الطور التكويني للقومية العربية
(... ق. م. – 586 م)
مرحلة تكوين الثورة القومية الثانية:
نهاية طور التكوين، وبداية طور التأسيس
(الحلقة الثانية) (2/ 2)
-نهاية طور التكوين
إذا تم الحصول على العناصر المكونة لشيء ما فيمكن استخدامها من أجل تأسيسه وبنائه من تلك العناصر.
وإذا كان مفيداً تحديد عوامل التكوين، فنرى أنها كانت عبارة عن:
وإذا كان مفيداً تحديد عوامل التكوين، فنرى أنها كانت عبارة عن:
-بقعة جغرافية محددة بمنطقة أرض الرافدين شمال – شرقي، ووادي نهر النيل جنوب – غربي، وشبه الجزيرة العربية جنوب شرقي، وبلاد الشام شمال غربي.
-تاريخ مشترك جمع بين تبادل غزوات ممالكه منذ فجر التاريخ، وتبادل التجارة بينها، وتفاعل حضاراتها.
-مصير مشترك لما تعرَّضت من موجات غزو من خارجها، طوال قرون عديدة من الزمن. عانت فيه من القهر والاستعباد، وتشاركت هموم الإعداد لمقاومة تلك الموجات، وقد توجت ذلك بالتحرر منها كلها بفعل حركة الثورة الإسلامية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية.
-تكوين ثقافة مشتركة على شتى المستويات، وهذا لا يعيبها شيئاً إذا كان التفاعل الثقافي قد حصل في ظل غزوات كانت فيه كل مملكة تمارس القهر على القبائل والشعوب التي تغزوها، فهي كانت بيئة العصر.
- وأخيراً جاء عامل اللغة ليشكل الرابط الضروري بين كل عناصر التكوين القومي العربي.
وهنا لا يمكن مساءلة صانعي عصر التكوين على مكاييل عصرنا الراهن. فعصرنا الراهن عليه أن يستفيد من النتائج الإيجابية للعصور التي سبقته، ناقداً ثغراتها ليبني عليها البديل الذي يستجيب لثقافة العصر الراهن بما يلبي حاجات المجتمعات الجديدة التي نمثل نحن صورة لها.
من مكونات الأمة، كما تم الاتفاق عليها، وهي المكونات التي قمنا بدراستها في مرحلة ما قبل الإسلام، جاءت الثورة الإسلامية لتقوم بالتأسيس عليها، لبناء دولة عربية تأخذ مكانها في عصر الإمبراطوريات القادمة من وراء البحار والحواجز الجغرافية.
وكانت الثورة الإسلامية استئنافاً تاريخياً سياسياً ومعرفياً لطور التكوين الأول، فوظَّفت تلك العناصر للتأسيس لمرحلة جديدة. وهنا يمكننا تقسيم تلك العناصر إلى شقين: عناصر جغراسية، وعناصر معرفية.
1-عناصر التكوين الجغراسياسية:
-الجغرافيا الواحدة التي تصارعت على ساحتها الممالك الأولى، وتمتد من أرض الرافدين إلى وادي النيل، مروراً ببلاد الشام وشبه الجزيرة العربية.
-التاريخ المشترك ويتمثل بالغزوات المتواصلة والمتبادلة بين الممالك التي تأسست وتصارعت إلى أن حان دور الغزو الآتي من خارج تلك البقعة الجغرافية، وكانت أولى الغزوات قدمت من بلاد فارس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد. وتلتها الغزوات التي قام بها الإسكندر المقدوني في الربع الأول من القرن الرابع قبل الميلاد، وحلَّ الرومان مكانهم في القرن الأول قبل الميلاد.
-المصير المشترك: وفيه عانت شعوب المنطقة من وطأة الغزو الخارجي، وإن كانت قد قاومته منفردة، بحيث كانت كل مملكة تقوم بعبء المقاومة منفردة، الا أن وطأة الغزو قد أثقلت كاهل الجميع.
ولذا لعب العنصر السياسي دوره من دون شك في بنية الثورة الإسلامية التي قادها النبي العربي محمد بن عبد الله. والدليل على هذا أنه ما إن كادت الثورة تنجز توحيد الشعوب والقبائل العربية، بمفاهيم زمانها ومكانها، ولم يمض على انطلاقتها الأولى عشر سنين، حتى توجهت أنظار الرسول العربي إلى كل القوى الحاكمة في ممالك الجوار وأباطرتها، فأرسل رسله إليهم مزودين برسائل منه ينصحهم فيها ويدعوهم إلى الإسلام. ووُجِّهت تلك الرسائل إلى المقوقس عظيم القبط. وإلى هرقل عظيم الروم. وإلى النجاشى عظيم الحبشة. وإلى كسرى عظيم فارس.
كانت مرحلة الانقلاب ضد الخضوع لإمبراطوريات الفرس والروم من أهم منجزات الثورة الإسلامية، بحيث كانت عوامل الرفض قد تكوَّنت نتيجة تراكم مزمن ولَّدته كل أشكال الاحتلال والاستعباد التي مارستها الإمبراطوريات التي حكمت هذه المنطقة، فاستعبدت أهلها، واحتكرت ثرواتها لمصالح الشعوب الغازية.
كان من أهم نتائج عناصر التكوين السياسي مجتمعة أنه بعد إلحاق الهزيمة بكل الإمبراطوريات التي حكمت المنطقة قروناً عديدة، بنى العرب تحت الراية الإسلامية إمبراطورية عربية مترامية الأطراف. ولم يذكر التاريخ أن قوماً آخرين من غير العرب كان له فضل الإسهام فيها.
نجحت الثورة الإسلامية فعلاً بهذه المهمة بفترة زمنية قياسية في موطنها في شبه الجزيرة العربية أولاً، إذ أنه منذ انطلاقتها الأولى، في بداية القرن السابع الميلادي، استطاعت أن توحد الجزيرة العربية بعشر سنين تقريباً. فشكلت القاعدة الصلبة التي انطلقت منها لتوحيد المساحة الجغرافية الممتدة من بلاد الرافدين حتى وادي النيل بأقل من خمسين عاماً من الزمن. ولم يمض وقت طويل حتى وصل العرب إلى أقاصي الشمال الأفريقي ومنه امتد إلى شبه الجزيرة الإيبرية (إسبانيا).
لم تشذ الإمبراطورية العربية الإسلامية في عوامل تأسيسها عن سائر الإمبراطوريات التي سبقتها من حيث الإطار الإداري للدولة التي كانت معروفة في تلك المراحل. فهي قد استفادت من التراث الإداري لسابقاتها. ولهذا، وبالعودة لتاريخ تأسيسها، جمعت الخلافة الإسلامية من حولها كل من كانت لديه خبرة في هذا الشأن، والتي بلغت أوجها في المرحلة العباسية، وهي المرحلة التي عرفت بمرحلة التدوين والانفتاح الواسع على حضارات الشعوب الأخرى.
2-عناصر التكوين المعرفية:
أما العنصر المعرفي: التجديد في بنية الأديان السماوية: خاصة أن دعوة التوحيد كانت تتفاعل في ثقافة شريحة من العرب، المعروفين بـ«الأحناف». جاءت نتيجة التراكم والتواصل المعرفي في التراث الروحي لشعوب المنطقة، بدءاً من مرحلة عبادة الأوثان، مروراً بالديانة اليهودية، وصولاً للديانة المسيحية، وهي الديانة التي أسست دولتها البيزنطية بعد طول اضطهاد للمسيحيين. وبمراجعة النصوص ذات العلاقة نلحظ بوضوح عوامل التواصل المعرفي بين عناصر المعارف الأولية لتكوين الأديان الوثنية، وعناصر التكوين المعرفي للأديان السماوية.
لقد تعددت الديانات في المنطقة التي ندرس تاريخها بمقدار تعدد الشعوب والعشائر، كما تعددت بمقدار تعدد الممالك الحاكمة في المنطقة. وتساعدنا الدراسات التاريخية لذلك الطور التاريخي، على قلتها وعدم اكتمال بعضها، للوصول إلى استنتاجات أساسية يمكن البناء عليها، ومن أهم تلك الاستنتاجات حصول عاملين أساسيين يدلان على أن تكوين السكة المعرفية كانت واحدة عند شعوب المنطقة. وهذان العاملان هما:
-حركة التواصل والاحتكاك المعرفي بفعل الغزوات المتبادلة.
-وحركة التفاعل بين معارف تلك الشعوب التي كانت تنتج بشكل متواصل نتائج معرفية جديدة.
أما حركة المعرفة فتنقسم إلى نوعين:
-حقل المعارف العامة المختصة بالعلوم المادية. وهنا شاهدنا امتياز كل شعب أو مملكة بالنبوغ في ابتكار الوسائل الحضارية من علوم فلكية وزراعية وصناعية وحربية... هذا ناهيك عن الحضارة العمرانية التي أنتجت أكثر عجائب الدنيا السبع.
-وحقل المعارف الروحية المتعارف عليها بالأديان. وهي ابتدأت بعبادة ظواهر الطبيعة، وتفسير التكوين البشري الأول. وانتهت بظاهرة الأديان السماوية الموسوية والمسيحية والمحمدية. وإذا كانت الشعوب البشرية قد أسهمت في صياغة أسس الديانات الوثنية، ومنها شعوب المنطقة التي تعربت، فإن المنطقة العربية التي نقوم بدراسة تاريخها قد تفرَّدت بظاهرة الأديان السماوية التي عمَّت إيديولوجياتها شتى أنحاء الكرة الأرضية.
أما المنتمون إلى الأديان السماوية، الذين نظروا إلى الكون بعيون قطع المراحل التاريخية عن سابقاتها، وجمدوا التاريخ عن التطور، وأنهوه عند المراحل التي حسبوا أنها تشكل نهاية للتاريخ، فقد حسبوا أن معتقداتهم كانت جديدة كلياً، وقطعوها بشكل قسري عن حركة التاريخ، لأنهم لم يعتقدوا أن التاريخ متحرك، يستفيد اللاحق من السابق ويفيد ما سيأتي من بعده.
إن الأديان السماوية، على الرغم مما قدَّمته للبشرية من تطور وتجديد روحي، فقد اختصر المؤمنون بها كل الفكر البشري بإيديولوجيتها، ولم يعترفوا بأنها حلقة في سلسلة التراكم المعرفي الذي سبقها، وستشكل هي نفسها حلقة في سلسلة التراكم المعرفي الذي سيخلفها.
لم يشذ الإسلاميون عن مسار تجميد التاريخ المعرفي للبشرية عن غيرهم، بل هم أغرقوا في ذلك أكثر من غيرهم في البيئة الثقافية العربية لأن الإيديولوجيا الإسلامية لا تزال تشكل ثقافة الأكثرية العربية. وبسبب هذا التجميد فقد بتروا التاريخ السابق لانطلاقة الثورة العربية الإسلامية ووصفوه بالتاريخ الجاهلي، أي تاريخ الشعوب التي تميزت بالجهل والأمية، وهم فعلوا ذلك لتضخيم دور الإسلام بتقزيم دور غيره.
كان الأحرى بهؤلاء أن يعتبروا أنه لولا التراكم المعرفي الكبير الذي سبق الإسلام لما كان للإسلام هذا الدور الكبير. كما كان الأحرى بهم أن يعترفوا بأن الإسلام جاء بعظمته لأنه بُنيَ على أساس نقدي معرفي لتراث الشعوب والقبائل التي سبقته. فهو قد نبت في بيئة معرفية متقدمة عالمة وليست بيئة جاهلة.
كان يمكننا أن نتابع منهجنا في البحث بطريقة علمية، نعتبر فيه أن مراحل تكوين الأمة العربية قد استوفت شروطها العلمية والتاريخية في المنطقة التي نقوم بدراستها، لكن ما جعلنا نقف عند المرحلة التي سبقت الإسلام، هو أننا وجدنا مساحة فارغة لم تأخذ حقها من الدراسة الموضوعية من أجل إملائها خاصة وأن الإسلاميين استغلوا هذا الفراغ من أجل تجهيلها لأهداف أكبر، ويأتي في المقدمة منها هدف نفي وجود قومية عربية، وبالتالي من أجل نفي أن تكون هناك أمة عربية.
من أجل إملاء ما يعتبره الإسلاميون فراغاً معرفياً لتدعيم معتقداتهم السلبية ضد القومية العربية، سنعمد إلى البرهان على أن مرحلة ما قبل الإسلام لم تعرف مثل هذا الفراغ، بل كان هناك تراكم معرفي أسس الإسلام عليه من خلال نقده له وجاء بنتائجه المميزة التي انعكست إيجابياً على نقل القومية العربية من مرحلة التكوين إلى مرحلة التأسيس.
وإذا لم نعط كامل اهتمامنا للجانب المعرفي في شقه الحضاري المادي، فهناك من هم أقدر منا على تحليل هذا الشق. ونحن نكتفي بما قمنا به من تكثيف هذا الجانب في القسم الأول من الدراسة، تحت عنوان أن حضارة منطقتنا كانت السباقة في التاريخ، وكانت الأكثر تقدماً في ظروف زمانها ومكانها، وكانت تشكل مصدراً فاعلاً في حضارات الشعوب الأخرى. ولأن هدف بحثنا محدود في جوانب العوامل الفكرية والروحية التي أسهمت في اندلاع الثورة العربية على أساس العقيدة الإسلامية، فسنولي اهتمامنا ونحصره في البحث عن عناصر تكوين المعرفة الروحية عبر طور التكوين القومي العربي في مرحلة ما قبل الإسلام.
إنه من أهم ما شكَّل مرجعاً لنا، في هذا الجانب، كان كتاب «مغامرة العقل الأولى» الذي نشره الباحث السوري فراس السواح. وسبب اختيارنا له هو أنه قام بمقارنة النصوص ذات العلاقة بموضوعنا، وهي النصوص التي ثبتت صحتها. فالبناء عليها لن يحدث أي خلل بموضوعية النتائج، ولن تستطيع الإيديولوجيا أن تؤثر من قريب أو بعيد على تلك النتائج.
وهنا سنتناول أهم النصوص التي تدل على أنه لم يكن هناك انقطاع معرفي بين طور التكوين القومي العربي، في مرحلة الوثنية والأديان السماوية الموسوية والمسيحية، التي سبقت الإسلام، وهنا سنقوم ببعض الاقتباسات الوثائقية التي تؤكد ما رحنا إليه.
أولاً: سفر البداية:
جاءت النصوص متطابقة بين النص الوثني من جهة، ونص الكتب السماوية من جهة أخرى، وهذا الدليل:
-(أسطورة بابلية):«في تلك الأزمان الأولى. لم يكن سوى المياه».
-(التوراة): «في البدء خلق الله السموات والارض، وكانت الارض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه» (تكوين 1).
-قرآن كريم (هود - 7): ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾.
ثانياً: فصل السماء عن الأرض:
-(أسطورة بابلية): «يقوم الإله مردوخ بشطر جسد الإلهة تعامة، المياه الأولى، إلى نصفين، فيرفع الأولى سماء، ويبسط الثاني أرضاً». (نص أسطورة الأنيوما إيليش).
-(التوراة): «يفصل يهوه، المياه الأولى إلى شطرين، رفع الأول إلى السماء، وبسط الثاني الذي تجمع ماؤه في جانب، وبرزت منه اليابسة في جانب آخر». (العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الأول).
-(قرآن كريم) (الأنبياء/ 30): ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.
ثالثاً: سفر خلق الإنسان من طين:
-(أسطورة بابلية): «إمزجي حفنة من طين، من فوق مياه الأعماق، وسيقوم الصناع الإلهيون بتكثيف الطين و(عجنه). ثم كوِّني له أعضاءه».
-(التوراة): «وجبل الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفساً حية». (سفر التكوين، الإصحاح الأول).
-(قرآن كريم) (الرحمن/ 3 – 4): ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
رابعاً: سفر الفردوس الموعود:
نتيجة الاستبداد الذي كان يمارسه القوي على الضعيف، منذ مراحل التكوين الأولى، صار الإنسان إلى حالة من الإحباط المزمن، ولكنها تجلت في حلم التغيير نحو عالم يرتاح فيه الإنسان، فكانت أساطير الجنة حلماً يعبِّر فيه الإنسان عن آماله. وقد صاغ الإنسان منذ العهد السومري أساطير عن هذا الحلم. وأسست الأسطورة السومرية لأساطير الجنة. ومن أهمها أسطورة «دلمون» التي هي عبارة عن الجنة السومرية البابلية، وهي مرتع الآلهة الخالدين، ومرتع للبشر ممن أُسبغت عليهم نعمة الخلود. وقد طوَّرت الأديان السماوية الفكرة/ الحلم:
-العهد القديم: (سفر التكوين، 15: 17): «وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من شجر الجنة تأكل أكلاً واما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها».
-قرآن كريم (البقرة – 24): ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجتك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة﴾.
خامساً: سفر الفردوس المفقود:
-(التوراة): «لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة، التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها. ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك... بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها. لأنك من تراب وإلى التراب تعود». (سفر التكوين، الإصحاح الأول).
-(القرآن الكريم) (سورة طه): ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120)، فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ (123).
سادساً: سفر قابيل وهابيل:
-جذور القصة في النصوص السومرية: يحصل خصام بين (إيميش) الراعي، و(انتين) المزارع، فيذهبا إلى (أنليل) ليحكم بينهما. فيفضل (أنليل) المزارع على الراعي...
-العهد القديم (سفر التكوين 4 – 5): «فنظر الرب هابيل وتقدمته وإلى قايين وتقدمته لم ينظر».
-قرآن كريم (المائدة – 27): ﴿واتل عليهم نبأ آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين﴾.
سابعاً: سفر الطوفان:
يعود تأسيس أسطورة الطوفان إلى المرحلة السومرية، وهو يشكل الخطوط العريضة لكل أساطير الطوفان اللاحقة، ومنها كتاب التوراة، وقد نقلها القرآن أيضاً. وهذه الخطوط تتلخص بـ«قرار إلهي بتدمير الحياة على الأرض، واختيار واحد من البشر لإنقاذه، واستمرار الحياة من جديد بواسطة الناجي». وهذه النصوص التي صوَّرت تلك الأسطورة:
-(أسطورة بابلية): «قوِّض بيتك وابنِ سفينة، إهجر ممتلكاتك، وانجُ بنفسك أترك متاعك وانقذ حياتك. واحمل فيها بذرة كل ذي حياة».
-(العهد القديم/سفر التكوين، الإصحاح السابع – 1): «قال الرب لنوح أدخل السفينة أنت وجميع أهلك فإني إياك رأيت باراً أمامي في هذا الجيل».
-(قرآن كريم: سورة هود – 7): ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
ثامناً: مقارنة بعض القوانين:
-قانون حمورابي 196: «إذا، فقأ سيد عين ابن أحد الأشراف، فعليهم أن يفقؤوا عينه». ومن 197 ـ 200: «إذا كسر سيد عظم سيد آخر، فعليهم أن يكسروا عظمه. إذا قلع سيد سن سيد من طبقته، فعليهم أن يقلعوا سنه».
-قانون التوراة: «الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن» (لاويين 24:20).
-قانون القرآن (المائدة: 54): ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
من نتائج التراكم المعرفي الروحي في عصر التكوين العربي:
-وحدانية الإله عند إخناتون في مصر، وتبعتها ديانة موسى في سورية. وهذا ما سنلقي عليه بعض الأضواء من خلال ما يُسمى بعناصر التكوين التوراتي:
-هجرة إبراهيم من مدينة أور الكلدانية، واستقراره في أرض كنعان بفلسطين. وفرار موسى من مصر إلى فلسطين (1300 ق. م.). والسبي اليهودي إلى بابل (600 ق. م.) على يد نبوخذ نصر. وقد استفاد اليهود من وجودهم في بابل من خلال مسألتين، وهما: مسألة تدوين التوراة التي لم تكن قد دُوِّنت قبل السبي. والثانية اطلاعهم على آداب وديانة وأساطير ثقافة أرض الرافدين.
ويحسب البعض أن موسى كان قائداً عسكرياً من أتباع ديانة آتون، وهي أول ديانة توحيدية معروفة تاريخياً، أسسها الفرعون إخناتون. ولما هلك أخناتون، ودمر كهنة الديانات التقليدية كل ما بناه، تفرق أتباعه وأهله. ففر موسى من مصر لمتابعة الرسالة. وتتابع هذه النظرية لتزعم أن اليهود بعد خيباتهم المتلاحقة قتلوا قائدهم، وهو ما أدخل على اليهودية فكرة «المسيح المنتظر» الذي سوف يعود لقيادة شعبه.
وهنا نستعرض أسس نظرية التوحيد الإلهي التي سبقت الإسلام:
أ-عقيدة التوحيد اليهودية: الديانة الآتونية والديانة الموسوية تصران على وحدانية الإله. كما تمنعان تصوير الإله ونحته، لذلك حطم أخناتون كل التماثيل. ولا تؤمنان بفكرة البعث والحساب في الآخرة.
ب-عقيدة التوحيد المسيحية: يرجع علماء التاريخ المسيحي أن العقيدة التوحيدية كانت أسبق في الظهور من عقائد التثليث التي لم تظهر إلا في الرابع الميلادي. ومن أهم جذور هذه العقيدة في تلك الفترة نستعرض أهمها:
-كورنثوس (المتوفى سنة 73م). الذي اعتقد أن السيد المسيح كان مجرد إنسان بارز، وتبعت كورنثوس طائفة من المسيحيين.
-فرقة الأبيونيين التي نشأت في القرن الأول الميلادي: وكان أتباعها يعتقدون أن المسيح هو المخلص الذي بشر به العهد القديم (التوراة)، وأنه ذو طبيعة بشرية خالصة، وأنه إبن الله بالتبني، وأنكروا معجزة الميلاد العذروي.
-ومن أشهر من تبنى عقيدة التوحيد، هم: ديودوروس (الذي كان أسقفاً لطرطوس)، بولس الشمشاطي (كان أسقفاً لأنطاكية) والذي أنكر ألوهية المسيح وقرر أنه مجرد بشر رسول، خلقه الله كما خلق آدم. وآريوس (أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية).
-أما في المشرق فقد تأثر نسطور أسقف القسطنطينية بآراء آريوس فأنكر ألوهية السيد المسيح، وصرح بأنه إنسان نبي فقط.
ج-عقيدة التوحيد في الجزيرة العربية: وهل لم تكن تلك العقيدة الاسلامية في التوحيد إلاَّ امتداداً للحركة النقدية المسيحية التي نبتت في المنطقة العربية؟ وهنا ماذا يعني تيار الأحناف الذي كان منتشراً في شبه الجزيرة العربية؟ ألم يكن أحد مظاهر الحركة النقدية التي مهَّدت للثورة الإسلامية؟
ومن أهم معالم الحضارة الروحية، التي سبقت الدعوة الإسلامية، شكل «تيار الأحناف» بيئة ثقافية في دعم الحوار الديني وتنميته باتجاه التوحيد الخالص. وحاول كلّ واحد منهم أن يلتقي مع أحبار ورهبان الأديان الأخرى، والدخول معهم في حوارات جعلت وعيهم الديني أكثر صفاءً، وأكثر قدرة على الانتقاد، ليس انتقاد عبادة الأصنام والأوثان فحسب، بل انتقاد الوثنية داخل الأديان الأخرى أيضاً. ومع جيلهم الأول أصبحت القراءة والكتابة ضرورة اجتماعية ملحّة للحنيفي بالدرجة الأساس، تدعمه في بحثه عن الدين سواء على مستوى القراءة أو التثبيت، فكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويتسقّطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. وقد استخدم الأحناف كل الوسائل المتاحة لاكتساب المعرفة ونشرها، ومن أهم تلك الوسائل، كانت: مواسم الأسواق العربية قبل الإسلام، ومواسم الحج، وأندية القبائل الخاصة، والمراسلات ... وعرفت الجزيرة العربية ظاهرة انتشار خطباء الحنيفية تماماً كانتشار الخطباء في باريس قبل الثورة الفرنسية، كانت هناك حمّى للإصلاح اجتاحت الجزيرة العربية بأكملها قبل الإسلام (<!--[if !supportFootnotes]-->[1]<!--[endif]-->).
د-عقيدة التوحيد الإسلامية:
أما النص الإسلامي الذي عبَّر عن عقيدة التوحيد فقد أوجزته الآية التي قال فيها الرسول الكريم «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ». وهي: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ / اللَّهُ الصَّمَدُ / لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ / وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.
وبمقارنة سريعة بين ما نادت به العقائد التوحيدية التي نشأت في المسيحية مع ما جاء في سورة التوحيد الإسلامية، لخرجنا بنتيجة أساسية وهي أنها أكَّدت تلك المضامين، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن الدعوة الإسلامية إنما كانت أحد أهم نتائج الحركة النقدية الدينية التي تكوَّنت عناصرها عبر قرون عديدة من الزمن.
انتهت الدراسة الأولية لمرحلة التكوين، ونأمل في المستقبل أن نقوم بتطويرها.
كما نأمل أن ننجز دراسة عن مرحلة تأسيس الثورة الثانية في تاريخ العروبة (الدولة العربية الإسلامية)،
لنصل بعدها إلى دراسة تتناول دراسة مرحلة تكوين الثورة الثالثة في تاريخ العروبة (الدولة القومية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق