؟

أزمة لبنان والدخول في دائرة جهنم المغلقة



في لحظة من لحظات التعبير عن غضب رئيس الجمهورية اللبنانية عبَّر عما سيؤول إليه الوضع في لبنان إذا لم تتشكل حكومة. حينذاك أجاب: (إلى جهنم).

وكأن رئيس الجمهورية ليس مسؤولاً عن إدارة الأزمة، وكأنه لا يعرف أنه إذا احترق بلد يجب أن يتولى أركان السلطة مهمة إطفاء الحريق وعليه بحكم مسؤولياته الدستورية أن يكون على رأس فريق الإطفاء. ولكن المأساة في لبنان هي أن يكون أركان السلطة أنفسهم سبباً للحريق. وقد أحرقوا لبنان عن سابق تصور وتصميم حيث أعمتهم دخان مصالحهم الفئوية، ومصالح ميليشياتهم، عن رؤية الحريق الذي شبَّ في كل مفصل من مفاصل لبنان، وكل زاوية فيه، ولم يترك فيه يباساً لم يشتعل، والأمر من ذلك أن النيران أكلت الأخضر أيضاً.

لو قالها مواطن غاضب، أو ممن لا يشارك في السلطة، لكان من المقبول ما قال، لأنه لا يملك سنتيماً من السلطة لكي نحمله المسؤولية، ونطلب منه أن يُطفئ نيران جهنم. ولكن الذي يقولها هو رأس السلطة بالذات، ولكنه عاجز عن فعل شيء، مردداً مع التيار الذي يرعاه: (ما خلونا نشتغل). ويأتي رأس حزب، أو راعي حزب، من المشاركين في السلطة ليردد المعزوفة ذاتها. حتى لم يبق حزب واحد منها لم يتلوها. لتكون النتيجة أنهم جميعاً أبرياء من دم لبنان النازف. وقد أجمعوا على اتهام الفقراء الذين نزلوا إلى الشارع غاضبين على تقصير السلطة بأنهم الفاسدون، وأصبح كأن ثمن منقوشة الفقير هي وضعت لبنان في بؤرة الإفلاس.

دخل لبنان بوابة جهنم بفعل تمسك أمراء الطوائف بنظام المحاصصة الطائفية، زعماً منهم أنهم سيحمون الطوائف، فهدموا لبنان وخسرت الطوائف. ولم يعمل أي حزب من أحزاب الطائفية السياسية على إنقاذه بل يعملون جميعاً على تزويده بحطب الفساد والسرقة والنهب ليزداد اشتعالاً.

في ظل إصرار أحزاب السلطة على امتيازاتهم وحماية أنفسهم من المساءلة، يشهد لبنان هبوطاً مستمراً في مناعته لمواجهة المستقبل، وكلما ازدادت أحزاب السلطة تمسكاَ بمواقعها وطرائق أدائها في إدارة الشأن العام، سيقابله المزيد من الانهيارات في شتى مفاصل الحياة الاقتصادية. وكلما ازداد أعداد الجائعين والعاطلين عن العمل، تزداد معها مظاهر الاحتجاج، ومظاهر العوز، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الجرائم والإخلال بالأمن.

إن أم الآفات أن تكون سلطة سياسية غير قادرة على توفير لقمة العيش للمواطنين، لأنها ستقود إلى آفات أخرى أشد وطأة ولعلَّ أخطرها انفلات حابل الأمن على غاربه، كما أن تقاذف التهم بين أمراء الطوائف، خاصة في ظل انتشار الميلشيات المسلحة، التي وإن تباينت أحجامها، فإنها قادرة على العبث بالأمن والإخلال به. ولهذا فلا أمل بعودة لبنان إلى شبكة الخلاص سوى بتغيير هذا النظام الفاسد، الذي يستقوي فيه بعض أحزاب السلطة بالحزب الآخر، لأنهم جميعاً مستفيدون من النهب والسرقة من جهة، وكل واحد منهم يستقوي بقوة خارجية تحميه من جهة أخرى.

إن لبنان دخل الدائرة الجهنمية المفرغة، لأن من له صلاحية تشكيل الحكومة هم أحزاب الطائفية السياسية من جهة، وهم لن يشكلوا حكومة تفتح ملفات فسادهم من جهة أخرى، وإذا لم تتشكل حكومة تراقب وتحاسب، نتساءل: من أي بوابة سيدخل التغيير؟

إذن لا أمل يبدو في الأفق المنظور، فالساحة اللبنانية مفتوحة على المزيد من التأزيم في شتى الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.

ولأنه لن يكتوي بنار الدخول إلى هذا النفق الجهنمي سوى الفقير الذي يعجز عن توفير لقمة عيشه اليومية، والفاقد لعمله، والمريض الذي لا يمكنه دفع تكاليف الاستشفاء، والذي لا يستطيع دفع تكاليف تعليم أولاده بواسطة (الأونلاين)، والطالب الذي لا يستطيع دفع قسط جامعته، والأب الذي يعجز عن إرسال مبلغ من مال خصصه لابنه الذي يدرس في الخارج، والذي... والذي... ويطول النفق الجهنمي... 

ولأن أحزاب السلطة توفر لميليشياتها أسباب عيشهم، وحتى البعض منها يغدق عليهم لكسب ولائهم.. ولأن المسؤولين فيها غارقون في التخمة، سواءٌ أكانت من الأموال التي نهبوها، أو المال السياسي الذي يأتيهم رشوة من الخارج، فهم لا يعانون من أي أزمة تعانيها الشرائح الاجتماعية المحدودة الدخل، أو تلك التي تقع تحت خط الفقر.

لكل ذلك، فإن الأمل في اختراق الدائرة الجهنمية التي دخل فيها لبنان، يأتي من تلك الأصوات الرافضة لمنهج الطائفية السياسية. تلك الأصوات التي أقسمت أنها لن تعود إلى بيوتها قبل أن تحمل بشائر النور باختراق حصون الطائفيين السياسيين، وتعريتهم تماماً، وكشف المغاور التي يسرقون فيها قوت الشعب.

 

 

 

الاثنين، ديسمبر 14، 2020

بين ترف الوقت عند أحزاب السلطة وإرادة الصبر عند الشباب

 

بين ترف الوقت عند أحزاب السلطة

وإرادة الصبر عند الشباب



أولياء السلطة في لبنان، في مواجهاتهم مع ثورة الشباب، حالهم حال من يراهنون على الوقت الذي ينتظرون فيه نفاد الصبر عند الشباب الثوار، لكي يعيدونهم إلى مربعات التدجين كما فعلوا مع الأجيال التي سبقتهم.

وفي المقابل حال شباب الثورة حال من أتقنوا فن الصبر والاستمرار حتى الوصول إلى نهاية سعيدة في صراعهم مع أحزاب السلطة. فلا تدجين يمكن أن يمر، سواءٌ أكان الترهيب بالعصا، أم كان الترغيب بالجزرة.

كانت الأجيال السابقة، باستثناء القلة من بينهم، يعتبرون أنه ما من قطرة غيث تسقط على أرضهم من غير سحابة تمطرها عليهم سماء أمراء الطوائف. ولا حبة قمح يمكن أن تنبت خارج حقولهم، ولا حفنة من طحين يمكن أن تخرج من غير مطاحنهم.

وأما في استبار عميق لعقول الشباب الجديد، فنقرأ إصراراً لا مثيل له على التغيير، لا ينفع معه تهديد بعصا بلطجي أعمى، ولا إغراء بجزرة لا تُشبع الأرانب.

لقد صفع ظهور الشباب أمراء الطوائف على وجوههم،  ولكنهم لم يشعروا بثقلها، بل شعروا بالمهانة، لأنهم تعودوا على آيات التبخير والتعظيم التي كانت الأجيال السابقة يغدقونها في مقاماتهم العالية، وكانت تلك الآيات تصل إلى حدود تقديسهم، لا بل كانوا يرفضون ويقتتلون مع من يحاول المسٍّ بها لأن المسًّ بقدسية أمراء الطوائف خط أحمر، تُقطع اليد التي تتجاوز حدوده، أو يُقطع اللسان الذي ينقدهم بكلمة سوء.

لا يزال أمراء الطوائف، يراهنون على ترف الوقت مستندين إلى ولاء من والاهم، وبلطجة من حماهم. فهم يماطلون بتأليف حكومة بدون محاصصة طائفية، لا بل يصرون على تلك المحاصصة، لكي تحميهم من فتح ملفات فسادهم جميعهم. ويقومون بتسويف الدخول إلى أي ملف إصلاحي، لأن فتح ملف واحد سوف يثير زوبعة من ملفات أخرى. ففي مقابل كل ملف لطرف هناك ملفات لكل الأطراف. الكل خائف، ولذلك يسهمون جميعهم بالتسويف واستخدام ترف الوقت، لكي يصلوا إلى اتفاق يضمنون فيه إقفال الملفات جميعها على قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

إن من يقرأ في ما يجري في كواليس تشكيل حكومة قد توقف انهيار لبنان من الإفلاس الذي لن يشعروا به، هم وأولادهم وأقاربهم والمقربين منهم، ومن أدواتهم في ممارسة النهب والسرقة.

هذه القراءة تفسِّر أنهم أصبحوا من أهل الكهف الذين ناموا واستراحوا على عملة فقدت قيمتها بعد نوم طويل. وإن استخدام ترف الوقت، لن يحميهم على الإطلاق، لأن سيف الصبر عند أولئك الشباب الثائرين، أشد مضاء من سيفهم الذي أصيب بفلول الفساد والنهب والسرقة، التي لن يرتقها ترفهم مهما بلغ من الاحتيال والتذاكي.

الاثنين، ديسمبر 07، 2020

من تشرين العراق إلى تشرين لبنان

 

من تشرين العراق إلى تشرين لبنان

مقاربات مرحلية وآفاق استراتيجية قومية


شبكة ذي قار/

مكتب الثقافة والإعلام القومي

حسن خليل غريب

في 6/ 11/ 2020

مدخل: التكاملية بين القضايا القومية سرُّ قوَّتها:

إذا أنَّ في قطر عربي صوت يجد في ذرى قطر عربي آخر صداه. فالصوت العربي الرافض واحد لا يتجزَّأ، يتمرَّد على خطوط مقاييس سايكس بيكو الجغرافية، وعلى الخطوط الطائفية، وعلى خطوط التفتيت الوهمية التي يزرعها الاستعمار والصهيونية ودول الإقليم ذات المشاريع الدينية السياسية. وإنه على الرغم من أن كل تلك القوى تستغل أمراضنا في الطائفية والتجزئة القطرية، يبقى صوت الأكثرية من الشباب العربي، لا تحده خطوط الجغرافيا السياسية، ولا تحيط به خطوط الجغرافيا الطائفية.

وإذا كانت الأنظمة الرسمية مأسورة في خطوط محدَّدة لها، جغرافية كانت أم طائفية أم عشائرية أم طبقات مستغلة لثروات الشعوب، فلأن مقاساتها تكون مفصَّلة بناء على معايير مصالح الطبقات الحاكمة فيها بالتنسيق والتحالف مع الدول الخارجية التي ساعدت على إنشائها، والتي تزعم أنها تحميها. لقد أسلست تلك الأنظمة انقيادها ورهنت أنفسها لمصالح الخارج واهمة أنها تحميها من السقوط. وتجاهلت أنه يمكن تبديل جلودها عندما تنتهي أدوارها بإسقاط السلف ليُؤتى بخلف أكثر طمعاً باستغلال أبناء جلدته من الطبقات الفقيرة والمعوزة، ويحصل ذلك عندما تجد الدول الخارجية ضرورة لتبديل تلك الجلود بأنظمة تختلف بجلودها ألواناً وأشكالاً، ولكنها تعيد إنتاج مناهجها للتوافق مع المصالح الخارجية. وهكذا تعيش تلك الأنظمة على وقع استغلال شعوبها لتوفير البيئة الآمنة لمصالح تلك الدول.

وأما بالنسبة للشعوب، على الرغم من استسلامها لإرادة أنظمتها الرسمية، فإنها تشعر دائماً بالغبن والقهر ولكنها لا تعرف في معظم الأحيان طريقاً للخلاص، لأنه يتم تدجينها بثقافة تلك الأنظمة، وسجنها في مناهج ثقافية تسليمية وتقليدية خاصة إذا كانت أنظمة طائفية سياسية.

ولكن على الرغم من سجونها تلك، فإن الأكثرية الساحقة من الجماهير تختزن النقمة والغضب من جراء ما يصيبها من فقر وحرمان ومصادرة للحريات. وعندما تحين ظروف انفجار تلك الخزانات، فإنها تنتظر أول فرصة تحين لها. وليس هناك من فرص حقيقية أكثر تأثيراً من تأثير نخبة مثقَّفة تحفر في اللاوعي الشعبي إشعاعات الوعي وتحفِّزها على التغيير. وتتوسع دوائر الإشعاعات إلى أن تبلغ درجة من الغليان فتحدث انفجاراً لم تكن تلك الأنظمة تتوقعه، وتبلغ شدته درجة يصعب عليها احتواؤه.

ولأن الأنظمة العربية الرسمية تقود مجتمعاتها بمنهج الاستغلال ذاته، ولأهداف خدمة حلفائها من الدول الخارجية، تختزن تلك المجتمعات الغضب ذاته، وتصل إلى درجة من الغليان ذاتها، ما إن ينفجر البركان في قطر عربي حتى ينفجر في قطر عربي آخر. وإذا استعدنا مفاعيل ما حصل، في العام 2011، في أكثر من قطر عربي في توقيتات واحدة، على الرغم من مآسيه ومصادرته وتحويل وجهته في كل من تونس ومصر وليبيا وسورية، يؤكد ما توصلنا إليه من نتائج في الفقرة السابقة.

حينذاك انتشرت الانتفاضات الشعبية في وقت واحد، تحت شعارات واحدة، وهي الدليل الأكثر إفصاحاً عن وحدة المعاناة من الفقر والحرمان، ومن قمع الأنظمة واضطهادها. كما أنها الأكثر إفصاحاً عن حجم الغضب الشعبي الذي كان يتراكم عبر عشرات السنين التي كان يظهر الشعب فيها وكأن الصمت والاستسلام لفَّه إلى الأبد. ولكن وحدة الشعور بالاضطهاد، ووحدة الأهداف، شيء ونتائجها شيء آخر. ولأن لما حصل سابقاً نتائج سلبية، فقد كان سببه سرقة نضالات الحراكات الشعبية التي قامت بها الدول المخططة لإسقاط تلك الأنظمة من أجل تغيير جلودها بأسوأ منها.

ومن دون الخوض في تحليل تلك المرحلة لأنها كانت مدار أبحاث كثيرة سابقة، فإننا سنعتني في هذا المقال، بدراسة تجربة ثورة تشرين في العراق، وتجربة انتفاضة تشرين في لبنان، اللتان حصلتا في العام 2019. ولأن المقاربة بينهما سهلة المنال، يصبح الهدف من حصر موضوع المقال بهما، جاء لكي نرصد من خلالهما كيف يمكن أن تكون عليه وحدة صوت الشعب العربي ووحدة الآلام والمصالح الشعبية، التي عملت الأنظمة الرسمية على تمزيقه وتفتيته. كما أننا سنعمل على المقاربة بينهما من حيث المنهج السياسي والاقتصادي والثقافي.

وهنا، سنطرق بوابة المقاربة من حيث إخضاع العراق إلى الارتهان للخارج، والتشكيل الطائفي السياسي:

-منهج التقسيم الطائفي بعد احتلال العراق هو الأنموذج الذي يتم تقليده في تقسيم الوطن العربي:

من الثابت أن تخطيط إدارة اليمين المسيحي المتصهين، بقيادة جورج بوش الإبن، لاحتلال العراق، كان مقدمة لإعادة رسم خرائط الوطن العربي على أسس طائفية، مستفيدة من الأمراض الطائفية التي نخرت عظام القواعد الجماهيرية نتيجة الدور اللاواعي، المملوء بالتعصب الأعمى للدين والمذهب. ذلك التعصب الذي زرعته المؤسسات الدينية السياسية، ويأتي في طليعتها كل من فكر الإخوان المسلمين من جهة، وفكر نظرية ولاية الفقيه من جهة أخرى.

لم تعد قضية التحالف بين إدارة اليمين المسيحي المتصهين وإدارة كل من حركتيْ الإخوان وولاية الفقيه، خافية على أحد. فقد برزت بشكل واضح وجلي في اللقاء الحميم المشبوه في مشاركة التيارين في تشكيل (العملية السياسية) في العراق منذ بداية الاحتلال والتي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، ولن يسقط هذا التحالف سوى في اللحظة التي تسقط فيها العملية السياسية.

-(لبننة) العراق للاستفادة من عورات نظام المحاصصة الطائفية في لبنان:

لم يكن استغلال العامل الطائفي نظرية خُطِّط لها في دهاليز المخابرات الأميركية الصهيونية، وتحتاج للاختبار. فالتجربة اللبنانية في بناء النظام الطائفي السياسي ماثلة في مخططات التآمر على الوحدة المجتمعية العربية. خاصة أنها خضعت لاختبارات دامت أكثر من مائة عام، وأثبتت أنها المنهج التفتيتي الصالح لتعميمه على أقطار الوطن العربي.

ولم يكن من قبيل الصدف أن يُعلن الاحتلال الأميركي، منذ اللحظة الأولى للاحتلال، بتشكيل (مجلس الحكم الانتقالي) في العراق على قاعدة تمثيل كل الطوائف فيه، خاصة من السنة والشيعة، إلى جانب تمثيل العرق الكردي فيه. ولهذا تم تقسيم العراق في دستور الاحتلال إلى ثلاثة أقاليم: السني والشيعي والكردي.

بمثل تلك الخطوات أخذ منهج (لبننة العراق) طريقه للتطبيق. فتم تشكيل الأحزاب الطائفية لكل مكون من تلك المكونات. ولأنه تمت عملية (اللبننة)، فقد استلم رجال الدين دفة إدارة العراق، حيث أسبغوا شرعية طائفية على مكونات السلطات الحاكمة من أجل حمايتها. وخطورة تلك الشرعية تكمن في أن أخاديع الكثيرين من رجال الدين تنطلي على العامة من الشرائح الشعبية ذات الثقافة التسليمية والتقليدية التي تظر إلى رجل الدين بعين القداسة. وإذا بالعديد منهم، من الذين تعتبرهم العامة من المرجعيات الدينية يُتخمون بتجميع الثروات الطائلة، هذا في الوقت الذي تتكاثر أعداد العامة من الفقراء والمسحوقين والجياع والمرضى، وقد وصلت تلك الأعداد إلى عشرات الملايين الجائعة.

كان من المرسوم له أن تأتمر منظومة  اللصوص والخونة مدعومين من رجال الدين، أو من رجال دين انخرطوا بشكل مباشر في المؤسسات السياسية، بأوامر الحاكم المدني الأميركي، لتتحول وظيفة تلك المنظومة إلى وسيط بين الاحتلال والشعب العراقي، يديرون عمليات النهب لمصلحته، ويقتاتون بفتات حصيلتها.

ولكن لم تنته الأمور إلى ما خطط له الاحتلال، أي أن يكون هو الآمر الناهي والجميع يأتمرون بأمره من دون مناقشة أو اعتراض. لقد انقطع حبل ما خطط له الاحتلال الأميركي، بعد إلحاق الهزيمة به بواسطة المقاومة العراقية المسلحة. الأمر الذي دفع به إلى تسليم العملية السياسية ووضعها بإمرة نظام ولاية الفقيه، فكانت الفرصة الذهبية لذلك النظام التي طالما حلم بها، وقد وصلته على طبق من ألماس.

وابتداء من تلك اللحظة حضي نظام ولاية الفقيه بكل الثروة التي كان الاحتلال الأميركي يستأثر بها، ولأن أحزاب الطوائف أسلست قيادها للاحتلال البديل، وهذا ما أثار حفيظة الإدارة الأميركية ودفع بها إلى العمل، على نار حامية، لاستعادة ما حسبت أن ثروات العراق هي حق شرعي لها تتصرف به كيفما تشاء وأنى تشاء ومتى تشاء كما أوضح دونالد ترامب: (إن أميركا دفعت المال والأرواح ولم تحصل علي شيء، وإن إيران لم تدفع شيئاً، ولكنها حصلت على كل شيء). ولأن لهذا تفصيل آخر، تكفي الإشارة إلى أن النزاع الأميركي الإيراني، في عهد ترامب، وكذلك في عهد بادين، سوف يستمر حتى إعادة التسوية إلى مساراتها التي سبقت هزيمة الجيش الاحتلال في العام 2011.

لن يغير من قواعد لعبة النزاع شيء سواءٌ أكانت الإدارة ديموقراطية أم كانت جمهورية، وهو استعادة حقوق النهب لمصلحة أميركا، على أن تبقى قواعد لعبة تقسيم العراق إلى إثنيات طائفية وعرقية الناظم الأساس لأي احتلال. ولهذا أصبح من الواضح أن خلاص العراق يجب أن يمر عبر تحطيم قواعد اللعبة الطائفية، فيكون تهديم (العملية السياسية) من أهم الوسائل التي يمكنها أن تعيد استقرار العراق إلى ما كان عليه قبل الاحتلال في العام 2003.

-المحافظة على قواعد (لبننة العراق)، و(عرقنة لبنان)، من أجل حماية مؤامرة التقسيم:

 ما كان لتدخل خارجي أن ينجح، لولا وجود الضعف العربي. وإذا كانت أطماع القوى الخارجية واضحة تماماً، فإن الكشف عن عوامل الضعف في الجسد العربي تبقى المسألة الأهم. ومن أهم عوامل الضعف، هي الفجوة السحيقة في الثقة بين الأنظمة العربية الحاكمة والجماهير الشعبية.

-الحل في انقلاب الجماهير الشعبية على قواعد (العرقنة) و(اللبننة):

ولأن منهج الأنظمة في الحكم قائم على تبادل المنافع مع تحالفاتها الخارجية، تبقى تلك المنافع حكراً على طبقة حاكمة تفكر في مصلحتها أولاً، ولا ضير من أن تدعم مواقعها مع القوى الخارجية ليتبادلا عوامل الاستمرار ثانياً، تبقى إرادة تغيير تلك المعادلة موكولة على الصفوة الوطنية الصادقة بربط أهدافها بمصلحة الجماهير المسحوقة.

كما أن واقع (لبننة العراق) يشكل عامل صراع دائم بين المذاهب الدينية بصورة ميليشيات مسلَّحة تهيمن على شتى مفاصل الدولة، فإن مبدأ (عرقنة لبنان) يحمل عوامل تشريع وجود الميليشيات المسلحة التي تحمي مصالح الأحزاب الطائفية الحاكمة، والتي تشكل بدورها خدمة للمشاريع الخارجية التي لن تستطيع أن تمر من دون وجود أحزاب تحكم باسم الطوائف.

وكما احتفل حراكيو لبنان باندلاع ثورة تشرين الأول في العراق، فقد اعتبر ثوار العراق أن اندلاع انتفاضة لبنان التشرينية أيضاً تشكل أهم داعم معنوي لهم في ثورتهم. ولهذا انطلق شعار (ثورة العراق، وانتفاضة لبنان، وجهان لعملة ثورية عربية واحدة).

ولذلك يجمع تشرين العراق ولبنان وحدة الهموم، ووحدة الشعور بالظلم، ووحدة الموقف بالانقلاب على الثقافة الطائفية التي تفرِّق ولا توحد؛ ونشر الثقافة الوطنية التي توحد ولا تفرق، وكلاهما يهتفان: (نريد وطناً)، وبـ(اسم الدين سرقنا اللصوص).

وأخيراً، يبقى أن نقوم بـ(تعريب) الثورات في كل ساحات الوطن العربي، لأنه بها تتآزر وتتعاون في مواجهة خصم واحد، يُعرف باسم تحالف مشاريع (الحركات الدينية السياسية)، أو مشاريع (أحزاب الطائفية السياسية) مع قوى الاستغلال الأجنبية في سائر دول العالم، وبالأخص منها الدول المجاورة للوطن العربي.