السبت، أكتوبر 31، 2020

حكومة الحريري قبل ولادتها: ابتزاز ومساومات

                                                            حكومة الحريري قبل ولادتها:

ابتزاز ومساومات

كما في كل مناهجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبقى نظام الطائفية السياسية علَّة العلل في حياة لبنان. ومن أخطرها أن هناك تحالفاً مستمراً واستراتيجياً بين أحزابه الطائفية والعلاقة مع الخارج. فلا الخارج يستطيع أن يستخدم لبنان ممراً ومستقراً من دون وجود هكذا نظام، ولا أحزاب السلطة تستطيع أن تستمر في حكمها من دون دعم من الخارج واستقواء به.

وإذا عدنا لمراجعة حصيلة سنة من عمر الانتفاضة، وإذا كانت أهدافها، بقدرة ساحر، تحوَّلت إلى أهداف في ظاهرها لأحزاب السلطة الحاكمة. وإذا كانت الأهداف نفسها أصبحت أهداف المبادرة الفرنسية، التي أرادت أن تظهر نفسها وكأنها قشة الخلاص لإنقاذ للبنانيين. وإذا عرفنا أن قواعد اللعبة هي ذاتها بين القوى الحاكمة في لبنان، والقوى الخارجية الطامعة فيه، لعرفنا حقيقة الشد والجذب الذي يحصل الآن في تشكيل حكومة الرئيس الحريري. ولوصلنا إلى استنتاج أن مبدأ تبادل المصالح بين قوى الداخل وقوى الخارج، يفرض عملهما معاً من أجل المقاربة في وسائل تشكيل الحكومة أكثر من المباعدة. وهذا ما تترجمه حركة الرئيس المكلف ووسائله.

لقد جمع الطرفين تحالف تاريخي أصبح من ثوابت اللعبة في إدارة النظام الطائفي السياسي في لبنان، وإن هذا التحالف لا يزال صالحاً لتأسيس قواعد الاشتباك بينهما، أو قواعد التوافق، بحيث لا تتجاوز حدودهما وسائل الابتزاز والمساومات، ويبقى هدف نهب شعب لبنان وسرقة ثرواته الجامع الأكبر.

امتنعت أحزاب السلطة الطائفية عن الاعتراف بأحقية الأهداف التي رفعتها الانتفاضة، بل أخذت أوضاع لبنان وأزماته تزداد حدَّة وتعميقاً، من دون أية بارقة استجابة من تلك الأحزاب، لا بل كانت تعمل بإصرار على وأد الانتفاضة وأهدافها. وإذا بانفجار مرفأ بيروت يستحث اهتمام القوى الداخلية والخارجية، ولعلَّها كانت القشة التي فجَّرت البعض من ضمائر الخارج، فظهرت بوجه المبادرة الفرنسية. أو لعلَّ أهدافها كانت لابتزاز أحزاب السلطة بعد أن وصلت حدود الأزمات إلى حافة الهاوية، فجاءت لتمدَّ لهم حبل الإنقاذ تحت شعارات وأهداف رفعتها الانتفاضة منذ سنوات.

في حينها جاء الرئيس الفرنسي ماكرون، أبو المبادرة وصائغها بتنسيق مع عدد من الدول البعيدة منها أو القريبة، غاضباً معربداً، مهدِّداً متوعداً، رافعاً أهداف انتفاضة 17 تشرين، عنواناً لمبادرته، وكأنه تحول إلى أحد مؤسسيها. واستدعى أمراء الأحزاب للمثول بين يديه، والاستماع إليه، ووافقوا على ورقته الإصلاحية، وقد ظهر لاحقاً أنهم يضمرون وأدها.

جاء ماكرون ضامراً إنقاذ نظام الطائفية السياسية من الانهيار، وهو العارف أن في إسقاطه، ستُدفن معه عوامل استقواء أحزاب السلطة بالخارج، ويأتي في المقدمة منه الغرب الرأسمالي الذي طالما حكَّ على جراح التفتيت والتجزئة، والتي تؤكد أنه ما كان يمكن للغرب الرأسمالي، وغيره من أنظمة الشرق الطائفية، أن يجد له قاعدة في لبنان يضمن لها الاستقرار فيه لو لم يجد كل منها قاعدة طائفية يزعم أنها تحميها.

وما كان انصياع أمراء الطوائف وإذعانهم بالحضور إلى قصر الصنوبر، لو لم يدركوا أن تمردهم على الخارج سيعود عليهم بالخسارة، لأنهم لو قطعوا تلك العلاقات لما وجدوا من يحميهم من غضب الشعب اللبناني.

 ولأن الداخل والخارج يعرف قواعد اللعبة التي يعطي كل من أطرافها عوامل القوة للآخر. فقوى الداخل تدرك تماماً حاجة الخارج لها. والخارج يدرك حاجته لقواعد ثابتة في أنظمة الطائفية السياسية، تحمي تدخله وتشرعنه. فقد عرف كل منهما حاجة الآخر إليه فدخلا بوابة التفاوض لفك النزاع بينهما بوسائل ابتزاز أحدهما للآخر، ولذلك فُتحت بوابة المساومات لتقسيم الذبيحة اللبنانية.

كان انصياع أحزاب السلطة الطائفية إلى أوامر ماكرون وإذعانها لأوامره من قبيل منع قطع شعرة معاوية بينهما. وعرفت تلك الأحزاب أنه بغير موافقتها والاستجابة إلى شروطها، أو على الأقل لبعضها، لا يمكن تمرير أية مبادرة خارجية، فقد أخذت تعرقل مبادرة ماكرون، وهذا ما أثبتت الوقائع اللاحقة صحته.   

وعن هذا، فقد أسقطت قوى الداخل تكليف مصطفى أديب، الذي كان يحظى برضى وقبول واحتضان من قبل فرنسا وحلفائها. أسقطوها لأنها تلغي أدوارهم. وبذلك راح وعد ماكرون ووعيده هباء منثوراً. وبدلاً من تنفيذ وعيده، فقد أُغرقت مبادرته في متاهات أمراء الطوائف من جديد.

ولأن الدول الخارجية، الرأسمالية العالمية منها أو الطائفية الإقليمية، تعرف مدى فعالية المساومات، على قاعدة (إذا لم يكن كله، فجُلُّه). أطلق الرئيس الفرنسي أرنباً جديداً من فنون الرأسمالية السحرية، فكان الرئيس سعد الحريري هو ذلك الأرنب رهاناً منها على أنه قد يكون الحل الوسط. خاصة وأنه المجرَّب بإدارة ملفات المساومات بين أحزاب السلطة الطائفية، خاصة إنه ليس بمصلحته أن يفتح بوابات المساءلة والمحاسبة عن جرائم الماضي.

لقد كانت بداية تكليف الحريري تحمل مظاهر الرضوخ الواضح لأحزاب السلطة الطائفية على الرغم من إعلانه الشكلي بأنه سيُحدث طفرة نوعية في تشكيل الوزارة، خاصة ظهوره وكأنه يوقِّع على بياض لشروط انتفاضة 17 تشرين وأهدافها. ومن أجل الضغط عليه من قبل أحزاب السلطة التي بغير مصلحتها أن تسمح بتمرير أية حكومة بغير تمثيلهم بشكل مباشر، أو عبر ملائكتهم من التكنوقراط لحماية جرائمهم السابقة، فقد دخل معهم في متاهة المساومات مرة أخرى، مستجدياً رضاها من أجل الحصول على أصواتها في جلسة إعطاء الثقة.

وأدرك المتابعون أن مشهد تشكيل الحكومات الذي كان سائداً قبل 17 تشرين، يتكرر من جديد ولكن بألوان ظاهرية خادعة لمن لا يتعمَّق بأهدافها. ولم يدرك الجميع أن الحريري، بالتوافق مع أصحاب المبادرة الفرنسية يُعيد إنتاج (حكومة الوحدة الوطنية) التي طالما ارتكبت أحزاب السلطة الجرائم باسمها. فكأن (يا إنتفاضة لا رحنا ولا جينا).

إن تشكيل حكومة تكنوقراط، التي أصرَّ الحريري على تسميتها، ليس أكثر من غلاف براق لمضمون موبوء بالطائفية، موسوم برضى أمراء الطوائف وموافقتهم، وهم لن يوافقوا على حكومة مستقلة تحضر مصنعاً لإنتاج آلاف القيود التي ستدخلهم أقفاص السجون على ما ارتكبوه من جرائم، أو ستغلُّ أيديهم عن سرقات جديدة وجرائم جديدة بالفساد.

إن الفساد السابق، أو وسائل الفساد اللاحق، هو ما تُعدُّ له الحكومة القادمة، ولذلك ستحصد حكومة الحريري أصواتاً تعطيها الثقة.

كما أن حكومة، كمثل الحكومة التي ستحصل على الثقة، ستحصد تواقيع الدول الخارجية وستنال ثقتهم أيضاً طالما أنها ستعطيهم ثمناً لموافقاتهم شيكاً مضموناً لتوفير شروط السلامة لمصالحهم.

بين هذه وتلك من الاحتمالات، نحسب أن لبنان قادم على مرحلة تعيد فيها أحزاب السلطة تجديد شكلها الخارجي، من دون أن تمس مثقال ذرة من مكتسباتهم. فهي ستحميهم من غضب الشعب الذي تتعلَّق أنظاره برفع شبح الجوع الذي ستوفره صناديق النقد الدولية و مما ستوفره بعض الهبات التي ستقدمها بعض الأنظمة الرسمية.

ولكي لا يتم تمرير حكومة جديدة تثورن قراراتها بالشكل، وتشرعن واقع الفساد والنهب بالجوهر. ولكي لا تتلهى جماهير الشعب الجائعة بفتات جديد من ثروات بلدهم، على الانتفاضة أن تبقى العين الساهرة على مصالح أكثر الطبقات الشعبية المنهوبة الحقوق، من خلال مأسسة هيئاتها الرقابية للكشف عن وجوه المحتالين، والقانونية لملاحقة كل قضايا الفساد السابقة، وكذلك اللاحقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء، أكتوبر 20، 2020

عيد ثورة تشرين العراقية الأول ثبات استراتيجي على طريق التغيير الكامل

 

عيد ثورة تشرين العراقية الأول

ثبات استراتيجي على طريق التغيير الكامل

بعد مرور سنة على انطلاقة الثورة العراقية، يطغى على المشهد العراقي صورة الصراع الأميركي الإيراني، وهو متحول لم يكن موجوداً ما قبل تلك الانطلاقة بمثل هذه الصورة الحاسمة. ويمكننا أن نبني عليه نتائج تصب بعضها في مصلحة الانتفاضة، وقد يظهر بعض منها قد يتسبب ببعض الإرباكات لها. ولهذا، وقبل الدخول في استعراض ما نحسب أن له تأثيراً عليها، أن نمهد لما نراه من أهداف لهذا الصراع.

 تمهيد: إذا كانت إيران الملالي الداء، فإن أميركا ليست الدواء:

في معرض الصراع الدائر بين أميركا وإيران، نتذكر القصة الرمزية التي يصف بها أحد الأدباء القدامى حالة الصراع بين الأقوياء، وموجزها التالي:

سمع حمل صغير وامه النعجة، صفيراً حاداً في السماء، فرفع الحمل نظره ليستكشف الأمر، فإذا بنسرين يتعاركان بشراسة وريشهما المنتوف ينتشر في السماء. فرفع الحمل صوته بالدعاء لهما ليصلح الله ما بينهما. فقالت النعجة لابنها: يا حملي الوديع، لا تدعو لإصلاح ذات البين بينهما فهما يتقاتلان للفوز بافتراسك. فالمنتصر منهما سيستأثر بلحمك. وإذا صلح ذات البين بينهما سيفترسانك معاً، ويتقاسمان ذبيحتك.

إن من يتوهمون بأن تتحول أميركا إلى صديق يعيد العراق إلى أهله لن يصلوا إلى نتيجة، لأن أميركا لا تقاتل إلاَّ من أجل مصالحها الخاصة، وتعمل على تقليص نفوذ إيران لتستفرد بافتراس العراق. ولا ننسى أنه ما كان لإيران نصيب بالوصول إلى العراق لولا أميركا، فهي سمحت للنظام بالتسلل وهي التي سلَّمته العراق بعد هزيمتها العسكرية. فما هي تأثيرات صراع القوتين على ثورة تشرين في عامها الأول؟

ثورة العراق تضع الميليشيات الإيرانية تحت المجهر الإعلامي:

بين الخامس والعشرين من تشرين الأول من العام 2019، وشقيقه في العام 2020، مسافة سنة واحدة، كانت حبلى بالمفاجآت والتحولات. فما قبله كانت الأرض تنذر بظهور المارد العراقي من قمقمه ليملأها عدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً، فكان الأول من تشرين 2019، موعد المارد مع ثورته المنتظرة. ولكنه بنظر الظالمين والجائرين، كان كأنه حلماً سرابياً عند القائمين به، فلم يأخذوه على محمل الجد، وإنه لا يحتاج إلى كثير من العناء لاجتثاثه. وسلُّوا سيوفهم لنحره، ومنُّوا النفس بالقضاء عليه قبل أن يستفحل أمره. وكان في مقدمة الناحرين، عشرات من الميليشيات العراقية التابعة للنظام الإيراني. ولعلَّ نظام (ولاية الفقيه) الذي زعم أنه يمثل مركزية من يقفون على أبواب الانتظار، كانت الأكثر فتكاً بـ(مارد الثورة الحقيقي). فقتلت وخطفت وخرَّبت بساحات الاعتصام ما لم يفعله (الشيطان الأكبر) في زمن احلاله للعراق. وإذا بالشيطان الأميركي الأكبر يجد شيطاناً إيرانياً أكبر منه.

قبل ثورة تشرين الأول في العراق، كانت أخبار الميليشيات قليلة جداً، وكانت المعلومات عنها ضحلة بالقدر الذي لم تنل اهتمام المتابع العادي، وكان من المعروف أنها مجرد ميليشيات طائفية أسهمت في المواجهة مع داعش. ومكافأة لها تمَّ دمجها بالأجهزة الأمنية الرسمية.

أما بعد تشرين، وخاصة عندما انكشف دورها في إجهاض الثورة، بالتضييق والحصار والقتل والملاحقة والخطف، تكاثرت التقارير لتكشف عن دورها الأمني الخطير، وكذلك دورها في تخريب الاقتصاد العراقي لأنها تشكل الذراع الطويلة بيد النظام الإيراني، حيث كانت الحارس الأقوى للمصالح الإيرانية في السيطرة على مفاصل التجارة، واحتكار شركات النهب والسرقة وتهريب النفط، وتعطيل المصانع العراقية لترويج البضائع الإيرانية. ... ومن جراء تلك الجرائم الكبرى كان قادة الميليشيات يكدسون الأموال الخاصة بالمليارات، التي تشكل جزءاً يسيراً من الأموال التي كان يتم تهريبها لدعم الاقتصاد الإيراني. تلك الأموال التي لولاها لكان انهار بوتائر أوسع.

كانت الميليشيات الولائية، نسبة لولائها للنظام الإيراني، تتشكل ممن يزعمون بأنهم ينتظرون ظهور (الإمام المهدي المنتظر)، وهو غطاء ديني يسترون به جرائمهم لتضليل العامة من أنصارهم، والخطورة فيه أنه غطاء طائفي يجذب إليه أصحاب النفوس البريئة، ويستقطب كذلك النفوس الدنيئة من اللصوص والخونة، وأصحاب النفوس التي يملأها التعصب للمذهب.

ولأن البعث بعقيدته القومية، واتجاهاته التقدمية الحضارية، يشكل العائق الأكبر في مواجهة المناهج الاستعمارية الصهيونية خاصة أنه كان يوظَّف ثروات العراق لمصلحة الشعب العراقي، وخدمة القضايا القومية، كان قرار اجتثاثه قراراً أميركياً صدر في الأيام الأولى للاحتلال، هو الذي فتح شهية النظام الإيراني للتنكيل به بواسطة ميليشياته ومنعه من الظهور وحقه في ممارسة النشاط وذلك من أجل استباحة العراق من دون حسيب وطني أو رقيب.

ولأن القرار الخطير يصب في معرض صراع الأفكار الذي تقوده أميركا لاجتثاث الفكر القومي، بما يمثِله من خطورة على المذهب الرأسمالي الذي يعمل على عولمة الثقافة العربية وفق مقاييس السوق. كان أيضاً مطلباً إيرانياً للقضاء على الفكر القومي الذي يُعتبر النقيض الأشد خطورة ضد ترويج الفكر الطائفي الذي يستند إلى الولاء للدين أو المذهب على حساب الفكر الوطني الجامع لكل الأديان والطوائف.

تحولات مهمة كانت حصيلة العام الأول من عمر الثورة:

والآن يستقبل العراقيون الثوار الخامس والعشرين من تشرين الأول من العام 2020، مما يدفعنا إلى التساؤل: عندما نتفحَّص نتائج ما جرى في عام واحد، ماذا تحقق من أهداف معلنة من أهدافها؟ يؤكد لنا أن ما كان قبل تشرين العام 2019، واستناداً إلى التحولات التي حصلت في العام الفائت، لن يجد له ما يشبهه فيما بعده. ونلخِّص التحولات باثنين رئيسين، وهما:

-أولاً: التحول الأول: انكشاف واضح لأهداف الميليشيات المرتبطة بإيران:

1-تعريف الميليشيات العراقية: هي مجموعات مسلحة من العراقيين، ولكنها تدين بالولاء للنظام الإيراني. وهم من الذين يزعمون أنهم يمهدُّون لـ(ظهور المهدي المنتظر) لكي يملأ الأرض عدلاً. وإذا كانت الثورة قد عرَّتهم من أكثر الأوراق التي تغطي عورات مزاعمهم بأنهم (ينصرون الحسين)، التي تغطي ادعاءهم بـ(حماية المذهب). فكان هتاف (باسم الدين باكونا الحرامية)، تعرية سياسية لمزاعمهم الزائفة، لذا سنقوم في هذا المقطع، بتعريتهم عقيدياً.

لمن المخزي أن نؤمن بأن من يمهِّد لظهور (المهدي المنتظر)، قطيع من الرعاع اللصوص. فهم جميعهم من الذين أفقروا الشعب العراقي وفي الطليعة منهم من يزعم أنهم شيعة (المهدي المنتظر). وإذا كان من المعتقد أن (المهدي المنتظر) سيملأ الأرض عدلاً، فمن الزور أن يكون من يمهد لظهوره لصاً ومجرماً وظالماً؟

وإذا كان (المهدي المنتظر) سيملأ الأرض عدلاً، فإن من أهم واجباته، ليتمم رسالته، أن يخلصَّها من اللصوص والحرامية والمجرمين والظَلَمَة. وإن أول من سيخلِّص (المهدي) الأرض منهم هم الذين سرقوا وأجرموا وظلموا، وكل من أفتى لهم. وهؤلاء هم ذاتهم قادة الميليشيات وأنصارهم وحشودهم، الذين يمثِّلهم (الحشد الشعبي). وكل من يخلِّص العراق اليوم منهم، فهو الوحيد الذي يُعتبر من أنصار المهدي. ولأن الثورة المندلعة الآن، هي التي تقوم بهذا الدور، فمارد الثورة هو الصادق الصدوق، بنشر العدل في الأرض بعد أن ملأها هؤلاء ظلماً وجوراً، ويأتي في المقدمة منهم أصحاب العمائم الذين يتباكون على الحسين، ومن الذين يزعمون أنهم يعملون على التمهيد لظهور حفيده. كانوا يخدعون الناس بأن الحسين استشهد لأنه خرج يطلب حقاً، فإذا بهم ينحرون الثوار الذين خرجوا للمطالب بالحقوق المسلوبة. فشتان ما بينهم وما بين الحسين.

سواءٌ أكانت نظرية المهدوية (أمراً إلهياً) كما يعتقد بعض الشيعة، وهي ابتكار تلجأ إليه الجماعات التي تتعرض للظلم والاضطهاد؛ أم كانت قضية رمزية تمثِّل انتظار المظلومين ظهور من يخلِّصهم ممن ظلمهم، فهي لن تصل إلى خواتيمها المرجوة منها سوى بمحاربة الظالمين والفاسدين. وكل من يعمل على محاربتهم يكون (المهدوي الصادق).

فمن يزعمون في العراق، أو مرجعيتهم في إيران، أنهم يؤسسون لـ(الدولة المهدوية) هم كذبة ومنافقون لأنهم يمارسون بالضد من الأمر الإلهي الذي يزعمون بأنهم مكلفون بتنفيذه، لأنهم يملأون أرض العراق اليوم، ومنذ أن وكَّلتهم أميركا بإدارة شؤون احتلاله، ظلماً وأيما ظلم، وجوراً وأيما جور، وفساداً وأيما فساد.

إن المزاعم بأن نظرية الظهور إلهية تجد أسباب تهافتها في أن الخمينية لم تجزم بأنها واقعية حتى، ويدعم ذلك ما جاء في كتاب (الحكومة الإسلامية) للخميني: (إنتظرنا 1200 عاماً ولم يظهر المهدي. وقد ننتظر 1200 عاماً أخرى وقد لايظهر. وقد لا يظهر إلى آخر الدهر). وأما إصراره على بناء نظام سياسي في مرحلة غيبة المهدي المنتظر، على الرغم من مخالفته للنظرية الإثني عشرية التي لا تجيز قيام نظام سياسي قبل ظهوره، فهو دليل على شدة شبق الخمينية لإيصال رجال الدين إلى السلطة لتكوين منظومة دينية سلطوية أشد ديكتاتورية من كل نظام سياسي آخر. خاصة وأنه يشرِّع قتل معارضيه قبل محاكمتهم. وقد أثبت التاريخ فشل الدول الدينية الذريع عبر تاريخ الشرق والغرب معاً.

2-في مواجهة النظام الأكثر خطورة على مصالح العراق، خاصة أنه تم استنزاف ثرواته الطبيعية، وموارده الاقتصادية على شتى صنوفها. وبعد محاولات شعبية عديدة في الانتفاضة ضد الواقع المزري القائم.  برزت ثورة تشرين من العام 2019، لتعلن أهدافها في إسقاط (العملية السياسية) التي تحمي الفاسدين والمجرمين العابثين بأمن العراقيين السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

رفع الثوار شعارات محاربة الظلم والجور، وخاصة وكلاء إيران الذين أسسوا لعشرات الميليشيات التي تسرق وتنهب وتقتل باسم (المهدي المنتظر)، وكشفوا الزيف عن أكاذيبهم باستغلال مشاعر البيئة الشعبية، مرددين (باسم الدين باكونا الحرامية)، خاصة أن الحرامية يمثلون دور من ينصر المهدي المنتظر لأنه سيملأ الأرض عدلاً، فإذا بهم يتصدرون صفوف من يملأ الأرض ظلماً وجوراً.

ولأن ثوار العراق يحاربون الظلم والجور، فهم (المهدويون الحقيقيون). ولا (مهدوي حقيقي) سوى من امتلك قرار تخليص نفسه بقوة الإيمان بالحقوق المسلوبة.

3-مشهدية المهدويين المزيفين والمهدويين الحقيقيين:

وكأننا في المشهد السائد على أرض العراق الآن، تدور معركة بين الخير الذي يدعو إليه ثوار تشرين، والشر الذي تمارسه الميليشيات الولائية (الحشد الشعبي)، والذين لا يخجلون من أنهم من أنصار إيران. وفي معرض اقتلاعهم كأداة للظلم والجور، ومن أجل وصف قذارة ما يقومون به،  نتذكر ما قاله المتنبي بكافور الأخشيدي، وزبانيته منذ مئات السنين:

نامت نواطير (العراق) عن ثعالبها    فقد بشمن ولم تفن العناقيد

ولكثرة ما ارتكبوا من جرائم وظلم وفساد، صحَّ فيهم قول المتنبي أيضاً، وهو القائل:

ما يَقبضُ المَوْتُ نَفساً من نفوسِهِمُ   إلاّ وَفي يَدِهِ مِنْ نَتْنِهَا عُودُ

وكل ما يمكننا التعويل عليه في مرحلة التعارك الأميركي الإيراني، هو أن الأميركي يقوم بتصفية الوجود الإيراني لأنه استأثر بسرقة ثروات العراق من دون مشاركته بجزء من تلك السرقات؛ علماً أن تصفية هذا الوجود هو أحد أهم مطالب ثوار تشرين، كأحد سبل الخلاص من أحد عدوين يحتلان العراق. خاصة أنه لا يعمل على قاعدة الاستيلاء على الثروات فحسب، بل على قاعدة اقتلاع الهوية القومية والوطنية والدينية، لاستبدالها بهوية أخرى أجنبية في هويتها وأهدافها.

 

ثانياً: التحول الثاني: صمود لثورة الشباب وانقلاب على المفاهيم الغيبية:

وعن هذا التحول، يمكننا تقسيمه إلى فروع، ومن أهمها:

1-الانقلاب على المفاهيم الغيبية:

إن مفهومنا للتحوّل ليس بما حقق من إنجازات مادية ملموسة فحسب، بل بمقدار ما نجح في الصمود والاستمرار في مواجهة أعتى وسائل القمع أيضاً. لأن مجرد استمراره لسنة، يعني أنه أنجز مرحلة مهمة من رسالته وأهدافه، وأثبت تصميمه على الاستمرار. والاستمرار هو الخطوة الأساسية للقيام بالتغيير.

لذا يمكننا أن نصف ما حصل بالتحول، هو ما استطاعت الثورة أن تحققه في الكشف عن أكاذيب عدد لا يُستهان به من رجال الدين الشيعة العراقيين الذين يروِّجون لمزاعم نظام الملالي في طهران وأكاذيبهم حول بناء نظام (المهدوية) التي يزعمون أنها ذات (مرجعية إلهية). فأحدث هذا الكشف تحولاً مهماً في ثقافة أعداد كبيرة من قوى الشعب العراقي، وخاصة في الأوساط التي تم تضليلها بشعارات التمهيد لظهور المهدي المنتظر، وشعارات حماية المذهب، ونصرة الحسين وآل بين رسول الله... وأحلوا مكانها نظرية المهدوية الثورية الرمزية التي تعني تفجير الثورة على الفساد واللصوص وآكلي حقوق الفقراء والمعوزين والمضطهدين. وهذا ما أنجزته ثورة تشرين خلال عامها الأول. وعن ذلك ارتفعت هتافات الثورة، حتى في قلب المناطق التي اعتبرها نظام الملالي أنها تشكل حاضنتهم العقيدية الشعبية، وأصبح الشعار يتردد على كل لسان، بعد أن كان من الممنوعات المقدَّسة: (باسم الدين باكونا الحرامية).

2-مواجهة قاسية مع الميليشيات الإيرانية، (أي الدم في مواجهة مع السيف):

إذا كانت السلمية شعاراً يأخذ بالاعتبار إلغاء عامل عسكرة الانتفاضة لأنها تحمل خطرين بالغين، وهما: غياب تكافؤ القوى العسكرية مع الميليشيات، ومنع تحويل الثورة إلى حرب أهلية.

فكانت السلمية استراتيجة سليمة، ولكنها في الوقت ذاته كانت مكلفة بالأرواح والإصابات الأخرى التي أدت إلى استشهاد المئات، وإلى إعطاب جسدي جزئي للآلاف من الثوار. وإذا كانت الخسائر فادحة من جراء سلوك  الثورة السلمية إلاَّ أنها ضمنت للثورة حواضن شعبية واسعة لم تكن لتتوفر في حال عسكرتها. والتي ستكون خسائرها أكثر اتساعاً وأكثر حجماً وأقل شعبية.

كما كانت داعش ابتكاراً أميركياً إيرانياً من أجل تعزيز مخطط التفتيت الطائفي في الوطن العربي ابتداءً من العراق. وتلك حقيقة كشفت عنها مراسلات هيلاري كلينتون مع الخامنئي مرشد النظام الإيراني. فقد كان تشكيل (الحشد الشعبي الشيعي) قراراً إيرانياً وجد تبريراً له في مواجهة (داعش السنية). ولما غابت داعش كان يجب أن يغيب الحشد الشعبي بعد أن فقد مبرر وجوده. ولكن كان تشكيل الحشد الشعبي قراراً استراتيجياً شبيهاً بتشكيل (الحرس الثوري الإيراني). فمهمة الحرس الثوري، كبديل للجيش النظامي الإيراني، كان حماية النظام في إيران، فإن مهمة الحشد الشعبي هو حماية (العملية السياسية) التي استولى عليها ذلك النظام بالكامل، ومنع التأثير عليها حتى من قبل أميركا.

ولهذا السبب يصر الجانب الأميركي في الصراع الدائر حالياً على حل الحشد وتسليم أسلحته لمصلحة الجيش العراقي، وبمثل هذا التدبير تسحب أميركا البساط من تحت أرجل النظام الإيراني. وحتى لو صبَّ هذا القرار في المصلحة الأميركية، إلاَّ أنه يرفع السيف المسلط على رقاب كل المعارضين للوجود الإيراني في العراق أو الرافضين له، ويأتي ثوار تشرين في المقدمة منهم. وإذا حصل هذا الأمر سيوفِّر حماية أكثر للثوار بعد أن كانت ميليشيات الحشد ترتكب أكثر الجرائم فظاعة بحقهم، وكانت توفر للسلطات الأمنية الرسمية غطاء للتنصل من مسؤولية القمع.

ولأن سكة تجريد الميليشات من سلاحها، قد ارتفعت وتيرة المطالبة بها والعمل من أجل تحقيقها، فقد وجدت تعبيراتها الظاهرة في إحراق الثوار لمواقع إيرانية معروفة، وكذلك حرق مكاتب الميليشيات حيثما وصلت أيديهم.

  

3-إسقاط الحكومات على التوالي:

استجابة ظاهرية لمطالب الثورة، كان تغيير الحكومات يقوم على التجديد في جلودها، وليس في منهجها. وأما المنهج فهو نشر الفساد والإفساد. والتغيير الشكلي كان يطال تغيير الحكومة من قناع إيراني يعمل لمصلحة النظام الإيراني، إلى قناع أميركي يعمل لمصلحة الرأسمالية الأميركية، والعكس صحيح. وهذا ما يعيه الثوار أن التغيير الحكومي لن يكون جذرياً سوى بإسقاط منهج (العملية السياسية برمته.

إن المنهج السائد، على الرغم من التغييرات المتواصلة في شكل الحكومة، لم يتغيَّر. وأما المطلوب فهو أن يحاكي التغيير ما ترمز إليه قصة (الحمل والنسرين)، وهو أن على العراقي أن يختار واحداً من بين مفترسين متعاركين، إمأ أن يقوم افتراسه على طريقة الرأسمالية الأميركية، أو على طريقة خداع المهدوية الإيرانية، وإما عن طريق توافقهما معاً. وإذا كانت الطريقة الأميركية رفعت شعارات الثورة، فأصابت إعلامياً ولكنها استخدمت شعارات حق باطنها باطل، فإن الثورة رفضت الطريقتين معاً. وهي مستمرة من دون الوقوع فريسة بينهما فرفضتهما معاً.

إن خيارات الثورة استراتيجية لا تراجع عنها، ومن الخطورة بمكان أن تنزل تحت سقفها.

4-في النتائج المرحلية، تقدم للثورة، وتراجعات في بعض العوائق التي تعمل على كبحها:

بمجرد الاعتراف بشرعية أهداف الثورة تكون قد سلكت الخطوة الأساسية على طريق الألف ميل. ولهذا، ولأنه ليس لدى الثائرين ما يخسرونه بعد أن قام التحالف الأميركي الإيراني بهدم الهيكل العراقي بكامله، ولم يوفر لقمة العيش اليومية من تخريبه، فليس أمام الثوار سوى أن يتابعوا مسيرتهم لأنها الطريق الوحيد الذي يقودهم إلى شاطئ الأمان. وأما على المستوى المرحلي، فأن يُنهك أحد الخصمين ألخصم الآخر. ويتم ذلك، بأن يستفيد الثوار من المرحلي لتعزيز أهدافه الاستراتيجية.

وأخيراً، كل التحية لثوار تشرين وصمودهم، فثورتهم أصبحت حقيقة على الأرض، فرضت نفسها وشقَّت طريقها، ولن يستطيع أحد إلغاءها، أو إلهاءها، بعد أن امتلكت التجربة النضالية والثقافية التي تحصَّنها من كل المنزلقات التي يتم التخطيط لها. 

 

 

 

 

الأحد، أكتوبر 11، 2020

بعد مرور عام على انتفاضة 17 تشرين

 

بعد مرور عام على انتفاضة 17 تشرين



تراكم نضالي شعبي وانهيارات في بنية النظام الطائفي السياسي

دراسة مساهمة في تسجيل تاريخ الانتفاضة

حتى هذه اللحظة لا تزال التساؤلات ترتفع حول مصير انتفاضة 17 تشرين، بين مراهن على أفولها ومراهن على نتائجها، بين متفائل وبين متشائم. فهل هناك من نقطة ضوء تبدو في آخر النفق؟

الذين يراهنون على أفولها هم أولئك الذين انكشفت عوراتهم التي لا حدود لها بالبشاعة والإجرام، هم أمراء الطوائف ممن سرقوا ونهبوا وباقوا بكل المحرمات الشعبية. ومراهنتهم على أفولها ليست قائمة على أسباب موضوعية بأكثر منها مراهنات سرابية وذلك خوفاً من انكشاف عوراتهم أكثر وكثر أمام أنصارهم والمستفيدين من فتات سرقاتهم ونهبهم خوفاً من جوع وإملاق.

وأما الذين يراهنون على نتائجها الإيجابية فهم الذين قرأوا التاريخ وتمعنوا في سياقاته في حالات مشابهة لما يجري، وتأكدوا أن الشعب إذا جاع فلن (يستطيع حتى الله أن يظهر لهم بغير صورة رغيف الخبز) كما قال غاندي، الفيلسوف الهندي العقل المدبر للثورة الهندية السلمية في مواجهة الاحتلال البريطاني.

وبين متشائم ومتفائل، لا مكان للتخمينات القائمة على التمنى، (ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا)، إذ طالما يتحرَّك الشباب بثقافة جديدة، من دون استسلام للأمر الواقع، سيكون مصير الانتفاضة مرتبطاً بتلك الحركة، ودائماً سيكون (في الحركة بركة)، ولا شيء غيرها.

ففي حركة الشباب، بغض النظر عن أعدادهم في المراحل الأولى، ستُمطر على لبنان زخات من التغيير، لعلَّ من أهمها بعد مرور سنة هو مقدار الرعب الذي دبَّ في نفوس أمراء النهب والسرقة، وكلما انكشف حجم سرقاتهم، كلما اقترب أنصارهم من مرحلة تحطيمهم كأصنام ربضوا على عقول أولئك الأنصار وصدورهم.

المسافة التي اجتازتها الانتفاضة، في هذا العام، تُقاس بمقدار ما هدمته من جدران الماضي:

إذا كانت خرائطه كاملة، يبتدئ البناء الجديد بهدم البناء القديم جداراً جدارا. ولذلك بعيداً عن التمنى، لنحاول إحصاء غلال الانتفاضة خلال عام. وعن هذا الأمر، لن يكون مقياسنا كم جنت حتى الآن، لأن مقدمات التغيير تكون بمقدار ما هدمته من عوائق عن طريقها. وعن ذلك أخذ بناء النظام الطائفي السياسي في لبنان يشهد مجموعة من الانكشافات والانكسارات والتراجعات الملموسة والظاهرة للعيان، إذ أخذت بعض جدرانه تنهار واحداً تلو الآخر، أو على الأقل أخذت أركانها تتخلخل.

أولاً: على صعيد انكشافات النظام الطائفي السياسي:

تتمثل الانكشافات بمجموعة من المظاهر التي لن تجد من يستطيع إخفاءها من جديد، أو التستر عليها، أو الدفاع عنها، ومن أهمها نعدد ما يلي:

1-المظهر الأول: انكشاف هيبة أمراء الطوائف على حقيقتها، حيث أصبحوا عاجزين عن الدفاع عن جرائمهم، لا بل أخذوا يرفعون شعارات الانتفاضة نفسها، وأخذ البعض منهم يتنصل من مسؤولية الفساد، ويُلقي المسؤولية على شركائه الآخرين. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى الرعب الذي انتابهم جميعاً بعد أن عرَتهم الانتفاضة من أوراق التوت التي تستر جرائمهم الأكثر من أن تُحصى. ومن أهم البراهين على ذلك أنهم أقلعوا عن اتهام المنتفضين بتهمة العمالة للسفارات، وسؤالهم عن ثمن المنقوشة التي يسدون بها جوعهم. وبذلك تكون الانتفاضة في عامها الأول، قد أسقطت الهالة القدسية التي غلَّفوها بشعارات (حماية الطائفة) التي كانت تغطي عوراتهم، لأن الأكثرية الساحقة من أبناء الطوائف جميعاً عرفت الجوع والفاقة ونقص في الخدمات، وزيادة في البطالة. وهذا المظهر إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن كل أمراء الطوائف كانوا يكذبون على أبناء طوائفهم، وإن صحَّ زعمهم أنهم يحمون أبناء طائفتهم لما كان بينهم غني حتى التخمة، وجائع حتى العظم. ولذلك، وبما لا جدال حوله فقد ظهروا جميعهم بأنهم أكثر من أكلوا حقوق طوائفهم، ولم ينفع تغطية هالتهم القدسية استخدام وسائل البلطجة التي مارسها حراسهم على المنتفضين.

لقد برهن استخدامهم للبلطجية الزيف الذي كانوا يغطون بها ديموقراطية انتخاباتهم النيابية التي ظهرت بلباسها الحقيقي (ديموقراطية البلطجة والمال الحرام). تلك الديموقراطية، التي هي وسيلة حق، فيما لو تمَّ تطبيقها بمعايير صحيحة، ولكنهم شوَّهوا صورتها بحمايتها بالأزلام والأموال، والوعد بتنفيعات أنصارهم من دون غيرهم للإمساك بنتائجها. وأما تنفيع الأنصار وحشدهم للدفاع عنهم، فهي ليست أكثر من وسائل ميليشياوية ورثوها في الحروب الأهلية في المراحل السابقة. في تلك المراحل كانت الميليشيا الأقوى، رجالاً ومالاً وسلاحاً، هي التي تفرض نفسها على الميليشيات الأخرى من منافسيها أم كانوا من أنصارها وأزلامها.

2-المظهر الثاني: انكشاف خضوع أمراء الطوائف لأوامر السفارات، وتلقي الأموال منها باعتراف الكثير منهم بشكل واضح وعلني. والاعتراف خير الأدلة على إدانتهم.

هذا الانكشاف يحصل في الوقت الذي خجلوا من سؤالهم للمنتفضين الفقراء من أين أتوا بثمن المنقوشة التي يأكلونها في ساحات الاعتصام، أو ثمن قنينة الماء التي تسد عطشهم في حرارة الصيف. وبان، أيضاً، للقاصي والداني براءة الفقراء من تهمة (العمالة للسفارات)، في الوقت الذي ظهرت حقيقة أولئك الأمراء بأنهم الوحيدون الذين يخضعون للخارج ويُسلموا مفاتيح لبنان إلى الخارج تسليما. وإذا أردنا أن نأتي بالدلائل، فهي أكثر من أن تُحصى، ومن اهمها ما اعترف به هؤلاء بشكل واضح وصريح وعلني.

3-المظهر الثالث: خلافاً لما يزعمون بأن النائب منهم يمثِّل اللبنانيين، كل اللبنانيين، انكشفوا أمام اللبنانيين جميعاً أن (كرعوب كل نائب منهم معلَّق بطائفته)، ولا شيء غير طائفته. لا بل إنهم يخضعون لأوامر زعمائهم الذين لا يمثِّلون كل أبناء طائفتهم. وفي الوقت الذي كانوا يغطون به كذبهم بتحالف البعض منهم مع بعض أمراء الطوائف الأخرى، فلم تكن أهداف تلك التحالفات أكثر من واجهة لتبادل المصالح الضيقة على قاعدة أعطني فأعطيك، واستر على عوراتي أستر على عوراتك.

من أكثر الانكشافات وضوحاً وأسفاً، أن مبدأ (حماية الطائفة) كانت من أكثر الأكاذيب التي جرَّعوها للناس البسطاء. تشاركت فيها النخبة السياسية مع المؤسسات الدينية المستفيدة من إغراءات مال السلطة السياسية، بينما في حقيقة الأمر أن الحماية الحقيقية كانت في حماية مصالحهم، والتي أكدت الوقائع أنهم جمعوا الثروات الهائلة، والتي إن صرفوا منها على أبناء طوائفهم، لم تكن أكثر من أجور للمحظيين من أزلام هذا الزعيم أم ذاك، أو يصرفون من فتاتها لحراسهم من الفقراء. هؤلاء الحراس الذين حوَّلوهم إلى بلطجية ووضعوهم في مواجهة أنسبائهم من المحتاجين لرغيف الخبز. ولأن الأكثرية من أبناء طوائفهم يكادوا يموتون من الجوع والبطالة والمرض، أصبح مبدأ (حماية الطائفة) من أكثر المبادئ انكشافاً، وكان من الأصح أن يُقال بـ(مبدأ حماية زعماء الطوائف ومؤسساتهم الدينية والسياسية).

4-المظهر الرابع: مزيد من إنكشاف هرمية الفساد من فوق إلى تحت. التي على الرغم من مخالفتها للدستور الذي كانت مواده تنص على ممارسة التوزيع الطائفي للسلطات لمرة واحدة، فقد تحوَّل المرحلي إلى ثابت في مفاهيم الأحزاب الطائفية الحاكمة. ولو بدأنا بالتوزيع الطائفي من فوق لوجدنا أن هرمية السلطة بسلطاتها الرئاسية والتشريعية والتنفيذية، تتقاسمها الطوائف بشكل سافر، بتوزيع الرئاسات الثلاث بين الطوائف الأكثر عدداً، ونياباتها بين الطوائف الأقل عدداً. وتتوسع رقعته نزولاً إلى وظائف الفئة الأولى بحيث تستفيد منها الطوائف جميعاً على قواعد المحاصصة بينهم.

كانت الكوتا الطائفية في المؤسسات الرسمية عبارة عن نصِّ يعالج قضية مرحلية، يقوم على المحاصصة بين الطوائف من أجل نزع المخاوف التي كانت تساور البعض منهم على أن يتم إلغاؤها لاحقاً لبناء نظام مدني يتساوى فيه اللبنانيون جميعاً بالحقوق والواجبات. ولكن النص المرحلي تحوَّل إلى عرف دائم استمرأ فيه أمراء الطوائف لذة حصر التعيين بالوظائف بين أيديهم. ولذلك خضعت آليات التوزيع، بأوامر من الرأس السياسي الأعلى للطائفة، واسفاد منها المحازبون والأنصار فقط، ولن يستطيه الوصول إليها أحد غيرهم، وخاصة منهم الذين لا يعلنون الولاء للأسياد.

إن هرمية السلطة وتوزيعها حصصاً يجعل من الدولة مزرعة بالمعنى الكامل لمفهوم المزرعة. يتحول فيها الزعيم إلى راعٍ لا تردعه قوانين ولا تشريعت سوى تلك التي تضمن مصالح رأس الهرم وأتباعه في إقطاعية طائفية استولوا على مقدراتها، وتحديد مصيرها.

وستناداً إليه، وإذا كانت الوظائف كلها خاضعة للمحاصصة، فسوف يكون ولاء الموظف لأمير طائفته، كـ(ربٍّ لنعمته). وسوف يعمل لتمرير ما يريده منه هذا الأمير أم ذاك.وبمثل هذا المفهوم يصبح من النادر أن ترى موظفاً يعمل للمصلحة العامة سوى بالقدر الذي يخدم فيه زعيمه الطائفي السياسي.

ولأن كل أمير سياسي طائفي يحتاج إلى ضمان حمايات من القبضايات الميليشوية فهو يحتاج أيضاً إلى تمويلهم، والتمويل بحاجة إلى سرقات. وباستثناء التمويل الخارجي للإمارات الطائفية، ولأنه ليس غير الدولة تُعتبر البقرة الحلوب الأساسية لهم، يلجأ الأمراء إلى اتباع وسائل الفساد، من رشوة وتهرب ضريبي، وتلزيم المشاريع لمن يخصص قسماً من أرباحه لأميره... ولهذا عبَّر أحد القضاة عن تلك الحالة قائلاً: أينما مددت يدك في زوايا الدولة المزرعة لخرجت ملآنة بملفات الفساد والإفساد.

وإذا كان أمراء الطوائف يملأون كراسي الرئاسات الثلاث، كرأس لهرم السلطة، فإنهم نزولاً بحاجة إلى مساعدين لهم يملأون المواقع في السلطة التشريعية والسلطة القضائية.

وأما عن السلطة التشريعية، فلن يستطيع أحد الوصول إلى مقاعدها سوى بتسميته في لوائحهم الانتخابية، ومن شذَّ منهم عن عصا الطاعة فلا مكان له في نعيم مجلس النواب. وإذا ما عرفنا أيضاً أن ثلثي مجلس النواب من أصحاب الرساميل ورجال الأعمال لعرفنا كيف ستكون وجهة إقرار القوانين. وهنا تكمن أهم مساوئ النظام الديموقراطي في لبنان.

وأما عن السلطة القضائية فتكوينها لا يشذُّ أيضاً عن تركيب أية مؤسسة سياسية أو إدارية. ولأنها تخضع للمحاصصة أيضاً، فسوف يكون القضاة من عجين تلك السلطة وسوف ينفذون أوامر من أمر بتعيينهم في وظائفهم، بحيث تضمن أحكامهم مصالح (أولياء نعمتهم).

وإذا عرفنا أن لكل أمير طائفي حصة في كل إدارات الدولة، ومن ضمنها السلطة القضائية، فلن يجرؤ أحد على محاسبة أمراء السلطة الطائفية، لأنهم محميون بالقضاء. ومن هنا، وإذا أردت أن تحاسب الصغار على فسادهم، فعليك أن تحاسب أمراءهم على تعويدهم على الإفساد. وإذا أردت أن تحاسب الموظف على فساده فعليك أن تحاسب أميره الذي يحميه لأنه يتقاضى منه الحصة الأكبر من سرقاته.

 

ثانياً: الانكسارات فتتمثَّل في مجموعة من المظاهر والوقائع، ومن أهمها:

1-غياب خطباء الأحزاب الطائفية عن المنابر، وانقطاع دابر مواكبهم المحمية: لقد ارتاحت الشوارع في لبنان من ضجيج صفارات مواكب السيارات الرسمية، تلك التي كانت تُقفَل الشوارع أمام العامة لكي تسهل السير أمام المسؤولين، ولا ضير إن تأخر العامة عن أعمالهم. كما خلت المنابر من آلاف الخطب التي كان المسؤولون من أحزاب السلطة ينشرون فيها ثقافة الاستزلام. وانكفأوا إلى جحورهم مرغمين أمام نقمة الشباب الذين تصدوا لهم أينما حلوا أو رحلوا. ولعلَّ في ذلك إفادة لهم لكي يقلِّدوا المسؤولين في دول العالم المتمدن حيث يتجول رؤوساء وزرائهم على الدراجات الهوائية للانتقال من مكان إلى آخر.

2-غياب ملحوظ لمثقفي السلطة عن وسائل الإعلام: كانت وسائل الإعلام تستضيف العشرات من مثقفي السلطة، الآكلين من خبز أحزابها، الضاربين بسيوفها. ولعلَّ هؤلاء بانكفائهم، إما أنهم خجلوا من أنفسهم لأنهم خانوا مطالب أبنائهم وأقربائهم وفقراء الطبقات التي وُلدوا فيها. وإما أنهم أحسّوا أخيراً بآلام شعبهم، أو انكفأوا أمام نظرات الغضب التي كانت تبدو ظاهرة في وجوه من استمعوا إلى أكاذيبهم وتفاهاتهم في الدفاع عن الأحزاب التي استأجرتهم كمحايدين.

3-سقوط حكومتين واعتذار الثالثة قبل أن تبصر النور: أسقطت الانتفاضة في الأيام الأولى وزارة الرئيس سعد الحريري، وضغطت من أجل أن يُكحَّل الرئيس حسان ذياب وزارته ببعض الوزراء كمستقلين ولكنهم محازبين للسلطة من غير المكشوفين أمام الرأي العام، الأمر الذي أدى إلى إسقاطها بعد أن ذابت ثلوجها، وبانت مروجها. وأخيراً وليس أخيراً، وعلى الرغم من أن تكليفه تمَّ تحت ضغوط خارجية فرنسية لكن شروطها كانت تستجيب لمطالب الانتفاضة، فقد استقال الرئيس المكلف مصطفى أديب، قبل أن تبزغ حكومته إلى النور خوفاً من رئيسها الذي قدَّم استقالته قبل أن يلقى مصير حكومة الرئيس حسان ذياب. والحبل على جرار السقوط والإسقاط إذا لم يتم تشكيل حكومة تستجيب لمطالب الانتفاضة.

4-رفع محامو الانتفاضة عشرات الشكاوى ضد معظم مسؤولي أحزاب السلطة: وإن كان بعض القضاة يحتفظون بها في أدراج مكاتبهم لحماية أولياء نعمتهم، إلاَّ أن عيون الانتفاضة ساهرة ولن تنساها مهما طال الزمن.

5-إحالات ولو شكلية لبعض رموز إدارة الفساد أمام القضاء: تحت ضغط الانتفاضة والإعلام المؤيد لها، فقد أُرغمت حكومة الرئيس ذياب على تقديم بعض الأضاحي من المسؤولين الكبار في الدولة ممن تحميهم بعض أحزاب السلطة الحاكمة، لأمرائهم وتغطية لجرائمهم. ولكن أي خلل سيحصل، وهو سيحصل طالما بقيت التشكيلات القضائية لم يتم إقرارها، سيظل تحت رقابة محامي الانتفاضة، وكذلك تحت رقابة المحامين الوطنيين من الذين أعلنوا وقوفهم ضد الفساد الذي استشرى في كل زوايا النظام الطائفي السياسي.

 

ثالثاً: ما بعد انتفاضة تشرين، لن يعود إلى ما كان قبلها:

ما قبل انتفاضة 17 تشرين، التي كانت نتيجة للتراكمات التي أٍَّسَّستها حراكات السنوات الست الماضية، كانت وقائع الفساد مخبأة فيما يشبه العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت. ولما وُجد فتيل إشعالها أحدثت انفجاراً نووياً هائلاً دمَّر الجزء الأكبر من مدينة بيروت، وراحت من بعده تتوالى ردات زلزالية أخرى. ولهذا كانت انتفاضة 17 تشرين بمثابة الفتيل الذي أحدث انفجاراً في العنبر الرقم 12 الذي عشِّشت فيه أمنيوم فساد النظام.

انكشافات مخجلة، وانكسارات متواصلة، وتراجعات لم تعهدها مرحلة ما قبل انتفاضة 17 تشرين. كلها من أهم المتغيرات التي راحت تهدد جسد النظام الطائفي السياسي في لبنان بالانهيار. وهذه تمثِّل حصيلة سنة كاملة من عمر انتفاضة 17 تشرين، وهذا يُعتبر بداية لانهيارات متواصلة في المستقبل. وبعملية الهدم التي تحصل ستبنى الانتفاضة جدراناً، إذ لا يمكن العودة إلى الوراء طالما ظلَّ حراك المنتفضين حياً يُرزق. وسيكون كذلك لسببين رئيسين، وهما: حمايته الشعبية في لبنان والحماية الدولية من جهة، واكتسابه الكثير من الخبرات، ووضوح رؤيته النظرية والعملية من جهة أخرى.

أولاً: الحراك وحمايته من قمع أجهزة السلطة وقمع بلطجة أحزابها:

1-الحماية الشعبية: لأن أهدافه وشعاراته تستجيب لمصالح أوسع الجماهير الشعبية. ولأنها خبرت مصداقيته فقد فرض نفسه كهم يومي في ذاكرة الجماهير الشعبية. وقبل تفجير الانتفاضة قلَّما كنت ترى عائلة تقف مسمَّرة أمام نشرات الأخبار، وأما بعد الانتفاضة فقد عافت تلك الأسر المسلسلات الروتينية، وراح تتابع أخبار الانتفاضة ساعة بساعة. وقلَّما كنت ترى الأسر اللبنانية تهتم بمناقشة ما يجري، وبعد الانتفاضة راحت تلك الأسر تناقش قضايا الفساد التي ارتكبها النظام الطائفي السياسي. وقبل الانتفاضة كانت كل أسرة تدافع عن أمير طائفتها، ومن بعدها ارتفعت علامات الذهول من خطورة ما ارتكبه هؤلاء الأمراء. وهلمَّ جرَّاً من مظاهر عديدة كمثلها إن دلَّت فتدلُّ على أن الثقافة الشعبية التي تم  تدجينها على نمط الثقافة التقليدية التي كانت لا تستطيع أن تفهم بأن تكون طائفة من دون زعيم، فتحوَلت الثقافة الجديدة للدعوة الشعبية بأن تكون المواطنة هي الزعيم الأوحد لكل الطوائف.

وإذا كان علينا أن نخرج بخلاصة، فعلى شباب الانتفاضة وشاباتها أن يثقوا بأن انتفاضتهم وفَّرت لهم حاضنة شعبية تستطيع توفير الحماية الحقيقية لهم.

2-حماية المثقفين الوطنيين: وتمثلها قطاعات واسعة من النُخب السياسية والثقافية والإعلامية والحقوقية، وأساتذة الجامعات. هذا ناهيك عن عدد من وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي.

كانت معظم وسائل الإعلام منكفئة عن الاهتمام بقطاعات واسعة من المثقفين الوطنيين، إلى الدرجة التي كان يُخيَّل للبعض أن المثقفين، وخاصة تلك التي قدَّمنا أسماءها في بداية المقطع، غائبين عن الاهتمام بشؤون الوطن، وخاصة هموم الشعب المغلوب على أمره. ولكن بعد الانتفاضة، وبعد أن تكاثرت وسائل الإعلام التي وضعت الانتفاضة على جدول برامجها، راحت تستقطب الآلاف من المثقفين الوطنيين على شاشاتها، فتحوَّل المشهد الجديد إلى انتفاضة نخبوية للمثقفين الوطنيين، فكانوا على تعدد اختصاصاتهم، ذخيرة على غاية من الأهمية، وانكشف الواقع عن وجود نقمة نخبوية كبيرة كانت تنتظر أن تنفتح أمامها وسائل الإعلام لكي يأخذوا دورهم الذي طالما تمنوا أن يلعبوها. وإذا كان هناك مما علينا أن نسجَّله، فنقول لشباب الانتفاضة وشاباتها أن هناك حاضنة من المثقفين الوطنيين على غاية من الأهمية، لأنها سوف تشكل للانتفاضة حاضنة واعية متبصِّرة ترسم لها مساراتها الواعية التي تحميها من الوقوع في الخطأ.

3-حماية الرأي العام العربي والدولي: باستثناء أحزاب وقوى حركة التحرر العربية المؤيدة للانتفاضة الشعبية في لبنان، أخذت تطفو في الآونة الأخيرة مظاهر تأييد دولي للانتفاضة، ولعلَّ مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون هي الأبرز والأهم فيها. وإن كان تأيدد المنظمات المدنية الدولية هي الأكثر مصداقية، نعتبر المبادرة الفرنسية من أهم المبادرات الدولية. ولننا نشكك بمصداقية الأنظمة الرسمية، سوف نعتبر المبادرة الفرنسية مهمة ومؤثرة إلى المرحلة التي يُشتمُّ منها أنها أخذت تنحو باتجاه ضمان مصالحها على حساب مصلحة الشعب اللبناني.

لقد حملت مبادرة ماكرون أكثر أهداف الانتفاضة أهمية، التي إذا تمَّ تطبيقها نعتبر أنها تقدُّم مهم في تاريخ الانتفاضة. وإلى الحين الذي تظهر فيها التواءات عنها، على الانتفاضة أن تتابع سيرها لتحقيق ما سوف تغفل المراحل اللاحقة تطبيقه.

وإذا كان ما يجب أن نوجز به هذا المقطع، نعتبر أن الحماية الدولية، في مراحلها الراهنة، تشكل حماية مهمة للانتفاضة خاصة ضد قمع سلطة الأحزاب الحاكمة من جهة، وفي الضغط على تطبيق البنود الخاصة بمكافحة الفساد من جهة أخرى. وهي من أهم الحمايات في هذه المرحلة.

 

ثانياً: الطفرة النوعية العملية والنظرية:

منذ انطلاقة الشباب الأولى في العام 2014، كان عديدها لا يتجاوز العشرات من الشباب الذين وعوا خطورة المتاهات التي تحفرها أحزاب السلطة الحاكمة للدولة اللبنانية. وتصاعدت الانطلاقة لتبلغ المئات في أحسن أحوالها. كان العديد في ذلك الوقت يدفع إلى التساؤلات والاستهجان، وخاصة من قبل أحزاب السلطة من جهة، والأغلبية العظمى من الشعب اللبناني من جهة أخرى.

وأما استهجان أحزاب السلطة فهو أنهم كانوا ينظرون إلى تلك المظاهر ولا يكترثون بها، وكانوا يراهنون على أن أولئك هم شلة من الشباب المغامر الذين لن يمر وقت طويل حتى تُبحَّ أصواتهم فينكفئون. وأما تساؤل الأغلبية العظمى من الشعب الذي اعتبرت أن شعارات الحراكيين تعبِّر عن وجعهم، فكانوا يائسين من وصولهم إلى أية نتيجة.

وأما بين الاستهجان والاستغراب، فكان التفاؤل الأكثر سائداً بين أولئك الشباب، تصب في مجرى مفاهيمهم للتغيير على القواعد الثابتة التالية:

-يبدأ التغيير بقلة مؤمنة، ويزداد عديدها كلما كانت شعاراتهم وأهدافهم تعبِّر عن أهداف الأكثرية الشعبية التي تعاني من تسلُّط الطبقة الحاكمة، وهذا ما حصل في 17 تشرين.

 

1-تراكم التجربة العملية والطفرة النوعية في 17 تشرين: علينا أن لا ننسى أن انتفاضة 17 تشرين، كانت تتويجاً لحراك شبابي ابتدأ منذ ست سنوات مضت. وإذا كان من الواجب أن نتكلم عن تراكم التجربة، فعلينا أن لا نغفل تاريخية التجربة. ولذلك، يمكننا تسجيل النقاط التراكمية التالية:

أ-تمدد الانتفاضة أفقياً وعامودياً: بالإضافة إلى تعدد القوى واللجان المنخرطة في النشاطات، وبعد أن كانت نشاطاتها تكاد تكون منحصرة في العاصمة بيروت، فقد امتدت أفقياً لتشمل معظم المدن الكبرى في شتى المحافظات. وبعد أن كانت محدودة بقطاع ضيِّق من الشباب فقد امتدت لتضم إلى صفوفها عشرات من الحراكات المدنية على مساحة الأراضي اللبنانية، ومن شتى أطيافه. وبعد أن كان عددها محدوداً بالمئات، تجاوزته لتصبح بالآلاف، وأحياناً كثيرة بعشرات الآلاف. ومن جراء التوسع الأفقي والعامودي، اكتسبت انتفاضة 17 تشرين، تجارب كثيرة، بالتنسيق فيما بينها حول تعدد الوسائل اليومية وتحديد الأهداف المرحلية.. وامتلكت إصراراً أكبر على الاستمرار.

بـ-ازدياد أعداد القادة الميدانيين: أنتج الحراك قيادات شعبية موثوقة واحتضنها والتف من حولها. وإذا كانت المراحل السابقة تشهد صعود بعض القيادات في ساحات محدودة، وقد أثبتت التجارب أهليتهم في الاستمرار، فقد أنتجت انتفاضة 17 تشرين المزيد منهم في مختلف الساحات.

جـ-توسع رقعة الوسائل الإعلامية التي تخدم أهداف الانتفاضة: بانضمام شابات وشباب ممن هم مؤهلون لإعلام وسائل التواصل الاجتماعي، فقد شهدت مرحلة 17 تشرين تطوراً إعلامياً مشهوداً له بالكفاءة، الأمر الذي أخذ إعلام الانتفاضة ينتشر بسرعة كانت تساعد على التنظيم والحشد، أو بأقل الإيمان متابعته من قبل شريحة لا يُستهان بها من الشعب اللبناني. هذا ناهيك عن أن رقعة وسائل الإعلام قد أخذت تتوسع وانضمت بعض محطات التلفزيون إلى قافلة الوسائل التي أعطت مساحات من الوقت لمتابعة يوميات الانتفاضة، هذا بالإضافة إلى اللقاءات مع المتخصصين في شتى الشؤون النظرية التي تخدم أهداف الانتفاضة. وكان من الملفت للنظر، أنه حتى وسائل الإعلام التابعة لأحزاب السلطة كانت تشارك مرغمة في نقل بعض الآراء المخالفة لتوجهات تلك الأحزاب واتجاهاتها.

2-التراكم النظري والطفرة النوعية في انضمام نخب من المثقفين الوطنيين: عندما ابتدأ الحراك الشبابي قبل ست سنوات فقد ابتدأ لأن الحراك كانت له أسبابه الموجبة، وهو امتلاك القوى التي أسٍّست له رصيداً من الملفات التي تؤشِّر على وجوج الفساد في شتى زوايا دولة النظام الطائفي السياسي، والتي على أساسها انطلق الحراك من أجل الضغط على الأحزاب الحاكمة فيه للقيام بإصلاحات تصب في مصلحة الشعب اللبناني. ولكن بعد انتفاضة 17 تشرين، وبعد أن وجد آلاف من المثقفين الوطنيين ضالتهم فيها، حققت الانتفاضة بوجودهم طفرة ثقافية نظرية واسعة لكثرة ما بذله هؤلاء المثقفين من جهود في تغذية التراكم النظري في شتى الحقول المعرفية التي تحتاجها أية انتفاضة إصلاحية أو تغييرية جذرية. ولكل تلك العوامل، فقد تراكمت الخزينة النظرية، وأصبحت ملكاً للانتفاضة التي تخدم أهدافها، ومن أهمها:

أ-الحيازة على الملفات الكبرى حول الفساد. وهذه الملفات تكفي مؤونة لعمل القضاة لسنوات هذا إذا توفَّر العدد المؤهل والنزيه للنظر فيها بحيادية مهنية ورسالية وأحكام عادلة.

بـ-حيازة ملفات ودراسات عن مجمل قضايا الإصلاح المرحلية. وخاصة منها تلك التي تبدأ بمعالجة مزاريب الفساد والإفساد التي تُعدُّ الخطوة الأولى لمنع انهيار الدولة المالي، والغوص في مسائل الإصلاح المالي والاقتصادي.

جـ- وإذا كانت الأزمة الاقتصادية الحادة تستدعي الإسراع بإيجاد الحلول المرحلية السريعة من أجل إنقاذ لبنان من مجاعة حقيقية، فإن الانتفاضة تمتلك الرؤية الواضحة لإنقاذ الدولة من السقوط النهائي، لكنها لن تكتفي بإصلاح مؤقت، لأنه سيبقى مهدداً طالما ظلَّت أحزاب السلطة الحاكمة متمسكة بمصالحها السياسية والاقتصادية، فإن الانتفاضة ترى أن الحل الاستراتيجي لإنقاذ لبنان لا يمكن أن يكون سوى عبر تحقيق العناوين الرئيسة التالية:

-الأولى: تغيير الثقافة الشعبية التي تجاوز عمرها سنين الهرم والتخلف، واستبدالها بثقافة شابة تتوافق مع متغير العصر.

-الثانية: إسقاط نظام الطائفية السياسية بشكل جذري وحاسم، واستبداله بنظام المواطنة والدولة المدنية.

-الثالثة: نقل لبنان من واقع مجتمع الاستهلاك إلى سقف مجتمع الإنتاج بتعزيز الصناعة والزراعة، وهو المنهج الوحيد الذي ينقذ لبنان اقتصادياً وسياسياً، وينتقل به من منهج المنفعة المصرفية والخدمات إلى منهج بناء الدولة المحصَّنة من الاستناد إلى صندوق النقد الدولي بوظيفته الاستعمارية القائمة على إغراق الاقتصاد الوطني بالقروض التي تُثقل كاهل المواطن بالديون.

وأخيراً،

بين هذا وذاك من دراستنا هذه التي نرجو أن تمثِّل جزءاً من تسجيل تاريخ حقيقي لواقع انتفاضة 17 تشرين، نناشد أبناء الانتفاضة وبناتها إلى الإمساك بالنواجذ بانتفاضتهم، لأنها تمثِّل الضمير الشعبي لأنها تعبِّر عن حقوق الجماهير اللبنانية المقهورة. كما عليهم أن يحرصوا على حمايتها من أهداف ومخططات إحباطها من قبل أحزاب السلطة الحاكمة وصولاً إلى اليوم الذي يتمنون فيه إعلان موتها. وعليهم أن يعوا أن لكل ثورة ضمير، وانتفاضتكم هي ضمير الثورة، فإذا مات الضمير تموت الثورة. وليكن شعاركم الدائم: إن انتفاضة 17 تشرين لن تموت، بل ستبقى أمانة في رقاب الوطنيين الصادقين.

الأحد، أكتوبر 04، 2020

من العراق ابتدأت أزمات المنطقة الحالية وعلى أرض العراق ستنتهي

                    من العراق ابتدأت أزمات المنطقة الحالية وعلى أرض العراق ستنتهي

عندما نحصر بداية الأزمات العربية الراهنة انطلاقاً من احتلال العراق فلأن مشروع الهيمنة الأميركية على العالم كان قد بلغ ذروته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991. وحسبت الإدارة الأميركية أن الظروف أصبحت مؤاتية لها في تنفيذ مشروع هيمنتها على العالم ابتداءً من العراق لسبب أساسي كونه يشكل مركزاً لمحور إذا انهار تتداعى الدول المحيطة به كـ(أحجار الشطرنج). وفي هذا المقال، ولكي نفقه منهج الاستراتيجية الأميركية، في تلك المرحلة، نعيد إلى الذاكرة تصريحين أدلى بهما الرئيس جورج بوش الإبن، أحدهما أدلى به قبل احتلال العراق، والثاني أدلى به بعد الاحتلال فوراً:

-جاء في التصريح الأول: »إنها حرب باسم الله و قد اختار الله الشعب الأمريكي للقيام بها«. وفيه ما يعزِّز مضمون ما كتبه هنري كيسنجر في السبعينيات من القرن العشرين: »على حلفاء أمريكا أن يواجهوا حقيقة أنهم جنود في إمرة القائد الأمريكي، وأن يقوموا بالتالي بأداء المهام المطلوبة منهم لأن في ذلك ضماناً لمصلحة أمريكا ولمصالحهم هم«.

-وجاء في التصريح الثاني، الذي صدر عن جورج بوش، بعد انتهاء الحرب على العراق واحتلاله. وفيه صرَّح من على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية (أبراهام لينكولن) في الأول من أيار/مارس 2003: «لقد أمنا حماية أصدقائنا، ومن العراق سنعيد رسم خارطة المنطقة».

يؤكد التصريح الأول أن الاستراتيجية الأميركية نسخة طبق الأصل عن الأهداف التلمودية اليهودية التي توظِّف إمكانيات أحد أكبر الدول العظمى من أجل تحقيق أهدافها. ويؤكد التصريح الثاني أن احتلال العراق يشكل بداية لتنفيذ ذلك المشروع. ولهذا وبناء على مضامين التصريحين معاً، سنقوم بالبرهان على ما جاء في عنوان المقال.

المقاومة العراقية شكَّلت عقدة النجار في وجه المشروع الأميركي الصهيوني:

لقد تمَّ احتلال العراق، وأنجزت الإدارة الأميركية الشق العسكري منه ليشكل العراق نقطة الانطلاق لتنفيذ المرحلة الثانية، وراحت تعد نفسها من أجل استكمالها، ولكن المقاومة العراقية دقَّت الإسفين الذي عرقل المشروع، وأرغم الجيش الأميركي على تجرع كأس الهزيمة في العام 2011، بحيث راح حلفاء الإدارة الأميركية يستفيدون منها في تقوية مواقعهم لتخليصهم من خطر وضعهم تحت الحكم الأميركي، كقوة وحيدة تجكم العالم. وأما معارضوها فقد استفادوا منها أيضاً لأنها كفتهم مؤونة الصراع معها. وبهذا تكون المقاومة العراقية قد دفعت الدماء والأرواح بينما المستفيدون من نضالاتها لم يدفعوا شيئاً، واستفادوا من نتائجها بكل شيء. وإذا كان الجميع قد استفاد، ولكن أكثرها استفادة كان نظام ولاية الفقيه في إيران، ولأن استفادته كانت على أكثر من صعيد، سياسي وأيديولوجي واقتصادي، سوف نميزه في كلامنا عنه في هذا المقال.

الهزيمة الأميركية في العراق كانت السبب في انتفاخ الدور الإيراني:

كان النظام الإيراني أعجز من أن يحقق هدفاً واحداً في العراق خاصة بعد فشل عدوانه علىه الذي استمر حوال السنوات الثماني. ولأنه تجرع السم عندما وافق على وقف إطلاق النار في 8/ 8/ 1988، راح يمارس التقية، كمبدأ أيديولوجي أساسي، كابحاً جماح شبقه في بناء حكومة عالمية، انتظاراً لظروف ملائمة له. ومارس التقية أيضاً في ستر علاقاته الحقيقية مع أميركا (الشيطان الأكبر)، التي شكلت غطاء خادعاً لعلاقاته المستورة معها، بحيث ظهرت على حقيقتها بعد احتلال العراق. فإذا بالتنسيق بينهما قبل احتلال العراق وبعده كان يمثل الموقف الحقيقي له. وازدادت الحقيقة بالظهور بعد استلامه وراثة احتلال العراق في العام 2011، إثر استلام العراق باتفاقية واضحة وقعها معه باراك أوباما، الرئيس الأميركي الأسبق. وخلاصة القول، نستطيع الحكم بأنه حيثما يكون المشروع الأميركي خطيراً سيكون المشروع الإيراني موجوداً. وظل هذا التنسيق قائماً إلى الوقت الذي فشلت فيه الإدارة الأميركية في تمرير مشروع ما يُسمى بـ(مشروع الشرق الأوسط الجديد).

وبعد أن فقدت الولايات المتحدة الأميركية الأمل في تقسيم الوطن العربي، الذي يعني في نهايته تقسيم الدول الإقليمية المجاورة لهذا الوطن، جاء دونالد ترامب، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية، ليسترد الوديعة العراقية التي وضعها سلفه في عهدة النظام الإيراني. ومنها بدأت الإشكاليات بين الإدارتين تتصاعد وتتكاثر. وأما الأسباب فهي التالية:

ربما لم تستشعر الإدارات الأميركية السابقة خطورة مشروع ولاية الفقيه وجديته، وإذا كانت قد استشعرت خطورته فإنما كانت على ثقة بأنها تستطيع أن تحتويه. ولهذا وثقت به وعقدت معه أكثر من اتفاقية، إشراكه في الحرب ضد العراق أولاً، وتسليمه العراق وديعة لتغطية وقع الهزيمة العسكرية عليها ثانياً. وإذا كان الخميني قد وضع احتمال تأخير (ظهور الإمام المهدي المنتظر) 1200 عاماً أخرى، أو توقَّع عدم ظهوره إلى (أبد الدهر)، فإن الوصول إلى حكم العراق، بعد الهزيمة الأميركية، يكون قد أعاد إحياء حلم (نظام ولاية الفقيه). ساعتئذٍ تدفقت أوراق القوة بين أيدي النظام الإيراني، ومنها وفي المقدمة فتح خزائن العراق لتصب عائداتها في جيوب ملالي النظام، الأمر الذي امتلكوا فيه ثروات هائلة راحوا يستخدمون فوائضها في إعادة إحياء حلم الظهور، فصرفوا منها ببذخ لافت، فانفتحت أمامهم بوابات الحاضنات الشعبية، وأبواب العواصم العربية، وأبواب القوى السياسية. وهذا ما دفع بالملالي إلى العمل على تحقيق حلم يتساوى بخطورته مع خطورة الحلم التلمودي الصهيوني. وهذا ما نعبِّر عنه باختصار. الحلمان يهدفان إلى بناء حكومة عالمية على شتى أنحاء الكرة الأرضية. وكلاهما يهدفان إلى بناء نظام ديني له صفات القدسية. وكلاهما مبنيان على معتقدات أنهما ينفذان (أوامر إلهية). وكلاهما يعدان لمعركة بين الخير والشر في هرمجدون على أرض فلسطين، المنتصر فيها يحكم العالم.

معركة هرمجدون على أرض العراق بين محوريْ الشر:

علماً أن معركة الخير والشر لا تحتاج إلى (رعاية إلهية)، ولكنها تحتاج إلى قوة المال والسلاح. وهنا لا تستوي المعركة بين وعدين إلهيين متناقضين، إله المسيح المخلص، وإله المهدي المنتظر. فكلاهما أضغاث أحلام يستثيران الغرائز الطائفية، الأكثر مالاً وسلاحاً سيكون المنتصر في المعركة، والمنتصر منهما لن يحقق العدالة والمساواة في العراق أو غيره. ولذلك سيكون انتصاره بداية لتأسيس حروب جديدة طالما ظلَّ قائماً على أسس دينية غيبية، وليس صراعهما أكثر من تحميل البشرية أهوالاً جديدة وكوارث جديدة وآلاماً  جديدة، وزيادة في الفقر والمرض، وهذا يؤدي إلى رفضهما معاً.

إن الصراع بينهما على أرض العراق لا يشكل الآن مصدر خسارة لأي منهما، فثمن الصراع وتكاليفه يتم دفعها من دماء وأرواح وثروات الشعب العراقي. كما أنها لا تصب في مصلحة أي كان على سطح الكرة الأرضية، بل هو خسارة لكل شعوب العالم. فمن الأهمية بمكان في هذه المرحلة بشكل خاص، أن يعي العراقيون مخاطر ذلك الصراع لكي لا يكون العراق كبش محرقة بين الخصمين اللدودين؛ وأن لا يدفع الشعب العراقي من جديد تكاليف صراع المشروعين الغيبيين. وإذا كان لا بد من الحصول على نتائج إيجابية مرحلية مما يحصل، فهو أن يواجه الشعب العراقي مشروعاً واحداً لا مشروعين. فالقضاء على مشروع ولاية الفقيه أقصر الطرق لتحرير العراق من الاحتلال الأميركي.

مقاومة مشروع ولاية الفقيه في العراق وانعكاساته الإيجابية على الوطن العربي:

في موازين القوى بين المشروعين المتصارعين، الأميركي والإيراني، تتفوَّق القوة الأميركية، من حيث المال والسلاح، بما لا يُقاس على القوة التي يمتلكها نظام ولاية الفقيه. وبمقارنة سريعة بين القوتين يمكننا وضع الاستنتاج التالي:

-إنه من المعروف أن اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية هو من أقوى اقتصاديات العالم، وترسانتها العسكرية من أقوى تلك الترسانات. هذا هو الواقع بمعزل عما تستطيع أن توفره من دعم من قبل حلفائها.

-ومن المعروف أيضاً أن الاقتصاد الإيراني هو الأضعف لأنه ناء تحت أثقال معركة مع العراق بإمكانياته العسكرية المحدودة، ولهذا يصبح أعجز من أن يواجه قوة كمثل القوة الأميركية. وهذا ما ينطبق على قوتها العسكرية التي تعتمد في الجزء الأساسي منها على الاستيراد من الخارج.

-وأما السبب الذي جعلها تمتلك فائضاً يعزز اقتصادها الذاتي، فكان يكمن في الفرصة التي وفرتها له الهزيمة الأميركية في العراق منذ العام 2011. حينذاك استولى النظام المذكور على الثروة العراقية من خلال استيلائه على مفاصل العملية السياسية الفاسدة التي ترتكز إلى وسائل النهب والسلب لتحصيل أسباب بقائها حاكمة في العراق. ولذلك اعتمدت وسائل النهب التالية:

1-السيطرة على مصادر النفط من خلال استيلائها على المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهذا يعني أن عائدات الثروة النفطية تحوَّلت إلى نوع من الخراج يصب في صناديق (الولي الفقيه) كغنائم حرب. ولأن العراق أصبح مصدر التمويل الأساسي للنظام فقد استخدم من أجل توطيد دعائم احتلاله للعراق بتأسيس عشرات الميليشيات المسلحة التي وظفتها لحماية العملية السياسية وحصرها بأيدي نخبة من السياسيين من جهة، ونخبة من رجال الدين الذي هم أكثر من خدع قطاعات شعبية واسعة في العراق، وكان من أشد مخاطر الأدوار التي لعبتها تلك الطبقة هي أنها أضفت صفة القدسية على العملية السياسية.

إذن، من عائدات سرقة ثروات العراق، وعائدات احتكار أسواقه الاستهلاكية، راح نظام ولاية الفقيه يوظفها في تحقيق الأهداف التالية:

-قسم يتم صرفه لتعزيز مواقع عملائها الكبار في العراق من خلال نهب جزء منها لتكديس ثرواتهم الشخصية.

-وقسم كموازنات لعشرات الميليشيات التي تحرس الوجود الإيراني.

-والفائض الباقي يستخدمه النظام الإيراني من أجل تمويل الحرس الثوري الإيراني كمؤسسة تحمي أمن طبقة الملالي الحاكمة.

و-قسم يتم صرفه على تعزيز المواقع السياسية والعسكرية خارج إيران والعراق وهم من يستخدمهم النظام كأدوات لـ(تصدير الثورة). ولذلك شمل هذا القسم بأعطياته كلاً من أنصارها في سورية ولبنان وفلسطين واليمن.

2-في فترة وجيزة، بعد تسليم أميركا العراق لنظام الملالي حقق مكتسبات عديدة خارج إيران: ومن دون الخوض بالتفاصيل، لأنها أصبحت معروفة، فقد سيطر، باعتراف واضح منه، على أربع عواصم عربية. تلك المكاسب التي نسبها إلى (النصر الإلهي)، ربما عزَّزت عنده الشعور بقدرته على مواجهة أية قوة في العالم. وهذا ما يفسر رفض النظام الرضوخ للأوامر الأميركية التي قضت بإعادة قواعد التحالف بينهما إلى معادلات ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وقبل الهزيمة الأميركية والانسحاب منه في العام 2011.

نظام ولاية الفقيه على طريق الهزيمة في الصراع الأميركي الإيراني:

غني عن القول بأن الطرفين المتصارعين متفقان على سرقة العراق، والهيمنة على الوطن العربي، لذلك لا نرى في نتائج الصراع بينهما أكثر من فائدة مرحلية، هي أن الإدارة الأميركية التي سلَّمت العراق للنظام الإيراني عليها تقع المسؤولية الراهنة في إخراجه منه. وأما مواجهة الأطماع الأميركية لاحقاً فسوف تقع على عاتق الشعب العراقي، وهذا ما سوف نقوم بالإشارة إليه في المقطع الأخير من المقال.

وعن نتائج الصراع، وقبل أن تتأكد على أرض الواقع، فهي واضحة نظرياً. ووضوحها يستند إلى أسانيد عملية ومن أهمها أن من يحسم أي صراع عسكري هما عاملان رئيسان: المال والسلاح. وغني عن القول بأن موازين العاملين، وبما لا يقاس، يمتلكهما الطرف الأميركي. ولأننا نساوي بين أهداف المتصارعين وعدم شرعيتهما، فإننا نرى أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة لأنه يستند إلى مشروع أيديولوجي استيطاني مدعوم بحواضن شعبية مضلَّلة، أو نخب انتهازية مستفيدة من رشواته المالية. ولذلك نحن نعتقد بصلاحية القول: (اللهم نجني من (أصدقائي)، وأما أعدائي فأنا كفيل بهم). ولذلك كما استطاع شعب العراق أن يلحق الهزيمة بالاحتلال الأميركي سابقاً هو الذي يستطيع أن يلحقها به لاحقاً.

هزيمة مشروع ولاية الفقيه يوفر على الوطن العربي تعقيدات كثيرة:

إن أهمية إخراج نظام ولاية الفقيه من التأثير في الساحة العراقية، سياسياً ومالياً، تعني إخراجه من معادلة الصراع الدائر بين الأمة العربية وأعدائها، وهو سوف يوفِّر الكثير من التعقيدات على أزمات العرب في المرحلة الراهنة. فإخراجه من العراق أو على الأقل تقليص نفوذه إلى الحد الأدنى، يعني تعريته من وسائل القوة المالية التي تدرها عليه الساحة العراقية. وغني عن القول أنه لولا سرقات النظام من العراق لما كان يستطيع أن يمد يد العون إلى أي تنظيم أو قوة أو حزب على الساحة العربية. ولذلك يعني إخراجه من العراق انقطاع سبل الحياة أمام مشروعه خارج إيران. وإن تجفيف المال السياسي عن أذرع النظام على الساحة العربية يعني إضعافها إلى الحد الأدنى، وإنه كلما تم إضعاف تمويلها سيتم تقليص قوتها إلى أدنى الحدود، وإن أية حركة من تلك الحركات عندما تشعر أن مشروع ولاية الفقيه قد أصيب بالضعف ستضعف معه أواصر العلاقة التي سوف تصل بمرور الزمن إلى الزوال.

إن إضعاف الحركات والأحزاب القوى السائرة في ركاب مشروع ولاية الفقيه، إضعاف للتيارات الدينية السياسية التي تدين بالولاء للدين والمذهب. وتعزيز الولاء للوطن، سيؤدي إلى تخليص الأقطار العربية التي أُغرقت بمبادئ عابرة للأوطان. وحيثما حلَّت النزاعات التي وضع نظام ولاية الفقيه نفسه طرفاً فيها، سيؤدي إضعاف الحركات الموالية له، وهذا ما يمكن أن يكون بداية لوضع حلول للقضايا الوطنية المستعصية بعد أن تزول من أمامها بعض العراقيل، ولعلَّ من أهمها ضعف المراهنة على قيام دول دينية أو مذهبية، خاصة بعد انهيار أحلام حركة الإخوان المسلمين، والذي يلحق به انهيار أحلام أصحاب نظرية ولاية الفقيه. وهذا ما يحدو بالمراهنين على قيام دولة دينية، إلى العودة إلى مفاهيم المواطنة التي وحدها تضمن العدالة والمساواة بين كل المواطنين.

 

المقاومة الشبابية السلمية استراتيجة ما بعد إسقاط مرحلة الاحتلال الإيراني:

 في أول لقاء لبول بريمر، حاكم العراق العسكري للاحتلال الأميركي، كما جاء في مذكراته، قال إنه كان مربكاً كيف سيواجه أقطاب (المعارضة العراقية) إذا شكوا أمامه عن حجم الدمار الذي لحق ببلدهم العراق. ولكن المفاجأة كانت في أنهم سألوه عن رواتبهم. فكان حكمه عليهم بأنهم مجموعة من المرتزقة اللصوص الذين لا يكترثون سوى بمنافعهم الشخصية.

وفي أول مواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية والنظام الإيراني، أعلن هؤلاء اللصوص أنفسهم، بناء على أوامر قاسم سليماني، أنهم سيحررون العراق من الوجود الأميركي.

ونتساءل: لماذا حصر أولئك اللصوص مشكلة احتلال العراق بمقدار الرواتب التي سيتقاضونها من الحاكم الأميركي. ولكنهم أعلنوا انحيازهم للنظام الإيراني بعد أن أعلن دونالد ترامب قراره باستعادة أموال العراق المنهوبة من قبل حليفه الإيراني لمصلحة الشعب الأميركي؟

وأما الجواب عن ذلك، أن الذين يمسكون بـ(العملية السياسية) هم لصوص. وإن ما يفسِّر وقوفهم إلى الجانب الإيراني على الرغم من أنهم كانوا جنوداً في أجهزة المخابرات الأميركية، كان مقدار ما يجنونه من سرقات. لقد فتح النظام الإيراني أبواب السرقات الخاصة على مصراعيها، وهذا بالطبع أكثر دسماً من قيمة الرواتب التي طلبوها من الحاكم العسكري الأميركي.

إن العملية السياسية أصبحت عبارة عن تلزيمها إلى لصوص، سواءٌ أكانت تحت رعاية الاحتلال الأميركي أم كانت تحت هيمنة النظام الإيراني. ولهذا لن تتغير مناهج الاحتلال أياً كانت صفته، أميركية أم إيرانية، لأن هدف كل منهما نهب العراق لمصلحة غير مصلحة العراقيين. كما أنها لن تتغير لأن المكلفين بإدارتها هم لصوص، يستطيع الواحد منهم أن يغيِّر البندقية الأميركية ببندقية إيرانية، والعكس صحيح أيضاً. ولهذا على هدف إسقاط العملية السياسية في العراق أن يبقى ثابتاً بعد إنهاء مرحلة الاحتلال الإيراني في الصراع الدائر بين الإدارتين الأميركية والإيرانية. وإنه لا تغيير حقيقي في العراق من دون إسقاط إدارة يتولى شؤونها لصوص، همهم أن يسرقوا، سواءٌ أكانت السرقة حسب الطريقة الأميركية أم كانت حسب الطريقة الإيرانية.

في النتائج:

أصبح من الواضح أن تعقيدات الأزمة الراهنة على المستويين العربي والدولي قد ابتدأت في العراق، لأنه كان من الواضح أيضاً، حسب تصريحات من المسؤولين الأميركيين، أن العراق كان البداية في استراتيجية أصحاب (مشروع القرن الأميركي الجديد)، الذي كان يهدف لصياغة نظام جديد في منطقة الشرق الأوسط. وإن هذا المشروع أصيب بالشلل بفعل مقاومة الاحتلال في العراق.

وأصبح من الواضح أيضاً، أن مشروع ولاية الفقيه عاد إلى الانتعاش بقوة بعد أن تسلَّم النظام الإيراني حماية الاحتلال بعد الهزيمة الأميركية. وأن استلامه لاحتلال العراق وفَّر له قوتين، مالية وسياسية. وإن امتلاكه قوة السياسة والمال في العراق، أغراه بإحياء مشروعه الذي كان أشبه بالميت بعد هزيمته في عدوان الثمانينيات من القرن العشرين. ولكن هذا المشروع بدأ يتجه نحو الفشل.

لقد هُزم مشروع اليمين المسيحي المتصهين في العراق. والآن تخوض الولايات المتحدة الأميركية معركة إضعاف الوجود الإيراني في العراق. وسوف تنتهي بهزيمة مشروع ولاية الفقيه. وفي مواجهة المشروعين استطاع الشعب العراقي بمقاومته المساحة، أن يُلحق الهزيمة بالاحتلال الأميركي، ويلعب الآن دوراً كبيراً في ضرب الحواضن الشعبية للنظام الإيراني.

كل ذلك يدفع بنا إلى الاستنتاج أن الأزمات المعقدَّة، العربية والعراقية، بعد إضعاف الاحتلالين في العراق، سوف تؤدي إلى بزوغ ضوء بداية الحلول لتلك الأزمات في نهاية النفق. وتلك المرحلة ستبدأ بالعراق، وتنعكس نتائجها على سورية ولبنان واليمن.

وهل يصح استنتاجنا: إن الأزمات المعقدة، عربياً وإقليمياً، ابتدأت في العراق وستشهد نهاية لها ابتداء منه؟