ملخص البحث
ليس موضوع بحثنا من المسائل الفكرية الشائكة فحسب، وإنما هو في الأساس من الإشكاليات التي تواجه الفكر القومي أيضاً. ففي البحث، حول إشكالية علاقة الدين بالقومية، يتواجه الباحث بعدد من الإشكاليات، ومن أهمها مسلَّمات »التابو« التي تتميَّز بها مجتمعاتنا.
يصطدم الباحث في المسائل الدينية بعدد من المحرمَّات، فالتابو يفرض صعوبات أمام المتغيرات الفكرية، تعيق العاملين في حقل التغيير السياسي والفكري عن القيام بمهماتهم. ولأن مسألة الدين هي من أكثر المسائل دقة وحساسية في البيئة العربية والإسلامية، عانت الحركات السياسية القومية التقدمية، من إشكالية تحديد نوع الخطاب الفكري الذي يوفر لها دخولاً سلمياً، وليس صدامياً، إلى المجتمعات المتدينة.
تولَّدت الإشكالية بين الخطابين القومي والديني منذ اللحظة التي وُلد فيها فكر وضعي قام على أنقاض فشل الفكر الديني عن مواكبة التغيير في حياة الأمم. في حينها أخذ الفكر القومي، كفكر وضعي، يخوض صراعات كانت تدور بينه، كمرجعية فكرية قومية، وبين المرجعيات الفكرية الدينية. ولأننا نعمل تحت مظلة مرجعية فكرية قومية، وفي بيئة اجتماعية مُشبَعة بالثقافة الدينية، نجد أنفسنا معنيين بشكل مباشر، وبحاجة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، بمعالجة إشكالية العلاقة بين الفكرين القومي والديني.
قمنا بتعريف الظاهرة الدينية، فوجدنا أنها تشكل صنواً للجانب الروحي النفسي عند البشر، وهي مسألة أساسية في تفسير ثنائية الجسد والروح ولم نجدها منفصلة عن السياسة والاقتصاد، بل كانت ذات أهداف اقتصادية واجتماعية. وحيث إنها تبشِّر بشرائع تحسب أنها ذات مصدر إلهي، ترى أنه لا مغزى لوجودها من دون العمل في سبيل تأسيس دولة دينية تطبِّق تلك الشرائع.
وجدنا، أيضاً، أن الدولة الدينية فشلت في توحيد المجتمعات، بعد أن خضعت للتجربة خلال قرون عديدة. ولأن للبُعد الروحي دوراً أساسياً في تكوين الإنسان النفسي والفلسفي. وردَّاً على إشكالية التوفيق بين حاجة الإنسان للبُعد الروحي وبين فشل النظام السياسي الديني، وجدنا بعد دراستنا وتأصيلنا لحركات الإسلام السياسي، في الماضي وفي الحاضر، أن تلك الحركات تختزل البُعد الروحي في تعاليمها الخاصة، كما أنها تُنكر صلاحية تعاليم الأديان الأخرى في تمهيد طريق الخلاص في الآخرة، فتُكفِّرها. وهي تُنكر صلاحية أية مركزية فكرية أخرى كطريق للسعادة في الدنيا، لأنها لا تعترف بأية مركزية فكرية أو سياسية لا تقوم على مبادئ التشريعات الدينية. ولأن تلك الحركات تكتسب قوَّتها من قوة انتشار الثقافة الدينية في أوساط شعبية واسعة، نرى أنه لا بُدَّ من الحوار معها ومع أفكارها. أما هل يكون الحوار مجدياً أم غير مجد، فهي الإشكالية التي علينا أن نعالجها. فهي إن رفضت الحوار، وهذا هو الاحتمال الأرجح، فعلى الباحثين والمفكرين القوميين أن لا يقفوا موقف الحياد من الفكر الديني، بل من واجباتهم أن ينخرطوا في ورشة نقدية لمناهج المعرفة القديمة في سبيل صياغة قواعد معرفية معاصرة تخدم أهداف قيام الدولة القومية الحديثة.
قمنا، من خلال بحثنا هذا، أو من خلال أبحاث أخرى منشورة، بتفصيل عدد من الاقتراحات على طريق الإسهام في معالجة جوانب الإشكالية المطروحة. ولذلك نحسب ما يلي:
لا يمكن الحوار مع ما يُسمَّى بالحركات السياسية الإسلامية من دون القيام بدراسات نقدية تتناول شتى جوانب اتجاهاتها الفكرية والسياسية، ولأن الحركة النقدية لا بُدَّ من أن تتناول التشريعات الدينية، دعا البعض إلى تأجيل العمل بهذا الجانب، خاصة في مراحل التحرر الوطني والقومي. وردَّأً على الداعين إلى تأجيل الحركة النقدية وجدنا أن دعوتهم هو تأجيل للمشكلة، وفي مرحلة تأجيلها ينمو عدد من المشكلات الأخرى، ومن أهمها:
أولاً: إن التأجيل يفاقم خطورة تلك الحركات أكثر لأنها تحفر كل يوم في عواطف المتدينين بما يتنافى مع وحدوية المجتمع في الوقت الذي تتَّخذ فيه الحركة القومية موقف الحياد من تلك المسألة تحت ذريعة أن الوقت غير مناسب.
ثانياً: إن تلك الحركات، لا تعترف بالأساس –الآن وفي المستقبل- بصلاحية أي تغيير تشريعي وضعي، وسوف تقوم بعد أي إنجاز وطني بإرباك ومحاربة الحركات الفكرية والسياسية التقدمية والقومية.
ليست المسائل الفكرية إلاَّ في القلب من أي عمل وحدوي في التجمعات البشرية. وما لم يكن لتلك التجمعات مرجعيات فكرية مركزية فلن تعرف أي سبيل إلى توحيد أهدافها ووسائلها. ولا يمكن أن يكون لمجتمع ما مركزيتان فكريتان متناقضتان، كمثل الثنائية السياسية الكامنة في الخلاف حول الخيار بين الدولة الدينية أو الدولة القومية. فوجودهما، لا يدخل في دائرة التعددية السليمة. بل ما يصح أن نسميه تعددية سليمة هو تعدد الآراء والرؤى في داخل مركزية فكرية واحدة، وهذا لا ينطبق على الإيديولوجيا الدينية لأنها تفتقد لعامل الحوار مع الآخر.
فهل يمكن أن نبني دولة دينية ترفض كل مظاهر وتشريعات الفكر القومي؟ أو هل يمكن أن نبني دولة قومية تضمن حرية الاعتقاد الديني؟
ولأننا من دعاة الدولة القومية التي تضمن حرية الاعتقاد الديني، يصبح من واجبنا أن نعرف أين يقع دور الدين في حدود تشريعات الدولة القومية، لأن هناك استحالة المزاوجة بين التشريعين الديني والقومي، لأن المزاوجة بينهما يولِّد دولة هجينة لا يُكتب لها الاستمرار وطول البقاء. والسبب في ذلك، وعندما تتدخَّل الحالة الدينية في شؤون السياسة الدنيوية، سوف تفترق التعدديات وتتشرذم، فتتكافر وتتصارع.
يؤسس عمق الإيمان بالفكر القومي لصياغة مبادئ لا تخشى ولا تتردد، فلهذا لن تقع في متاهات التوفيق ابتغاء كسب سهل من هنا، أو كسب سهل من هناك. فتحديد المبادئ القومية بوضوح هو خطوة أولى وأساسية، لأنها تشكل البوصلة التي تساعد الربان على توجيه السفينة في مواجهة شتى الظروف والمصاعب. أما سياسة توجيه السفينة في أحوال جوية غير محسوبة، كمثل اعتماد المرونة والهدوء في الخطاب الديني لمنع استفزاز عواطف المتدينين، فتعود إلى تكتيكات يحددها الربان حسب الحال التي يواجهها.
من مهمات الفكر القومي أن يتصدى إلى مسألتين متكاملتين: الأولى أن يجدد نفسه باستمرار، ويواكب آخر تطورات العصر الفكرية. أما الثانية، فهي أن ينخرط المفكرون القوميون في ورشة فكرية نقدية للمذهبيات والطوائفيات، بجرأة وموضوعية، وأن يبرهن على خطورة المذاهب والطوائف على وحدة المجتمع القومي.
من أهم مظاهر خطورة الأديان والمذاهب أنها، من خلال تعددياتها الثقافية، تقوم على مبادئ التكفير، أي أنها ترفض الآخر. أما صلاحية الفكر القومي فلأنه يرفض التكفير ويشجع التعددية السليمة، فالثقافة القومية هي السبيل الأساس في وحدة المجتمع، لأنها تستند إلى الاعتراف بأهلية الآخر، وتحترم اعتقاداته الإيمانية.
يكون الفكر القومي، بمعنى من المعاني فكراً تجديدياً للفكر الديني. ويكون من أهم ما يجدد فيه هو أن يجمع كل التعدديات الدينية تحت سقف فكري قومي واحد. ولا يمكن لأية تعددية دينية أو مذهبية أن تنمو نمواً سليماً وصحيحاً إلاَّ بمقدار ما تكون صادقة الولاء لقومياتها، فهي بدون صدقها سوف تكون ثغرة في الجدار القومي الذي تتسلل منها كل التيارات المعادية للدولة القومية.
لكي تنصهر التعدديات الدينية والمذهبية في داخل فكر قومي أو وطني واحد، نرى أنه من واجب المفكرين القوميين الإسهام في عملية التجديد في الفكر الديني، ودفع المحاولات الجارية إلى أمام. هنا، يحسب البعض أن التجديد في الفكر الديني هو شأن من شؤون الفقه والفقهاء ورجال الدين وحدهم، بينما نرى نحن أنها في الأساس شأن من شؤون المفكرين القوميين أيضاً، لأنه لا يمكن أن يكون الفكر القومي مبرراً أمام مئات الملايين من العرب، المسلمين منهم بشكل خاص، إذا لم تثبت سلبيات تجميد الفكر الديني.
أما كيف نساعد في توليد عملية التجديد؟
نستطيع ذلك، كما نحسب، إذا نقضنا بموضوعية ادِّعاءات السلفيين الرافضين التجديد في النص الإسلامي، استناداً إلى القواعد الفقهية التقليدية حول الناسخ والمنسوخ. ونحسب، أيضاً، أنه لا بُدَّ من الخوض في هذه الإشكالية على الرغم من وعورتها، ولنا شخصياً أبحاث تصب في هذا الهدف. وجدنا من نتائجه أنه من غير الصحيح، أن النص محكوم عليه بالتجميد، بل وجدنا من الحجج النقلية والعقلية ما ينقض حسابات الفقهاء.
كما وجدنا من خلال قناعتنا حول ثنائية الجسد والروح عند الإنسان، وبعد اقتناعنا بعدم صلاحية الدولة الدينية، أن رفضنا الدولة الدينية، لا يعني رفضاً لوجود فلسفة عن الكون. فليست مهمة الفكر القومي مادية فحسب، بل مهمته أن يولي الجانب الروحي النفسي الأخلاقي اهتماماً يتناسب مع ثنائية تكوين الإنسان أيضاً.
وهنا لا بُدَّ من الحذر الشديد في الخلط بين القيم الإنسانية العامة، ذات الأصل الفلسفي الإنساني، وبين القيم الخاصة التي يؤمن بها أصحاب مختلف الأديان والمذاهب. فكل ما هو إنساني عام في فكر الأديان والمذاهب هو من أساسيات التكوين الروحي والنفسي للبشر. وكل ما له علاقة بخصوصيات الأديان والمذاهب هي من الاختيارات الخاصة التي تعني حرية الاعتقاد الشخصي، لكن على أن لا تمسَّ حرية الاعتقاد عند الآخرين. ولا يمكن أن تكون خصوصيات دين أو مذهب مقياساً يقيس عليه الفكر القومي قواعد الإيمان الروحي أو الديني عند سائر مواطني الدولة القومية.
***
الإشكالية بين الفكرين القومي والديني
تواجه الأمة العربية في المرحلة المعاصرة، كما واجهت منذ عدة أجيال، عدداً من التحديات الخارجية، ومن أهمها ظاهرة الاستعمار الخارجي، الذي اتَّخذ لنفسه عدة أشكال وألوان.
أما حول قيام التحدٍّي الاستعماري والحقيقي للأمة العربية فتعود بداياته إلى نهاية الشكل الوحدوي العثماني التركي الإسلامي، في الربع الأول من القرن العشرين، حينذاك توارثت تركته دول أوروبا الاستعمارية، التي مثلَّت الوجه القديم للاستعمار على أساس خرائط سايكس بيكو التقسيمية ووعد بلفور الاستيطاني. ثم ورثته الولايات المتحدة الأميركية، الوجه الجديد للاستعمار، والذي ما زلنا نعيش في مرحلته. نتيجة تلك النقلة تواجهت الأمة العربية بعدد من التحديات التي أفرزها الاستعمار بحلته القديمة وأورثها للاستعمار الجديد بحلته الجديدة. منذ تلك اللحظة أفرزت المشاريع الاستعمارية تحديين أساسيين، وهما: مواجهة الاستعمار بأهدافه الاقتصادية التي تعمل من أجل إخضاع الاقتصاديات العربية للنهب والتبعية من جانب، وإلى مواجهة الصهيونية، كدرع متقدم ومباشر للمخططات الاستعمارية من جانب آخر. ويقتضي تحقيق تلك المصالح المحافظة على التجزئة القطرية.
إذا كانت عملية الفرز بين الأمة العربية وأعدائها واضحاً للعيان ولا يحتاج إلى كثير من الجهد لتحديده، فإن الجانب الآخر، الذي يتعلق بالواقع الداخلي للأمة هو ما يحتاج منا الكثير من الجهد لكي يتحوَّل إلى دائرة الضوء والوضوح. ففي الواقع الداخلي للأمة إشكاليات عديدة، منها ما يطول واقعها الجغرافي والسياسي، والمعروف بواقع التجزئة كما فصَّلته اتفاقية سايكس بيكو، ومنه التشرذم الفكري والإيديولوجي الذي يلحق أكبر الأذى في الوحدوية الفكرية والعقائدية للمجتمع العربي.
على قاعدة المواجهة بين الأمة وأعدائها لا بُدَّ من مواجهة وحدة القوى المعادية: الاستعمار والصهيونية بوحدة القوى القومية. لكن للأسف الشديد تحول دون وحدة الجهود وتجميعها وانصهارها بعمل نضالي إشكاليات داخلية كثيرة، ومن أهمها: الاتجاهات القطرية السياسية والفكرية، والاتجاهات الثقافية العشائرية، والاتجاهات الثقافية الدينية، والاتجاهات الثقافية المذهبية في داخل الدين الواحد.
تصب تلك الإشكاليات، كما نحسب، في دائرة الانقسام والتفتت والشرذمة في الجهود، فتأتي الصراعات الداخلية بين تلك الاتجاهات لتحول دون تحقيق وحدوية نضالية تقف في وجه التحديات القادمة من الخارج، والتي -غالباً- ما تستند وتراهن على واقع التشرذم الداخلي.
ولأن الإشكاليات الداخلية عديدة ومتفرعة ومتداخلة، وقد تتحالف وتتلاقى على قاعدة تأمين مصالحها الضيقة على حساب الوحدوية، سوف نختار، كموضوع لبحثنا الذي نسهم فيه في هذه الندوة عنواناً لإشكالية قديمة جديدة وهي الحركات الأصولية الإسلامية في المرحلة المعاصرة، والتي كانت تُعرَف في التاريخ الوسيط والقديم بالفرق والمذاهب الإسلامية.
إذا كانت القطرية ذات مصالح لها علاقة بالاستفادة الاقتصادية، وإذا كانت العشائرية ذات وجه اجتماعي يمكن العمل على إزالتها بواسطة أساليب من التربية الاجتماعية والمراس السياسي، تبقى المذهبية والفرقية والتعصب الديني من أكثر الإشكاليات إثارة للاهتمام للأسباب التالية:
-تستند الإيديولوجية الدينية إلى رؤى غيبية تتعلق بالعاطفة والوجدان والخوف من المصير في الآخرة.
-يقوم التبشير الديني على تنبؤات لها علاقة بمصير الإنسان في مرحلة ما بعد الموت، بحيث يستطيع أي إنسان له من القدرة على تصوير الغيبيات تصويراً قريباً إلى مخيلة العامة من الناس أن يؤثر على أعداد هائلة ممن لا يمتلكون قوة التحليل والنقد، فيغدق عليهم الوعود في النجاة في الآخرة.
-تستند قوة الإقناع عند رجال الدين من خلال تصوير أنفسهم أنهم –استناداً إلى تكليف إلهي- ممثلون للمشيئة الإلهية على الأرض، ولا يمكن لخلاص الأنفس في الآخرة أن يتم بيسر وسهولة من دون المرور بوساطتهم.
-ولأن إيديولوجيات الأديان لها قوة : »الوحي الإلهي«، أي قوة تستمد نفسها من قوة كون الأديان ذات مصدر إلهي: سواء عند اليهود أو النصارى أو المسلمين، يتعاظم دور رجل الدين وسلطته على عقول العامة من المؤمنين.
-تأتي قوة إقناع رجال الدين من أنهم يضعون الإنسان أمام إشكالية صعبة تتلخص بحشر من يريد أن يناقشهم بسؤال هل تؤمن بأن الكتاب: التوراة أو الإنجيل أو القرآن هو من كلام الله أو من وضع البشر؟ فإذا كان جواب المسؤول بأنه يؤمن بأن هذا الكتاب أو ذاك هو وحي من الله، فيكون رد رجل الدين الوحيد الصاعق: إذا كنت تؤمن بأنه من كلام الله فلماذا تجادل فيه؟ أما إذا كان الجواب بالشك فينتج عنه اتهام فوري صاعق أيضاً: إذاً أنت من الكافرين والملحدين.
-لا يكتفي رجال الدين بالموعظة والكلمة الحسنة، بل تترافق دعوتهم مع تحديد طريق واحد للإيمان، والذي لا يمكِّن الإنسان -كما يبشرون- من عبور أبواب الجنة بدون المرور عليه. أما اختيار طريق آخر فسوف يكون معبراً للدخول إلى النار.
لا يمكن للإنسان -استناداً إلى الفكر الديني المتعصب- أن يحدد مصيره الأخروي من دون الالتزام بتطبيق الشرائع التي ينص عليها كتاب هذا الدين أو ذاك. أما حول الشرائع الدنيوية، التي تنص عليها كتب سائر الأديان، والموصلة إلى حياة أخروية آمنة فيقتضي بناء دولة سياسية دينية تعمل على تطبيقها، ولا تجيز الحركات الدينية أو المذهبية أن يقوم نظام سياسي آخر بمهمة التطبيق. ومن هنا تأتي إشكالية قيام الحركات الدينية، التي تصر على تطبيق ما تحسبه شرائع إلهية، في أنها مكلَّفة بتطبيقها بأمر من الله.
فهي إن رضخت إلى أنظمة أخرى وضعية تكون كمن يخالف إرادة الله، فتعتبر نفسها مسؤولة أمام عزَّته إن هي لم تقم بالجهاد من أجل بناء مثل تلك الدولة، وتعمل من أجل ذلك حتى لو اقتضى الأمر من دعاتها أن يموتوا في سبيل تلك الغاية. وهذا ما يفسر لنا -في معظم الأحيان- الروح الاستشهادية التي يتميَّز بها أنصار تلك الحركات.
ولوضوح وتحديد أكثر سيسلك مخطط بحثنا طريق تأصيل الحركات الدينية في البداية، ثم ينتقل إلى دراسة واقعها الحديث ثم المعاصر، ومن خلال تلك الخطوات سوف نلقي الضوء على مدى خطورتها على مقاومة أية حالة وحدوية سواء على المستوى الديني أو على المستوى القومي. ثم الانتهاء بالإطلالة والبحث حول ما يمكن أن نستنبط من اقتراحات تصب في مجرى الحوار مع تلك الحركات بما يفيد الدين من جهة وبما يفيد العمل القومي الوحدوي من جهة أخرى.
أولاً: تعريف الظاهرة الدينية والظاهرة الدينية السياسية
1-تعريـف الدين:
نشأت فكرة الدين من ملاحظة الإنسان أن هناك قوة تفوق قوَّته فأطلق عليها تعبير الإله، و: »توجد عند جميع شعوب الأرض فكرة الإله الأعظم، والعامل الأول لإثارة هذه الفكرة الروحية كان: مشاهد الطبيعة والأفلاك والعناصر، إذ التأمل بها يوحي الرهبة في الناس ويحسُّون بقوة خارقة مستقلة عن إرادتهم، ولا قدرة لهم على تحويل سيرها أو تعديل نظامها، فيتولَّد فيهم إزاءها: رهبة وإعجاب معاً«([1]). ويرى علماء الآثار والأنتربولوجيون أن أنواعاً من الديانات كان يمارسها الإنسان منذ بدء ظهوره على الأرض، أي منذ زهاء مليونين ونصف المليون من السنين([2]).
2-هل تنفصل الظاهرة الدينيـة عن السياسـة والاقتصاد؟
يمثل الاقتصاد الجانب الأساسي في استمرار الحياة البشرية: بمعنى تأمين الغذاء –كمادة ضرورية للحياة- إذ لا يمكن لحياة الإنسان أن تستمر من دونه. أما السياسة فهي قواعد ومفاهيم ترسم علاقات منتج الغذاء مع المستهلكين. فحتى لا يحدث صراع فوضوي بين البشر المستهلكين للحصول على منتجات الغذاء ومصادره، ارتضوا أن يتنازلوا لواحد أو قلة من الناس عن إراداتهم الخاصة لتنظيم علاقاتهم حول أنجع طرق توزيع الغذاء أو الحصول عليه. ففن وسائل الوصول إلى السلطة، وطرق العمل في توزيع الغذاء أو تأمينه، كلها تندرج في تعريف ماهية السياسة.
فالسياسة، إذاً، تبتدئ باتفاق الجماعة على جهة تمثل الحَكَم فيما بين أفرادها. ثم ترسم قواعد لطريقة اختيار الجهة الحاكمة، ويعود هذا الأمر إلى ما يبذله من يريد أن يلعب هذا الدور من فنون الإقناع. وتنتهي بالطريقة التي يمارسها لكي يلعب دوره.
يتم اختيار، وأحياناً فرض، الحاكم تبعاً لاتجاهين فكريين، وهما:
- الأول: وهو الاتجاه الذي كان أول ما اختبره الإنسان منذ وُجد على الأرض. واستند أولاً إلى نظرة الإنسان لقوى في الطبيعة ذات مقدرة تفوق مقدرته فعبدها، وأخذ بعض أفراد المجتمع أو الجماعة البشرية يدَّعي أنه يمكن أن يكون واسطة بين تلك القوى والظواهر وبين جماعته، فاكتسب هؤلاء الأفراد صورة سحرية، فآمنت جماعتهم بهم، وبوساطتهم، ومقدرتهم على أن يكونوا وسطاء بينها وبين القوى الخفية المقتدرة. وهذه كانت أول ظاهرة دينية في حياة البشر. وتطوَّرت أساليب ولادة الظواهر الدينية، بحيث أخذت تتصاعد من الخوف من ظواهر طبيعية إلى قوى غير منظورة. وكلما كانت الجماعات ترتقي من عبادة أشياء وظواهر محسوسة إلى قوى غير محسوسة كان الفكر البشر يرتقي، شيئاً فشيئاً، ويتَّجه نحو الميتافيزيقيا.
كان الحكام، عادة، يُسبغون على أنفسهم صفة القداسة، يساعدهم على ذلك الوسطاء الذين يدَّعون أنهم يمتلكون أسرار القوى الغيبية المعبودة، وأنهم يستطيعون أن ينتزعوا منها السخط أو الرضى على البشر. فخضعت الجماعات إلى ادِّعاءاتهم وآمنت بمقدرتهم على القيام بما يدَّعون.
ومن أمثال تلك الديانات نشأت فكرة تأليه ظواهر الطبيعة، ثم تحوَّلت إلى تأليه سلالات من البشر كما فعلت شعوب بلاد ما بين النهرين، والشعوب التي تسكن أرض النيل: ومن الواضح أن فرعون مصر –قبل ظهور اليهودية- كان يدَّعي أنه هو الإله، وكان يستعين بالكهنة لتثبيت وترسيخ ادِّعائه في نفوس الشعوب المصرية. ولما جاءت اليهودية –كأول دعوة دينية سماوية- انتزعت صفة الألوهية عن فرعون / الإله – الإنسان، وحسبت أن الإله موجود في السماء وهو غير منظور، ودعت إلى عبادته. وبهذا انتقلت الديانة السماوية، بمفهومها لله، من الأرض إلى السماء؛ من عبادة الإنسان المتألِّه إلى عبادة الله الحقيقي الذي خلق الآلهة البشر. وسارت المسيحية، وتبعها الإسلام، على الخطى ذاتها، أي الدعوة إلى عبادة الله غير المنظور، الذي خلق ما حسبته الديانات الوثنية آلهة موجودة في الطبيعة أو في البشر.
وما لم يتغيَّر هو أن كل الأديان آمنت بأنه لا بُدَّ من وجود وسطاء بين الله والبشر: كانوا كهنة في الديانات الوثنية، وأصبحوا أنبياء ورُسُل ورجال دين وكهنوت وأئمة وفقهاء في الديانات السماوية. وكما حسب كهنة الديانات الوثنية أنه لا يمكن الوصول إلى الآلهة من دون وساطتهم وأساليبهم في العبادة، راح رجال الدين في الأديان السماوية يحسبون، أيضاً، أنه لا يمكن الوصول إلى الخلاص عند الله غير المنظور، خالق السماوات والأرض، من دون وساطتهم.
- الثاني: وكأن هذا الاتجاه جاء ردَّاً على ادِّعاء رجال الدين في الأديان الوثنية أو السماوية، الذين يحسبون بأنهم يحكمون باسم الإله ويسوسون شؤون البشر بقوانين إلهية. يرى هذا الاتجاه أن تنظيم أمور البشر يجب أن ينطلق من البشر أنفسهم، أي أن تضع الجماعة لنفسها قواعد وأسساً لسياسة تتيح لها تعيين حاكم يحكم باسمها، وبقوانين تضعها الجماعة بما يضمن توزيع الغذاء وكل ما له علاقة باستمرار حياة المجموعة بطريقة عادلة؛ ولا ضير أن تتبدَّل هذه القوانين متى ثَبَت عدم صلاحيتها. ومن هذه الأسس تتوسَّع ثقافات المجتمع، ويتم إغناؤها من خلال التجارب التي يمر بها. فإذا نجحت القواعد التي رسمها المجتمع لسياسة أموره تُصبح قوانين تكتسب نوعاً من الثبات. أما إذا لم تؤمِّن له ما كان يصبو إليه فللمجتمع الحق أن يغيِّر ويُبدِّل ما وضعه من قواعد للوصول إلى أفضل الوسائل التي تحقق الأغراض التي من أجلها وُضِعت.
بين الاتجاهين الفكريَّيْن: الوضعي والديني، مسافة نوجزها بما يلي:
- يرى الاتجاه الأول أن فكره، الذي يحكم على أساسه بين الناس، ذو منبع إلهي؛ فلا يمكن مناقشته لأن هذا النقاش هو تحدٍّ لأوامر إلهية. ومن يناقش الله في قوانينه التي وضعها للبشر هو ملحد وكافر. وعلى هذا الأساس يروِّج المتدينون، على شتى انتماءاتهم الدينية، إلى تأسيس حكم الله على الأرض، ويمثِّله رجال الدين. وإلى مضمون هذا الاتجاه الفكري تنتمي الحركات الدينية السياسية، وسنأتي على الكلام حولها في فقرات لاحقة.
- أما الاتجاه الثاني، كأنه جاء ردَّاً على ادِّعاءات الاتجاهات الدينية، فأخذ يدعو إلى انتقال مرجعية وضع القوانين التي تنظِّم شؤون البشر من أيدي رجال الدين إلى البشر أنفسهم، الذين عليهم أن يختاروا نظام الحكم الذي يحقق مصالحهم.
3- هل الظاهرة الدينيـة – السياسيـة، هي شيء آخر غير الظاهرة الدينيـة؟
لماذا ادَّعى فرعون أنه إله؟ ولماذا أُرسِل النبي موسى والسيد المسيح والنبي محمد؟
لم يدَّع فرعون أنه إله لإشباع حاجة روحية عند المصريين. ولم يُعلن ألوهيته لأنه، هو أيضاً، بحاجة إلى إشباع غريزة عنده. كانت علاقات البشر، في عصر فرعون وغيره، تقوم على أساس إشباع غرائز الغذاء: الطعام والشراب أولاً. وبسبب الخوف من أن لا يتَّفقوا على توزيع عادل لموارد الغذاء، كانوا بحاجة إلى حَكَمٍ بينهم، فكان فرعون هو ذلك الحَكَم. ولكي يضمن فرعون لنفسه، ولذريته من بعده، استمرار الحُكْم، ابتكر وسيلة إضفاء القداسة على نفسه، التي وحدها تزرع الخوف في نفوس الناس البسطاء. فكانت فكرة فرعون الإله صيغة دينية متقدِّمة على ما سبقها من دعوات. تلك الدعوات كانت تستند إلى عبادة الظواهر الطبيعية الجامدة. وبين عبادة الجماد وعبادة البشر المتفوقين المدعومين بقوى خفية فرق كبير. فعبادة الفرعون كانت مجزية للناس أكثر من قوَّة الشمس والقمر والبرق والرعد والأعاصير ومياه النيل. ففي خزائن فرعون السمن والعسل والخبز. وفي سيوف جيوش فرعون رهبة وخوفاً أكثر مما في ظواهر الطبيعة. ففي سيف فرعون ورغيفه ما يُخضع الناس من جهة وما يمكن أن يُشبع بطونهم من جهة أخرى.
وتمتيناً لسلطته ألصق فرعون بنفسه قوة الإله: الحاكم المرهوب الجانب في الدنيا، والواسطة التي لا بديل عنها للمصير بعد الموت. ويدل هذا الجانب على مسألتين في غاية الأهمية للبشر: الضرورة في تأمين المعاش في الدنيا، وضرورة الجواب على غموض المصير بعد الموت.
فهل في صورة فرعون الإله غير وضع الدين في خدمة السياسة؟ سياسة ضمان بقائه حَكَماً بين جماعته، وهي سياسة فيها فن ابتكار وسائل إقناعها بصلاحيته للحكم بينها من جهة، وضمان بقاء امتيازاته الكثيرة والكبيرة طالما ظلَّ في موقعه السياسي من جهة أخرى. فلم يكن ادِّعائه بالألوهية سوى مظهر من مظاهر أن الدين كان أداة سياسية لا يمكن أن تنفصل عن السياسة.
جاءت الدعوة اليهوديـة ثورة على تسلُّط فرعون واستئثاره بالحكم؟ وهل فيها غير دفاع النبي موسى عن جماعته لرفع ظلم فرعون عنها؟ وهل الظلم كانت له مظاهر غير دنيوية في طريقة الحكم، وهو مظهر سياسي، وطريقة توزيع الغذاء، وهو مظهر اقتصادي؟ وهل كان مصير جماعة النبي موسى في الآخرة أهم من مصير لقمة عيشها وكرامتها في الحياة الدنيا؟ وهل كان يمكن له أن يبدأ بالتغيير من غير أن يزيل وهم صفة الألوهية، أو حقيقتها، التي يُلصقها فرعون بنفسه؟ كان لا بُدَّ، إذاً، من نقد الفكرة الدينية التي استند إليها فرعون ويبيِّن بطلانها. فكانت اليهودية دعوة سماوية تبشِّر بإله في السماء غير منظور وغير ملموس، بعكس صفة الإله الإنسان التي يتقمصها فرعون.
انطلقت الدعوة اليهودية، إذاً، من الشعور بشدَّة الظلم الاجتماعي والاقتصادي لجماعة النبي موسى، فكان لا بُدَّ من الانطلاق، في سبيل محاربتها، من البرهان على بطلان الادعاء السياسي المستند إلى حق فرعون الإلهي بالحكم. وهكذا كان مصدر الدعوة إلى الدين اليهودي نابعاً من حاجات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وهل كانت الدعوة للمسيحية ذات دوافع روحية فقط؟ أَوَ لم يكن ظلم قيصر روما للشعوب التي يحكمها هو السبب الذي أثار حفيظة السيد المسيح بالدعوة إلى العدالة والمساواة، أَوَ لم يقل السيد المسيح: : »طوبى للمساكين… طوبى للجياع…« ؟ أَوَ لم يكن الظلم الاقتصادي والاجتماعي الذي كان يمارسه الرومان على البشر، مستنداً إلى حق قيصر الإلهي المزعوم بحكم البشر؟
فإذا كان قيصر يسوِّغ حكمه بمثل هذا الحق، فلم يكن أمام السيد المسيح إلاَّ أن يدحض هذا الادعاء الديني بالدعوة إلى مصدر ديني آخر يرتكز على الإيمان بإله آخر غير إله قيصر. يقول المسيح مخاطباً الرؤساء الجائرين: : »إنكم على ضلال، وأنتم في ضياع ليس لكم ملكوت السماء وسعادة الأرض إن لم تثوبوا إلى الرشاد، وتؤمنوا بحق الإنسان كل إنسان، وتعودوا إلى الطريق السليم، مؤمنين بوحدانية الله«. وقد أكبر السيد المسيح الأسينيين وقرَّبهم إليه، وأكبر زهدهم وعدالتهم الاجتماعية في توزيع الرزق على الكافة([3]). وقال، أيضاً: : »روح الربِّ عليَّ، لأنه مسحني لأبشِّر المساكين، ولأعصب منكسري القلوب، ولأنادي للمسبيِّين: بالعتق، وللمأسورين: بالإطلاق، وللعُمي: بالبصر«([4]). : »سعداء، هم، أولئك الفقراء بأفكارهم… وسعداء هم الحزنى سيلاقون عزاءهم… وسعداء هم المتشوقون إلى العدالة فإنهم سيُنصَفون… والمُضطَهَدون ستطالهم العدالة«([5]).
لم يضع السيد المسيح في دعوته أسساً لبناء دولة سياسية، وكان من المحتمل والمنطقي أن يبشِّر بها وأن يعمل لأجلها لو استطاع أن يبني وسطاً مسيحياً على بقعة من الأرض تحميه وتحمي دعوته. لكن ملاحقة الرومان له والحكم عليه بالصلب قد قطعا عليه فرصة رسم قواعد سياسية تهتم بالتشريع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لمصلحة الجماعة التي آمنت به. وهذا هو السبب الذي أوقف التعاليم المسيحية عند أعتاب المصير الأخروي للمسيحيين، ولم تتجاوزها إلى الانخراط في تأسيس قواعد وتشريعات لها علاقة بحياة البشر الدنيوية.
أما الدعوة الإسلاميـة فقد نشأت في بيئة مزروعة بعدد من التحديات، منها الداخلي، ومنها الخارجي:
أما الداخلي، فهي الحالة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الذي ترعرع فيه النبي محمد. فقد عمَّه الفساد، واستأثرت طبقة بالثروات؛ وعاشت الطبقات الفقيرة على فتات موائد الموسرين. وانقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، استأثر فيه السادة باللذائذ والشهوات، ونال العبيد والفقراء لسع السياط وفتات الموائد.
لقد عانى النبي محمد، من اللاعدالة في مجتمعه. ولم يكن أمامه بدٌّ من أن يدعو إلى تطبيق العدالة، ورفع الحرمان. ولما كانت ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه ثقافة دينية، ولما كانت البيئة التي يعيش فيها، بتأثيرات مسيحية، تنتظر نبيَّاً يتمِّم الديانات السماوية اليهودية والمسيحية*. كانت الأسلحة الفكرية التي استخدمها النبي العربي، في سبيل تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي، أسلحة دينية، وهذا ما نتأكد منه إذا عدنا إلى عدد من الآيات القرآنية، خاصة تلك التي أُنزِلت في المرحلة المكية، فلنقرأ ونقارن:
- ]كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى // أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[ (العلق:6 و7). ]أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى // فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى[ (عبس: 5 و6).
-] أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ // فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ // وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[ (الماعون:1 و2 و3).
- ]وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ // الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ // يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ // كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ // أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ // نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ // الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ // إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ // فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ[ (الهمزة: 1 - 9).
- ]تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ // مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ // سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ[ (المسد: 1 - 3).
أما التحديات الخارجية فكانت تتمظهر بتصارع الإمبراطوريتين: البيزنطية والفارسية على أطراف الجزيرة العربية الشمالية. وكانت الجزيرة العربية تعيش تحت هاجس تهديد الخطر الدائم القادم منهما.
أما واقع الجزيرة في ذلك الوقت فكانت القبائل المتقاتلة المشرذمة تمنع الوصول إلى أية حالة وحدوية سياسية تصونها من عدوان الخارج وترفع عنها عبء الاستغلال الاقتصادي والسياسي لمصلحة الدولتين المجاورتين المتصارعتين. وكانت ترافق حالة التشرذم القبلي حالة دينية تتمثل بتعدد آلهة العرب بتعدد قبائلها، وكأن حالة التشرذم السياسي كانت مرتبطة بالشرذمة الدينية بأواصر متينة. ناهيك عن أن أجداد النبي محمد كانوا يحاولون، منذ أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن الذي سبق الدعوة المحمدية، تأسيس مرجعية سياسية عربية تستطيع استقطاب القبائل أو إخضاعها لتوحيدها، وهذا ما كانت المؤشرات والوقائع التاريخية تشير إليه من خلال تعميق قوة قبيلة قريش في مكة لتكون هي تلك المرجعية – النواة التي توحِّد القبائل العربية. وبالإضافة إلى ذلك كانت المسيحية واليهودية قد وجدتا لهما مكاناً واضحاً في الحياة الروحية للقبائل العربية، ومنهما تأسست نُوَى دعوات دينية توحيدية كانت تدعو إلى التوحيد الإلهي.
انسلخت المسيحية عن اليهودية لأن المسيح عاين ظلم الرومان في الوقت الذي كانت فيه اليهودية ساكتة عن الظلم استرخاءً لما كانت تكسبه من مميزات، ولأن الرومان كانوا يعترفون بهم على شرط أن لا يُظهرون معارضة لحكمهم. ولما جاء الرسول العربي، بالإضافة إلى ما كان يعاينه من ظلم اجتماعي يُلحِقه الأقوياء بالضعفاء، وجد أنه على الرغم من انتشار الموسوية والعيسوية في الجزيرة العربية، لم يلمس منهما أية بادرة للعمل من أجل التغيير في البُنى السياسية والاجتماعية لمجتمع شبه الجزيرة العربية من جهة، ولمحاربة عبادة الأصنام من جهة أخرى، رأى أنه لا بُدَّ من تجديد وثورة على الواقع السائد، فكانت الدعوة المحمدية هي تلك الثورة التي أعدَّت نفسها للقيام بمثل تلك المهمة.
هل كانت الدعوة إلى الإسلام ذات أبعاد روحية فقط؟
كان للنبي محمد، المعايش لمشاكل جماعته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الكثير من النقد ومن البدائل للعادات والتقاليد السائدة في الجزيرة العربية، والتي كانت لا تلبي إيجاد حلول لمشاكل جماعته. ولما كانت تلك العادات والتقاليد تستمد قوَّتها من الإيمان الديني الوثني الذي كان سائداً، وجد أنه لا بُدَّ أمامه من البدء في نقد الفكر الديني المسيطر، وإعطاء البديل الديني الأفضل الذي يحقق العدل والمساواة بين البشر. فكانت دعوته الدينية الإسلامية لا تخرج عن السياق الموروث عن الديانات السماوية الأخرى: الدعوة إلى عبادة إله عادل وقادر على تحقيق العدالة والمساواة بين البشر، إله لا مثيل له لا ينكسر ولا يُؤكَل كما تنكسر آلهة العرب وتُؤكل. فمسألة اختيار الدين كانت ذات علاقة وثيقة بتحقيق العدل والمساواة على الأرض بين البشر، وهي تجيب أيضاً عن الهاجس الذي يحيِّرهم: المصير بعد الموت. وهي حاجة ضرورية لتوحيد القبائل العربية سياسياً في ظل دعوة فكرية دينية توحيدية.
فالظاهرة الدينية هي ظاهرة سياسية قبل كل شيء. نجمت عن خوف البشر من ظواهر لم يستطيعوا أن يفسِّروها أو يدركوا معانيها فعبدوها. ولما توسَّعت علاقات الجماعات بين بعضها البعض وأصبحوا بحاجة إلى ما يُنظِّمها ومن يضمن تنظيمها خضعت إلى ما يُسمَّى بالسلطة التي تردع من يحاول الخروج عليها أو تجاوز نظام الجماعة التي اتفقت على أنه يساعدها على بناء علاقات تضمن أمنها وتؤمِّن الغذاء إلى جميع أفرادها. فاستعانت تلك السلطة بكل الوسائل التي تضمن بقاءها على رأس السلطة التي تسوس أمور الجميع، فكان منها وسائل الإقناع الشخصي، ووسائل الضغط بالقوة، ووسائل تدعيم السلطة بقوة الدين.
انتقل مفهوم الدين من مرحلة الخوف من ظواهر الطبيعة الخارقة إلى ظواهر القوى السحرية غير المنظورة، إلى الإيمان بالقوى التي تحكم مصائر البشر بعد الموت. وكلها مما لا يخضع إلى الملاحظة الحسية أو اليقين الحسي؛ مما أتاح لكل دعاة الأديان، القائمة على عبادة قوى خارقة أو يُحسَب أنها تمتلك قوة خارقة، لا يمكن لقوة الإنسان أن تضاهيها أو تأتي بمثلها، إلى الادعاء بأنهم الواسطة التي تقوى على تنظيم علاقات البشر مع القوى الخارقة للعادة. وحاجة الإنسان إلى السيطرة واحتواء غضب تلك القوى أو نيل رضاها دعته إلى الاعتقاد بضرورة وجود تلك الواسطة بينه وبين القوى التي يجهل أو يخاف. واستغلَّت القوى الوسيطة ذلك الاعتقاد في سبيل أن تبقى سيَّدة في داخل جماعاتها، فسخَّرت الإيمان بالدين لتدعيم سياستها في البقاء على رأس السلطة. وهكذا أصبحت المعتقدات الدينية وسيلة سياسية يستغلها الأقوياء والأذكياء لمصالحهم الخاصة. وبهذا أصبحت الظاهرة الدينية، كظاهرة لتفسير ما يثير مخاوف البشر وهو غامض على فهمها، وتحولَّت من مسألة فلسفية تحاول تفسير ظواهر ما بعد الطبيعة إلى ظاهرة دينية سياسية تخدم أغراضاً بشرية فئوية.
فكيف نستطيع بعد هذا التفسير أن نضع تعريفات للظواهر الدينية السياسية التي تحدد خطوات ومسارات الحركات الدينية السياسية الإسلامية في عصرنا الراهن؟
ثانياً: الأصول الفكرية والتاريخية لنشأة الفرق الإسلامية؟
نُسِب حديث للرسول جاء فيه: »افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلاَّ واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: منهم ما أنا عليه وأصحابي«([6]).
كانت الصراعات والانقسامات، في حياة الجماعة الإسلامية، قبل العام 37 هـ/ 657م، : »ذات طابع سياسي، وقفت خلفها وأثمرتها عوامل اجتماعية وقبلية«، أما بعد ذلك العام، فلم يقف المتخاصمون عند حدود الصراعات السياسية: »بل أضفوا عليه طابعاً من الدين، وذلك عندما ]زعم البعض منهم[ أنهم المؤمنون، وأن من عداهم قد مرق من الدين«، وعمَّت المسألة، فيما بعد : »سائر فرق الإسلام فانطبعت خلافات الساحة الإسلامية بالطابع الديني«، وهذه هي الإشكالية ذاتها التي لا يزال : »يعاني منها العقل العربي المسلم حتى الآن«([7]).
حصلت افتراقات بين المسلمين، بعد وفاة الرسول، دعَّموها بأسانيد دينية وصلت إلى حدود المقدَّسات، فكفَّر بعضهم البعض الآخر على أساسها. ولأن التراث الفرقي تراكم بكمٍّ هائل، ولسبب الاختصار نُذكِّر بأبرز العناوين:
ليس الاجتهاد، عند الإسماعيلية، من حق الفقهاء بل هو:»للرسول، وإلى ولي الأمر من بعده«([8])، وولي الأمر، عندهم، هم آل بيت الرسول.
يعدِّد البغدادي أهل السنة والجماعة بأنهم ثمانية أصناف، وهم: من أحاطوا العلم بأبواب التوحيد. وأئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث. ومن أحاطوا علماً بطرق الأخبار والسنن المأثورة. ومن أحاطوا بأبواب الأدب والنحو. ومن أحاطوا بوجوه قراءات القرآن والتفسير. ومن الزهاد الصوفية. ومن المرابطين في ثغور المسلمين. وعامة البلدان التي غلبت فيها شعائر أهل السنة. ويشترط البغدادي أن لا يكون أي صنف من الثمانية قد اعتقد بشيء من أهل البدع والأهواء الضالة([9]). والشيعة عند البغدادي، بالطبع، هم من أهل البدع.
كان التشيع في الإسلام، كما يراه فقيه شيعي : »جزءًا من الدعوة التي دعا إليها القرآن، وبلَّغه الرسول إلى الأمة في جملة ما بلَّغه من تشريعات وأنظمة… ]وهو[ منصوص عليه من الله وحده«([10]).
على الرغم من أن البعض يشكك بصحة الحديث المنسوب للرسول حول الفرقة الوحيدة الناجية من النار، نرى أن شتى الفرق الإسلامية تصرَّفت في الماضي، وتتصرَّف في هذا العصر، حسب مضمونه وتدَّعي كل منها أنها هي تلك الفرقة الناجية أما غيرها من الفرق فمصيرها النار.
كان السباق في الماضي يدور بين الفرق الإسلامية حول الوصول إلى السلطة، السبب الذي تسابقت فيه حول إثبات شرعيتها الإلهية لتبرر أنها أحق من غيرها في استلام السلطة السياسية لتستطيع، من خلالها، أن تطبِّق الشرائع الإلهية. ولهذا السبب تقاتلت وتذابحت وتسابقت على تأسيس الدويلات المذهبية.
لم تشذ الحركات الإسلامية، في المرحلة المعاصرة، عن خطى الفرق التي سبقتها في التاريخ، وهي ما زالت تعمل على الأسس ذاتها. والسبب الذي يحول بينها وبين الاقتتال المذهبي، في هذه المرحلة، هو أنها أصبحت خاضعة لسلطات دول حديثة التكوين بعد أن زال عصر الدولة الدينية.
كانت المحصلة التاريخية لظواهر الفرق والمذاهب الإسلامية أنها أحدثت تمزقاً فكرياً -دينياً من جهة، وتمزقاً سياسياً من جهة أخرى. فهل تشذّ أصول الحركات الإسلامية المعاصرة، ونتائج تصارعها، عن النتائج التي أسفرت عن تصارع سابقاتها في العصور الإسلامية الطويلة؟
ثالثاً: أصول نشأة الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة.
تساوت المذاهب السنية والشيعية، في العصر الراهن، في الدخول إلى عصر الأحزاب المنظمة. ونظرت إلى العصر الحديث بروحية إعادة بناء دولة إسلامية دينية على قواعد الشرائع والفقه الإسلامي. تأسَّست حركة الإخوان المسلمين، كتنظيم إسلامي سني، في الثلاثينيات من القرن العشرين. وتبعها إنشاء أحزاب شيعية، منذ أوائل الستينات من القرن العشرين، ابتداءً بحزب الدعوة، في أوائل الستينيات، انتهاء بتأسيس حزب الله في الثمانينيات.
كان ما يجمع الحركتين السنية والشيعية هو إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية، وتطبيق الشرائع الإسلامية. وما يفرقهما أن كلاًّ منهما كان يمهِّد لإعادة التأسيس على قواعد فقهية مذهبية، فعادت –من خلالهما- جذور الخلاف الشيعي – السني إلى بداياته الأولى.
إن المتتبِّع ليوميات نشاط الفريقين الفكري المذهبي، والحركة السياسية الميدانية، يلمح بوضوح أن في الأفق ما يدل على عودة الصراع المذهبي الجديد إلى بداياته الأولى القديمة. ومن أخطر مظاهره هو الصراع بينهما على قواعد التكفير والتكفير المضاد.
نرى من المفيد أن نطل بشكل سريع، يفيدنا في إيضاح صورة الواقع الذي تنشط على أرضه حركتان إسلاميتان، بل حركات إسلامية، أصوليتان سياسيتان.
1-حركة الأخوان المسلمين: النشأة الوحدوية، ومرحلة التفكك.
دعت حركة الإخوان المسلمين، بداية، إلى العودة إلى عبادة الله، والحيلولة بين التبشير الديني المسيحي والمجتمع المصري، ومحاربة الاستعمار لكونه السند الأول للمبشرين. والعودة إلى القيم الإسلامية كسلاح ضد الحضارة الغربية. والعودة بالمسلمين عن طريق البدع والضلالات إلى القيم الدينية السليمة، من خلال الرجوع إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله، وعمل الصحابة والتابعين. وانتقلت في المرحلة الثانية، أي مرحلة تحقيق الأهداف بالحكمة والموعظة الحسنة، إلى الجهاد. فبمثل هذه النقلة تحوَّلت الحركة من مرحلة الظاهرة الدينية إلى مرحلة الظاهرة الدينية السياسية.
ولكي يبنوا تنظيماً مجاهداً، حدَّدوا شروط الانتساب إلى الجماعة: بالطاعة العمياء (فطاعة المرشد أو أمير الجماعة هي طاعة الله). والإيمان بأن النظام الإسلامي هو النظام الديني الإلهي (الإسلام هو النظام العام الشامل الذي يفضل أي نظام آخر في كل زمان ومكان). والعداء لكل النظم التي حلَّت محل الإسلام (الأفكار المستوردة في الدستور، وإلغاء الأحزاب). والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس. ثم العمل لاسترداد الخلافة([11]).
ركَّز الإخوان على مطالبة الحكومة المصرية بالعمل في سبيل الله، الذي يتم بالاهتمام بالتعليم الديني ومحاربة مظاهر الإلحاد، والوقوف في وجه الحكومة، والدعوة إلى أن تكون السياسة جزءاً من الدين، فعملوا على تكوين كتائب الجهاد للقيام بواجب الصراع مع السلطة لاستلامها وبناء الدولة الإسلامية.
أدَّى الصراع بين سلطة الملك، في مصر، وبين حركة الإخوان إلى اغتيال حسن البنا، في العام 1949م، فخلفه سيد قطب، الذي دعا إلى تكفير الحكومة ومواجهتها بالعمل الثوري بعد أن عملت السلطات بالإخوان قمعاً واعتقالاً وتعذيباً. وكان سيد قطب قد تأثَّر بأبي الحسن الندوي (المفكر الإسلامي الباكستاني)، الذي افترض وجود الجاهلية في العالم العربي، فأصبح عالَماً غير مسلم. ونادى بحاكمية الله([12]).
قادت الدعوة السياسية المسلَّحة، لحركة الإخوان المسلمين، للاستيلاء على أنظمة الحكم، وبناء الدولة الإسلامية، إلى نشوب صراع دموي بين الطرفين. فاصطدمت مع ثورة تموز/ يوليو 1952م في مصر، وقام نظام الثورة بحركة ملاحقات واعتقال للإخوان المسلمين([13]).
وسَّعت الحركة نشاطها إلى سوريا، منذ العام 1947م، وتنامى دورها، فتحالفت مع بعض الأحزاب (خلافاً لدعوة الإخوان في مصر)، واصطدمت مع السلطة أكثر من مرة.
انتقل الصراع إلى سوريا منذ الستينيات،حينما دخلت جمعية الإخوان المسلمين في حركة معارضة مسلحة وأعلنت عن ثورة إسلامية شاملة ضد النظام تحت ذريعة أنه فاقد للشرعية. لكنه، إلى جانب هذا التيار المتصلب، كان هناك تيار معتدل يؤيد حركة الإخوان، لكن، من دون المشاركة في عمليات العنف([14]).
أما سيد قطب، بعد أن استلم زعامة الإخوان بعد اغتيال البنا، فقد رأى في الحكام المسلمين أنهم غير مسلمين ما داموا يمارسون حياتهم على أن الحاكمية للبشر وليست لله. لهذا حسب أن المنهج الرباني، ولا منهج غبره، هو منهج الحياة البشرية كلها؛ فالبشرية تعيش في جهالة عمياء إن هي مضت في حياتها على منهج غير المنهج الرباني، لأنه صيغ لتقديم حلوله للمشكلات في المجتمعات الإسلامية. وما دامت المجتمعات، القائمة اليوم، غير إسلامية، فإن المنهج الرباني لا يفيد في تقديم حلول لمشكلاتها، لذلك يجب أن يوجد المجتمع الإسلامي أولاً([15]). فأدى التغيير الذي أحدثه سيد قطب إلى تفريع الجماعة إلى أربعة فروع:
- السلفيون: وشعارهم الآية القرآنية ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ (المائدة:105). وتقوم دعوتهم على التربية التي لا تتجاوز القلب.
- الإخوان المسلمون: وسبيلهم في محاربة الفساد والخروج عن سنن الإسلام، وأسلوبهم الدعوة باللسان والحوار مع الناس بالتي هي أحسن.
- الإخوان المسلمون (جماعة التكفير والهجرة): وتحِّدد مسارها ثلاث مراحل: الدعوة العلانية إلى إعلاء كلمة الله -الهجرة إذا تعرض المسلمون للبلاء- العودة عندما يشتد عودهم لإزاحة الطاغوت.
- جماعة الجهاد: ترى أن القتال ضد السلطة الكافرة واجب ديني لا يمكن التقصير في القيام به. فقتال الحاكمين عندهم واجب لأنهم ارتدُّوا عن دينهم حين حكموا بغير ما أنزل الله، وإن ما يدعم الدعوة إلى قتالهم هو أن قتل المرتدِّ واجب.
كان العامل العقيدي من أهم عوامل انتشار الإخوان؛ ويقوم على نشر فكرة العدالة الإلهية وعجز الإنسان عن وضع النظم القابلة للاستمرار([16]).
2-الشيعة ينخرطون في تأسيس البنى الحزبية الإسلامية.
تعود أصول تأسيس البُنى الحزبية الدينية، عند الشيعة، إلى ظاهرتين:
الأولى: تأسيس حزب الدعوة الإسلامية في العراق في العام 1959م. أما الثانية، فتعود إلى جذور عقيدية شيعية جديدة، أسَّس لها الخميني، في العام 1968م، في محاضرات له ألقاها في النجف نشرها ، فيما بعد، بكتاب عنوانه »الحكومة الإسلامية«.
تعود بداية التفكير الشيعي بسلوك الخط التنظيمي الحزبي الديني إلى العام (1378هـ؟ =1959م؟)؛ وكانت البداية في تأسيس حزب الدعوة الإسلامي في العراق، وانتقل إلى لبنان في النصف الثاني مـن الستينات من القرن20م. و تمَّ تأسيسه على قاعدة شرعية أن يتسلّم العلماء الحكم و يقومون بـه، وأن يعتنوا بالسياسة والاقتصاد، وأن يطلبوا قيام دولة إسلامية عالمية([17]).
و من وسائله التنظيمية أن يجمع طالب العلم بين التحصيل الديني، وبين أنشطة حياة عادية؛ ويُعَدُّ هـذا الجمع ضروري للدعوة وحزبها. فالداعي يقوم بنشاط التدريس الديني، ومشاركة الناس في أعمالهم، ومعايشة همومهم و قضاياهم. بالإضافة إلى ذلك،فقد تدرَّب أعضاء الحزب على العمل المسلَّح في أوائل السبعينيات من القرن 20م.
عمل حزب الدعوة، ومن بعده »حزب الله« -منذ أوائل الثمانينات من القرن20م- على بناء الشخصية الإسلامية من خلال المدارس والحوزات، وإعداد »الملتزم الرسالي«([18]).
و بسبب من ندرة المعلومات عن حزب الدعوة، وبعد تأسيس حزب الله في لبنان، في أوائل الثمانينيات، نظنُّ أن التنظيمين قد أصبحا تنظيماً واحداً، بحيث أصبح تنظيم حزب الله وحيداً في الواجهة السياسية والعقائدية الشيعية.
تأسست الجذور العقيدية الخمينية حول المضمون التالي: انتقد الخميني، في محاضراته، المسلمين الذين يرفضون الجهاد خوفاً من اتهامهم بالخروج ضد الدولة والنظام. كما هاجم، أيضاً، الدعوات التي تعمل لفصل الدين عن السياسة. لذلك دعا إلى بناء حكومة إسلامية يرأسها الخليفة لاحتياج الدولة الإسلامية إلى رئيس،واحتياج القانون إلى منفِّذ…ومطبِّق لهذا التشريع([19]).
يتناقض الخميني بدعوته تلك مع النظرية الشيعية التقليدية، التي لا تُجِيز قيام أية دولة إسلامية قبل ظهور المهدي المنتَظَر. والسبب من وراء دعوته الجديدة –كما يحسب هو- أن الظهور تأخَّر كثيراً، وقد يتأخر إلى آخر الدهر. وهذا ما يجعل المسلمين يتخبطون خبط عشواء بدون راعٍ([20]). لذا يصبح من الواجب أن تقوم تلك الحكومة، وأن يرعاها فقهاء عدول([21])، ينفذون الأمر الإلهي… في سبيل إجراء أحكام الشريعة من غير تغيير أو تحوير ومـن دون تدخُّلٍ لآرائهم الشخصية في شيء، بل عليهم أن يأخذوا من علوم الأئمة من بيت آل الرسول، »فتكون الزعامة الكبرى والرئاسة العليا للفقيه الجامع للشرائط…والبقية مأمورون مؤتَمِرون«([22]).
وعلى خطى التعاليم الخمينية، الذي شرَّع دخول الشيعة إلى معترك العمل السياسي، تأسس حزب الله في لبنان. ويُعيد البعض نشأته إلى اجتماع عُقِد في العراق، في العام 1969م، وتقرَّر فيه تأسيس العمل الشيعي الثوري في لبنان، على أن يقوم بهذا العمل عدد من رجال الدين الشيعة الذين كانوا يتلقّون العلم في النجف. ركَّز المبعوثون، وكانوا يشكِّلون طليعة لحزب الدعوة، على كسب المثقفين وطلاب الجامعات لبثِّ الدعوة الإسلامية.
أُعلِن عن تأسيس حزب الله، في لبنان، في 16 شباط / فبراير من العام 1985م، لكن البداية الفعلية كانت منذ التصدُّع الذي أصاب حركة أمل (أفواج المقاومة اللبنانية) في العام 1982م. ومن المؤكد أن عدداً كبيراً من أطر حزب الله خرج متمرداً من رحم حركة أمل، ومنهم: إبراهيم أمين السيد، ومصطفى الديراني، وحسن نصر الله. وعلى الرغم من ذلك، تختلف منابت حزب الله باختلاف مراجعه وولاءاته.
فالإسلام عند حزب الله »ليس رسالة تبشيرية فقط، وإنما رسالة لإقامة مجتمع العدالة في الأرض« أيضاً؛ لهذا تعمل جماعة »حزب الله « من أجل مجتمع سياسي متجدد، ومستقل في هويته وشخصيته الحضارية؛ »وهذا يفرض -بالتأكيد- حالة صراع مع كل التجمعات البشرية التي ترفض أن تتعامل مع الإسلام كرسالة للحياة«.
يعمل الحزب من أجل تطبيق مشروع إسلامي مبني »على الفكر والرسالة… هو مشروع الأمة، دولة الإسلام الكبرى…وهذا ما عبَّر عنه الإمام الخميني بتصدير الثورة«. وتتمثَّل قيادة المشروع »في الرسول وفي الأئمة المعروفين، وبعد الأئمة الفقهاء الأولين. وفي الوقت الحاضر ]وفي[ غيبة الإمام المنتظر… تتمثَّل في قيادة الفقهاء العدول«([23]).
-أما حول الموقف من الحركات القومية فلا يرى الحزب أنها »كإطار ومضمون شيء واقعي«([24]). لأن الدعوة إلى مركزية الدولة الإسلامية كانت واضحة لا لبس فيها في بدايات مراحل تأسيس حزب الله من جهة، والإقرار بمركزية الثورة الإسلامية في إيران،كنواة لبناء الدولة الإسلامية، من جهة أخرى([25]). وجاء في بيان الإعلان عن نفسه أن حزب الله هو جزء »من أمة الإسلام في العالم… التي نصَرَ الله طليعتها في إيران، وأسَّست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم… تلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة وعادلة، تتمثَّل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسَّد حاضراً بالخميني«([26]).
أكَّد الحزب على دور علماء الدين في مشروعه السياسي الإسلامي على قاعدة نظرية ولاية الفقيه المبنيَّة –كما يحسب- على نصٍّ ديني. وهو بهذا لا يتميَّز عن الحركات الأصولية. فهو يطبق نظرية تنظيمية غاية في المركزية، أي المركزية الشديدة. وهو يطيع القرارات الصادرة عن الفقيه العادل وينفذها. لذا غدت نظرية ولاية الفقيه مرجعية فكرية وإيديولوجية لحزب الله، وتحوَّلت إلى ضرورة تنظيمية من أجل »بناء الشخصية الحزبية المنضبطة، والنظام الأمني الحديدي والمغلق، وإضفاء الشرعية على مركزية حادّة، وأحادية في القرار، وآلية تنظيمية يكون فيها مصدراً لقرار نابع من الهيئات العليا باتجاه القاعدة لا العكس«([27]).
لأن الحزب: »أمة ترتبط مع المسلمين، في كافة أنحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام«، رفض المعادلة اللبنانية، ودعا جميع اللبنانيين إلى »اختيار النظام الإسلامي، الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع«. فالنظام القائم في لبنان –كما يرى الحزب- صنيعة للاستكبار العالمي، وهو »تركيبة ظالمة في أساسها، لا ينفع معها أي إصلاح أو ترقيع، بل لا بُدَّ من تغييرها من جذورها، ]ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون[«.
استُقبِل حزب الله بكثير من الريبة والتوجس من قبل كل الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية، بسبب صلته بإيران. وحصلت بينه وبينها الكثير من الصدامات الدموية، وكان أكثرها دموية الصدامات التي كانت تحصل بين الحزب وبين حركة أمل، التنظيم الشيعي الآخر، خاصة في العام 1988م. وانخرط في السياسة، وميَّز نفسه بمواقف تطول مبدأ الصراع مع العدو الصهيوني، وكان رافضاً لأية تسوية سياسية مع العدو من جهة، وانخرط في مقاومته عسكرياً على قاعدة الحرب الشعبية من جهة أخرى، وهذا ما ساعده على البروز.
عجز الحزب عن إنتاج خطاب سياسي وإيديولوجي يواكب التطورات والتحولات العالمية والإقليمية والمحلية بسبب وقوعه في أسر إيديولوجيا الرؤية الإسلامية الإيرانية، أي في أسر نظرية ولاية الفقيه، التي لا تراعي الخصوصيات اللبنانية والعربية.
3-طبيعة العلاقة بين التيارات الإسلامية السياسية في لبنان:
لم يكن حزب الله، كحزب شيعي أصولي، هو الحزب الوحيد بل للسُنَّة حركات أصولية أيضاً. أما الحركة الإسلامية السنية، بشكل عام، فكانت تتلوَّن تارة بألوان قومية (الناصرية، منظمة التحرير الفلسطينية…)، وتارة أخرى بألوان طائفية- سياسية محلية (الارتباط بالزعماء المحليين). و لكن لم تستطع هذه الحركة أن تنسج علاقات استراتيجية، قائمة على وحدة الفكر السياسي الإسلامي مع الخارج، مع أنها نجحت في إقامة علاقات محدودة مع إيران. و توزَّعت اتجاهاتها بين من يعتقد بصعوبة بناء دولة إسلامية في لبنان، وبين من يرى إمكانية تحقيق هذه الدولة. وقد تكون الحالة الإيرانية هي التي أثارت الأمل في نفوس دعاة بناء الدولة الإسلامية.
أما الشيعة في لبنان، فقد استطاعت الأحزاب العلمانية أن تتغلغل فيها، لكنها لم تعرف حركات أصولية منذ البداية. فكانت أول إطلالة لها طائفية-سياسية أكثر منها دينية. أما منذ أوائل الثمانينات، وبتأثير من الأيديولوجية الخمينية الشيعية، التي تدعو إلى بناء دولة إسلامية بقيادة الفقيه العادل، نبت المشروع السياسي الديني في لبنان في داخل بعض الأوساط الشيعية، تحت اسم (حزب الله).
منذ تلك اللحظة التقت الحركتان الأصوليتان، الشيعية والسنية، على تأييد سلطة رجال الدين في إيران؛ إلا أن إقامة نظام حكم إسلامى، فوراً، في لبنان لم تكن تلاقي صدى متماثلاً عند جميع أعضاء هذا التيار.
رابعـاً- واقع الحركات الإسلامية الأصولية قبل هزيمة حزيران / يونيو 1967م.
بالإضافة إلى نشاطها الديني، التقت الحركات الإسلامية الحديثة بتراث الحركات الوطنية في مختلف الأقطار العربية، وعُرفت بطابعها الإسلامي، بل اتخذ الكثير منها من الجهاد مبدأ أساسياً في نضالها ضد الاحتلال الأجنبي، وكان من أهمها: الثورة المهدية في السودان، المقاومة السنوسية في ليبيا، ثورة الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، إقامة الجمهورية الإسلامية في الريف في المغرب الأقصى، انتفاضة فلسطين (1936-1939م)، وبنشاط المجلس الإسلامي في القدس؛ وبمشاركة الإخوان المسلمين في مصر والشام في معركة فلسطين 1948م([28]).
تميَّز واقع الحركات الأصولية في المنطقة العربية من قطر إلى آخر:
1-ففي أقطار المشرق العربي ووادي النيل، حتى أواخر الستينات تميَّزت بوجود تيارين:
- الأول: تيار عقد مصالحة مع السلطة، سواء كانت قومية ذات اتجاهات وحدوية، أو وطنية ذات اتجاهات قطرية. كان هذا التيار يدعو إلى العقيدة الإسلامية، لكنه لم ينخرط في مشاريع سياسية تدفعه للصدام مع السلطة، بل لم يكن مؤهلاً بشكل تنظيمي، و إنما كان تياراً شعبياً عريضاً مشبعاً بالثقافة الإسلامية الشعبية، يدور في فلكه ويؤثر فيه أعداد من رجال الدين الذين لم ينغمسوا في مشاريع سياسية.
- أما الثاني: فكان يتبنى مشروعاً سياسياً، هو إقامة الدولة الإسلامية. وهذا بحد ذاته عامل من عوامل الصدام الحتمي مع السلطات السياسية القائمة، وقد انخرط ضدها في عمل منظم وبأيديولوجية سياسية هادفة ومعادية للسلطات القائمة. لهذا السبب تبادل العنف مع بعض الأنظمة السياسية، مما أدخل الطرفين في حركة صدامية متصاعدة. وعلى الرغم من أن الحركات الإسلامية حملت، جنباً إلى جنب مع التيارات القومية والوطنية، شعارات التحرر والاستقلال، ونزلت إلى ساحات النضال ضد الاستعمار، فإن التيارات ذات المشاريع السياسية لم تعقد مصالحة مع الأنظمة بمختلف هوياتها القومية أو الوطنية/ القطرية.
فإن كانت الحركات الإسلامية قد رضخت للأمر الواقع، مرحلياً، أمام قوة السلطة لفقدان التوازن في القوى بينهما، إلا أنها كانت تنتظر الفرصة المناسبة لكي تطل من جديد. فكانت هزيمة الخامس من حزيران 1967م، هي تلك الفرصة، وهذا موضوع لاحق سوف نتكلم عنه في حينه.
2- الخليج والجزيرة العربية: التحالف السلفي- القبلي يثبِّت قواعد نظامه السياسي:
استطاعت السلفية الوهابية أن تسيطر، منذ العشرينات من القرن 20م، على السلطة السياسية وتستلمها من دون أي منافس. وكانت البيئة الاجتماعية، من عشائر وقبائل، مناسبة لمثل هذا النظام، ولم يكن في الجزيرة، خاصة السعودية، مذاهب دينية أخرى تنافس المذهب الوهابي.
فإذا كانت البيئة الاجتماعية والسياسية والفكرية، التي سادت في المشرق العربي ووادي النيل، ساعدت على اختلال التوازن لصالح القوى القومية والوطنية، وحيث وصلت فيه هذه القوى إلى سدة السلطة، وبقيت الحركات الإسلامية في صف المعارضة، فإن الوضع في الجزيرة العربية، كان على العكس من ذلك، ففيها كانت السيادة معقودة اللواء للحركة السلفية مدعومة بالقبلية والعشائرية.
اتخذت النخبة الحاكمة في الخليج والجزيرة العربية، منذ البداية، موقفاً عدائياً من التيار القومي، وواجهت حركات المعارضة بالقمع و الإرهاب، وفي إحياء روح التعصب الديني. كما شجعت الطرح القائل بأن الإسلام هو بديل للقومية، تحت حجة أن القومية هي من البدع التي جاء بها الغرب([29]).
ولئن استطاعت الاتجاهات القومية والوطنية في اليمن مثلاً، أن تُسقط الحكم القبلي/ السلفي، وأن تُحِلَّ مكانها أنظمة جمهورية دستورية، بفعل تسرب الأفكار التحديثية إلى أوساط النخبة من اليمنين، إلا أن المملكة العربية السعودية والإمارات والمحميات، بقيت سداً مغلقاً في وجه التيارات التحديثية/ الليبرالية/ القومية/ الوطنية.
3- أقطار المغرب العربي: التكامل بين الإسلام والوطنية العربية:
وردت الجنسية العربية مع جحافل الفاتحين العرب المسلمين، فتغلبت اللغة العربية على اللغات المحلية لأنها لغة القرآن. وإذا كانت شعوب المغرب قد تعرَّبت، فإن عروبتها المكتسبة لم تقض على الخصوصيات العرقية الموروثة فيها. كما أنه لم يكن ولاء الدول الإسلامية في المغرب لعواصم الخلافة في المشرق ولاء إلحاق وتبعية، بل كانت لها ذاتيتها السياسية و استقلالها الإدارى وسيادتها الترابية. ولما تكونت الحركات السياسية، في أواخر القرن 19م، كانت تتمسك بالقيم الدينية الإسلامية، لا بمبادئ القومية العربية، لأن هذه المبادئ لم تكن معالمها واضحة في ذلك العهد:
- فجمعية العلماء الجزائريين، التي نشأت في النصف الأول من القرن 20م، كانت تعمل بروح الإسلام. وتؤكد على الطابع الإسلامي العربي للأمة الجزائرية.
- ومن الإسلام، أيضاً، يستمد عرش المغرب الأقصى شرعيته الأولى، وعلى مبادئ السلفية الدينية أنبتت الحركة الوطنية في داخل حزب الاستقلال، كما آمنت أن الإسلام هو عامل التوحيد بين الطوائف البربرية والعربية.
- وفي تونس، كان الزعماء الأولون للحركات الوطنية ينادون بالتمسك بالدين وبالولاء للخلافة الإسلامية في استانبول.
كان الوعي القومي في أقطار المغرب العربي، إشكالية ذات خصوصية منذ فجر النهضة العربية. فالوعي القومي بالمعنى الثقافي، وعي عريق أصيل في أقطار المغرب، وهو وليد الإسلام، ووليد حالة الاستعراب، ووليد الجامعات العريقة في القيروان والزيتونة والقرويين، ووليد الهجرة العربية التاريخية، والتعايش والانصهار والتزاوج بين العرب والبربر، ووليد استمرارية التراث والثقافة العربية الإسلامية عبر العصور، ومعارك الاستقلال وفلسطين، والنضال المعادي للإمبريالية هو بعض ما يجسده الوجدان الشعبي والعقل الجمعي([30]).
إن علاقة السياسي- الوطني، بالديني- الوطني، في أقطار المغرب ذات مميزات خاصة؛ فهي متجانسة في جوانب، ومتمايزة في جوانب أخرى، وقد لعب التطور التاريخي الخاص للسلطة دوراً مؤثراً في ذلك.
فالتجانس بين السياسي والديني في الموقف من الوطني- القومي، في أقطار المغرب العربي، يعود إلى جملة من الأسباب منها:
- كان حضور الثقافة العربية - الإسلامية حضوراً يكاد يكون متوازناً في كل مناطق المغرب. فالإجماع يكاد يكون شاملاً في مستوى التعلق المبدئي بالقومية العربية، وإن بعض المغربيين ليقدِّم عليها الوحدة الإسلامية، أو لا يراها تنفصل عنها([31]).
- كان لغياب عامليْ الإثنيات الدينية والإثنيات القومية، أثر في اندماج العربي بالإسلامى؛ فمنذ أن استقر الفتح العربي- الإسلامي في المنطقة، لم تعرف أية أقليات دينية غير المسلمين، لذلك لم يحصل أي تمييز بين هوية العربي وهوية المسلم، فأصبحا كياناً واحداً لا يتجزأ([32]). كما أن التاريخ المشترك بين العرب والبربر جعل التمايز بينهما يتضاءل بفعل قيام أنواع من العلاقات الاجتماعية (المصاهرة…)، والاقتصادية (التجارة…)، والعلاقات السياسية (التحالف مع أو ضد السلطة)0 فالوطنية المغربية كانت تعي الانتماء أولاً إلى الأمة العربية، أما الإسلام فلم يكن في يوم من الأيام موضوع نقاش، بل لقد نُظر إليه دوماً على أنه المضمون الروحي للعروبة ذاتها.
أما التمايزات فقد أخذت تظهر في تطور العلاقة بين الديني والسياسي، ليس بمعنى التصادم بين العروبة والإسلام، ولكن بين الديني الإسلامي/ المجتمعي، وبين السياسي السلطوي، في مراحل متأخرة من القرن 20م.
فمن مميزات واقع العلاقة بين الديني والسياسي في أقطار المغرب العربي، أي العلاقة بين العروبة والإسلام، أنه كانت هناك مصالحة دائمة، أي بمعنى الاندماج الثقافي بين الاثنين، لأنه لم يشهد تاريخ الدويلات في المغرب (كسلطة سياسية) تصادماً مع مركزية النظام الإسلامي (كمرجعية سياسية دينية)، وذلك على عكس واقع العلاقة في كل من المشرق العربي ووادي النيل، بين المجتمع الإسلامي وبين المركزية السياسية الإسلامية، إذ كانت أسباب معظم الإشكاليات، الاجتماعية والاقتصادية، وما أكثرها، تتحملها تلك المركزية. ولأنها كانت تنتمي إلى جنسية غير عربية فقد كانت تتخذ صفة التصادم بين العربي المسلم والمسلم غير العربي، مما كان يدفع بالفكرة القومية العربية إلى المقام الأول.
أما في الخليج والجزيرة العربية، فلم يحصل أي صدام بين الاثنين، بسبب من السيطرة السلفية- العشائرية شبه التامة على مجتمع هذه المنطقة، والتي كانت تقف فيها السلطة السياسية، غالباً، في مواجهة أية أفكار قومية أو وطنية على ندرة حصولها.
خامسـاً- واقع الحركات الإسلامية واتجاهاتها بعد نكسة العام 1967م.
كان للمد القومي العربي، الذي شهدته أقطار المشرق العربي ووادي النيل، من جهة، وتنامي تيار دول عدم الانحياز، كرافد للحركات التحررية القومية من جهة أخرى، تأثير مهم على بناء الاستراتيجية الإمبريالية تجاه المنطقة الإسلامية الآسيوية بشكل عام، ودول المنطقة العربية بشكل خاص.
فمنذ الخمسينيات من القرن 20م، والعربية السعودية تسعى، بتشجيع من حليفتها أميركا، إلى احتواء تصاعد مد القومية العربية عن طريق تدعيم التضامن الإسلامي على الصعيد العالمي بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص. وقد اعتمدت السعودية على نظامين سياسيين آخرين يستمدان شرعيتهما من العقيدة الإسلامية، وهما: الباكستان والمغرب الأقصى، وتشكل من الأنظمة الثلاثة حلف وقف في وجه دول عدم الانحياز([33]).
إذا كانت الإمبريالية تعمل على استخدام الأنظمة الإسلامية في الشرق الأوسط، والمؤسسات الإسلامية على الصعيد العالمي، على قاعدة ترابط المصالح، فلأنها تنظر إلى الحركات الأصولية الإسلامية بمنظار الاطمئنان، وليس بمنظار الخوف، والسبب في ذلك يعود إلى أن »تأثير الأصوليين على شعوبهم لا يقوم على جاذبية ما يدعون إليه بقدر ما يقوم على تأييد ما يدعون إلى ضده، أي ضد الوضع الراهن الذي لا يقدم حلاً لمشاكل الحاضر، كما لا يقدم أملاً في الحل في المستقبل«([34]).
استفادت الحركات الإسلامية، بعد هزيمة العام 1967م، من مجمل عوامل التراجع، على الصعيد القومي، ووجدت الفرصة مناسبة كي تبرز إلى الواجهة. وكان من أهم عوامل التراجع:
1-على صعيد الإخفاقات السياسية القومية:
على الرغم من أن نكسة حزيران كانت العامل المباشر في انتشار موجة الإحباط النفسي عند أوسع القطاعات الشعبية العربية، إلا أنها لم تكن العامل الوحيد، فقد كانت هناك، أيضاً حالة من التراكم الإحباطى التي سبقت النكسة، ومنها:
- فشل المشاريع الوحدوية التي كانت تشكل أساساً مهماً في إنعاش الآمال القومية لدى الحركات والأحزاب، كما لدى الجماهير الشعبية الواسعة.
-كانت الصراعات العربية- العربية تنتشر بشكل لافت، وما كان يثير الانتباه فيها هو أن الجانب الأكبر منها قد أنصبَّ حول الدول التقدمية وبينها، وليس حول الأنظمة المحافظة/ الرجعية([35]).
انعكست سلسلة الإخفاقات التي أُصيبت بها الحركة القوميةالعربية، على المستويين الفكري والحزبي، بشكل سلبي على الصعيد الوجداني والنفسي للجماهير العربية. فتلقفت نتائجها جهتان: رسمية رجعية، وأصولية إسلامية.
فالرجعية الرسمية، كما في السعودية، استقوت على القوى القومية الناشئة. أما الأصولية الإسلامية فراحت تنعي الحركة القومية العربية وتعلن إفلاسها، والدعوة إلى إعادة إحياء فكرة الخلافة الإسلامية والترويج إلى تطبيق شرائع الإسلام.
2-الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القطرية:
بعد أن أحرزت النضالات الرسمية والشعبية استقلالات أقطارها، قفزت إلى الواجهة القضيتان الاجتماعية والديموقراطية، كمفتاحين لكل المسألة السياسية العربية([36]). فواجهت الأنظمة، بسياستها الليبرالية الواقعية عجزاً عن إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية([37])، وكان السبب يعود إلى افتقاد الخطط الواضحة، والى ضعف الإمكانيات الفنية والمالية، بشرياً واقتصادياً، فانصب اهتمامها على تأمين أفضل الوسائل للمحافظة على وجودها كأنظمة.
كانت نشوة النصر في الحصول على الاستقلال السياسي بدأت تنحسر شيئاً فشيئاً، ليحل مكانها تقييم الأنظمة على أساس مدى قدرتها على تطوير أوضاع مجتمعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولأن الإخفاق أصبح حاصلاً، لأسباب ذاتية في النظام وموضوعية في الإمكانيات، أخذ الصراع بين السلطة والمجتمع يشق طريقه، فوسَّع الفجوة بين السلطة والمجتمع.
كانت جدلية الصراع بين السلطة والمجتمع تشهد تراكمات متواصلة. فلا السلطة كانت قادرة على إيجاد حلول للمشاكل، ولا المجتمع كان قادراً على السكوت عن استلاب حقوقه. فعجز السلطة كان يقابله المزيد من المعارضة، وكان المستفيد من هذا الصراع، غالباً، قوى عديدة، منها: الليبرالي و الأصولي والثوري والمحافظ والبورجوازي ... الذي كان يستثمر الحالة الصراعية لمآرب سياسية.
بالإجمال، تعددت عوامل الفشل القومي: على الصعيد السياسي الوحدوي، وعلى صعيد تشكيل وحدوية قادرة على حماية الأقطار العربية من العدوان الموجَّه إليها من الخارج أو من الداخل، مع العجز عن استثمار الثروة العربية للصالح القومي العام، فتضافرت معاً لتشكل ثغرات تسللت منها حركات الإسلام السياسي للطعن بمثالب المشروع القومي، والعمل من أجل إسقاطه.
لم تكن الاتجاهات القومية والوطنية، الليبرالية والجذرية، قد نضجت بشكل عميق، فهي قد مرت بمرحلة الصياغة النظرية في أقل من ثلاثة عقود، ولم تكن تجربتها السياسية بعد قد تجاوزت عقدين من الزمن. ولما واجهتها كثرة من المشاكل السياسية والاقتصادية و الاجتماعية، ولما حاولت معالجتها فشلت لأن الإمكانيات المادية كانت شحيحة، وكان العنصر البشري غير مؤهل، ولم تستطع تشريعات بعض القوى الإصلاحية أو البورجوازية أو المستفيدين من الطائفية والعشائرية أن تواكب مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير، فأخذت تصاب بعدد من الانتكاسات على أكثر من صعيد.
في ظل ذلك الواقع، كانت المعارضة تقف في الموقع القوي، إذ كان يكفيها أن تُثبت عجز السلطة لتمتلك سلاحاً قادراً على التعبئة ضدها. وفي واقع الحال تضافرت عوامل إخفاقات السلطة، الوطنية والقومية،وأخذت تنذر بولادة معارضة تعمل على المطالبة بتصحيح الخلل. فالمعارضة، عادة، تأخذ شكل الوعاء الثقافي الأكثر تأثيراً في حياة الشعوب.
ولما كانت الثقافة الشعبية الإسلامية هي السائدة في المجتمع العربي، بشكل عام. ولما تجاهلتها أغلب الأنظمة الوطنية بعد الاستقلال، وقاومتها باسم الحداثة. ولما لم تنجح في التحديث، وفي تهذيب هذا الثقافة وتطويرها. ولما كانت الحركات الإسلامية، مستندة إلى تلك القاعدة الشعبية ذات الثقافة الإسلامية. ولما كانت تلك الحركات قد التقت بتراث الحركات الوطنية، وكانت شريكة أساسية لها في الحصول على الاستقلال السياسي في مختلف الأقطار العربية([38])،
أدَّت كل تلك العوامل إلى أن تتَّخذ الحركات السياسية الإسلامية من تقاليدها وتراثها ومن قاعدتها الشعبية العريضة، وعقائدها السياسية الإسلامية، دوافع تحسب نفسها من خلالها أنها ليست البديل للأنظمة الليبرالية القومية والوطنية فحسب، و إنما هي النظام الأصيل أيضاً. فالأنظمة الليبرالية –كما تحسب الحركات الإسلامية- منعتها من هذا الحق، وها هي اليوم، لما أثبتت فشلها، لأنها ذات شرائع وضعية، أخذت تلك الحركات تعمل على استعادة الحق الذي سُلب منها، وباشرت في الجهاد من أجل بناء دولة تقوم دعائمها على الشرائع الإلهية.
3-القوى المعادية استفادت من زخم الحركات الإسلامية:
كثيرة هي القوى التي وجدت في الحركات الإسلامية وسيلة في سبيل استخدامها، أو الاستفادة من الزخم الذي تتميَّز به، لمنافسة الاتجاهات القومية والوطنية حول القواعد الشعبية لتفكيكها وإضعاف قوة تأثيرها وشرذمتها. وكانت الرجعية العربية والاستعمار من أبرز القوى المعادية، التي عملت على تعزيز الحركات السياسية الإسلامية.
أخذت الصحوة الإسلامية المعاصرة تطل، بقوة متصاعدة لافتة، على المسرح السياسي العربي، منذ أوائل السبعينات من القرن 20م.
سادسـاً- واقع الحركات الإسلامية المعاصرة واتجاهاتها.
إن ما يصح أن نصفه بأنه اتجاهات جديدة في الحركات الإسلامية في سائر الوطن العربي، لا يصح على السلفية في الجزيرة العربية بشكل عام، والسلفية في السعودية بشكل خاص. لهذا فإننا هنا، في سبيل البحث عن التطور الذي لحق بتلك الحركات، سوف نعمل، منهجياً، على وصف ما هو كائن في الجزيرة العربية قبل الدخول في البحث عما يسمى الصحوة الإسلامية المعاصرة في المحاور الأخرى من الوطن العربي.
1- الجزيرة العربية: مواقع السلفية ثابتة.
يستند واقع السلفية في السعودية إلى ثابتين رئيسين:
- الثابت الأول عقائدى: الدعوة الوهابية هي مذهب سلفي تدين به الأغلبية الإسلامية في منطقة الجزيرة، ولم يطرأ عليه أي تغيير منذ نشأته في القرن 18م.
- أما الثابت الثاني فهو سياسي: بعد أن استقرت السلطة السياسية بأيدي آل سعود، الوهابيين، منذ العام 1924م، دعَّمت نفسها بحماية أميركية، منذ العام 1940م، فأمنت لنفسها الاستقرار الذي افتقدته معظم الأنظمة في المنطقة العربية.
أما دول الخليج الأخرى، باستثناء اليمن، فقد كانت بالأساس إمارات ومحميات تخضع للحماية البريطانية المباشرة حتى العام 1971م، و بعدها انتقلت للحماية الأميركية. كان على رأسها أسر حاكمة تنتمي إلى قبائل، بتكوينها الاجتماعي، وتلتزم بالسلفية الدينية بتكوينها الثقافي والفكري.
تحولت الأسر الحاكمة إلى مؤسسات سياسية مالكة للدولة، وشكلت مركزية بيروقراطية، وأصبحت مؤسسات الدولة امتداداً وظيفياً لها، وأصبح الولاء للدولة ولاءً شخصياً لها. وأدَّى استئثارها بالحكم والثروة، إلى منع قيام قوى اجتماعية وسياسية مستقلة عن الدولة، كمثل قيام الأحزاب السياسية، وحَرَّمت قيام الحركات الاجتماعية والسياسية اللاموالية لها، وقَمَعت التنظيمات النقابية العمالية وغيرها([39]).
فالدولة، في مثل هذا الواقع، هي دولة تسلطية، وهي التعبير السياسي عن نظام اجتماعي- اقتصادي، أو نمط إنتاج اصطُلِح على تسميته برأسمالية الدولة التابعة، تمد الدولة فيه إخطبوط تسلطها إلى النظام الاقتصادي فتحتكر ملكية وسائل الإنتاج، وإلى النظام السياسي فتحتكر وسائل التنظيم، وإلى النظام الاجتماعي فتقدِّم نفسها بديلاً عن مؤسساته، وتستبدل الأيديولوجيات المتنافسة بأيديولوجيا التسلط والإرهاب. وتقوم الدولة التسلطية بكل هذا مع بقاء علاقات الإنتاج رأسمالية، أو مبنية على مبدأ الاستغلال الطبقي([40]).
إن الأنظمة السياسية في إمارات الخليج والجزيرة العربية، قائمة على التحالف ما بين القبلية- العشائرية والسلفية- الدينية، وهي أحد نماذج الأنظمة السلفية التي قد تنتجها الحركات الإسلامية المعاصرة.
2- المشرق العربي ووادي النيل: السلفية والحركات الإسلامية تمارس المزيد من الصدام مع السلطة.
هناك حقيقتان تميزان هذا المحور:
- الحقيقة الأولى: لأن هذه المنطقة كانت قريبة من المرجعية الوحدوية الإسلامية العثمانية، عرفت، لاحقاً، أكثر من أية منطقة أخرى طموحاً نحو الوحدوية. كمثل (محاولة الشريف حسين، الوحدة المصرية- السورية، ميثاق 17/4/1963 بين مصر وسوريا والعراق..).
- الحقيقة الثانية: تتمثل في تسرب المؤثرات الفكرية والسياسية والحضارية الغربية، والتي جاء بعضها تحت ظلال مشاريع عسكرية، (حملة نابوليون بونابرت على مصر)، وإما بواسطة بعثات ثقافية (الإرساليات الأجنبية)، وإما بواسطة الهجرات التي قام بها كثيرون من أبناء المنطقة إلى الغرب طلباً للعلم أو للتجارة.
كانت الوحدوية الأساس، هي الوحدوية الإسلامية. لكن بعد انهيار المرجعية السياسية الإسلامية العثمانية، اتخذت الاتجاهات الوحدوية مسارين متمايزين: مسار الوحدوية الإسلامية، ومسار الوحدوية القومية.
انكفأ مسار الوحدوية الإسلامية، بعد الحرب العالمية الأولى، أمام الموجة الوحدوية القومية؛ لكن هذا الانكفاء لم يصل إلى حدود الإلغاء، بل كانت بعض الحركات الإسلامية السياسية، تحمل لواء الوحدوية الإسلامية، واصطدمت بسلسلة من الصراعات مع السلطات السياسية، بعد إنجاز المرحلة الاستقلالية.
طبعت الاتجاهات السياسية للأنظمة، في كل من مصر وسوريا والعراق، باتجاهات قومية تحررية، ولهذا أصبح التناقض بينها وبين الحركات الأصولية الوحدوية الإسلامية خطاً سائداً على مستويين: مستوى الهوية، هل هي إسلامية أم قومية ؟ ومستوى هوية النظام السياسي هل يكون قائماً على الشريعة الإسلامية، أم على الأسس العلمانية؟
نصَّت دساتير الأنظمة السياسية، فيما يختص بالإسلام: على أنه دين للدولة، واعتبار الفقه الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع، وهذا يعني أنه ليس المصدر الوحيد. أما بالنسبة إلى القومية، فقد نصَّت على أن الشعب- المصري، السوري، العراقي- هو جزء من الأمة العربية، وهدفه تحقيق الدولة العربية الواحدة ([41]).
يتناقض هذا المنحى، بلا شك، مع الدعوات السلفية، سنية وشيعية، لأنها لا تعترف بغير الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، بل هي المصدر الوحيد، كما أن الدولة الإسلامية هي النظام السياسي الوحدوي والوحيد، وليس أي نظام غيره.
لم ترفع التحولات السياسية الليبرالية الطبقات الشعبية إلى السلطة،فحسب، بل أدت أيضاً إلى اندماج أيديولوجيا الدولة الشعبية في صلب الثقافة السياسية([42]). وهي نقلة شكَّلت، بحد ذاتها، عوامل احتكاك مع الحركات الأصولية، التي ترفض كل الاتجاهات الليبرالية السياسية لأنها اتجاهات وضعية تتناقض مع سلطة الخليفة، ومع مبدأ الحاكمية لله، ولأن دساتيرها غير مستقاة من المصادر الإسلامية الأساسية: الكتاب والسُنَّة.
فالتحديث في بني السلطة السياسية، إذاً، قاد إلى صراع دائم بين الحركة الأصولية والسلطات الحاكمة، لكن بشكل محدود في الخمسينات والستينات. أما بدءاً من السبعينات فأتخذ الصراع أشكالاً أخرى، فاحتلَّ هدف إقامة الدولة الإسلامية مقدمة الأهداف المرسومة للحركات الأصولية المعتدلة والمتطرفة أيضاً.
يبقى المعتدلون صاحب مقصد سياسي يؤمن بأن الإسلام دين ودولة. أما المتصلبون، فلا يختلفون بالهدف النهائي عن المعتدلين، و إنما يتعارضون معهم بالوسيلة التي تحقق الهدف. فهم يرون أن الجهاد هو الوسيلة الباقية بعد أن فشلت سائر الوسائل([43]).
تبع وفاة عبد الناصر، في العام 1970م، صراع داخلي في مصر، بين مراكز القوى في النظام الناصري،لاكتساب مواقع القوة من جهة، ونشطت الحركات الإسلامية في التعبير عن الإسلام جماهيرياً، وكان من أهمها: الإخوان المسلمون، والأزهر. وكان هدف الإخوان خلق دولة إسلامية، و أما هدف الأزهر فكان تأمين تطبيق الشريعة كأعلى قانون في البلاد([44]).
لما وصل السادات إلى السلطة، أدرك، في مرحلة التعايش السلمي جملة أمور تتطلبها مقتضيات المرحلة، ومنها:
- دبَّت الحياة من جديد في أوصال الأيديولوجيا الإسلامية بعد أن غابت نصف قرن من الزمن تحت تأثير الأجواء العلمانية والحماسة القومية وآمال التحديث([45]). فعمل للاستفادة من زخم الحركة الإسلامية لمواجهة الناصريين والشيوعيين([46]). ثم راح يعمل لكسب التأييد الديني للإسلام الشعبي، ببناء المساجد، وإطلاق سراح آلاف السجناء من جماعة الإخوان المسلمين([47]).
لم يكن السادات اللاعب الوحيد في ساحة الحركة الإسلامية، فإنما لعبت الدول المحافظة/ الرجعية دورها، أيضاً، عن طريق مدِّ هذه الجماعات بالمال والسلاح لضرب حركة التقدم، وبخاصة الديمقراطية والاشتراكية. وكان للإمبريالية مصلحة في ذلك([48]).
تلت التطورات التي حصلت في مصر، أحداث كان لها تأثير مهم في استنهاض المزيد من الحركات الأصولية في كل من سوريا ولبنان، خاصة بعد اندلاع الأحداث في لبنان في العام 1975م، ثم القضاء على نظام شاه إيران في العام 1979م، عندما استولى رجال الدين على السلطة، وأسسوا دولة إسلامية، كان لها تأثيرات بالغة على تنشيط الحركة الأصولية في لبنان.
3- المغرب العربي: صدام مع السلطة، ومصالحة مع العائلية التاريخية:
كما في بقية الأقطار العربية، خاضت الحركات والقوى الدينية في أقطار المغرب العربي، حروب الاستقلال جنباً إلى جنب القوى الوطنية.
لم تنشأ في ليبيا حركة أصولية، لأن الطرقية الصوفية هي التي كانت سائدة، كثقافة شعبية، وكانت في موقع السلطة منذ (1952م). ولأن النظام الجديد في ليبيا، بعد انقلاب معمر القذافي في العام 1969م،لم يخرج عن الاعتراف بوحدانية الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، لم تتوفر أية أسباب أو دوافع لظهور مثل تلك الحركات، أو أن النظام القائم استطاع أن يحتوي مختلف التيارات، وبطرق شتى، سواء كانت سياسية أم قومية، لأنه لم يظهر للعلن ما يدلُّ على غير هذا التقدير.
أما في بقية أقطار المغرب العربي (المغرب الأقصى- تونس- الجزائر)، فقد تمظهرت الحركة الأصولية في كل قطر بشكل يتمايز عن القطر الآخر، لكن يجمعها خصائص مشتركة، ومنها:
- فعن علاقة العروبة والإسلام، تكاد تكون نصوصها الدستورية متشابهة. فدساتيرها تنص على انتمائها إلى الأمة العربية؛ و على انتسابها إلى وحدة المغرب الكبير والى أفريقيا. أما فيما له علاقة بالإسلام، فتنص على أن الإسلام هو دين الدولة التي تضمن حرية ممارسة الأديان، وتتعهد بضمان حرية كل فرد في ممارسة شؤونه الدينية ([49]).
- تأثرت الأقطار الثلاثة بالليبرالية الغربية، نتيجة خضوعها للاحتلال الفرنسي، منذ القرن19م.
- لم تعرف الأقطار المغربية صدامات بين الاثنيات العرقية- العرب والبربر- وبين المذاهب الإسلامية، لأنها لم تعرف انشقاقات مذهبية ملحوظة ومؤثرة، و إنما تكاد جميعها تنتمي إلى المذهب المالكي والمنهج الأشعري.
كانت حالة التوافق أو التناقض بين الحركات الإسلامية والسلطات السياسية، قائمة على قاعدة مدى قرب السلطة أو بعدها عن المجتمع، أي إذا كانت السلطة تقوم بوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية، في مواكبة مشاكل المجتمع وإيجاد الحلول لها، أو عجزها عن القيام بهذه الوظيفة. وفي هذا النطاق كانت علاقة السلطة مع الحركات السلفية تقوم على الشكل التالي:
عملت السلطتان في كل من المغرب الأقصى وتونس على احتواء الحركة الأصولية بدون عنف، مع اختلاف بين خصائص الحركات الإسلامية فيهما.
ففي تونس يحتمل أن يكون استنفاد المشروع الوطني لأغراضه، وانحلال نظام التعاضد، واثر الهزيمة العربية لسنة 1967م، على المنطقة العربية، قد ساعد على انتشار موجة التدين([50])؛ التي أخذت تشق طريقها من خلال العودة إلى التراث العقلاني الإسلامي (المنهج الاعتزالي- النقد الصارم للإخوان المسلمين- إعادة الثقة بالمدرسة الإصلاحية- اعتماد الفهم المقاصدي للإسلام بديلاً للفهم التقني- إعادة الاعتبار للغرب وللتيار اليساري فيه- اعتماد التقسيم الحقيقي للناس على أسس سياسية واجتماعية بدل تقسيمهم إلى كافر ومؤمن).
أما التدين العقلاني الإسلامي، فقد تمَّ من خلال تطعيم التدين بمكاسب التراث العقلاني، وخاصة مبادئ المنهج الاعتزالي الداعي إلى التحرر من ظواهر النص، والى الأخذ بالتأويل المقاصدي لاستبيانه الشرعية المنطقية لأحكام التنزيل. وبتأثير منه ، تحولت النظرة إلى النظام من مجرد نظرة عقيدية، تركِّز على تكفيره، إلى نظرة اجتماعية سياسية عقيدية شاملة تدين ديكتاتوريته واغترابه واستغلاله، وهو في الحقيقة ليس تحولاً، بقدر ما هو تجذُّر في الموقف([51]).
وفي المغرب الأقصى عرفت البلاد، قديماً، العلماء والطرق الصوفية. وكان ملوك المغرب يعملون على استرضاء العلماء وكسب ودِّهم. أما الطرق الصوفية فتغلغلت في الأوساط القبائلية، وبقيت، حتى العقد الثالث من القرن 20م، تشكل الأطر الاجتماعية التي تنظم التحركات السياسية والانتفاضات الشعبية. وكانت علاقة الفقهاء والمتصوفة متوترة؛ فالعلماء يمثلون السلطة القانونية وهم مع السلطة السياسية، والمتصوفة يمثلون السلطة الروحية وهم مع الشعب([52]).
يتميز المغرب الأقصى بوجود ترابط بين الإسلام وسلطة العرش من جهة، وبين السلفية الدينية والحركة الوطنية من جهة أخرى:
- من الإسلام يستمد العرش المغربي شرعيته الأولى. فللملك شرعية دينية، بانتسابه للعلويين. و الجماعات الإسلامية لا تطعن بشرعيته، كما أن الشعب لا يفهم أن لا يحكمه الملك([53]).
- ومنذ النصف الأول من القرن20م، أخذت الدعوة السلفية تتحول إلى حركة وطنية تدعو إلى التحديث: فالجديد، عندها، لم يعد بدعة كما كان الشأن مع السلفية الوهابية، فهو يُقبل ليس فقط لكونه له أصول سابقة في الإسلام كما ترى السلفية النهضوية، سلفية الافغاني وعبده، بل انه يُقبل أيضاً عندما تقره المصلحة العامة([54]).
ترى السلفية الوطنية المغربية بما أنه لم يعد ممكناً تحقيق التآخي بين الأمم الإسلامية ضمن وحدة سياسية، فالواجب يقضي باعتماد القومية المبنية، لا على الروح العنصرية أو الدينية، ولكن على أساس الروابط الإقليمية. فكان من أهم ما قامت به الحركة الوطنية ورجالها السلفيون الثورة الاجتماعية- الثقافية ضد الطرقية. وما ارتبط بها من أنواع الشعوذات، وهذه بحد ذاتها كانت موجَّهة في الصميم إلى بنى المجتمع القديم([55]).
هناك تداخل بين الوعي الوطني، والانتماء إلى العروبة، والتدين بالإسلام داخل الوعي الجماعي في المغرب الأقصى، السبب الذي جعل الحديث عن وجود نزعة مغربية إقليمية، أو نزعة عروبية متطرفة أو تعصب ديني، شيئاً لا معنى له([56]).
أما الحركات الإسلامية المعارضة في المغرب الأقصى فظهرت منذ السبعينيات من القرن 20م، في بوادر العنف، التي قامت بها بعض التنظيمات الإسلامية، ضد بعض أطراف المعارضة التي كانت تنافس التيارات الإسلامية من جهة، وضد الماركسيين الذين أخذوا يهاجمون الدين من جهة أخرى([57]).
كانت جميع التيارات تتقهقر وتتراجع. لأن الدولة في المغرب الأقصى، كانت حريصة، قديماً وحديثاً، على تنظيم العلاقة بين الديني والسياسي وضبطها وتكييفها مع الظروف([58]).
استطاعت السلطتان في المغرب الأقصى وتونس، بفعل عدة عوامل خاصة بكل منهما، أن ترجِّحا سيطرة السياسي على الديني، أو إجراء مصالحة بينهما لصالح السياسي؛ فلم تحصل تطورات في بنى الحركات الأصولية تدفع باتجاه الصدام مع السلطة. وقد يكون تفهم تلك الحركات للتحديث في بنى الدولة قد شكل عاملاً مساعداً في منع مظاهر الصدام التي حصلت في أقطار المشرق العربي ووادي النيل، أو كالذي يحصل في الجزائر منذ أواخر الثمانينات من القرن 20م.
أما في الجزائر فأخذت الحركات الأصولية تشكِّل خطراً حقيقياً على النظام الليبرالي القائم، بحيث أسهمت عدة أسباب في بلوغ هذه الحركات نقطة اللارجوع عن الصدام مع النظام.
فإذا كانت حرب الاستقلال، منذ ما قبل العام 1954م، قامت على تعاون وثيق بين الحركات الأصولية، وبين النخب الوطنية، إلا أنه بعد الحصول على الاستقلال، في العام 1962م، استأثرت قيادات جيش التحرير الجزائري بالسلطة تحت ذرائع عدة، ومنها أنها هي التي صاغت الأيديولوجية الشعبية. فقصَّر النظام القائم عن حل إشكاليتين أساسيتين:
- منع أي طرف آخر غيره من المشاركة السياسية، وبذلك غيَّب الديمقراطية.
- تغييبه لأية خطط يحل، على أساسها، الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع الجزائري.
في ظل غياب حلول للإشكاليتين راحت الحركات السياسية الأخرى، ومنها الحركات الأصولية الإسلامية، المُبعَدة عن المشاركة في السلطة، تغذِّي حالة الاحتقان الشعبي وتستفيد منها لتقوية مواقعها([59]).
تعود أسباب دخول الحالة الأصولية إلى الجزائر إلى الحقبة التي نالت فيها الجزائر استقلالها في العام 1962م. في تلك المرحلة كانت الجزائر بحاجة إلى مدرسين وأساتذة باللغة العربية في جميع مراحل التعليم. وكانت مصر، في حينه، أهم مصدر لهم. فالبعثات التعليمية المصرية كانت تضم الأصوليين ذوي العلاقة بحركة الإخوان المسلمين([60]).
نشطت حركة الإخوان في الجزائر، ووجدت في المسجد المكان الشرعي الذي تطلبه. فلعب مسجد الجامعة المركزية دوراً كبيراً في الدعوة إلى الإخوان المسلمين ، وفي نشر مبادئ الصحوة الإسلامية بين صفوف الطلبة والطالبات في البداية، ثم في صفوف الشباب عامة فيما بعد، حتى أصبحت ظاهرة اجتماعية([61]).
تحالف التيار الليبرالي المُبعَد عن السلطة، من تفاقم حالة الصراع بين الأصوليين والنظام، مع الإخوان المسلمين ليقف في وجه اليسار([62]).
سابعاً-تأصيل أسباب الصراع بين الحركات القومية والحركات الأصولية الإسلامية:
بدا، بعد هزيمة حزيران / يونيو في العام 1967م، وكأن الحالة الثقافية الشعبية الإسلامية هي الأكثر تأثيراً لأنها الأكثر انتشاراً، مما ساعد الحركات الإسلامية على أن تستغلُّ حالات الإحباط الشعبي العربي المتولد عن فشل التجارب الوحدوية القومية، أو عن الأخطاء التي ارتكبتها الأنظمة الوطنية/ القطرية. توزَّعت تلك الحركات إلى تيار يمتلك هدفاً ومشروعاً سياسياً؛ وتيار يدعو للعودة إلى تراث الإسلام وأخلاقياته؛ لكنها كانت كلها تستند إلى أنه لا حل إلا في الإسلام.
في المقابل، لم تجد النخب المثقفة، القومية والوطنية، ما تدافع به عن أسباب النكسات فحسب، و إنما أيضاً كانت ناقدة لما يحصل. وفي الوقت ذاته لم تستطع أن تنظم نفسها في حركة معارضة هادفة وفاعلة، لكي تقدِّم البديل القومي/الوطني في سبيل مواجهة النكسات والعمل في سبيل تصحيح الأخطاء التي وقعت.
بين هذين التيارين: القومي/الوطني والإسلامى، كانت الأكثرية الساحقة من الجماهير الشعبية، المصابة بالإحباط النفسي والوجداني، تفتش عن تعليل وتفسير لما كان قد حصل.
ولما كانت الثقافة الإسلامية- في الأصل- تمثِّل عمق الوعي والوجدان الشعبي، أصبحت بموقع الضمير الذي يستشعر الظلم والمعاناة فيحرِّض على مصادره ومرتكبيه. لكن الجانب الوحدوي في تلك الثقافة لم تكن قد ميَّزت هويتها بعد، فهي تارة وحدوية إسلامية تستند إلى وحدة أبناء الدين الواحد؛ وتارة أخرى وحدوية قومية تستند إلى قوة أبناء الشعب العربي الواحد. لذلك بقيت الثقافة الوحدوية الوجدانية العفوية للطبقات الشعبية، مأسورة في داخل دائرة الانفعال، لتتجاذبها التيارات القومية تارة، والتيارات الإسلامية تارة أخرى.
وبدلاً من أن تستوعب الأنظمة القومية/ الوطنية، وتياراتها الثقافية الواقع الثقافي الشعبي الإسلامي فقد قاومته باسم الحداثة، لكنها فشلت في التحديث ولم تنجح في تهذيب هذه الثقافة وتطويرها([63]).
لا شك في نقاء وطهارة العمق الوجداني الوحدوي العربي الإسلامي، ولا شك أيضاً بأن حالة التصارع التي تقوم بها التيارات الوحدوية المختلفة الاتجاهات كانت تساعد على تمزيق هذا الوجدان، فاستفادت القوى المعادية، في الداخل والخارج، من ذلك الواقع، فعملت على تأجيجه باستمرار.
استناداً إلى هذا الواقع كان لا بُدَّ من التفتيش عن وسائل للحوار بين المشروعين الوحدويين: القومي والإسلامي. فهل هذا المطلب من الممكنات؟
ثامناً- إمكانية الحوار مع الحركات السياسية الإسلامية وأسسه.
أن تحاور الآخر، يعني أنك تفهم منطلقاته من جهة، وأن تكون منطلقاتك محددة تحديداً واضحاً من جهة أخرى.
يتمحور صراع التيارات القومية مع الحركات السياسية الإسلامية حول إقناع الأكثرية العربية الشعبية بأفضل الوحدويات التي تتناسب مع تطوير الواقع العربي، ووضعه على طريق التغيير والتجديد. على أن تتناسب تلك الوحدوية -في الواقع الراهن- مع مستوى مواجهة وتوجيه الصراع مع القوى المعادية الخارجية، ومستوى مواجهة استحقاقات المستقبل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لهذا السبب نرى ما يلي:
1-الظاهرة الدينية حاجة روحية ونفسية لا تخضع لمقاييس اليقين العقلي والبرهان المنطقي:
كانت ثقافة الأديان، منذ مراحل سحيقة في التاريخ، الأكثر شيوعاً بين شتى المجتمعات. ولم تستطع أية دعوة، ذات أهداف سياسية واجتماعية واقتصادية، أن تخترق أساليب الثقافات التي كانت سائدة. وكان المتميزون في داخل مجتمعاتهم من الأفراد، ومنهم الرُسُل والأنبياء، لا يجدون أفضل من التبشير بوجود إله عادل وقادر على الاقتصاص من الذين يحيدون عن أسس القِيَم المطلقة في العدالة والمساواة، والابتعاد عن الظلم والتعسف. وربطوا بين دعواتهم لتطبيق العدالة وبين تحذير من يتجاوزون حدودها بالوعيد بالقصاص، ولا يمكن أن يكون الذي سوف يُنزِل القصاص بهم إلاَّ من القادرين على ذلك، وهو قوة غيبية مقتدرة. وبهذا أصاب الدين هدفين في غاية الأهمية، وهما: انتظار الحصول على حلٍّ يؤمن للبشر سعادتهم في الحياة الدنيا، ويُنزل القصاص، في مرحلة ما بعد الموت، بكل من يمنع حصولهم على تلك السعادة.
حاجة الإنسان، بشكل أساسي، إلى الاطمئنان على مصيره في الآخرة، أي اطمئنانه إلى الخلاص في عالم ما بعد الموت، هي التي أنتجت الدين. ولأن هذا المصير يرتبط بعالم غير منظور وغير ملموس أو محسوس، ولا يخضع للتجربة، بقيت كل الأفكار التي حاولت أن تفسِّره بعيدة عن اليقين الذي تطمئن إليه، تماماً، عقول البشر، ولذلك تعدَّدت الأديان. وحاول كل دين أن يرسم طريقاً خاصاً يحسبه أنه وحده الذي يفسِّر الكون تفسيراً صحيحاً؛ وفي الوقت نفسه يؤكد أن الأديان الأخرى قد ضلَّت الطريق الإلهي. لكن تلك الأفكار ظلَّت مجرد تخمينات وتقديرات لا يمكن الاطمئنان إلى صحتها سوى بالإيمان عن طريق التسليم والتقليد. وإن كان الأنبياء والرسل قد أضفوا على تفسيراتهم لعالم ما بعد الموت صفات اليقين، إلاَّ أنه لم يخرج عن دائرة الحدس غير المستند إلى برهان عقلي أو حسي.
أضفى أصحاب الأديان، على شتى مشاربهم الإيمانية، صفات القدسية على تعاليم أديانهم. وكانوا يبشِّرون بها على أساس أنها أوامر إلهية يشكِّل الخروج عليها خروجاً على إرادة الإله القادر على إنزال القصاص بكل من يتجاوز حدود أوامره.
2- رجال الدين يتقمَّصون دور الآمرين باسم الله:
كان أتباع الأنبياء، بعد غياب أنبيائهم، يستخدمون سلطة القداسة التي أسبغها الأنبياء على تعاليمهم. فيحسبون أنهم الناطقون باسم الإله، والعاملون على تطبيق شرائعه المقدَّسَة. وبمثل ذلك تحوَّلت الظاهرة الدينية الهادفة إلى إشباع التوق الروحي الميتافيزيقي إلى أوامر إلهية يستخدمها رجال الدين لتقوية سلطاتهم على البشر. وبهذا تحولت الظاهرة الدينية،التي عليها أن تحقق الأمان النفسي للإنسان، إلى مادة للترهيب والترغيب؛ فحرمت الإنسان من الأمن الروحي – النفسي، لأنه وقع في حيرة نفسية وجدانية من جراء وضعه في دائرة اختيار صعبة حول سلوك طريق من بين شتى الطرق الدينية والمذهبية المتناقضة، والتي كانت –بدورها- نتيجة من نتائج تعدد الأديان والمذاهب، أي تعدد الطرق الموصلة إلى الجنة وتضاربها.
3-في سبيل ما يحسبون أنها شرائع إلهية ثابتة، دعا رجال الدين إلى تأسيس دولة دينية:
هناك ارتباط وثيق بين شتى الدعوات الدينية والحاجات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات. لذا ركَّز الأنبياء والمُرسَلون على وجوب تحقيق العدالة بين البشر: علاقة الرئيس مع المرؤوس، وعلاقة المرؤوسين بين بعضهم البعض. ولكي يحثُّوا الناس على تطبيق أسس العدالة، كقيمة مطلقة، استخدموا أساليب الثقافة الدينية القائمة على روادع العقاب في عالم ما بعد الموت. وفي سبيل أن يخلِّص رجال الدين نفوس البشر، ويصلون بها إلى آخرة سعيدة، أخذوا يدعون إلى تأسيس الدولة الدينية، التي يحكمون البشر بها –كما يحسبون- على أساس الشرائع الإلهية.
فلو وقفت الظاهرة الدينية عند حدود الحاجة الروحية للإنسان، فسوف تحقق الحاجة الفعلية منها. وهي ضمان تأمين حاجات الإنسان الروحية، سواء في حياته الدنيا أو في مصيره في مرحلة ما بعد الموت. وهي الظاهرة المطلوبة فعلاً، ولا يمكن للإنسان أن يعيش، بدونها، حياة داخلية: روحية - نفسية، بشكل متوازن.
4-الدعوة إلى تأسيس دولة دينية، في ظل تعدد الأديان والمذاهب، مشروع صراع لا ينتهي بينها:
أما إذا تحوَّلت الظاهرة الدينية من مهمتها في إشباع الحياة الداخلية الروحية الفردية إلى الادِّعاء بأنها مسؤولة عن حياة البشر الدنيوية، ولا يمكن تأمين العدالة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلاَّ بواسطة ما تُسبغ عليه صفة التشريع الإلهي، ساعتئذٍ تتشابك الادِّعاءات وتعدَّد بتعدد الظواهر الدينية، وما أكثرها، فتتصارع المشاريع الدينية السياسية، حينئذٍ، وتتقاتل، وكل منها يحسب أنه ذو مصدر إلهي. ويعدُّ الدفاع عنه أمراً إلهياً تجب الشهادة في سبيل تطبيقه.
على قاعدة هذا الإيمان ترسم التيارات الدينية السياسية مشاريعها المقدَّسة. وهذا ما يفسِّر كل الظواهر التي امتشق مؤيدوها السلاح: تارة –كما يرون- في وجه سلطة سياسية جاحدة للشرائع الإلهية، وتارة أخرى ضد جماعات دينية سياسية أخرى تاهت عن سبيل الله.
ولأن الظواهر الدينية شديدة التعدد في المشارب والاتجاهات، وتحسب كلٌّ منها أنه حسب تعاليمها، فقط، يمكن للروح الفردية أن تجد خلاصها. وما لم يكن هناك تخطيط واضح بين حدود الحاجات الروحية وطرق الوصول إليها، وبين حدود مصالح البشر الدنيوية. وإذا ما ظلَّت تلك الحدود متشابكة، فلن تطمئن شتى الجماعات، بتعددياتها الدينية واتجاهاتها الوضعية، والتي تعيش في مجتمعات مُوحَّدة سياسياً واقتصادياً، إلى العيش المشترك الآمن، من دون خوف أو تخويف، ما لم تنتزع كل منها فتيل التفجير من مبادئها ومسلَّماتها المقدسة.
فعليها، لكي تستمر في لعب دورها الحقيقي، أن ترسم حدوداً موضوعية يتوازن فيها الحق الذاتي بالانتماء والاعتراف للآخرين بحقهم فيه. حينئذٍ يمكن للجماعات الدينية أن تتعايش في ظل نظام سياسي اجتماعي اقتصادي تتوافق على تفاصيله بدلاً من أن تتصارع حول إلهيته أو وضعيته.
5-الفكر القومي، في المرحلة المعاصرة، يخوض صراعات مع المشاريع السياسية الدينية:
مرَّ المشروع الوحدوي الإسلامي، سياسياً، بقرون عديدة من التجارب القاسية والمؤلمة، ولم يستطيع أن يجد حلولاً لمشاكل المجتمعات الإسلامية بشكل عام، والمجتمع العربي بشكل خاص. وعرف الغرب المسيحي –أيضاً- تجربة أخرى، كانت أكثر مرارة من تجربة الشرق الإسلامي. ولم يكن الفرق بين التجربتين بالنوع، بل كان الفرق بالكم.
تُوِّجت تلك القرون، تحت وطأة الضغط الخارجي وبمساعدة من الوضع الداخلي المتأزم، بنهاية المشروع مع سقوط الدولة العثمانية الإسلامية. ومع سقوطها واجه المجتمع العربي- كجزء منها- مرحلة فراغ فكري و سياسي. وجاءت المؤثرات الفكرية والحضارية الأوروبية، فانكبت النخب العربية المثقفة عليها للاستفادة منها في سبيل بناء هوية وحدوية قومية، والتنظير لأسس نظام سياسي بديل.
لذلك انخرطت المشاريع الوحدوية القومية في ورشة فكرية ونظرية لصياغة بديل للمشاريع الدينية الإسلامية. وعرف ذلك التطور مرحلة متقدمة من النضج النظري، بمضامينه الاجتماعية والسياسية وبناه الحزبية الحديثة، مع تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947م.
وقفت تيارات عديدة في الخندق المواجه للفكر القومي، ومنها: السلفية الإسلامية، القطرية/ الانفصالية، الشيوعية الأممية. وعلى الرغم من ذلك، شق التيار القومي طريقه، وحقق إنجازات رسمية وشعبية، على الصعيدين الفكري والسياسي. فغدت مرحلة الخمسينيات عصراً ذهبياً للفكر القومي.
اصطدمت مشاريع الحركات القومية بعقبات كثيرة، منها الداخلي، ومنها عوامل الإعاقة القادمة من الخارج.
نتيجة لتلك الظروف أصيب المد القومي بعدد من الانتكاسات والتراجعات لصالح الاتجاهات الرجعية، فانتعشت حركات سياسية ودينية إسلامية بعد فترة من الغياب والتراجع. وحاولت أن تشكِّل البديل للمشروع القومي، وانقسمت إلى تيارات: بعضها المتطرف الذي استخدم العنف، وبعضها الآخر استخدم أسلوب التبشير الديني الهادئ.
6-الحركات السياسية الإسلامية تطرح نفسها البديل للنظام القومي العربي:
منذ أوائل الثلاثينيات، ابتدأت الحركات الأصولية الإسلامية، من خلال حركة الإخوان المسلمين بالدعوة إلى الإسلام كمنقذ من الأزمات التي تعاني منها الأمة. واتَّسعت إلى حركات متعددة، منذ السبعينيات، أي بعد أن واجهت المشاريع القومية عدداً من الإخفاقات كان من أهمها هزيمة الخامس من حزيران. وكان من الواضح أن معظم تلك الحركات تتلقى الدعم من الرجعية العربية، أو من قوى الاستعمار. وكانت شعاراتها الأساسية تدعو إلى إقامة الدولة الإسلامية، والعمل بأحكام شرائع الإسلام. و لهذا لجأت إلى تكفير الأنظمة، وأعلنت الجهاد حتى إسقاطها.
تراجع الخطاب القومي، منذ تلك المرحلة،وارتفع الخطاب السلفي الإسلامي مستقطباً أوساطاً واسعة من الجماهير العربية، التي كانت، بالأساس، تلتف حول المد القومي. لم يتسنَّ للتيار القومي أن يؤسس البنية البشرية التحتية الكافية، التي تؤمن انتشاراً معقولاً في الأوساط الشعبية، وتستطيع منه أن تقدم تفسيراً موضوعياً لكل ما حصل. ففي غياب من يفسِّر ويقدِّم البديل النظري على الأقل، وقعت الأوساط الشعبية فريسة للضياع. فتسارعت ما تُعرف بمرحلة المد الأصولي الذهبي. ودخلت في صراع المنافسة ضد المشاريع القومية. ولكن ذلك الصراع كان يتم على حساب الصراع الأساسي مع القوى المعادية.
7-الصراع بين التيارين القومي والإسلامي يتم على حساب الصراع مع القوى المعادية:
يكفي أن نُعيد التذكير بالتجارب التي مرَّت بها الأمة العربية، ولا تزال: لقد تضافرت جهود شتى الجماعات الدينية الإسلامية، بالتحالف مع الجماعات الليبرالية، في إنجاز الاستقلالات السياسية، فانتصر تحالفهما على الوجود الأجنبي. لكن ما إن حصل التحالف على مكسب الاستقلال حتى رفعت بعض التيارات الإسلامية السياسية المتاريس، تحت ألوية محاربة الأنظمة الكافرة لإسقاطها وإعادة تأسيسها تحت شعار حاكمية الله. وقد غلَّفت تلك التيارات دعواتها بقدسية إلهية مستندة إلى نصوص موجودة في القرآن والسُنَّة. وكأن التيارات السياسية الإسلامية قد هادنت، في مراحل الاستقلال، التيارات الليبرالية، وشعرت، بعد أن تحقق الاستقلال، أنه لا يمكن لها أن تستمر معها تحت ظل نظام سياسي واحد لا يحكم بغير الشرائع السماوية، فراحت تخوض صراعاً دامياً معها.
شكَّلت حالة التفتيت الداخلي، بين القوى والاتجاهات الفكرية والسياسية والأيديولوجية، وجهاً من وجوه الضعف في الجسم الوحدوي؛ أما الوجه الآخر فتشكل من القوى الخارجية/الإمبريالية ووكلائها في الداخل العربي، والتي تمتلك إمكانيات مادية وإعلامية استخدمتها في تنشيط العوامل الانفصالية في داخل الأمة.
في حمأة الصراعات الداخلية، بين شتى التيارات السياسية العربية، كانت الحركات السياسية الإسلامية هي الأقدر على استقطاب عواطف الجماهير العربية، لأن التراث الثقافي الوحدوي، العريق في وجدان الأوساط الشعبية، كان ذا اتجاهات وحدوية إسلامية.
كانت للحركات السلفية بنيتها البشرية المؤهلة والمنتشرة في الأوساط الشعبية، والقادرة، بامتلاكها الأصول الثقافية الإسلامية، على كسب ود الجماهير وإقناعها بدون عناء كبير. هذا، بالإضافة إلى التأييد والدعم اللذان تلقَّتهما تلك الحركات من الرجعية العربية والأجهزة الخارجية المعادية للأمة العربية. ولما نجحت حركة رجال الدين الإيرانيين، منذ أوائل الثمانينيات، في إنشاء دولة دينية، أحيت الأمل في نفوس الحركات السياسية الإسلامية في إمكانية نجاح مشروع بناء الدولة الإسلامية ن جديد.
اتسع نشاط الحركات الأصولية وتصاعد تأثيرها وأصبحت ظاهرة الثمانينيات ومازالت مستمرة. تكاثر عددها، واتسعت رقعة نشاطها. أما على الصعيد القومي العربي فكادت أن تشكل البديل للقوى القومية والتقدمية الأخرى. تلك الأسباب تدفع بنا إلى السؤال: ما هو مستقبل الحركات الأصولية في العالم العربي ؟ بل ما هي تأثيراتها على العلاقة بين القومية والدين، وبين العروبة والإسلام ؟
8-الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة، كما كان أسلافها، متعددة الرؤى تجاه المقدسات:
عندما نتكلم عن حركة أصولية إسلامية، لا يعني ذلك أن لها مرجعية واحدة ، و إنما هي لها مرجعياتها المتعددة، تحددها علاقتها بمذهب ديني تارة، وبالبيئة السياسية والجغرافية تارة أخرى. فهي، في هذا الجانب، عوامل تفتيت وتجزئة. ولهذا السبب لن نستغرب أن تقوم كل القوى المعادية للأمة العربية بدعمها وإسنادها، ولكن على شرط أن لا تمس مصالح كل تلك القوى بالضرر.
إن ظاهرة تشرذم الحركات الأصولية لجهة تمايز منابتها الفكرية ومشاريعها السياسية، تدفعنا إلى القول إنه ليست هناك حالة أصولية ذات مرجعية، عقائدية وسياسية واحدة. كما أن ما يسمى بالصحوة الإسلامية لا تحمل، أيضاً، البذور التوحيدية، فهي، حتى الآن، حركة تحمل بذور التفتيت أكثر مما تحمل إمكانية التوحيد على شتى المستويات الفكرية والسياسية و العقائدية.
لن تستطيع التيارات الأصولية والسلفية تقديم بديل وحدوي للجماهير العربية، بل سوف تقدم الشرذمة والتفتيت عندما تستفيق لتجد نفسها واقعة من جديد في متاهات المذهبية والطائفية والإقليمية. فهي لن تنجح في تقديم نظام سياسي إسلامى وحدودي، كما لن تنجح في تأسيس بنى سياسية واجتماعية واقتصادية تنافس التطور العلمي الهائل الذي يشهده العالم اليوم. فلمثل تلك الأسباب لا نرى أن الحل الوحدوي يدخل من خلال بوابة الفكر الديني.
9-كيف نصل إلى تحقيق مقاربة موضوعية بين القومية والدين؟
أ-تحالف التيارات القومية والإسلامية واقعة تاريخية ثابتة:
تقف معظم التيارات السياسية الإسلامية إلى جانب هذا القطر أو ذاك، في معارك الصراع ضد الوجود الأجنبي وإرادته في الهيمنة. وهذه مسألة مطلوبة، لكن هذا لا يعني أنه علينا أن نتناسى ضرورة الإعداد لتوفير الصراعات التي سوف تحصل، بين المشروعين القومي والإسلامي، في أية مرحلة نفرغ فيها من الصراع ضد الأجنبي. ففي تلك المرحلة لن تكون الحركات السياسية الإسلامية إلاَّ في الخندق المعادي لكل تيار فكري أو سياسي، قومي أو تقدمي، ما لم تؤيد إنشاء دولة دينية. لهذا السبب، ومنذ الآن، واستشرافاً للمستقبل، نرى أنه من المهمات الرئيسة، التي على كل التيارات أن تضطلع بها، هي الدخول في حوار له مضامين استراتيجية، لا تقف عند تكتيكات مرحلية ينتهي عندها التحالف. ولا شيء أثبت من أن يتم نقاش كل الأمور في العمق ومن دون أية مجاملات.
لا بد، إذاً، من مقاربة موضوعية وعلاقة سليمة بين طرفي التراث والحداثة، الدين والقومية، الإسلام والعروبة، لأن السبب هو غياب الاتفاق حول هوية للأمة ونظامها السياسي،مما يُبقي الاتجاهات المختلفة (القومية، السلفية، والسلفية الانفصالية)، عرضة للتنافر الدائم.
فإذا كنا نراهن على أن طريق النضال، سوف يكسبنا تجارب إيجابية، تصب في مصلحة التيارات الفكرية والسياسية في الأمة، فلأننا نعتقد بأن الشعوب لن تصل إلى خشبة الخلاص، إلا إذا شدَّها الشوق للخروج من آلامها. فتجارب الشعوب المريرة، مرحلة طبيعية، وتبدو أحياناً ضرورية؛ وقد تكون التجربة والخطأ، إحدى الوسائل أو الأسس التي لا يمكن للتطور الانساني/ الاجتماعي أن يبلغ مستواه الأرقى إلا بالتعلم من خلالهما، حيث يتشكل منهما انصهار ثقافي ينطبع في وجدان المجتمع.
لكن هذا لا يعني أن نترك التجربة لتكتمل، بل على شتى التيارات، ومنها التيارات الإسلامية التي تناضل على أساس فكر ديني – سياسي أممي، أن تقوم بمراجعات نقدية موضوعية وحوارية.
من تاريخ العرب الحديث تنطبع في الوجدان الشعبي العربي محطات/ تجارب قومية، لم يتسن لبعضها النجاح، لكنها ما زالت تشع تأثيرات مهمة. بحيث كانت لتلك المواقف مظاهر وحدوية على الرغم من تباين أسبابها. فهي نابعة من شدة تأثير العامل الوحدوي، كعامل ثقافي عريق في الوجدان الشعبي. وما زالت ذاكرة الجماهير منشدَّة إليها. على الرغم من أنها ليست ذات أعماق دينية، و على الرغم من أن الفكر القومي فكر علماني، فقد شدَّت مضامينها الوحدوية اهتمامات الجماهير وفجَّرت فيه طاقات نضالية كبيرة.
فالوحدة هي المطلوبة عند الجماهير، والعمل من أجلها هو المقياس، وهنا يجب أن لا يصيب الرهاب حركات التحرر القومي فترى أن كسب الجماهير يُقاس بمدى قربها أو بعدها من الخطاب الإسلامي، فهذا الخطاب أصبح مؤشراً على التفتيت من خلال تعددية حركات الإسلام السياسي المتصارعة، بل صدق الخطاب هو صدق توجهه الوحدوي أولاً وأخيراً.
ب-المشروع القومي، الفكري والسياسي، ليس إلغاء للدين، بل إلغاء لعوامل التفرقة منه:
لا يعني هذا الأمر تجاهل الخطاب الديني بسبب ما له من علاقات وثيقة مع أسس التربية الأخلاقية والروحية للمجتمع. ولقد أخطأت الليبرالية، على مستوى الأنظمة والتيارات الثقافية، القومية والوطنية، حينما أعلنت نيتها في مقاومة الثقافة الشعبية الإسلامية، التي احتضنت الوحدوية القومية، من دون أن تعمل على تهذيبها وتطويرها، فلم تنجح في هذه أو تلك.
ج-ظاهرة الدولة القومية الحديثة عائق أساسي يلغي مشاريع الأمميين السياسية:
كان من الخطأ، في الأساس، أن تقف الوحدوية الإسلامية في مواجهة مع الوحدوية القومية، والسبب هو بزوغ عصر جديد، هو العصر القومي. ففي هذا العصر انتهى دور الدول الدينية المفتوحة الحدود، وابتدأ عصر الدول القومية التي أصبحت تضم التعدديات القومية والدينية والمذهبية، والتي أصبحت بحاجة إلى تشريعات تؤمن مصالحها جميعها، تلك المصالح التي من الصعب تأمينها في دولة دينية أو دولة مذهبية من صنف واحد أيضاً.
لاشك أنه بين حدي المعادلة (العروبة- الإسلام) يوجد نقاط التقاء ونقاط افتراق، وهذا ما يجعلهما أبعد من أن يندمجا، ولكنه، أيضاً، أبعد من أن يفترقا. لكن الاعتقاد بأنهما لا بد أن يتكاملا، يدفعنا إلى الحرص على أن تكون العلاقة سليمة بينهما.
على هذا الأساس ندعو إلى دراسة التراث، كل التراث، ودراسة المتغيرات المعاصرة، كل المتغيرات، بشكل نقدي موضوعي ومتحرك، بعيداً عن المسلَّمات والصيغ الجاهزة، كما أن تكون بعيدة عن الانفعال السياسي المؤقت، لأنها تشكَّل مدخلاً لا غنى عنه لتحديد شروط هذه العلاقة بأقل ما يمكن من الثغرات.
10-هل الحل التوحيدي يأتي من بوابة الفكر القومي؟
نرى أن إلقاء الضوء على صراع الاتجاهات الفكرية، بين الحركات الأصولية الإسلامية و الحركات القومية المعاصرة، قد كشفت أن الصراع دائر حول تحديد هُوِّية للأمة العربية. فالإشكالية الرئيسة التي يمكن أن يدور من حولها الحوار الهادئ والهادف والجاد والجدي: أية هوية نريد ؟ أدينية إسلامية هي، أم قومية علمانية؟
إننا نحسب أنه إذا لم يتم التوصل إلى حسم إشكالية الهوية بشكل واضح وجلي ومحدد، بعيداً عن المجاملات التوفيقية، وعن الانفعالات السياسية الطارئة، فإن الأمة بمختلف تياراتها وحركاتها، الفكرية والسياسية والعقائدية، سوف تبقى في داخل دائرة الجدل البيزنطي. وسوف تُبقي المسألة الوحدوية من الشعارات الأساسية، لكنها لن تجد من يعمل لأجلها بصدق، والسبب هو أن كل تيار يعمل من أجلها على مقياس مناهجه الفكرية، ولا يمكن للوحدوية أن تشكل مركزية جدية ما لم تتلاقى التيارات الفكرية حول مضمون فكري موحَّد.
فوحدة الصف في مواجهة العدوان الخارجي هو الوجه الأول، وأما وحدة الفكر والبناء السياسي الداخلي الوحدوي لهذه الأمة فهو الوجه الآخر. فإذا وحَّدتنا مرحلة مواجهة عدوان الخارج ولم نتفق على بناء المستقبل الداخلي، نكون كمن يستمرئ طعم الوحدة المرحلي على حساب طعمها الاستراتيجي. فمن الجائز أن نستفيد من المؤقت لصالح الدائم، ومن غير الجائز أن ننسى الدائم ونؤجله في سبيل مكاسب مرحلية مؤقتة.
11-آراء في وسائل الخروج من تشريعات الدولة الدينية والدخول إلى بوابة تشريعات الدولة القومية:
إن السؤال المطروح، حالياً، هل يمكن لحركة التغيير القومي أن تقف في المواجهة مع أسس التفكير الديني، بشكل عام، وأسس التفكير الإسلامي بشكل خاص؟
لا بُدَّ للفكر القومي من أن يكون حاسماً في خياراته الفكرية وإلاَّ سوف يدع شتى تياراته السياسة تسير على غير هدى. وسينعكس التردد في حسم الخيارات على مسار الجماهير العربية ومواقفها. ولن تكون البنى الفكرية لتيارات التغيير بمنأى عن البلبلة.
يخشى الخطاب السياسي، أحياناً، من مواجهة ثقافة الجماهير الدينية خوفاً مما يحسبه البعض أنه سيخوض معركة معها تأتي في غير وقتها، خاصة في أدق مرحلة تمر بها الأمة العربية، وهي حالة الصراع الشديد مع القوى المعادية للأمة العربية.
يحسب الحريصون على منع فتح بوابة صراع داخلي، وهذا ما نؤكد على صحته، من أن يكون الفكر القومي، بأهدافه العلمانية، هو تلك البوابة. أما نحن فنرى أن حاملي الفكر السياسي الإسلامي، على الرغم من مخاوف الحريصين على منع فتح معركة جانبية، يستخدمون سلاح الهجوم من دون خوف أو وجل، فهم بمثل وسائلهم تلك يفرضون على تيارات الفكر القومي أن يتقوقعوا في متاريسهم، ويدفعون بهم إلى اتخاذ مواقف تكتيكية، ليجبروهم على البقاء في متاريس الدفاع، ويمنعونهم من الانتقال إلى مواقع الهجوم على كل ما له علاقة بتخلف الأمة، ويأتي على رأسها خطورة الحركة المذهبية التي هي الخبز اليومي لكل الحركات السياسية الإسلامية.
إن وجدان الجماهير، حتى المتدينة منها، ينشد تحقيق أي نصر، ويشدّها الشوق إلى أية وحدوية مرحلية مهما كان نوعها وجنسها، سواء كانت وحدوية لها مضامين دينية أو وحدوية ذات مضامين قومية. ولا تهتم الجماهير الواسعة بمضامين تلك الوحدوية إلاَّ بالقدر الذي تؤمن فيها تلك الوحدوية مكاسب للعرب أو للإسلام. وهذه النظرة السطحية للجماهير كانت نتيجة للإخفاقات الكثيرة التي تُلمُّ بالأمة، وهي نظرة متسرِّعة بلا شك، ولا تستند إلى عمق ثقافي أو سياسي، ولكنها أمر واقع في هذه المرحلة، وما لم تقوم التيارات القومية الوحدوية بتعميق تلك الثقافة، فسوف تبقى أوسع القطاعات الشعبية مرتبكة ثقافياً، وتبقى على هامش الحركة السياسية تواكبها بحالة وجدانية وضميرية غير ذات تأثير في مسيرة التجدد والتغيير.
وهنا نتساءل: هل حقاً، إذا لم تكن الشعارات القومية ملتصقة التصاقاً شديداً بالمضامين الإسلامية لن تحقق وحدة الجماهير؟
تكون الجماهير، في الواقع، أقرب إلى سلوك الطريق الفكري الذي يتطلَّب عناءً أقل. وهنا يأتي سلوك طريق الفكر الديني الغيبي أقرب منالاً لعقول الجماهير لأنه لا يتطلَّب منهم سوى التصديق والتسليم. وفي هذا المجال يستطيع الأصولي أن يصل إلى قلوبهم بشكل أسرع وأيسر من السالك لطريق الفكر القومي. وهنا يفقد القومي التوازن في المقدرة على إيصال المعرفة الإيمانية مع الأصولي الذي يتقن فنون الفكر الديني أكثر بكثير من الذي يقوم منهجه الفكري على المنهج العلماني.
وهنا كثيراً ما نرى أن حاملي الفكر العلماني، يحاولون أن يكتسبوا الفكر الإيماني لكنهم لا يستطيعون أن يكتسبوه بكفاءة ، ويُخشى من أنهم إذا أرادوا العودة إلى الفكر العلماني من أن ينسوه، فيخسروا المنهجين معاً.
من الضروري أن نميَّز بين الاتجاهين الدينيين: الديني الروحي والنفسي ذو العلاقة مع نظرية الكون، وبين الديني السياسي ذي العلاقة بتطبيق ما يحسبون شرائع الله على حياة البشر الدنيوية.
من المعروف والشائع أن الفكر الديني المذهبي، ذا العلاقة بالسياسة، وهو الوحيد الذي أصبح البديل للفكر الديني الأم، يشكل أشد الخطورة على مسيرة المجتمعات القومية. ولأن عالمنا العربي نشأت على أرضه كل الأديان السماوية، وهي نعمة روحية بلا شك، إلاَّ أنه يقف إلى جانب هذه النعمة نقمة أيضاً. فكثرة ولادة الأديان على الأرض العربية أدى إلى ولادة في كثرة المذاهب. فعرفت الأرض العربية تعددية في الأديان وتعددية كبرى في المذاهب.
ولأن الإبقاء على تلك التعددية أو تقليصها ليست متيسرة لأية قوة، لأن قلتها أو كثرتها هي ملك يمين رجال الدين المتمذهبين وحدهم، ولأن التراجع أمام الخوف من الاصطدام مع وجدان الجماهير الديني فيه تسجيل أكثر من نقطة انتصار أمام الحركات السياسية الإسلامية كان لا بُدَّ من الوقوف بعقلانية أمام تلك المخاوف لنرى هل هي مخاوف مشروعة وحقيقية أم أنها مجرد هواجس وأوهام؟
إذا كنا قد اعتنقنا الفكر القومي بسبب من صلاحيته في تأمين وحدة المجتمعات، فلا شك بأننا قد استندنا إلى أسباب معقولة ومفهومة وواضحة ومقنعة. وما كان اعتناقنا للفكر القومي إلاَّ لأن الفكر الديني يفتقد عامل الإقناع. فلماذا نخشى، إذاً، أن نبرز عوامل الضعف في الفكر الديني السياسي ونشدد على عوامل القوة في الفكر القومي؟
استناداً إلى هذا الموقف، نرى أنه في سبيل أن ندعِّم أسس الفكر القومي لا بُدَّ من أن نبرز ثغرات الفكر الديني السياسي، وبخاصة منه الفكر المذهبي بأهدافه ووسائله.
لقد استند الفقه الإسلامي، مثلاً، إلى مسلمات تصفه بالقدسية، وعلى أساسها يروِّج رجال الدين إلى أن ما جاء من نصوص في الكتاب والسنة هي نصوص تعبِّر عن الحقيقة المطلقة، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. وبناء على تلك العقيدة ينكرون ويستنكرون أن يلجأ أي كان –حتى ولو كانت مرجعيات دينية على أعلى المستويات- إلى نسخ أي حكم من أحكامهما. ومن هذه النقطة الأساسية يحرِّمون أي تغيير في الشرائع.
أما معتنقو الفكر القومي، فهم بالقوة أصبحوا من الذين لا يعتقدون بثبات أحكام الشرائع الدينية، وإلا لو كان العكس هو الصحيح لكان عليهم أن يرفضوا أية تشريعات أخرى غير التشريعات الدينية لأنها أولاً هي شرائع إلهية وهي ثانياً تعبِّر عن الحقيقة المطلقة.
ولأن معتنقي الفكر القومي، نسخوا الكثير من أحكام الشرائع الدينية باعتناقهم للفكر القومي ولتشريعاته الوضعية، عليهم أن يقابلوا مسألة نقد الفكر الديني بكل جرأة ثورية، لأنهم دعاة للتجديد وليس للتجميد.
فليس من الواقعي أن تكون أحكام الإسلام أحكاماً نهائية ومطلقة، وليس من الصحيح أنه لا يمكن أن تقوم أية مرجعية دينية بنسخ واحد أو أكثر من الأحكام التي وضعتها الشريعة الإسلامية. فالمرور من بوابة رفض أحكام دينية شرعية إلى اعتناق أحكام قومية وضعية لا يمكن أن يتم من دون معالجة قواعد الناسخ والمنسوخ، المعمول به في الفقه الإسلامي، بنقد موضوعي. لأنه لو اعتقد القوميون بصلاحية تثبيت تلك القواعد لأصبح من غير الميسور لهم أن يتبنّوا شرائع أخرى غير الشرائع الإسلامية.
إنه بمقدورنا أن نستنبط من خلال النصوص والأحداث الإسلامية، والتي واكبت حياة الرسول، أسباباً تدل على أن قواعد الناسخ والمنسوخ ليست ثابتة على الإطلاق، بل إنها تعني التجديد وليس التجميد. ولهذه المسألة بحث آخر.
إن ما يدفعنا إلى الاقتناع، ولو بشكل نظري، بأهمية تأسيس فكر قومي متميَّز عن الفكر الديني، هو أن الحركة الفكرية التجديدية إذا لم تتميَّز عن الحركة الفكرية السابقة لها، وإذا لم تقترن بجرأة وثورية في التبشير، أي إذا بقيت تدور في فلك الحركة السابقة، فلن تشهد التيارات القومية تقدماً يُذكَر وسوف تبقى أسيرة لرغبات الجماهير، فبدلاً من أن تقودها نحو آفاق فكرية جديدة، ستكون منقادة لثقافة الجماهير السطحية تحت حجة منع الاصطدام بها.
***
* ]وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ[ (الصف:6).
([41]) خوري، يوسف: ص 539. الدستور السوري 1973، أن سوريا هي: »دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية. وهي جزء من الوطن العربي، والشعب السوري جزء من الأمة العربية، يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة.- دين رئيس الدولة الإسلام، والفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع«.
ورد في ص 542، الدستور العراقي للعام 1970م، أن : »- العراق جمهورية ديمقراطية ذات سيادة، هدفه الأساسي تحقيق الدولة العربية الواحدة وإقامة النظام الاشتراكي، وهو جزء من الأمة العربية.- الإسلام دين الدولة، وحرية الأديان والمعتقدات وممارسة الشعائر الدينية مكفولة«.
وفي ص 548، نص الدستور المصري للعام 1971م، على أن : »الشعب المصري جزء من الأمة العربية، يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة.- الإسلام دين الدولة... ومبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع«.
Ÿ جاء في الدستور التونسي الصادر في العام 1959م، ما يلي:
»- مصمم على توثيق عرى الوحدة القومية، وبوحدة المغرب الكبير بانتمائه للأسرة العربية.
- على تعلقه بتعاليم الإسلام وعلى إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب.
- تونس : دينها الإسلام، وهي جزء من المغرب الكبير، والإسلام دين رئيس الدولة«.
Ÿ وجاء أيضاً في الدستور الجزائري الصادر في العام 1962م، ما يلي:
- »هي جزء لا يتجزأ من المغرب العربي والعالم العربي وأفريقيا.
- الإسلام دين الدولة وتضمن لكل فرد احترام آرائه ومعتقداته وحرية وممارسة الأديان«.
Ÿ أما في الدستور المغربي الصادر في العام 1972م، [ص 549]، ما يلي:
- »دولة إسلامية ذات سيادة.
-وهي جزء من المغرب العربي الكبير، وبصفتها دولة أفريقية من بين أهدافها تحقيق الوحدة الأفريقية.
- الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية«.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق